{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}
هذه الآية تصف سلوكا عجيبا من فرعون .. فرعون الذي قال{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} .. فرعون الذي أدعى الألوهية وقال {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} .. فرغون القائل {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} ويتبعه في هذا قومه بدون تفكير أو جدال أو نقاش {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} ..
هذا الفرعون الذي {عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } لماذا يستجدي الموافقة من قومه على قتل موسى عليه السلام ؟! أليس هو الإله والملك في أعينهم ؟! لماذا يسوق المبررات لهم ليقنعهم بضرورة قتل موسى عليه السلام قيقول أنه يخشى أن يبدل دينكم أو يحدث خلافا وشقاقا فيظهر الفساد في الأرض بسببه ..
هل يعرف أحد لماذا طلب فرعون من قومه تفويضا لقتل موسى عليه السلام ؟
أعود أخي النووي لهذه الآية التي سألت عنها منذ زمن، شغلتنا الأحداث الجسام أن نعود إليها .وأريد أن أجمع الآيتين المتتاليتين لحسن ما هو موجود من مقابلة فيهما بين الكافر المتجبر في الأرض المتأله، وبين المؤمن الموقن بالله تعالى وبجواره .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)وقد قرأت عنها في مجموعة من التفاسير، وجدت الأكثر تبيانا لما فيها ما عند سيد قطب والشعراوي رحمهما الله، وما عند الدكتور راتب النابلسي ...ومفاده كله أنّه لم يستأذن في قتل موسى إلا لوجود من عارض ما أراده من قتله، وهذا التفصيل:
1-فأما ما جاء فيها في الظلال فهو التالي:
"وقال فرعون:ذروني أقتل موسى , وليدع ربه , إني أخاف أن يبدل دينكم , أو أن يظهر في الأرض الفساد). .
ويبدو من قوله: (ذروني أقتل موسى). . أن رأيه هذا كان يجد ممانعة ومعارضة - من ناحية الرأي - كأن يقال مثلاً:إن قتل موسى لا ينهي الإشكال . فقد يوحي هذا للجماهير بتقديسه واعتباره شهيداً , والحماسة الشعورية له وللدين الذي جاء به , وبخاصة بعد إيمان السحرة في مشهد شعبي جامع , وإعلانهم سبب إيمانهم , وهم الذين جيء بهم ليبطلوا عمله ويناوئوه . . وقد يكون بعض مستشاري الملك أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له , ويبطش بهم . وليس هذا ببعيد , فقد كان الوثنيون يعتقدون بتعدد الآلهة , ويتصورون بسهولة أن يكون لموسى إله ينتقم له ممن يعتدون عليه ! ويكون قول فرعون: (وليدع ربه). . رداً على هذا التلويح ! وإن كان لا يبعد أن هذه الكلمة الفاجرة من فرعون , كانت تبجحاً واستهتاراً , لقي جزاءه في نهاية المطاف كما سيجيء .
ولعله من الطريف أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى:
(إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد). .
فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني , عن موسى رسول الله - عليه السلام - (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)?!!
أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح ? أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل ? أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادى ء ?
إنه منطق واحد , يتكرر كلما التقى الحق والباطل , والإيمان والكفر . والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان . والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين .
"
2-وأما ما عند الدكتور راتب : يبدو أنّ مَنْ حول فرعون نصحوه بألاَّ يقتله، لعلَّه رسول، ولعلَّه يدعو ربَّه، فيأتيك عذابٌ يا فرعون، قال: أنا لا أخاف.
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ﴾
ففرعون ادَّعى أنه إله، وقال:
﴿ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24) ﴾
( سورة النازعات )
وأمرهم أن يعبدوه، فهذا موسى سينغِّص عليه هذه الدعوى، فيشتِّت الناس عنه، لذلك قال:
﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾
إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ
الفساد بمنظور فرعون: الفساد في نظر فرعون أن ينصرف الناس عنه، إذا انصرف الناس عن عبادته فهذا هو الفساد.
كيف يتغطرس الإنسان وهو ضعيف في قبضة الله:
طبعاً الكافر لا يرى الله عزَّ وجل، لا يرى أنه في قبضة الله، يرى نفسه أنه قوي، وكلَّما تعمَّق الإنسان في العِلم شعر بضعفه، وشعر بافتقاره، وشعر أنه في قبضة الله، وشعر أنه عبدٌ ضعيف، هذا الذي يقول: أنا، هل علم هذا الإنسان أن خثرةً صغيرةً صغيرة من الدم لو تجمَّدت في إحدى أوعية الرأس لَشُلَّت حركته، أو لأصيب بالعمى، أو لاختلَّ توازنه، أو لذهبت ذاكرته، كيف يقول الإنسان: أنا، وهو ضعيف ؟
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾
فكل إنسان يتفلسف أحياناً، حتى لو كان على باطل، حتى لو كان ضالاً مُضِلاًّ، حتى لو ادَّعى الألوهيَّة يتفلسف، يقول:
﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ﴾
الإنسان يفلسف كفره وفلسفته: الإنسان منطقي، واللهُ أعطى الإنسان فكرًا ليتعرَّف به إلى الله، لكنه ينحرف و يكفر، فإذا كفر بالله يستخدم فكره ليفلسف كفره، فإذا أراد الإنسان أن يكفُر أو أن يشرك، استخدم الفكر نفسه الذي هو أداة لمعرفة الله، استخدمه استخدامًا آخر لغير ما خُلِق له، استخدمه للبحث عن حججٍ واهيةٍ لكفره وفِسْقِهِ، وهذا معنى المجادلة التي وردت في القرآن الكريم.﴿ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا(54) ﴾( سورة الكهف )
مرَّة قلت لكم: آلة تصوير ملوَّنة غالية جداً، يمكن أن تستخدم استخداماً جيداً فيغتني صاحبها اغتناءً كبيراً، ويمكن أن يستخدمها لتزوير العملة فتنتهي به إلى السجن، والآلة واحدة، إن استخدمها في المخطَّطات والتصميمات، لمع نجمه في سماء البلدة فاغتنى واشتهر ؛ أما إذا استخدمها لتزوير العملة، وكُشِفَ أمره ألقي في غياهب السجن، عن طريق هذه الآلة الواحدة الملوَّنة.
وكذلك الفكر يمكن أن ترقى به، فتتعرَّف إلى الله من خلاله، وتزداد به قرباً وله طاعةً، فتسعد وتسعِد، وإما أن يستخدم الفكر نفسه لفلسفة الشرك، والكفر، والنفاق، فيكون الفكر سبباً لهلاك الإنسان.
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾
إذاً: الكافر، أو مدعي الأُلُوهيَّة، أو المشرك كل منهم يتفلسف، ويقول لك: أنا على حق، وهذه مبادئ، وهذا تقدُّم، وهذه إنسانيَّة، وهذه مبادئ العدل، وهذه قيم، وهذه مُعْطَيَات، وهذه بيئة، عنده فلسفة لكنها فلسفة باطلة، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ ﴾( سورة يونس: من الآية 32 )
فلا يوجد إلا حق واحد، إن لم تكن مع الحق فأنت مع الضلال، إذا لم تكن أفكار الإنسان ومعتقداته وتصوُّراته وفق القرآن فهو ضال، قولاً واحداً بكل تأكيد، بالحجَّة الدامغة، ليس مِنْ حلٍّ وسط، إمّا أن تكون مع الحق، وإما أن يكون الإنسان ضالاً، فإذا دعا إلى ضلاله صار مضلاً، فهذا إذًا إمّا أن يكون ضالاًّ أو مضلاًّ، فاسدًا مفسدًا، فليس هناك مبدأ آخر، فالله واحد، والحق واحد، والقرآن واحد، والدين واحد، والمبادئ واحدة، أما إذا اعتنق أفكارًا ليست في كتاب الله فهي ضلال قولاً واحداً.
والمؤمن إذا هُدِّد، وإذا تآمر عليه المتآمرون، وإذا توعَّده المتوعِّدون ليس له إلا الله، يا رب ليس لي إلا أنت، أنت قصدي، إني مغلوبٌ فانتصر، أحد الملوك الصالحين وهو نور الدين الشهيد، الذي أجرى الله على يديه النصر، سجد لله عزَّ وجل وقال كلمةً لولاَ أنها وردت عنه لما كنت أقولها لكم، قال له: " يا رب من هو نور الدين الكلب حتَّى تنصره ؟ انصر دينك " أنا لا شيء، انصر دينك يا رب، إني مغلوبٌ فانتصر، فانتصر لدينك ـ والله سبحانه وتعالى أجرى على يده النصر المؤزَّر، نصراً عزيزاً، فالمؤمن ليس له إلا الله عزَّ وجل إذا كان ضعيفًا مستضعفًا، وأعداؤه أقوياء وتوعَّدوه، وهدَّدوه.
﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾
3-وأما ما عند الشعراوي رحمه الله (وهو من تسجيل له)طلبه بـ: "ذروني" يدل على أن هناك من فيهم خميرة الإيمان متيقظة ويعلمون أنه نبي، ولا يريدون أذية نبي الله، لأنهم يتمنون أن يسري منهج الله.
طيب كيف يدخلون هذا على فرعون؟ أبدفاعهم عن موسى عندهم؟ لو كان منهم ذلك لعرف منهم الخيانة العظمى للألوهية،وغنما يجب أن يغلفوها بما يرضي فرعون من جهة ويرضي ضمائرهم أيضا،فجاؤوه من منطق أنه لو يقتله فسيشيع بين الناس أنه إنما قتله لأنه لم يطق حياته التي كانت ستفضح حاله،وأنك لو كنت على حق لتركته ولدفعه عنك الجدل والمحاججة، أما بقتله فسيقولون خفت أن يهدّ عرشك وينقض ألوهيتك.
---------------------------------------------------------------------------
ومن كل ما سبق ف يالتفاسير،وجب السؤال: سبحان الله ! ما دام وفي عزّ استعباد فرعون لبني إسرائيل، هناك من عارض سواء بتحايل أو بعلنية، وهناك خميرة إيمانية، يخشى الظالم دوما منها، يخشى من طوافها على السطح، لأنه يعلم داخليا، -وهو ما لا يظهره- أنه على طريق صعبة من شأنها أن تثير الرعية ضدّه، فهو يحافظ على ربوبيته وظلمه بصعوبة كبيرة، يعيش في هاجس الخوف من تفلت زمام الأمور، ومن غضبة الرعية .... سبحان الله !! مهما بلغت درجة البطش! فلمَ لا تفكر الرعيّة بهذا الخوف عند الظالم ؟؟!! لو أنها فقط فكرت به : "
إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً(104)"
بالمقابل فلننظر لموسى عليه السلام وهو موقن بربه، متوجه له، مستعيذ به من كل متكبر، متحصّن بحصنه، لائذ بركنه المكين .... فهو يدعو ربه كما قال فرعون فعلا، يدعو ربه وربهم الواحد الذي لا إله غيره كما يدعي لهم فرعون المتألّه اللعين، يدعوه، ويستعيذ بجنابه من كل متكبر، من كل متكبر ...!! فنعوذ بك يا ربنا من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.