موقف المسيحية المعاصرة وبعض مفكريها من تعدد الزوجات
* نرى المسيحية المعاصرة تعترف بالتعدد في افريقيا السوداء، فقد وجدت الارسالية التبشيرية نفسها أمام واقع اجتماعي وهو تعدد الزوجات لدى الافريقيين الوثنيين، ورأوا أن الاصرار على منع التعدد يحول بينهم وبين الدخول في النصرانية، فنادوا بوجوب السماح للافريقيين المسيحيين بالتعدد الى غير حد محدود، وقد ذكر السيد نورجيه مؤلف كتاب "الاسلام والنصرانية في أواسط افريقية" (ص 92-98) هذه الحقيقة ثم قال: "فقد كان هؤلاء المرسلون يقولون إنه ليس من السياسة أن نتدخل في شؤون الوثنيين الاجتماعية التي وجدناهم عليها، وليس من الكياسة أن نحرم عليهم التمتع بأزواجهم ماداموا نصارى يدينون بدين المسيح، بل لا ضرر من ذلك ما دامت التوراة وهي الكتاب الذي يجب على المسيحيين أن يجعلوه اساس دينهم تبيح هذا التعدد، فضلا على أن المسيح قد أقر ذلك في قوله: "لا تظنوا أني جئت لأهدم بل لأتمم" 1. هـ. وأخيرا أعلنت الكنيسة رسميا السماح للافريقيين النصارى بتعدد الزوجات الى غير حد!...
* والشعوب الغربية المسيحية وجدت نفسها تجاه زيادة عدد النساء على الرجال عندها – وبخاصة بعد الحربين العالمينين – إزاء مشكلة اجتماعية خطيرة لا تزال تتخبط في ايجاد الحل المناسب لها. وقد كان من بين الحلول التي برزت، اباحة تعدد الزوجات. فقد حدث أن مؤتمرا للشباب العالمي عقد في "مونيخ" بألمانيا عام 1948 واشترك فيه بعض الدارسين المسلمين من البلاد العربية: وكان من لجانه لجنة تبحث مشكلة زيادة عدد النساء في ألمانيا أضعافا مضاعفة عن عدد الرجال بعد الحرب، وقد استعرضت مختلف الحلول لهذه المشكلة وتقدم الأعضاء المسلمون في هذه اللجنة باقتراح اباحة تعدد الزوجات. وقوبل هذا الرأي أولا بشيء من الدهشة والاشمئزاز، ولكن أعضاء اللجنة اشتركوا جميعا في مناقشته فتبين بعد البحث الطويل أنه لا حل غيره، وكانت النتيجة أن أقرت اللجنة توصية المؤتمر بالمطالبة باباحة تعدد الزوجات لحل المشكلة. وفي عام 1949 تقدم أهالي "بون" عاصمة ألمانيا الاتحادية بطلب الى السلطات المختصة يطلبون فيه أن ينص في الدستور الألماني على اباحة تعدد الزوجات (الدكتور محمد يوسف في أحكام الشخصية ص 121) ونشرت الصحف في العام الماضي أن الحكومة الألمانية أرسلت الى مشيخة الأزهر تطلب منها نظام تعدد الزوجات في الاسلام لأنها تفكر في الاستفادة منه كحل لمشكلة زيادة النساء ثم أتبع ذلك وصول وفد من علماء الألمان اتصلوا بشيخ الأزهر لهذه الغاية، كما التحقت بعض الألمانيات المسلمات بالأزهر لتطلع بنفسها على أحكام الإسلام في موضوع المرأة عامة وتعدد الزوجات خاصة. وقد حدثت محاولة قبل هذه المحاولات في ألمانيا أيام الحكم النازي لتشريع تعدد الزوجات، فقد حدثنا زعيم عربي اسلامي كبير أن هتلر حدثه برغبته في وضع قانون يبيح تعدد الزوجات، وطلب اليه أن يضع له في ذلك نظاما مستمدا من الاسلام، ولكن قيام الحرب العالمية الثانية حالت بين هتلر وبين تنفيذ هذا الأمر.
وقد سبق أن حاول "أدوارد السابع" مثل هذه المحاولة فأعد مرسوما يبيح فيه التعدد ولكن مقاومة رجال الدين قضت عليه (الغلاييني: الإسلام روح المدنية ص 228) ثم إن المفكرين الغربيين الاحرار أثنوا على تعدد الزوجات، وبخاصة عند المسلمين. فقد عرض "جروتيوس Grotius" العالم القانوني المشهور لموضوع تعدد الزوجات فاستصوب شريعة الآباء العبرانيين والانبياء في العهد القديم (العقاد: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص 177)
وقال الفيلسوف الألماني الشهير "شوبنهور": في رسالته "كلمة عن النساء". "إن قوانين الزواج في أوروبا فاسدة المبنى بمساواتها المرأة بالرجل، فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا، وضاعفت علينا واجباتنا، على أنها ما دامت أباحت للمرأة حقوقا مثل الرجل كان من اللازم أن تمنحها أيضا عقلا مثل عقله!...". إلى أن يقول... "ولا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجا يتكفل بشؤنها، والمتزوجات عندنا نفر قليل، وغيرهن لا يحصين عددا، تراهن بغير كفيل: بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السلفى، يتجشمن الصعاب ويتحملن شاق الأعمال، وربما ابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار ففي مدينة (لندن) وحدها ثمانون ألف بنت عمومية (هذا على عهد شوبنهور!..) سفك دم شرفهن على مذبحة الزواج ضحية الاقتصار على زوجة واحدة، ونيتجة تعنت السيدة الأوروبية وما تدعيه لنفسها من الأباطيل".
"أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنوع النساء بأسره"؟ "إذا رجعنا الى أصول الأشياء لا نجد ثمة سببا يمنع الرجل من التزوج بثانية إذا أصيبت إمرأته بمرض مزمن تألم منه، أو كانت عقيما، أو على توالي السنين أصبحت عجوزا، ولم تنجح "المورمون" (فرقة من البروتستانت تبيح تعدد الزوجات وتمارسه فعلا ولها كنائسها المنتشرة في أوروبا وأمريكا) في مقاصدها إلا بإبطال هذه الطريقة الفظيعة: طريقة الاقتصار على زوجة واحدة"(الغلاييني: الإسلام روح المدنية ص 224) .
وتحدث "غوستاف لوبون" في "حضارة العرب" عن تعدد الزوجات عند المسلمين وهو الذي عاش بنفسه سنوات طويلة في بلاد الشرق والاسلام فقال "لا نذكر نظاما اجتماعيا أنحى الأوروبيون عليه باللائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاما أخطأ الأوروبيون في إدراكه كذلك المبدأ فيرى أكثر مؤرخي أوروبة إتزانا أن مبدأ تعدد الزوجات حجر الزاوية في الاسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين ونشأ عن هذه المزاعم الغربية على العموم أصوات سخط رحمة بأولئك البائسات المكدسات في دوائر الحريم فيراقبهن خصيان غلاظ، ويقتلن حينما يكرههن سادتهن!... ذلك الوصف مخالف للحق، وأرجو أن يثبت عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوروبية جانبا، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطا، ويمنح المرأة احتراما وسعادة لا تراهما في أوروبة. وأقول قبل إثبات ذلك: إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصا بالاسلام، فقد عرفه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ولم تر الأمم التي دخلت الاسلام فيه غنما جديدا إذن، ولا نعتقد مع ذلك وجود ديانة قوية تستطيع أن تحول الطبائع فتبتدع أو تمنع مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جو الشرقيين وعروقهم وطرق حياتهم. تأثير الجو والعرق من الوضوح بحيث لا يحتاج الى ايضاح كبير، فبما أن تركيب المرأة الجثماني وأمومتها وأمراضها الخ... مما يكرهها على الابتعاد عن زوجها في الغالب. وبما أن التأيم المؤقت مما يتعذر في جو الشرق، ولا يلائم مزاج الشرقيين، كان مبدأ تعدد الزوجات ضربة لازب. وفي الغرب، حيث الجو والمزاج أقل هيمنة، لم يكن مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة في غير القوانين، لا في الطبائع حيث يندر!. ولا أرى سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الغربيين! مع أنني أبصر بالعكس ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم، ونظرهم الى هذا الاحتجاج شزرا.
ثم ينقل غوستاف لوبون ملاحظات العالم المتدين "لوبليه" في كتابه "عمال الشرق" عن الضرورة التي تدفع أرباب الأسر الزراعية في الشرق الى زيادة عدد نسائهم، وكون النساء في هذه الأسر هن اللائي يحرضن أزواجهن على البناء بزوجات أخر من غير أن يتوجعن. وختم ذلك بقوله: إن رأي الأوروبيين (في تعدد الزوجات) ناشئ عن نظرهم الى الأمر من خلال مشاعرهم، لا من خلال مشاعر الآخرين. وقال: ويكفي إنقضاء بضعة أجيال لإطفاء أوهام أو احداثها(حضارة العرب 482-486).
ويقول وستر مارك في تاريخه: إن مسألة تعدد الزوجات لم يفرغ منها بعد تحريمه في القوانين الغربية وقد يتجدد النظر في هذه المسألة كرة بعد أخرى، كلما تحرجت أحوال المجتمع الحديث فيما يتعلق بمشكلات الأسرة. ثم تساءل: هل يكون الاكتفاء بالزوجة الواحدة ختام النظم ونظام المستقبل الوحيد في الأزمنة المقبلة؟. ثم أجاب قائلا: إنه سؤال أجيب عنه بآراء مختلفة، إذ يرى سبنسر أن نظام الزوجة الواحدة هو ختام الأنظمة الزوجية، وأن كل تغيير في هذه الأنظمة لا بد أن يؤدي الى هذه النهاية. وعلى نقيض ذلك يرى الدكتور ليبون Lepon أن القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد. ويذهب الأستاذ اهرنفيل Ehrenbel إلى حد القول بأن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء "السلالة الآرية". ثم يعقب وستر مارك بترجيح الاتجاه الى توحيد الزوجة إذا سارت الأمور على النحو الذي أدى الى تقريره (العقاد: المرأة في القرآن الكريم ص 134).
ويتبع