لا تظلموا الشمس!
مارا - شبكة الإعلاميين الفلكية
الأستاذ الدكتور نضال قسّوم
نائب رئيس المشروع الإسلامي لرصد الأهلة
أستاذ الفيزياء والفلك في الجامعة الأمريكية في الشارقةلدينا نحن بني البشر ميل قوي للبحث عن روابط بين الظواهر والأحداث، ولكن ذلك لا يكون مبرّراً في العديد من الحالات. وكثيرا ما نلقي باللوم على عوامل خارجية عنما تحصل أمور خطيرة، في الوقت الذي يكون فيه الناس هم المسؤولين عن ذلك.
قبل أشهر قليلة وعندما حدث الزلزال الهائل والتسونامي المدمّر في اليابان قبل أسبوع من وصول القمر لوضعية "البدر الفائق"، تمّ إلقاء اللوم جزافاً على القمر في عدد من المقالات الإخبارية. فكتبت عمودا صحفيا بعنوان "لا تلوموا القمر" أشرت فيه أولا إلى أنه لطالما اعتبر القمر سبباً لأحداث عديدة، من الظواهر الطبيعية الحادة الى حالات الحمل المفاجئة، وأوضحت أنه لا يزال ينظر للقمر البدر في أيامنا الحالية كسبب لزيادة الجرائم (خلال الليالي البيض)، حتى ألقي اللوم عليه بشأن التسونامي! وبيّنت أن كل ذلك ليس له أساس من الصحة.
أما في هذه الأيام، فيبدو أن الشمس هي الملومة هذه المرة! منذ أن شهدنا انخفاضات وتقلّبات حادّة في الأسواق المالية في أنحاء العالم، بالإضافة إلى تقلبات الطقس المتطرّفة عالمياً، ودعونا لا ننسى أحداث الشغب في إنجلترا، كان من المتوقع أن تلام الشمس مع ازدياد نشاطها المغناطيسي وانبعاثات شواظها. وفعلا نشرت عدة مقالات تشير الى علاقة الشمس بكل ذلك، منها مقال إخباري من "رويترز" وأخرى ظهرت على الموقع الإلكتروني للبي بي سي العربية، وفي كلتا المقالتين قُدّمت وجهات نظر متنوعة، لكن دون رفض واضح لـ"نظرية" النشاط الشمسي كسبب للأحداث الأخيرة. وقبل حوالى سنة كان هناك "فلكيٌ" جزائري "تنبأ" أن شهر رمضان سيكون قاسياً لأن النشاط الشمسي العارم سيرفع من درجة الحرارة بشكل ملحوظ.
لكن ما حقيقة الموضوع وصحة هذه الأفكار؟ نحن نعلم أن الشمس تمرّ بدورة نشاط مغناطيسي كل 11 عاماً تقريباً، ويترتّب على ذلك زيادة أو نقصان في البقع الشمسية، وازدياد في الشواظ الشمسي والانفجارات على سطحها.
يوضّح الرسم البياني التالي التغير في عدد البقع الشمسية منذ العام 2000، مع عودة الارتفاع في أواخر عام 2009 وزيادة النشاط كما هو متوقع خلال السنوات المقبلة.
لكن الى أي مدى سيؤثر هذا على مناخ الأرض؟ الموضوع معقد ولكن الإجابة السريعة هي أن ذلك التأثير قليل، ثم إن النشاط الشمس أضعف من أن يفسّر أي ارتفاع محلي أو إقليمي في درجات الحرارة كما يحدث من حيث لآخر هنا أو هناك.
لكن كيف يمكن لأي شخص أن يعتمد على هذه الظاهرة لتفسير تدهور أسواق الأسهم العالمية خلال الأسابيع القليلة السابقة؟ لقد لاحظ الناس أنه في الأسبوع السابق حدثت انبعاثات هائلة وقوية من الإكليل الشمسي "تزامنت" مع التراجع الكبير في أسواق البورصة العالمية. كما لاحظ الناس أنه كما تمرّ الشمس بدورات نشاط، فإن السوق يبدو أنه يمرّ بدورات مماثلة، بل وكأنّ هناك ارتباطاً بينهما. ويقول أصحاب هذا الطرح أن تأثير النشاط الشمسي على البورصات هو تأثير نفسيّ على المستثمرين. ويستشهدون بالدراسة التي أجريت عام 2003 من قبل بنك أتلنتا الاحتياطي الفيدرالي والتي توصّلت إلى أن مثل هذه العواصف قد تؤثر على الأسواق المالية.
حسنا، تلك فرضية يمكن اختبارها، لذا على أحد الباحثين أن يفحصها. وفعلا فإن أحدهم (وهو ألكساندر باخالوف من جامعة موسكو) نشر مؤخّراً دراسة بعنوان "أثر النشاط الشمسي على سلوك المستثمرين في الأسواق المالية" حيث خلُص إلى أنه "بناء على تحليلات لبيانات تاريخية واسعة، فإنه لم تظهر علاقة بين النشاط الشمسي وسلوك المستثمرين ". عليّ أن أشير الى أن مصدر هذه الدراسة هو موقع مفتوح وليس مجلة علمية محكّمة، وأنا لست خبيراً لتقييم هذا البحث، لكنه دراسة إحصائية تعتمد على معطيات ميدانية ويمكن فحصها.
ولتوضيح الصورة للقارئ ووضع المعلومات أمامه، ها هنا رسومات بيانية لتغيرات أعداد البقع الشمسية ومعدّل مؤشر "داو جونز" لمعظم القرن الماضي، ويمكن للقارئ أن ينظر الى التغيرات بنفسه. بالطبع نحن في الأبحاث العلمية لا نعتمد طريقة "ألق نظرة" هذه، لكنه من المفيد عادةً أن نرى بعيوننا ما الذي تقوله البيانات قبل أن يتم إدخالها في البرامج الإحصائية التحليلية.
أخيراً وليس آخراً، إنه لمن المهم أن نحلّل كيف أننا نحن البشر سريعو الربط بين الظواهر، وأننا نعتقد بفكرة "نحن لا نعرف كلّ شيء، إذن هناك إمكانية لوجود ارتباطات خفية بين الظواهر". لقد تطوّرت لدينا نحن البشر قدرةٌ على ملاحظة الأنساق لأن ذلك خدمنا عبر تاريخنا الطويل والشاقّ. ولكننا بالغنا أيضاً في تصوّرنا لهذه النمطية في أحيان لا توجد فيها تلك العلاقات.
وكثيرا ما نؤكّد نحن العلماء خطأ الاعتقاد بارتباط أحداث ببعضها فقط لأنها حدثت بنفس الوقت أو كانت متتالية. ولأن الحياة شاقة بالنسبة لكثير من الناس فإنه من المريح لهم نفسيا إلقاء اللوم على عوامل خارجية، وخاصة تلك التي لايملك المرء لها دفعاً. إنه "مصيرنا"، ولذا فلنتقبّله بشجاعة ولنواصل المشوار.
في حقيقة الأمر فإننا سنحرز تقدماً فكريا وحضاريا حقيقياً فقط عندما نرفض هذا التفكير. إننا نحتاج إلى أن نغرس في أبنائنا وطلبتنا عادة التساؤل والبحث عن الأدلة، ومراجعة "الموروث العزيز" مراجعة نقدية، والبحث عن تفسيرات يمكن اختبارها وتأكيدها. وأي توجّه آخر هو محض تخمين وتفكير بدائيّ وسلوك لاعقلانيّ.