كنت أقرأ هذه الأبيات:
تَرَنَّمْ بِأَشْعَارِي، وَدَعْ كُـلَّ مَنْطِـقِ فَمَا بَعْدَ قَوْلِي مِـنْ بَـلاَغٍ لِمُفْلِـقِ
هُوَ الْعَسَلُ الْمَاذِيُّ طَوْراً، وَتَـارَة ً يَثورُ الشَجا مِنهُ مَكـانَ المُخَنَّـقِ
يُغنِّى بهِ شـادٍ ، ويَحـدو رِكابـهُ بهِ كلُّ حادٍ بيـنَ بيـداءَ سَملَـقِ
فَطَوْراً تَرَاهُ زَهْرَة ً بَيْـنَ مجْلِـسٍ وَطَوْراً تَرَاهُ لَهْذَمـاً بَيْـنَ فَيْلَـقِ
وَمَـا كَلَفِـي بِالشِّعْـرِ إِلاَّ لأَنَّــهُ مَنارٌ لِسـارٍ ، أو نَكـالٌ لأِحمَـقِ
عَلِقتُ بهِ طِفلاً ، وشِبتُ ولَم يَـزَلْ شَدِيـداً بِأَهْـدَابِ الْكَـلاَمِ تَعَلُّقِـي
إِذَا قُلْتُ بَيْتاً سَارَ فِي الدَّهْرِ ذِكْـرُهُ مَسِيرَ الْحَيَا مَا بَيْنَ غَرْبٍ وَمَشْرِقِ
يَهِيمُ بِـهِ رَبُّ الْحُسَـامِ حَمَاسَـة ً وَتَلْهُو بِهِ ذَاتُ الْوِشَـاحِ الْمُنَمَّـقِ
بَلَغْتُ بِشِعْرِي مَا أَرَدْتُ، فَلَـمْ أَدَعْ بَدَائعَ فِـي أَكْمَامِهَـا لَـمْ تُفَتَّـقِ
فَهَذَا نَمِيرُ الشِّعْرِ، فَاقْصِدْ حِيَاضَـهُ لِتروَى ، وهَذا مُرتَقَى الفضلِ فارتَقِ
ورغم كثرة ما نشرت لهذا الرجل من أبيات هنا، إلا أني خشيت إن كتبت هذه أن تتهموه بالمبالغة في الاعتداد بذاته، والعلو بشأنه، فلم أنصرف حتى وقعت تحت عيني هذه القصيدة، وتبدو كأنه عارضها فيما بعد، بالتي نقلت منها قبل، وكان مطلعها: رد الصبا بعد شيب اللمة الغزل ، وراح بالجد ما يأتي به الهزل:
قَلَّدْتُ جِيـدَ الْمَعَالِـي حِلْيَـةَ الْغَـزَلِ وَقُلْتُ فِي الْجِدِّ مَا أَغْنَى عَـنِ الْهَـزَلِ
يأبـى لـى َ الغـى َّ لا يميـلُ بــهِ عَنْ شِرْعَة ٍ الْمَجْدِ سِحْرُ الأَعْيُنِ النُّجُلِ
أَهِيمُ بِالْبِيـضِ فِـي الأَغْمَـادِ بَاسِمَـة ً عنْ غرة ِ النصرِ ، لا بالبيضِ في الكللِ
لَمْ تُلْهِنِي عَـنْ طِـلابِ الْمَجْـدِ غَانِيَـةٌ فِي لَذَّةِ الصَّحْوِ مَا يُغْنِـي عَـنِ الثَّمَـلِ
كـمْ بيـنَ منتـدبٍ يدعـو لمكرمـة ٍ وَبَيْـنَ مُعْتَكِـفٍ يَبْكِـي عَلَـى طَلَـلِ
لَوَلا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْخَلْقِ مَـا ظَهَـرَتْ مَزِيَّةُ الْفَـرْقِ بَيْـنَ الْحَلْـيِ وَالْعَطَـلِ
فانهض إلى صهـواتِ المجـدِ معتليـاً فالبـازُ لـمْ يـأوِ إلاَّ عالـيَ القـلـلِ
ودعْ مـنَ الأمـرِ أدنــاهُ لأبـعـدهِ في لجة ِ البحرِ ما يغنى عـنِ الوشـلِ
قدْ يظفـرُ الفاتـكُ الألـوى بحاجتـهِ وَيَقْعُـدُ الْعَجْـزُ بِالْهَيَّـابَـة ِ الْـوَكَـلِ
وَكُنْ عَلَى حَـذَرٍ تَسْلَـمْ، فَـرُبَّ فَتـىً ألقى بهِ الأمنُ بيـنَ اليـأسِ وَ الوجـلِ
وَ لا يغرنكَ بشـرٌ مـنْ أخـى ملـقٍ فرونـقُ الآلِ لا يشفـى مـنَ الغلـلِ
لوْ يعلمُ مـا فـي النـاس مـنْ دخـنٍ لَبَاتَ مِنْ وُدِّ ذِي الْقُرْبَى عَلَـى دَخَـلِ
فَـلا تَثِـقْ بِـوَدَادٍ قَـبْـلَ مَعْـرِفَـةٍ فَالْكُحْلُ أَشْبَـهُ فِـي الْعَيْنَيْـنِ بِالْكَحَـلِ
وَاخْشَ النَّمِيمَـة َ، وَاعْلَـمْ أَنَّ قَائِلَهَـا يصليكَ منْ حرهـاَ نـاراً بـلاَ شعـلِ
كمْ فرية ٍ صدعـتْ أركـانَ مملكـة ٍ وَمَزَّقَـتْ شَمْـلَ وُدٍّ غَيْـرِ مُنْفَـصِـلِ
فاقبلْ وصاتي ، وَ لا تصرفكَ لاغيـة ٌ عنى ؛ فما كـلُّ رامٍ مـنْ بنـى ثعـل
إني امـرؤٌ كفنـى حلمـي ، وأدبنـي كرُّ الجديديـنِ مـنْ مـاضٍ وَ مقتبـلِ
فَمَا سَرَيْتُ قِنَـاعَ الْحِلْـمِ عَـنْ سَفَـهٍ وَلاَ مَسَحْتُ جَبِينَ الْعِـزِّ مِـنْ خَجَـلِ
حلبتُ أشطـرَ هـذا الدهـرِ تجربـة ً وَذُقْتُ مَافِيهِ مِن صَابٍ، وَمِـنْ عَسَـلِ
فَمَـا وَجَـدْتُ عَلَـى الأَيَّـامِ بَاقِـيَـة ً أَشْهَى إِلَى النَّفْسِ مِنْ حُرِّيَّـة ِ الْعَمَـلِ
لكننـا غـرضٌ للشـرَّ فـي زمــنٍ أَهْلُ الْعُقُولِ بِهِ فِـي طَاعَـة ِ الْخَمَـلِ
قامتْ بهِ منْ رجـالِ السـوءِ طائفـة ٌ أدهى على النفسْ منْ بؤسٍ على ثكـلِ
منْ كلَّ وغـدٍ يكـادُ الدسـتُ يدفعـهُ بُغْضاً، وَيَلْفِظُـهُ الدِّيـوانُ مِـنْ مَلَـلِ
ذَلَّتْ بِهِمْ مِصْرُ بَعْدَ الْعِزِّ، واضْطَرَبَـتْ قواعدُ الملكِ ، حتى ظـلَّ فـي خلـلِ
وَأَصْبَحَتْ دَوْلَة ُ «الْفُسْطَاطِ» خَاضِعَـة ً بَعْدَ الإِباءِ، وَكَانَـتْ زَهْـرَة َ الـدُّوَلِ
قـومٌ إذا أبصرونـي مقبـلاً وجمـوا غَيْظـاً، وَأَكْبَادُهُـمْ تَنْقَـدُّ مِـنْ دَغَـلِ
فَإِنْ يَكُنْ سَاءَهُمْ فَضْلِـي فَـلا عَجَـبٌ فَالشَّمْسُ وَهـيَ ضِيَـاءٌ آفَـةُ الْمُقَـلِ
نزهـتُ نفسـيَ عمـا يدنيـونَ بــهِ وَ نخلة ُ الروضِ تأبى شيمة َ الجعـلِ
بئسَ العشيرُ ، وبئستْ مصرُ مـنْ بلـدٍ أضحتْ مناخاً لأهلِ الزورِ وَ الخطـلِ
أرضٌ تأثلَ فيهـا الظلـمُ ، وانقذفـتْ صواعقُ الغدرِ بينَ السهـلِ وَ الجبـلِ
وَأَصْبَحَ النَّـاسُ فِـي عَمْيَـاءَ مُظْلِمَـةٍ لَمْ يَخْطُ فِيهَـا امْـرُؤٌ إِلَّا عَلَـى زَلَـلِ
لَمْ أَدْرِ مَا حَلَّ بِالأَبْطَـالِ مِـنْ خَـوَرٍ بَعْدَ الْمِراسِ، وَبِالأَسْيَـافِ مِـنْ فَلَـلِ
أَصَوَّحَتْ شَجَرَاتُ الْمَجْـدِ، أَمْ نَضَبَـتْ غدرُ الحمية ِ حتى ليسَ مـنْ رجـلِ ؟
لاَ يدفعـونَ يداعنهـمْ ، وَ لـوْ بلغـتْ مسَّ العفافة ِ منْ جبنٍ ، وَ مـنْ خـزلِ
خَافُوا الْمَنِيَّة َ، فَاحْتَالُوا، وَمَـا عَلِمُـوا أنَّ المنـيـة َ لاَ تـرتـدُّ بالـحـيـلِ
فَفِـيـمَ يَتَّـهِـمُ الإِنْـسَـانُ خالِـقَـهُ وَ كلُّ نفسٍ لهـا قيـدٌ مـنَ الأجـلِ ؟
هيهاتَ يلقـى الفتـى أمنـاً يلـدُّ بـهِ مَا لَمْ يَخُضْ نَحْوَهُ بَحْراً مِـنَ الْوَهَـلِ
فَمَا لَكُـمْ لاَ تَعَـافُ الضَّيْـمَ أَنْفُسُكُـمْ وَلاَ تَـزُولُ غَوَاشِيكُـمْ مِـنَ الْكَسَـلِ؟
وَتِلْكَ مِصْرُ الَّتِي أَفْنَـى الْجِـلاَدُ بِهَـا لَفِيفَ أَسْلافِكُـمْ فِـي الأَعْصُـرِ الأُوَلِ
قومٌ أقـروا عمـادَ الحـقَّ وامتلكـوا أَزِمَّة َ الْخَلْـقِ مِـنْ حَـافٍ وَمُنْتَعِـلِ
جَنَوْا ثِمَارَ الْعُلاَ بِالْبِيـضِ، وَاقْتَطَفُـوا منْ بينِ شوكِ العوالي زهـرة َ الأمـلِ
فَأَصْبَحَتْ مِصْرُ تَزْهُـو بَعْـدَ كُدْرَتِهَـا فِي يَانِعٍ مِنْ أَسَاكِيـبِ النَّـدَى خَضِـلِ
لَمْ تَنْبُتِ الأَرْضُ إِلاَّ بَعْدَمَـا اخْتَمَـرَتْ أقطارهـا بـدمِ الأعـنـاقِ وَ القـلـلِ
شَنُّـوا بِهَـا غَـارَة ً أَلْقَـتْ بِرَوْعَتِهَـا أمنـاً يولـفُ بيـنَ الذئـبِ وَ الحمـلِ
حَتَّى إِذَا أَصْبَحَتْ فِـي مَعْقِـلٍ أَشِـبٍ يردُّ عنهـا يـدَ العـادي مـنَ الملـلِ
أخنى الزمانُ على فرسانهـا ، فغـدتْ منْ بعـدِ منعتهـا مطروقـة َ السبـلِ
فـأيَّ عـارٍ جلبتـمْ بالخمـولِ علـى ما شادهُ السيفُ منْ فخرٍ علـى زحـلِ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْفَتَـى عَقْـلٌ يَعِيـشُ بِـهِ فَإِنَّمَـا هُـوَ مَعْـدُودٌ مِــنَ الْهَـمَـلِ
فبادروا الأمرَ قبلَ الفوتِ ، وانتزعـوا شِكَالَة َ الرَّيْثِ، فَالدُّنْيَـا مَـعَ الْعَجَـلِ
وَ قلـدوا أمركـمْ شهمـاً أخـا ثقـة ٍ يكونُ رداءً لكمْ فـي الحـادثِ الجلـلِ
ماضي البصيرة ِ ، غلابٌ ، إذا اشتبهتْ مسالكُ الرأي صـادَ البـازَ بالحجـلِ
إنْ قـالَ بـرَّ ، وَ إنْ نـاداهُ منتصـرٌ لَبَّى ، وإِنْ هَمَّ لَـمْ يَرْجِـعْ بِـلا نَفَـلِ
يجلـو البديهـة َ باللفـظِ الوجيـزِ إذا عزَّ الخطابُ ، وَ طاشتْ أسهمُ الجـدلِ
وَلاَ تَلَجُّـوا إِذَا مَـا الـرَّأْيُ لاَحَ لَكُـمْ إنَّ اللجاجـة َ مدعـاة ٌ إلـى الفشـلِ
قدْ يدركُ المرءُ بالتدبيرِ مـا عجـزتْ عَنْهُ الْكُمَاة ُ، وَلَمْ يَحْمِـلْ عَلَـى بَطَـلِ
هَيْهَاتَ، مَا النَّصْرُ فِي حَدِّ الأَسِنَّة ِ، بَلْ بقوة ِ الرأي تمضـي شوكـة ُ الأسـلِ
وَطَالِبُـوا بِحُقُـوقٍ أَصْبَحَـتْ غَرَضـاً لِكُـلِّ مُنْـتَـزِعٍ سَهْـمـاً، وَمُخْتَـتِـلِ
وَ لاَ تخافـوا نكـالاً فيـهٍ منشـوكـمْ فالحوتُ في اليمَّ لا يخشى مـنَ البلـلِ
عيشُ الفتى في فنـاءِ الـذلَّ منقصـة ٌ وَ الموتُ في العز فخرُ السادة ِ النبـلِ
لا تتركوا الجدَّ أوْ يبـدو اليقيـنُ لكـمْ فالجدُّ مفتاحُ بـابِ المطلـبِ العضـلِ
طـوراً عراكـاً ، وأحيانـا مياسـرة ً رياضة ُ المهرِ بينَ العنـفِ وَ المهـلِ
حتى تعـودَ سمـاءُ الأمـنِ ضاحيـة ً وَيَرْفُلَ الْعَدْلُ فِي ضَـافٍ مِـنَ الْحُلَـلِ
هذِي نَصِيحَـة ُ مَـنْ لاَ يَبْتَغِـي بَـدَلاً بِكُمْ، وهَلْ بَعْدَ قَوْمِ الْمَـرْءِ مِـنْ بَـدَلِ؟
أَسْهَرْتُ جَفْنِي لَكُـمْ فِـي نَظْـمِ قَافِيَـة ٍ مَا إِنْ لَهَا فِي قَدِيمِ الشِّعْرِ مِـنْ مَثَـلِ
كالبرقِ في عجلٍ ، والرعدِ في زجـلٍ وَالْغَيثِ فِي هَلَلٍ، وَالسَّيْـلِ فـي هَمَـلِ
غَرَّاءُ، تَعْلَقُهَا الأَسْمَـاع مِـنْ طَـرَبٍ وَتَسْتَطِيـرُ بِهَـا الأَلْبَـابُ مِـنْ جَـذَلِ
حَوْلِيَّـة ٌ، صَاغَهَـا فكْـرٌ أَقَـرَّ لــهُ بِالْمُعْجِـزَاتِ قَبِيـلُ الإِنْـسِ وَالْخَبَـلِ
تلـوحُ أبياتهـا شطريـنِ فـي نسـقٍ كالمرفيـة ِ قـدْ سلـتْ مـنَ الخلـلِ
إِنْ أَخْلَقَـتْ جِـدَّة ُ الأَشْعَـارِ أَثَّلَـهَـا لَفْظٌ أَصِيـلٌ، ومَعْنـى ً غَيْـرُ مُنْتَحَـلِ
تفنى النفوسُ ، وَ تبقى وَ هيَ ناضـرة ٌ على الدُّهُورِ بَقَـاءَ السَّبْعَـة ِ الطُـوَلِ
قريبنا طبعا