قد جعل يحاكي ذرات كياني ذرة ذرة ....فما طقت الاستئثار بقراءة كلماته .....وفتحت له موضوعا خاصا،وكيف لا وهو كل المواضيع.....
*****************
فانتازيا من وحي الثورات (أحمد الشيخ)
كنت بين النائم واليقظان فتذكرت, وقد شاهدت جرعة ذلك اليوم من أخبار الثورات العربية, تذكرت أن جدي أدى فريضة الحج عام اثنين وأربعين من القرن الماضي, عبر ميناء السويس ابتداء من رحلة بالقطار من طولكرم على سواحل فلسطين, ومرورا بسيناء ثم من السويس عبر البحر الأحمر إلى جدة.
كان عثمان بن أحمد آنذاك يناهز الثمانين, وكان برفقته قريب له أصغر عمرا وصاحب همة وذاكرة, وهو الذي حدثني بعد وفاة رفيقة الحاج, كيف أن جدي, من شدة الإعياء, كان يعتقد أنهما ما زالا في ميناء السويس (الصويص كما كان يلفظها على عادة العرب في التضخيم) عندما توقف بهم القطار في رحلة العودة في طولكرم, ورفض أن ينزل حتى شاهد والدي, ابنه الوحيد, ينتظره خارج القطار.
تسلل سلطان السلاطين إلى جفوني وأنا أتخيل القطار القادم من سيناء, وكل أولئك الحجاج العائدين من الديار المقدسة مرورا بمصر وهم يعانقون ذويهم المستقبلين وقد فاضت عينا جدي, الملقب بآخر الدراويش بسبب سجيته الفطرية وتقواه وزهده, إذ يضم ابنه الوحيد.
وفي ما يرى النائم, وجدتني أنا الآخر وسط محطة قطارات حديثة في جدة منتظرا الإعلان عن قيام رحلة قطارنا السريع المسمى بالرصاصة (trans arab bullet train), إذ تتجاوز سرعته القصوى 400 كيلومتر في الساعة.
بشر بكل الأزياء يطالعون شاشات عريضة تعرض معلومات وتصور مسار رحلات قطارات الرصاصة من جدة إلى الخليج وشرق الجزيرة وجنوبها إلى اليمن, ومن جدة إلى العراق وبلاد الشام فساحل المتوسط إلى سيناء, ثم غربا مع ساحل المتوسط مرة أخرى إلى ليبيا فتونس فالجزائر فالمغرب فموريتانيا. وعلى الشاشات أيضا يتفرع الخط في مصر لينطلق جنوبا إلى السودان.
جمع غفير ينتظر. بجانبي حاج موريتاني يتلفع بدراعيته وفائض قماشها وتتلفع زوجته بثوبها, الذي يقولون إنه هو نفسه ما كانت تزهو به ولادة بنت المستكفي وقد اكتوى قلبها بحب ابن زيدون. وإلى جانب ولد الشنقيطي, مغربي بجلابيته وقلبه يكاد الشوق يطير به إلى مراكش, وبعدهما تونسي ببرنصه يصغي بتسليم لأوامر زوجة يبدو أن لها كلمة الفصل. وليبي بقلنسوة حمراء وبجانبه مصري صعيدي بجلابيته ذات الأكمام العريضة, وهو يطيب خاطر زوجته الملتاعة إلى مصر والولد ويقول "يا حاجة القطر فاضله ساعة واحدة ويتحرك وبعدها عشر ساعات ونكون في مصر".
ثم أهل بلاد الشام من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وبعضهم يخفي عبوس دائم طيبتهم وكرمهم الأصيل. وأهل الجزيرة والخليج والعراق نساء ورجالا ينتظرون القطار المتجه إلى بلاد الشام فمصر فالمغرب العربي.
دفعني فضول فسألت عراقيا يضع عقالا غليظا من الشعر, لماذا ينتظر هذا القطار وخط العراق من الجهة الأخرى فقال "يا آبي نريد نقدس الحجة ونزور الأقصى قبل ما نعود للأنبار". وقالت زوجته السمراء المملوحة "بخاطرنا والله من زمان نصلي في القدس". وكذلك قال جزائري شاب ومعه زوجة لم يترك صبح وجهها لأحد غيرها من النساء نصيبا من الحسن.
ثم قاطع حديثنا إعلان عبر شاشات العرض في المحطة يقول إن القطار سينطلق بعد ساعة بالتمام والكمال, وستكون أول محطة يتوقف فيها هي محطة مدينة الزرقاء الأردنية على بعد 1300 كيلومتر من جدة, وسوف تستغرق الرحلة قرابة أربع ساعات.
كنت أغالب نفسي عند حافة حادة بين الوهم والحقيقة, عندما شدني سوداني يضع عمامة أنصارية فوق جلباب تنتشر عليه جيوب على الصدر وعلى الظهر, فإن رايته من بعيد لا تدري أهو مقبل أم مدبر؟
كان عثمان الطاهر زميلا في الكويت ما وقعت عيني عليه منذ ربع قرن. تعانقنا على عادة السودانيين, يضرب كل منا الآخر بلطف على ظهره, تعبيرا عن شوق وود وجميل ثناء جبل عليه السودانيون. قال عثمان بعد سيل متواصل من تعبيرات الود, هل أنت مسافر على القطار بعد ساعة؟ ولم ينتظر إجابتي فمضى قائلا سنتوقف في القدس لنصلي في الأقصى.
تذاكرت مع عثمان أيام الكويت ومتاعب السفر برا وسألته أين الطابور الطويل أمام موظف الجوازات؟ فأعادني إلى حلمي وقال "لا حدود من رأس مسندم في عمان شرقا حتى موريتانيا غربا ومن إسطنبول شمالا حتى الخرطوم جنوبا فنحن في عصر ما بعد الثورات يا زول".
وعادت الشاشة لتنبهنا إلى أن القطار سينطلق بعد ربع ساعة وأن الأبواب فتحت الآن ليأخذ المسافرون مقاعدهم.
تنساب وراء قطارنا هذا أربعون عربة في كل واحدة أربعون مسافرا وكل مقصورة مجهزة بآخر مستلزمات التكنولوجيا التي تبقي المسافرين على اطلاع دائم على مسار رحلتهم وتقدم لهم معلومات عن كل بلد أو مدينة يمر بقربها القطار.
جلس بجانبي قبل تحرك القطار شاب يسترسل شعره اسود حتى حلمة أذنه. وضع حقيبته اليدوية في الرف العلوي واستبقى معه جهاز كومبيوتر عليه صورة عربي ملتح ويعتمر عمامة, وتحتها كلمة "الخوارزمي".
كاد ذلك يخرجني من حلمي, فكل الحواسيب التي رأيتها قبل الآن تمهرها إما التفاحة المخشومة أو الحروف اللاتينية للشركات الغربية الصانعة. ولما رآني جاري الشاب أحملق في حاسوبه مشدوها مد لي حبل نجاة, وأبقاني في حلمي حين قال "الم تر حاسوبا يحمل هذا الاسم قبل الآن؟ نعم هو من صناعة عربية تماما".
أردت أن أطرح على الشاب أسئلة كثيرة يثيرها فضول الصحفي, لكن الإعلان عن تحرك القطار الرصاصة بعد ثلاثين ثانية أوقفني. وانطلق القطار وتسارع عابرا نفقا طويلا خارج المدينة ولما خرج منه وسط الصحراء خلته يكاد يطير من شدة سرعته.
عدت إلى جاري الشاب وفتحت معه موضوع حاسوبه, فقال إنه من إنتاج مركز أبحاث التكنولوجيا والفضاء العربي الموجود في جبال أطلس في المغرب. وقبل أن أستوضح عن المركز, سألته من أين هو؟ فقال إنه من جدة نفسها وهو يعمل في المركز في أبحاث هندسة المواد والتعدين, وكان في إجازة وأراد أن يعود هذه المرة بالقطار كي يرى وطنه الأكبر بأم عينه.
وإذ يغذ "عقبة بن نافع" وهذا اسم قطارنا, الخطى كنت أشاهد من النافذة قطارات شحن وركاب ذاهبة آئبة وهي تنقل دونما عائق الأفراد والسلع وتنتشر على جانبي السكة الاستراحات والمصانع وفيها كل العرب بأزيائهم المتنوعة.
**********************
تابعوا فضلا