جاء في جامع العلوم والحكم، لابن رجب، ما يأتي:
"وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ولا تباغضوا )) : نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله ، بل على أهواء النفوس ، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة ، والإخوة يتحابون بينهم ، ولا يتباغضون ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أدلكم على شيء إذا فعلمتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم )) خرجه مسلم. وقد ذكرنا فيما تقدم أحاديث في النهي عن التباغض والتحاسد .
وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء ، كما قال :
{ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}
وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم ، كما قال تعالى : { واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا }، وقال : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم }.
ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة ، لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء ، ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس ، ورغب الله في الإصلاح بينهم ، كما قال تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراعظيما }، وقال : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }، وقال : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ )) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (( صلاح ذات البين ؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة )) .
وخرج الإمام أحمد وغيره من حديث أسماء بنت يزيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( ألا أنبئكم بشراركم ؟ )) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (( المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبرءاء العنت )) .
وأما البغض في الله ، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلا في النهي ، ولو ظهر لرجل من أخيه شر ، فأبغضه عليه ، وكان الرجل معذورا فيه في نفس الأمر ، أثيب المبغض له ، وإن عذر أخوه ، كما قال عمر : إنا كنا نعرفكم إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا ، وإذ ينزل الوحي ، وإذ ينبئنا الله من أخباركم ألا وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انطلق به ، وانقطع الوحي ، فإنما نعرفكم بما نخبركم ، ألا من أظهر منكم لنا خيرا ظننا به خيرا ، وأحببناه عليه ، ومن أظهر منكم شرا ، ظننا به شرا ، وأبغضناه عليه ، سرائركم بينكم وبين ربكم - عز وجل - )).
وقال الربيع بن خثيم : لو رأيت رجلا يظهر خيرا ، ويسر شرا ، أحببته عليه ، آجرك الله على حبك الخير ، ولو رأيت رجلا يظهر شرا ، ويسر خيرا أبغضته عليه ، آجرك الله على بغضك الشر.
ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين ، وكثر تفرقهم ، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم ، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله ، وقد يكون في نفس الأمر معذورا ، وقد لا يكون معذورا ، بل يكون متبعا لهواه ، مقصرا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه ، فإن كثيرا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق ، وهذا الظن خطأ قطعا ، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه ، فهذا الظن قد يخطئ ويصيب ، وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى ، أو الإلف ، أو العادة ، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله ، فالواجب على المؤمن أن ينصح نفسه ، ويتحرز في هذا غاية التحرز ، وما أشكل
منه ، فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهي عنه من البغض المحرم .
وهاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له ، وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحا ويكون مجتهدا فيه ، مأجورا على اجتهاده فيه ، موضوعا عنه خطؤه فيه ، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة ؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله ، بحيث أنه لو قاله غيره من أئمة الدين ، لما قبله ولا انتصر له ، ولا والى من وافقه ، ولا عادى من خالفه ، وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه ، وليس كذلك ، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق ، وإن أخطأ في اجتهاده ، وأما هذا التابع ، فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه ، وظهور كلمته ، وأن لا ينسب إلى الخطأ ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق ، فافهم هذا ، فإنه فهم عظيم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" .