عن سورة المائدة (2)ونكمل مع السلسلة اللؤلؤية
وبعد أن أصبح هذا المؤمن الذي يؤمر أول ما يؤمر أن
يوفي بالعقود ، مشبع حاجة الجسد والروح، ا
لطاهر ظاهرا وباطنا،
العادل المقيم للعدل، الذي لا يحمله بغضه لأحد على أن يظلمه، فهو العادل مع مَن أحب ومع مَن كره،
المتذكر لعزة المؤمنين وسؤددهم وكيف كان الله ناصرهم، باعث الرعب في قلوب أعدائهم، هذا المؤمن العامل على أن يبقى سليل هؤلاء الأعزة باتخاذهم مثالا له وقدوة، حتى إذا ما حاكت في أمته صروف الدّهر لم ينقطع الأمل ولا العمل على استرجاع تلك العزة على نهج السلف الصالح الذي مضى قبلهم، هذا المجتمع المؤمن، هذا المجتمع المسلم الموصول بربه،
فهو متّقيه، ومبتغي الوسيلة إليه المجاهد في سبيله...في سبيل أن يمنع الدين من صدّ الصادّين والمبتغين تحكيم أهوائهم في الأرض بمحاربة شرع الله وحُكمه وأهله ...
وفي ثنايا هذا كلّه، بين النداء والنداء،تأتي من الله الدروس للمؤمنين، بذكر أحوال الأمم السابقة، والذين اختصوا بالرسالات من قبلهم وبالأنبياء، وكيف كان مآلهم لما نقضوا العهود واستكبروا وعاندوا،حتى لا يكونوا على خطاهم،ثم يُعلّم المجتمع المسلم كيف
يقيم الحدود، كيف يطهّر نفسه من الأدران، كيف يحارب الخبائث التي لا جَرَم من وجودها مع الأنفس الضعيفة،يعلّمه كيف يحافظ على سلامته، بالأمر الحاسم والحدّ الرادع الذي يكون فيه الردع والتخويف لمن تسوّل له نفسه أن يزيد الفساد على الفساد فيستسهل المجتمع الفساد فينكر المعروف، ويعرف المنكر...فهذا السارق تقطع يده...
وكما حافظ على الإسلام وبقائه وسؤدده وانتشاره بالدعوة للجهاد في سبيل الله،وبدفع من يريد بالإسلام والمسلمين أذى من الخارج، كذلك بالموازاة يحافظ على المجتمع المسلم من أذى داخله بإقامة الحدود،هذا المجتمع الذي هو قوام هذه الأمة القائدة الرائدة، وهو هو قوام الحفاظ على الإسلام .
وفي الثنايا أيضا يعلم المسلمين أحوال أعداء متربصين منافقين يتغلغلون في أوساط المجتمع ويعيشون معه، وهم مريدون به السوء، يعلّمهم حال اليهود وطباعهم وكيدهم بالإسلام والمسلمين، ويعلّمهم أنهم كانوا أهل كتب وبعثت فيهم الرسل، وكيف أنهم لم يحكّموا أمر الله ولا حكمه،وكيف تذبذبوا وبدّلو وحرّفوا،ليعلّمهم بكل هذا أنّ كتابهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم هما النور الذي يجب اتباع هديه، وأنّ ما عداه هوى وحكم جاهلية...
وهو سبحانه يعلّمهم من أحوالهم وتقلباتهم ونكوصهم وتمردهم على أمر خالقهم حتى يصل بهم إلى ا
لأمر منه سبحانه ألا يتخذوهم أولياء، ليكون سبحانه وتعالى بما عرض عنهم وعن أحوالهم قد استوفى الحجة والأسباب فلا يكون لهم بعد الله حجة ....
فهذا دفاع عن الدين من أعدائه بالجهاد، و
هذه حماية للمجتمع المسلم من داخله بإقامة الحدود، وهذه الآن
حماية للعقيدة من أن تنالها أهواء المضطربين، وإذا ما دقّقنا وتأملنا لوجدنا كل تبنٍّ لقوانين الوضع الهوائية نابع من نفث أهل الكتاب في عقول المتبنّين من أبناء الأمة ...وبهذه الحمايات، وهذه الحصانات كلها تتكون الحضارة الإسلامية بخصائصها النقية ...
ويا لهذا القرآن العظيم ...ويالإعجازه وعلاجه لكل حالة من حالاتنا..! ويالعلم العليم الخبير بما كان وبما هو كائن اليوم، وبما سيكون .... فإذا النداء الموالي للمؤمنين
يخصّ الذين يرتدّون عن دينهم، عن الإسلام ،وأن الله مقيّض لهذا الدين من سيدافع عنه وأنه غنيّ عنهم، وما ارتدادهم ونحن نتأمل إلا من تلك الموالاة، ومن ذلك الذوبان الذي يأخذ صاحبه كل مأخذ حتى يأخذ منه دينَه ... وهل يرضى اليهود والنصارى عن المسلم إلا إذا اتبع ملّتهم ؟!!....
وينادي الله المؤمنين من بعدها يدعوهم ألا يوالوا المستهزئين بدينهم ليعلّمهم الاعتزاز به، والذود عنه ذود الروح عن الروح ....وكم هي حال كثر من أبناء أتنا اليوم حالهم كحال من يستحي بدينه فهو متبع كل ناعق من الغرب على أنه التمدن والرقي والتحضر...
فماذا بعد كل هذا التعليم والتوضيح والتبيين مِن تعليم ؟!! وأي حجة لنا بعد كل هذا؟ والواحد من أبناء الإسلام ينصهر فيهم ويواليهم أكثر من موالاة بعضهم بعضا ...!!
هي إذن الحضارة الإسلامية بخصوصيتها، بتفرّدها، بكمالها، بعزّتها، وبمعرفتها مواطن النقص والعيب والعوار فيما سواها، وبأستاذيتها على هذا العالم كلّه...
وفي الثنايا أيضا وقبل الوصول بالمؤمنين إلى أمر آخر وإلى نداء آخر، سبحانه جلّ في علاه وبعدما عرّف المؤمنين ببعد أهل الكتاب عما أنزل إليهم في الكتاب، يعرّفهم بشناعة أباطيلهم وتجرئهم على ذات الله تعالى، وباعتقادهم المحرّف، وتقرير من الله حاسم وقوي بأن من اعتقد ذلك فهو كافر، "لقد كفر"، مع تقرير الحق من الله تعالى بتبيين حقيقة سيدنا عيسى عليه السلام،والحديث عن مغالاتهم في دينهم غير الحقّ، وتقرير من الله عن عداوة بعضهم وشدة عداوة بعضهم الآخر للمسلمين...
ومع تبيين مغالاتهم في دينهم غير الحق، يأتي الأمر من الله سبحانه بعدها للمؤمنين
بألا يحرموا ما أحل الله من الطيبات، وفي ذلك منهم مغالاة هي من جنس مغالاة أهل الكتاب التي بينها سبحانه، وتعدٍّ على أمر هو لله الذي يحلل ويحرّم، وليس للعباد.
ثم يأتي التحريم النهائي لأكثر ما كان سائدا بين العرب وعرفوا به، ولأكثر ما كان له سلطان عليهم، ذلك التحريم النهائي للخمر في مرحلته الأخيرة الحاسمة،والذي تشرف به سورة المائدة. هكذا ليكتمل حال المؤمنين على أكمل وجه، هكذا ليتبيّن رشد المؤمن من بعد ما كان التدرج معه في هذا الأمر، وقد آن الأوان لأن يصبح التحريم كليا ونهائيا وبلا شروط ... وقد كان من الصحابة من سأل عمّن كان ممن معهم واستشهد في أحد وفي بطنه من الخمر، والذين بيّن سبحانه أنه لا جناح عليهم وقد امتثلوا لأمر الله بالشكل الذي كان وعايشوه، وهم لم يحيَوا لأمر التحريم النهائي ....
وبهذا يكمل للمؤمن حاله في هذه السورة، تكمل صفاته، وتمتد سلسلته الؤلؤية الربانية فيها الحسم والكمال ...
والآن وقد اكتمل حال المؤمن وصفاته، هل على هذا لم يبقَ له من تتبّع ولا امتحان ولا اختبار؟!
كلا ...
بل إنّ اجتماع الصفات الحميدة واكتمال الحال من دواعي التأهيل للاختبار، هل من ثبات على تلك الحال، أم أنها حال عابرة خفيفة سرعان ما تهزها الرياح ....
فيأتي ابتلاء الله سبحانه للمؤمنين،
يبلوهم بشيء من الصيد الذي حرمه عليهم وهم حُرُم، يقربه منهم، يزينه لهم، وهُم في ذلك الزمان كان عَيشهم كله من صيد يصطادونه ، يتكبدون لأجله الصعاب، ويشقون لأجله الصحاري، وهو اليوم بين أيديهم ييسره الله لهم وهم حُرُم ، تناله أيديهم ورماحهم بلا مشقة ولا عذاب....
فكيف سيكون حالهم ؟ وكيف سيكون مدى امتثالهم، وكيف هو وفاؤهم بالعقود، وكيف هو تعلّمهم من أحوال أهل الكتاب الذين نقضوا من قبلهم، وما كانوا موفّين، وهل من فرق بينهم وبين أهل الكتاب حين ابتلوا بالسبت، والحيتان الشرّع ؟!
هكذا كان الدرس من قبل وبالابتلاء يأتي التطبيقنعم إنه أوان الاختبار، وإنها الأهلية للاختبار .... ومفتاح الامتثال خشية الله بالغيب، والتوفية بالعقد كما قُبلت من قبل شروطه ....وهكذا حال المؤمن مع كل اختبار، حاله مع فتن الدنيا، ومع أبواب فتنتها المفتّحة... هكذا هو من امتحان لامتحان .... وهكذا هو زيادة كماله كلما نجح في امتحان يقدّمه لامتحان أصعب ...
ويعلمنا الله فيما يعلمنا بهذا، كيف بدأ السورة بتحريم، ثم جاء عليه بسلسلة من التربيات والتأهيل، ثم جاء ليختبر مدى استيعاب عبده لما أمره به ...
ومما سبق، فلننظر فإذا العقيدة السليمة رأس الحفاظ على المجتمع المسلم والأمة المسلمة .....فلننظر وإذا التحذير من أن تنالنا سَموم المبطلين، أو أن ننجرف مع المنجرفين، أو أن ننصهر فنصبح بلا هوية بل نصبح شراذم هويات ليست منا وليست لنا.........
قد تعمدت ألا أذكر الآيات في سياق ما كتبت، حتى يعود كل منا للسورة فيجد النداء المقابل لما هو هنا ...
ولم يبقَ من النداءات "يا أيها الذين آمنوا" إلا القليل القليل
يتبع...