الموت.. كلمة صعبة بل هي الأصعب في قاموس الدنيا.. هي نقيض الحياة.. والحياة هي بوتقة وجود كل حي...
بل إن من رحمة الله بالناس أن جعل الحياة خلائف.. فجعل استمرار الحياة بالتوالد ولم يجعل المخلوقات مستقلة بخلقها وما أظن ذلك إلا لجبر خاطر الأحياء التي ستأتي عليهم لحظة الموت.. فيكون استمرار الحياة في خلفهم عزاء وشعوراً بالبقاء .. وجعل رحمة الآباء وعطفهم سبباً في استمرار الحياة في خلائفهم..
الموت.. ومن من الأحياء لا يكرهه ويتمنى ابتعاده.. وهذا ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أما المصلح فيتمنى أن يستزيد من الخير .. وأما المسيء فيندم ويتمنى فرصة للإصلاح..
ما أصعب الموت..
أما عملي فهو مدافعة الموت.. بصخب أو هدوء.. وما أتت لحظة الموت مرة أمامي إلا أسفت لها واشتد حزني...
أصبح العلاج صعباً مكلفاً يزداد غلاء يوماً بعد يوم.. وأصبح لبعض الأمراض أدوية تحتاج لخزينة حتى تغطيها..
أما في بلادنا فالموت هو السيد دوماً ولا عزاء للناس إلا القدر والاستسلام له.. فالحياة والموت قدر ولا يطيل العمر وينقصه إلا واهب الحياة..
يدخل المريض المشفى.. لا علاج إلا إن دفع ثمن الدواء.. فلا المشافي العامة ولا الخاصة تمتلك العلاج.. يجب أن يشتريه المريض ويأتي به.. أما أجر الطبيب فهو أهون الشرور لأنه لم يعد يُذكر أمام مئات الآلاف أو الملايين ثمناً لدواء يجب تناوله مدى العمر أو ثمناً لجلسات لا حياة إلا بها وثمن الواحدة يكفي مصروفاً لعائلة كبيرة أكثر من شهر..
أما الفقير فيتعلق أهله بالأمل.. الدعاء والأمل..أو أي كلمة تخفف من قيمة المرض ... وينتظرون الفرج من الله فإذا مات المريض بكوه وبكوا فقرهم ثم طووا الجوع على الحاجة وتناسوا بؤساً يعيشون به كل مطلع شمس وكل مغيب... هذا إذا لم يستدين الأهل أو يبيعوا كل ما بقي في حيلتهم ليؤمنوا ولو القليل من الدواء أو لشيء من الوقت.. بل ربما استراح أهله من هم الحصول على المال فهموم الجوع والفاقة لا يكادون يجدون خلاصاً منها..
لا تأمين للدواء بل حتى الأغنياء لا يضمنون العلاج.. فالأمر لا يتعلق فقط بالثمن.. بل بالفساد المستشري إلى أعماق استيراد الدواء.. فقد يغيب الدواء شهوراً ويستحيل إحضاره حتى بأغلى الأثمان..
استطاع المجرمون أن يقتلوا الناس حتى الأغنياء منهم .. تفننوا في اختلاق طرق القتل المزمن الذي يحوم فوقه الخوف والقلق كل لحظة..
أصبح المريض لا يهدأ له بال حتى يتأكد من تخزين كمية من الدواء تكفي لسنتين أو ثلاث .. ثم يبدأ يقلق عندما لا يبقى من الدواء ما يكفي أكثر من سنة.. ويدخل في القلق التفكير في كيفية تأمين الثمن وهل سيكون دواء غير مغشوش وكم سيدفع ليقبل أحدهم أن يمرر الدواء دون منعه...
تفننوا في قتل الناس, وما القتل بالرصاص إلا أسرع الأنواع.. أما المرض في بلادنا فغير مسموح... ممنوع ممنوع.. إذا مرضت فليس لك إلا الخراب أو الدمار أو الموت... الحياة فقط لكبار المسؤولين لأن لهم الحق في السفر للعلاج في الخارج ومعهم من المال ما يكفي للتكاليف..
سألني أحدهم منذ أيام.. ما الذي ينقمه الناس على هذا الرجل.. قلت له قتل العزل البريئين.. قال لي وهل قتل أقل القليل مما قتل الأمريكان في فيتنام.. قلت له أن الأمريكان كانوا مستعدين لقتل العالم في سبيل حفظ حياة أمريكي واحد.. أما أكبر المجرمين فهو الذي يقدم على قتل شعبه - حتى ولو واحد منهم- دون حق...
قتلوا الناس بالبنادق والرصاص.. وقتلوهم قبل ذلك في قطع لقمة عيشهم.. وقتلوهم في منع الدواء والعلاج.. وقتلوهم في منتهى الخسة في إفساد منظومة الصحة حتى صار العلاج مخططاً جهنمياً يقتل الناس مجرد القلق والخوف من أن لا يتحقق..
أخبرني أحدهم أنه تحمل نفقة مريض في دولة عربية وأخبره أنه سيدفع كل التكاليف مهما كانت.. ثم ما لبث المريض أن مات .. أرسل يسأل عن السبب فقيل له أن الدواء الذي انتهى عنده لم تقم الدولة باستيراده ولم تسمح لأحد بتهريبه فانقطع عنه لأيام فمات..
أي إجرام هذا...
وكيف وصلت درجة السفالة والإفساد إلى اللعب بالحياة.. كيف وصلت حقارة النفوس أن تلعب في أغلى شيء قاطبة.. في الحياة التي خلقها الله معجزة أول فرائض الخليقة الحفاظ عليها...