المحرر موضوع: تسع سنوات في سجون سورية...  (زيارة 73881 مرات)

0 الأعضاء و 4 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #140 في: 2011-05-19, 22:29:38 »
وشاب الشهود !

كانت العبارة قاسية على عمتي ٬ لكن الحالة كانت أقسى على نفسي وأشد ٬ ورغم أن عمتي انفجرت وقتها في البكاء وأخذ عمي يهدىء من روعها فما سكتت إلا بصعوبة ٬ إلا أنها تفهمت حالتي لا ريب ٬ ولما عادت في المرة التالية أتت وقد غيرت السواد بالفعل . . لكنني لم أسمع قصة أهلي بالتفصيل إلا من أم ماجدة التي حضر والدها أول مرة فلم تكد تعرفه من الشيب الذي غطى رأسه والكرسي المتحرك الذي أقعده نبأ اعتقالها عليه ٬ فلما تأكدت أنه أباها جعلت تقفز من فرحتها وقد عقدت الفرحة لسانها فلا تستطيع الكلام ٬ فلما استدركت نفسها قالت لأبيها وكأنها تعتذر : والله ما عرفتك . . تاري شايب . . فقال لها : والله شيبتيني يا بنتي ! وكان والدها حزبيا ضد الإخوان فتوقعت أن تكون لديه ردة فعل ضدها أيضا ٬ لكنه لما راها أول ما حضر بكى وهو يقول : انظري . . أنا ات ورافع رأسي ولي الشرف والحمد لله . وفي الزيارة التالية حضرت أم ماجدة فكانت فرحتنا معا بها لا توصف ٬ وأبلغتني أم ماجدة أول ما أبلغتني باستشهاد أخي وارف ٬
وقصت علي القصة من بداياتها ٬ فقالت بأن الخابرات كانوا بعد خروج أمي من السجن قد استبقوا كمينا في بيتنا وفي ظنهم أن إخوتي سيأتون للسلام على أمي بعد خروجها فيعتقلونهم ٬ فلما لم يجدوا جدوى من ذلك ولم يحضر أي منهم جعلوا يعتدون بالتعذيب على أبي ٬ فيخرجونه بين فينة وأخرى إلى حديقة كبيرة كانت أمام بيتنا على طرف العاصي ويعذبونه أمام الناس فيها ٬ فيضربونه مرة ٬ ويحرقون له ذقنه مرة ٬ ويجرجرونه في الشارع أخرى ٬ إهانة وإذلالا له وتخويفا لغيره . . وكانت أمي تخرج عليهم وهي تصيح وتدعو ٬ فيقول لها مسؤول الدورية : سلمينا أولادك لنكف عن زوجك ونعطيك ابنتك . . فترد عليه بتحد كعادتها : سلمني إياها بيدي . . حتى أراها بعيني وأمسكها بيدي لأقول لك أين بقية أولادي ٬ لكن والله طالما أنها غير موجودة أمام عيني فلن تأخذ شيئا ولو قتلتني . ثم كانت الفاجعة التالية حينما استشهد أخي وارف في حلب (وكان عمره 18 عاما وحسب ) أثناء مداهمة بيت أوت إليه مجموعة من الملاحقين كان من بينهم وذلك
قبل 16 يوما فقط من استشهاد أهلي ٬ وبرغم الفاجعة فإن أمي اثرت أن تكتم الخبر عن أبي وهو بحالته تلك فكانت تذهب عند أم ماجدة وتخرج صورة وارف هناك وتبكي عليها ما شاءت حتى تطفىء حرقة قلبها فتعود إلى البيت . . لكن ذلك لم يمنعها أن تحاول زيارتي في السجن بأي وسيلة ٬ ولم تمنعها النوازل أن تمضى إلى كفر سوسة مع أم ماجدة مرة فتقابل ناصيف من جديد وتساس إذنا بزيارتي ٬ فكان كل الذي أجابها به : والله آسفين ٬ هذا الإسم غير موجود عندنا ! فكادت أمي كما روت لي أم ماجدة أن تجن . . وعندما تركت مكتبه وقفت أمام نافذة مهجعنا المطلة على ساحة الفرع الداخلية والتفتت إلى أحد العناصر من لهفتها تساله راجية أن يخبرها ولو بإشارة من طرف عينه إن كنت لا أزال هناك أم لا ٬ لكنها لم تحظ حتى بتلك الإشارة وغادرت ملوعة القلب دون أن تراني أو تسمع عني أي شيء . .

وظلت وظلوا جميعا على حالتهم تلك حتى كانت بداية الأحداث في حماة .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #141 في: 2011-05-19, 22:30:27 »
شهداء أحياء

كنا لا نزال في سجن كفر سوسة حينما تفجرت أحداث حماة الشهيرة في شباط 82 لكننا في عزلتنا المفروضة وقتذاك لم نسمع بأدنى خبر عنها ٬ وعلى الرغم من تسرب بعض الأنباء لبعض البنات بيننا إلا أن المقدم ناصيف حذرهن أشد التحذير من أن يتحدثن عنها أو أن يعلمنني بشيء عن مصيرأهلي ٬ فلما نقلنا إلى قطنا بدأ الخبر يصل إلي والقص التي لا تصدق والفاجعة الرهيبة تبلغني من هنا وهناك ٬ فلما حضرت أم ماجدة روت لي المزيد من تفاصيل ما جرى وخاصة فيما يتعلق بأهلي رحمهم الله ٬ وقالت بأن البداية كانت حينما رأت في منامها أن إخوتي الصغار ينامون على سرير واحد ولكنهم غارقون في الماء  ،وأحست أنهم برغم غرقهم فقد كانوا يتمايلون في الماء الصافي وهم أحياء . . ثم رأت أمي تدخل وترقي عليها فتنقسم في حجرها إلى قسمين . . فلما استيقظت حدثها قلبها بأن أهلي في خطر ٬ فقامت من فورها ورجت زوجها أن يذهب ويستطلع أمرهم ٬ ويجهد لكي يعود بهم معه إلى البيت ٬ ولما كان أهل ماجدة قد انتقلوا من "حي الطوافرة" الذي جاورونا فيه طويلا إلى حي جديد على طريق حمص ٬ مما جعلهم عمليا من سكان الضواحي ٬ فقد كان عليه أن يقطع مسافة طويلة حتى يبالغ محيط المدينة القديم ٬ فلما خرج بعد صلاة صباح ذلك اليوم وشارف حماة وجدها مطوقة من كل مداخلها ٬ فلم يستطع التقدم أكثر وعاد ناجيا بنفسه . . وانفجرت الأحداث . . وعم القتل والتدمير . . وانقطعت حماة عن العالم بينما
المذابح تجري في شوارعها وأهلها يموتون بالمئات . . وأثناء ذلك حاولت عمتي من جهتها الذهاب من دمشق إلى حماة لاستطلاغ حال أهلي ومساعدتهم في شيء ٬ ورغم أن محاولتها تلك كانت انتحارية لم يوافقها عليها حتى زوجها ٬ إلا أنها أصرت على المحاولة  ٬ وتمكنت من دخول المدينة بالفعل حتى شارفت على الحي الذي نسكن فيه ٬ إلا أن القوات العسكرية ردتها من هناك وما سمحوا لها بالإستمرار ٬ ووقتها كانت أربعة أيام قد مضت على أبي وهو ملقى في الشارع لا يجرؤ أحد حتى على رفع جثته !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #142 في: 2011-05-19, 22:31:12 »
كسره خبزو حسب !

أما حادثة استشهادهم فبدأت عندما اعتصم أفراد من المقاومة في حينا واستعصى على القوات الحكومية اقتحامه ٬ فأحكموا الحصار حوله ومنعوا المؤن والكهرباء والماء عن الحي كله ٬ واستمر الحصار لسبعة أيام كما سمعت حتى لم يبق في بيتنا من الطعام أو الماء شيء ٬ فخرج أبي وجعل يسأل طليعة القوات المحاصرة بعض ما يقيت الأطفال ٬ وروى لي خالي الذي كان يشهد الحادثة من شباك بيته المطل على المكان أن الجندي انتهر أبي وأمره بالعودة من حيث أتى ٬ لكن أحدا لم يكن ليستطيع أن يسكت جوع الأطفال ٬ فخرج أبي مرة أخرى يقول للجنود : فقط
نريد قطعة خبزللصغار .

فأجابه الجندي منتهرا : إرجع أحسن ما أرشك وأرميك بالأرض . لكن ذلك لم يرد أبي إلا لبرهة ٬ عاد للمرة الثالثة بعدها يسالهم خبزا فالأولاد يكادون يموتون . . في تلك المرة لم يجبه الجنود إلا بزخة رصاص أردته على باب بيته . . وصاح خالي من بيته المقابل وسقط من هول المنظر مغشيا عليه ٬ فلما ركضت زوجة ابنه لتحمله لمحها الجنود فالقوا على البيت قنبلة ضوئية لتكشف كل ما فيه واقتحموا عليهم وانتشروا في كل مكان فيه متدرعين بالنساء والأطفال فيه . . في تلك اللحظات وعندما سقط أبي برصاص الجنود سمع أخي ماهر الصوت من قبو البيت حيث كان الجميع قد التجأ فخرج ليستطلع الأمر  ٬فلما رأى أباه صريعا أمامه ارتد إلى حجرته وتناول سلاحا كان "شبيبة الثورة" قد سلموه إياه ليدافع عن أمن الثورة" ولم يكن عمره قد جاوز الثالثة عشرة بعد ! واندفع ماهر خارج البيت يطلق النار على الجنود الذين قتلوا أباه ٬ فأصاب منهم من أصاب قبل أن يردوه هو الآخر قتيلا . . ولقد قال ناصيف خير بك لماجدة ولبقية رفيقاتي بعد ذلك عنه بكل صراحة : أعطيناه السلاح ليحمينا به فقتلنا به . . هؤلاء كلهم خونة . . ولذلك جعلنا الصغير فيهم أربع قطع لأن بذرته إخوان وكان سيطلع إخوان ! بعد ذلك خرجت أمي تدعو عليهم وتبكي وتستنزل اللعنات ٬ فأكملوا جريمتهم ورشوها أمام الباب أيضا . . ثم دخلوا على البيت فأجهزوا على كل من بقي فيه : ياسر ابن أربعة أعوام ٬ وقمر ابنة خمسة ٬ ورنا في السادسة ٬ وصفا التي كانت قد دخلت المدرسة في أول سنة لها وقد بلغت لتوها السبعة أعوام ٬ ثم أختي ظلال التي كانت في العشرين تقريبا . . وأما أخوتي الثلاثة المتبقين فكان صفوان أولهم خارج سورية ٬ وغسان وسامر متخفيان في حلب ٬ فكانوا الناجين من بين بقية الأسرة التي قضت جميعا ٬ وبالطبع فقد تم جمع جثث الجميع مع بقية القتلى في البلد ودفنوا في مقابر جماعية دونما تمييز وذلك قبل أن يتم رفع حظر التجول ووقف القتل والتدمير بأيام . . وعندما تمكن الناس من الخروج من مخابئهم اخر الأمر وتوجه عمي وزوجته ليروا ما حدث لم يجدوا إلا غطاء رأس أمي عند بوابة البيت وسط بقعة كبيرة من الدم ٬ ووجدوا على جدران القبو وفوق أرضه دم إخوتي البقية ولا أثر لجثة أي منهم .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #143 في: 2011-05-19, 22:31:53 »
حي على الجهاد

وأما أخي عامر الذي كان في الرابعة عشر من عمره فقد استشهد في نفس الفترة بعيدا عن أهلي في شارع 8 اذار . وكانت أمي قد أرسلت عامر ليجلس مع جدته في بيت أخيها المسافرإلى السعودية حتى لا يأتي المخابرات ويجدوا البيت خاليا فيسرقونه كعادتهم  ٬ لكنهم لما أتوا للتفتيش فعلوا ما هو أسوأ . . فعندما وجدوا عودا من ممتلكات خالي جلسوا يدقون عليه وقد انهمك بقيتهم في العبث بمحتويات الغرف الأخرى بلا رقيب أو حسيب  ٬ ثم طلبوا من جدتي وسط قهقهاتهم الفاجرة أن تقوم فترقص لهم ٬ في الوقت الذي اختبأ عامر تحت السرير فما وجدوه ٬ ومن رعبها وخشية منها أن يتمادوا معها أو أن يعثروا على أخي قامت جدتي بسنها الذي قارب السبعين فامتثلت ورقصت بهيبتها ووقارها وتقاها لهم . . فلما انصرفوا وقد نهبوا ما أرادوا وحطموا أكثر مما نهبوا نادى مناد في المآذن ا احي على الجهادا ا . . فخلع أخي ساعته وتوضأ وصلى ركعتين سنة الشهادة ودفع إليها بالساعة وقال لها : هذه الساعة ذكرى مني خليها معك وأعطيها لأمي ذكرى وادعي لي .. وخرج راكضا وجدتي تناديه أن يا عامر تعال وهو لا يستجيب . . ورأته آخر ما رأته وقد دخل سوق الطويل حيث كان الإخوان يعتصمون بداخله ٬ ولم يخرج بعدها إلا مرة واحدة
طرق الباب فيها على إحدى القريبات حافي القدمين ممزق الثياب يسالها أن تمنحه أي نوع من الطعام أو اللباس لديها ٬ وأخبرها بأن رفاقه يكادون يموتون من الجوع والبرد . . ولم يكن لدى هذه العائلة من الأولاد إلا البنات ٬ فاحتارت أول الأمر ٬ ثم أعطته ما توفرمن جاكيتات وكنزات كبيرة الحجم يمكن للشباب أن يستخدمونها ٬ وأعدت له بعض الطعام وأشياء أخرى أخذها وذهمب ٬ وفي اليوم التالي وجدوه مستشهدا في نفس الشارع ٬ فأتى رفاقه ودفنوه مكان مسجد هدمته المخابرات ٬ وبعد انتهاء الأحداث حفروا ثانية ونقلوا الجثة إلى المقبرة ٬ ولكننا لم نعرف للأسف أين بالتحديد لأن الذي دفنه استشهد أيضا !

وهكذا تلقيت نبأ استشهاد والدي وخمسة من إخوتي مرة واحدة ٬ وبلغني الخبر الذي  كانت البنات تخفينه عني طوال شهور رحمة بحالي وإشفاقا على ٬ إلا أنني سبحان الله لم أحس الخبر مفجعا كما ظن الآخرون ٬ ولم أحزن عليهم حزني على أحبة فقدتهم لأنهم في حالتهم هذه شهداء إن شاء الله . . وكل منا يدعو الله متمنيا أن يرزقه الشهادة كرما منه سبحانه وفضلا ٬ فكيف يحزن إن أكرم الله بها أحب الأحبة وأقرب الناس إليه ؟ إننا نخاف  من الموت فقط حيث الحساب والسؤال والإمتحان. . وأما الشهادة فهي الحياة الحقيقية ٬ وهي النعمة التى لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #144 في: 2011-05-19, 22:32:38 »
إبر للعقم . . لا للألم !

ومرت الأيام . . وعادت دورة الحياة المملة ومعاناتها تجثم على الصدور أثقل من الصخر الأصم . . ثم لم ألبث أن سقطت فريسة أمراض متتالية لم أعهدها في نفسي من قبل . . ووجدتني أسقط من ثم بيد طبيب حاقد من أبناء طائفة النظام أسوأ من قطاع الطرق . . اتخذ المرض ذريعة ليفعل بي ما لايخطرعلى قلب إبليس ! كان الدكتور سمير كما ينادونه طبيبا زائرا مكلفا بعلاج القضائيات في الأصل ٬ فلما ازداد عدد السجينات السياسيات وتزايدت مشاكلهن الصحية جعل يخصص بضع دقائق من وقته بين الحين والاخر لمقابلة أصحاب الحالات الشديدة منهن ٬ ولا يزيد عن أن يعطي أسوأهن حالا بعض حبوب مسكنة لا تنفعهم بشيء ! وكان سميرهذالئيما جدا نحس أنه يعاملنا معاملة مخابرات لاطبيب وعندما نشكوله شيئا لا يزيد عن أن يهزأ بنا ويكرر علينا عبارة واحدة بشكل آلي "ما فيكم شيء ا ا . . حتى أننا لكثرة ما سمعنا عبارته تلك لم نعد نساله شيئا اخر الأمر . وكنت في البداية وعندما أخذت القرحة التي ورثتها من كفر سوسة تشتد علي الامها قد طلبت مقابلته وشرحت له حالتي وحدثته بما أعاني ٬ لكنه قاطعني في نصف حديثي ولم يزد عن أن قال لي : هذه الأعراض لا دواء لها ٬ وعليك أنت أن تعالجي نفسك بنفسك !

وأكرمنا الله وقتها حين بدأ قريب إحدى السجينات معنا وهو طبيب متمرن بالتردد علينا وتقديم الأدوية والعلاجات اللازمة لنا بالسر غالب الأحيان ٬ والتي وجدت عليها تحسنا كبيرا وبدأت أتعافى من قرحتي شيئا فشيئا ٬ لكن أعراضا أخرى بدأت تنتابني خلال ابتداء دورتي الشهرية تصحبها الام شديدة ٬ فاضطررت من شدتها مرة أن أطلب مقابلة الدكتور سمير مرة أخرى وأساله ولو نوعا من المسكنات يخفف عني الألم ٬ ولم يلبث بعد أيام أن استدعى الحاجه مديحة وقال لها أنهم شكلوا لي لجنة للنظر في هذا الوجع الذي يأتيني وقرروا لي العلاخ ٬ ووجدته يرسل لي علبة إبر أخذت اثنتين منهما بالفعل قبل أن يأتي الطبيب من جديد فتحدثه قريبته بالموضوع ٬ فلما سالها أن يرى الإبر وأتت بها إليه لم يصدق ما يرى ٬ وصاح فيها وقد تملكه الذهول : هذه إبرللعقم لا للالم وهرع غاضبا ذهب إلى موفق السمان مدير المنطقة ورئيس السجن وحكى له ما حدث ٬ ومن غير أية مقدمات انقطع الدكتور سمير عن الحضور إلى السجن وانقطعت أخباره . . لكن أحدا لم
يأت ليحقق في تلك الجريمة أو يستفسر عن حالتي . . مثلما لم يأت طبيب اخر مكانه ولم يحضروا أي بديل . .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #145 في: 2011-05-19, 22:33:34 »
بول أم دم !

ذهب الدكتور سمير إلى حيث لا أعرف . . لكن الألم لم يذهب . . والبلاء لم ينته . . وسرعان ما بدأت أحس أعراضا مغايرة في منطقة أخرى من جسدي . . وبازدياد نوبات الألم الذي استمر شهورا أغالبه ويغالبني حتى غلبني في النهاية تبين لي أنه التهاب الكلى . . فصار الدم يخرج مع البول مني وحصل معي استفراغ متواصل واسهال مستمر ٬ ومع استمرار الظروف الصحية السيئة تفاقمت الحالة حتى فاقت أي احتمال . . وأمضيت شهر رمضان من عام 1454 (يونيو 84 ) كله على هذه الحال لم أستطع بالطبع أن أصوم يوما واحدا منه ولا حتى أن أصلي . . ولم تكن زميلاتي في المهجع يستطعن النوم من كثرة تأوهي ونحيبي ٬ ولم أعد أستطيع من شدة ضعفي القيام حتى إلى الحمام ٬ فكانت البنات يحملنني إليه حملا . . وفي تلك الفترة انتشر الفسفس في السجن فكان ابتلاء آخر زيادة على ما أنا عليه ٬ وكان إذا سكنت الامي لحظة تقدمت هذه الحشرات المقيتة لتذيقني بعضاتها طعما جديدا من الألم ! وكانت ماجدة جزاها الله خيرا وأجزل ثوابها تسهر الليل عند طرف وسادتي لتلتقطهم عني بيديها ما وسعها الجهد والجلد . . وفي النهاية وعندما قاربت بالفعل على الموت تدخل العميد موفق السمان وسمح بإخراجي على مسؤوليته الخاصة وعرضي على طبيب مختص ٬ وأخذوني بالفعل بسيارة الشرطة وداروا بي في قطنا حتى وجدوا طبيبة أخصائية أمراض الكلى فحصتني وأعطتني إبرة مسكن وقالت لهم أنني أحتاج إلى تحليل ٬ فلما أخذوا البول ليحللونه سأل المحلل السجانة التي أخذته : هل هذا دم أم بول . . أو أن الزجاجة لونها بني ؟ وبعد ظهور النتيجة وصفت لي الطبيبة ست إبر كل اليوم كانت تعطيني إياهم أم معقل بنفسها ٬ لكن أجنابي تعقرت ولم أشعر بأي تحسن . . فقامت إدارة السجن أخيرا بإرسال كتاب إلى أمن الدولة بكفر سوسة شرحوا لهم فيها حالتي وطلبوا إذنا لأخذي إلى مستشفى المواساة ٬ فأتت الإجابة بالموافقة المبدئية معلقة على تقرير الطبيب هناك ٬ ووجدتني في اليوم التالي محمولة في سيارة الشرطة إلى هناك وأنا أقرب للغيبوبة مني إلى الصحو . . وهناك وجدت جمعا من الطلاب التفوا حولي كأنما يريد كل منهم أن يتدرب في ٬ وتقدمت طبيبة من بينهن فخلعت عني جلبابي وفحصتني بشكل سريع ثم أعطتني إبرة مسكن في الوريد لم أعد أحس بعدها بشيء . . وعندما استعدت وعيي وجدتني في المهجع من جديد تتحلق البنات حولي وكأنني في النزع الأخير ! وسرعان ما انتهى مفعول إبرة المسكن دون أي تحسن ٬ فعادوا
بعد يومين أو ثلاثة وأنزلوني إلى المستشفى مرة ثانية ٬ وتكرر ذلك ثلاث مرات أو أربع لم أزدد فيهن إلا رهقا وثقوبا في أوردة الساعدين ! وفي المرة الأخيرة أبلغت صديقتنا السجينة قريبها الطبيب فوجدته يستقبلني هناك ومعه أخي وابنة عمي التي كانت تتدرب في نفس المستشفى ٬ وقاموا فور استلامي فأخذوني إلى الطابق العلوي حيث تشتد العناية وتأخذ الفحوصات مسارا جادا هناك . . وهناك وجدت من عجائب الأقدار أحد الأطباء يهرع إلي فينتحي بي جانبا ويسالني بانفعال : ألست أخت صفوان دثغ ؟ قلت له :نعم .

قال والكلمات ترتجف على شفتيه من التأثر والإرتباك معا : ماذا حدث له . . ولماذا أنت مسجونة؟ ولم يدع لي الفرصة للجواب الذي لا يخفى فقال وهو دامع العينين : معليش بيعين الله . . وأسر لي وهو يكمل فحوصاته بأنه كان وصفوان زملاء في الكلية ٬ وأنه لذلك سيجهد لكي يبقيني في المستشفى لاستكمال العلاج . . إذا تمكن . ولما كتب ذلك في تقريري ومضى به إلى مدير المستشفى وافق عليه شريطة موافقة الجهات الأمنية . . وبكل طيب وحسن خلق تقبل الخبر الشرطي الذي كان مكلفا بمرافقتي ٬ وطلب مني الإنتظار على باب المستشفى مع أخي ريثما
يمضي فيحضر الموافقة من سجن القلعة .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل بسمة ذياب

  • شباب نشيط
  • **
  • مشاركة: 345
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #146 في: 2011-05-20, 02:26:24 »
وسط كلّ هذا الركام وهذا العذاب وكلّ هذه المحن تغدو الحاجة ملحّة لإشارة أمل وقبس نور مهما كان ضعيفاً : " نحن محكومون بالأمل ( سعد الله ونّوس )...
تصفّحت معكم الجزء الثالث ( طبعا هاي مرة إضافية ) و حديث " سجن قطنا " و " اللمحات الإنسانية " لبعض مسؤوليه ... يعني الخير لا ينعدم والحمدلله.

غير متصل بسمة ذياب

  • شباب نشيط
  • **
  • مشاركة: 345
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #147 في: 2011-06-03, 18:42:00 »
يبدو أن سجن القلعة بعيد جدا عن مستشفى المواساة ... أو أن ذاك الشرطي الطيّب أراد أن يبقى شقيق هبة معها أطول فترة ممكنة... لا بأس إذن أن انتظرنا معهم منذ  19/ 5 أي منذ نصف شهر :-)

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #148 في: 2011-06-03, 18:45:12 »
يبدو أن سجن القلعة بعيد جدا عن مستشفى المواساة ... أو أن ذاك الشرطي الطيّب أراد أن يبقى شقيق هبة معها أطول فترة ممكنة... لا بأس إذن أن انتظرنا معهم منذ  19/ 5 أي منذ نصف شهر :-)

نعم يا بسمة انشغلت جدا هذه الأيام بالكاد أطل على موضوع واحد (سقط الكمام)... لي بإذن الله عودة  emo (30):
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل بسمة ذياب

  • شباب نشيط
  • **
  • مشاركة: 345
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #149 في: 2011-06-03, 18:52:53 »
لا ولا يهمّك يا أسماء ( يعني : لا عليك ) ... هاي هيك " حركشة يعني " ... طبعاً، فالحداث الآنية مهمة جداً، وما يكتب هناك وما تنتقينه رائع بحقّ ويحتاج وقتا ليس في الاختيار والنقل فقط، بل في القراءة والتدبّر من قبلنا أيضاً.
لا تدرين كم أفادتني هذه المواضيع والشهادات والمقالات أنا شخصياً ... فبارك الله فيك يا أسماء :-)
أؤكّد لك أن لا تستعجلي فالمهم أن يتابع اكبر قدر ممكن من الناس ما ينشر ويعوه ويتحاوروا بشأنه فتتجدّر حالة الوعي.. وهي الأساس في التغيير.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #150 في: 2011-06-03, 19:05:48 »
لا ولا يهمّك يا أسماء ( يعني : لا عليك ) ... هاي هيك " حركشة يعني " ... طبعاً، فالحداث الآنية مهمة جداً، وما يكتب هناك وما تنتقينه رائع بحقّ ويحتاج وقتا ليس في الاختيار والنقل فقط، بل في القراءة والتدبّر من قبلنا أيضاً.
لا تدرين كم أفادتني هذه المواضيع والشهادات والمقالات أنا شخصياً ... فبارك الله فيك يا أسماء :-)
أؤكّد لك أن لا تستعجلي فالمهم أن يتابع اكبر قدر ممكن من الناس ما ينشر ويعوه ويتحاوروا بشأنه فتتجدّر حالة الوعي.. وهي الأساس في التغيير.

وهذا ما أركز عليه فعلا يا بسمة في ظل شح الوقت، "الأولوية"، فأتخذه سبيلا لمتابعتي للمستجدات وللنشر لغيري ...."سقوط الكمام"، الحقيقة التي كانت حلما، أو ربما لم ترتقِ حتى لأن تكون حلما...
شكرا على تفهمك يا بسمة emo (30):

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #151 في: 2011-07-06, 11:29:58 »
نعم يا بسمة رغم أن سجن قطنا أرحم بكثير من سجن كفرسوسة إلا أن هبة تلاقي الصدمة تلو الصدمة، فنبأ استشهاد والديها و إخوتها، 14سنة، 13سنة،18سنة،20سنة،5سنوات،4سنوات،7سنوات  !!!

رغم أنها تقلو أنها لم تحزن عليهم بالقدر الكبير، وكسا قلبها اليقين بحياتهم الهنيئة ورزقهم عند رب العالمين، إلا أنني شخصيا عشت مرا وعلقما من قصص استشهادهم، ولم يعد قلبي يحتمل، وأنا أقرأ ما لا يخطر على قلب بشر، يا إلهي ................!!!!  ابن 14 عاما، يستجيب لنداء مآذن حماة في أزمتها العظيمة 82، "حي على الجهاد" فيسارع ويتوضأ ليصلي ركعتي الشهادة، ويعهد بساعة يده  إلى جدته لتسلمها لوالدته فتذكره بها .........ويخرج للجهاد ......... فيجاهد مع المقاومين، ويجلب لهم الملبس والمأكل، ثم يستشهد هو ، ثم يدفن، ثم يستشهد دافنه !!!!!!!

والأب الذي لم يمنعه توحشهم وقمعهم من الخروج تباعا يبحث عما يقيت أولاده، فيُردوه شهيدا قد أذنب إذ طلب الأكل لفلذات كبده .........والأم .......!!! التي بقيت قوية إلى آخر رمق تخفي عن زوجها العييّ نبأ استشهاد ابن آخر لها في حلب، تبكيه خلسة عند جارتها، ثم تعود لتكابد مُرا غيره، وهي المؤمنة المتصدية للجند الداعية عليهم، حتى من الله عليها بالشهادة ..........!!!

ووووووو.................... لا تنفك هذه الأحداث ترن برأسي وأنا أرى حماة اليوم تهب عن بكرة أبيها، يلفني اليقين أن كل أسرة فيها استعادت آلام وذكريات السنين الخوالي، ووجدت اليوم سانحة للانتقام، وللصراخ، وللبكاء على شهدائهم الأشاوس ..........لك الله يا حماة، لله دركم يا أهلها الأشراف، يا أهل الشهداء ................

يارب انتقم لحماة يا منتقم ولأهلها يا رب .........انتقم من كل من عذبهم ذات عام من أعوام القهر والإذلال والإمعان في التركيع، وكتم أنفاس كل حي لن يموت .........!!

دقت ساعة الانتقام يا حماة الفداء والإباء ............دقت الساعة


الجزيرة| تقرير فاطمة التريكي حصاد يوم572011


شام - حماه - أطول علم و أغنية جرثومة بجمعة أرحل 1-7
« آخر تحرير: 2011-07-06, 14:21:18 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل بسمة ذياب

  • شباب نشيط
  • **
  • مشاركة: 345
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #152 في: 2011-07-06, 16:59:46 »
وها قد عدتُ يا أسماء. في الواقع أنا لم أغادر !
ها نحن في " شعبان " فكيف سيكون " رمضان " ... اللهم فرجك في رمضان لعلّ العيد يكون عيدين ...
يارب...

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #153 في: 2011-07-06, 19:52:23 »
وها قد عدتُ يا أسماء. في الواقع أنا لم أغادر !
ها نحن في " شعبان " فكيف سيكون " رمضان " ... اللهم فرجك في رمضان لعلّ العيد يكون عيدين ...
يارب...

يا رب
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #154 في: 2011-07-06, 19:55:38 »
الفصل الثالث 2

فرصة ذهبية للهرب !

مضت سيارة الشرطة ووجدتني من شدة ضعفي لا أستطيع أن أرى الدرج أمامي وأصبت بالدوار ٬ فجرني أخي من يدي وأنزلني وكأنني عمياء ! وجلسنا في الخارج على كرسي للإنتظار وحيدين لا رقيب علينا ولا حسيب ٬ عندها سالني أخي : ما رأيك لو أهربك الآن ؟ قلت له وأنا لا أكاد أجد للحرية مع السقام والإعياء معنى : لا أريد . . سيلقطوننا من على الحدود ويرجعوننا فيزيد بلاؤنا بلاء . ولم تمض دقائق حتى عادت سيارة الشرطة وأطل العناصر من نافذتها يسالوننا إن كنا نفضل الذهاب معهم بدل الإنتظار الممل فوافقنا . . وجعلت السيارة تخترق أحياء دمشق متجهة نحو قلعتها التي تتوسط أحياءها القديمة ٬ ووجدت الناس كل في شغله بين بائع و مشتري ٬ وطالب وعامل ٬ وموظف وتاجر . . كلهم غارقون في دوامة الحياة يشغلهم تأمين احتياجاتهم الأولية عن ذاك الذي يجري بينهم دون أو يبصروه أو يسمعوه . . وترهقهم مشقة الحياة عن أن يلتفتوا ليتفكروا إلى أين تمضي قاطرة الظلم بالوطن ! فلما وصلنا سجن القلعة وهرع أحد عناصر الشرطة الذين يرافقوننا بيده الأوراق يأمل أن يجد لها توقيع الموافقة ارتد بعد هنيهة مكسور الخاطر وقد نال الطلب الرفض . . لكن نفسي التي اعتادت الإحباطات باتت تتقبلها بدون انفعال . . وقفلنا راجعين إلى سجن قطنا أكمل مع نزيلات المهجعين أيام الأسر والمعاناة . . وكثف الطبيب قريب زميلتنا زياراته محملا بالأدوية والعلاجات ٬ وبالمواظبة على تناولها تحسنت حالتي شيئا فشيئا ٬ وبعد مضي شهر كامل تمكنت من الخروج إلى الحمام أول مرة بدون مساعدة من أحد ٬ وبقيت سنتين تاليتين لا أشتغل أي شيء في الغرفة
مثلما يتوجب علي ٬ وظلت رفيقاتي يجزيهن الله الخير يحمنني خلال ذلك ويغسلن لي ملابسي . . ويستتفدن من أية فرصة متاحة ليحضرن لي االطعام الصحي والعصير والمقويات .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #155 في: 2011-07-06, 19:59:13 »
الولد الضائع

كانت حياة السجن مزيجا من المعاناة والغرابات ٬ ففي هذا المجتمع الفريد تتوقع أي شيء في أي وقت ٬ وتقابل من أصناف المشاهد غير المعتادة ما لا يعد . . وتظل الأيام حبلى والمغيبات أسرار وألغاز حتى يحين الميعاد ! وعلى غيرميعاد وخارج كل التوقعات بدأت قصة ذلك الغلام الضائع الذي التقطه الشرطة من حي من أحياء دمشق . . وبما يفوق شتى التوقعات انتهت من غير ميعاد قصته الغريبة ! كان منظرا مؤذيا للشعور أن ترى غلاما لم يمد يبلغ السادسة من عمره سجينا على غير إرادة منه في غرفة المتهمات بالدعارة إ! لكن الشرطة الذين التقطوه تائها في دمشق وضعوه هناك انتظارا للعثور على أهله ٬غير أن شهورا خمسة انقضت دون أن يظهر له أهل أو أقارب ٬ وكان مما يزيد في الحسرات أن الفتى أخرس لا ينطق ولا يتكلم حتى باسمه . .

فصار الجميع ينادونه أحمد . وكأنما وجدت السجينات في أحمد هذا الخادم المطيع ٬ فكن يأمرنه وينتهرنه ويضربنه في بعض الأحيان . . وذات مرة وأنا جالسة بعد الإفطار في رمضان اكل بعض الحلوى على شباك المهجح وكانوا يفتحون كل المهاجع للتنفس بعد الإفطار وجدت أحمد يقترب مني محملقا في الصندوق وهو يمد يده ويقول : أعطيني واحدة . لم أصدق أذني في البدء .  . فطوال الشهور المنصرمة لم نسمع الولد ينطق ببنت شفة . . وها هو ذا الآن يتكلم ! فلم أتمالك نفسي ووحدتني أصيح : يابنات . . أحمد حكى . . .
فلما قلنا ذلك للشرطي تأثر وقال : اتركوه إذا عندكم . يبد و أن جو الغرفة هناك لم يعجبه. فلما التففنا حوله وجدناه يتكلم بشكل طبيعي ٬ وجاءت الحاجة فسالته أول ما سالته عن اسمه ٬ فقال : أحمد بدر الدين . سالته : من أين أنت أبوي ؟ قال : أنا من حماة . قالت وقد تعجبنا كلنا من الجواب : وماالذي أتى بك إلى الشام ؟ قال الفتى ومسحة انكسار جلي ترتسم على ملامحمه : أنا لموني مع الأولاد الذين لموهم في حماة بعد الأحدات وأتوا بي ووضعوني في الجامع الأموي ثم لم أعرف أين أذهب . سالته الحاجة : وأين أهلك ؟ فصاريبكي ثم قال لها : ماتوا . سالته : كيف ؟ قال : أرسلتني أمي عند أبي إلى الدكان فوجدت الحائط واقعا فوقه وهو ميت والدم طالع منه . . ذهبت إلىالبيت أبكى أريد أن أخبر أمي فوجدتها مقتولة أيضا ! والتفت  الفتى نحو الحاجة باضطراب وقال لها : لا تقولي لأحد . . إذا سمعت أحدا يذكر اسمي فهذا معناه أنك أنت التى تكلمت . . أرجوك لا تقولي لأحد 0 وتفهمنا جميعا حالة الطفل وتفطرت عليه القلوب . . وصارت له الحظوة والمنزلة بين البنات . . وذات يوم وبينما كنت أخيط مرة على ماكينة يدوية كان أهل رغداء قد تمكنوا من إدخالها الى السجن بعد جهد كبيروجدته يقول لي :منشان الله شيلي هالماكينه من وجهى لا أحب أن أرى أحدا يخيط . ". . قلت له : لماذا ؟ فبكى . . فجعلت الحاجة تسايره وتلح عليه حتى تكلم وقال : لأن أمي كانت خياطة ٬ وكانت لديها ماكينة تشبه هذه الماكينة التي مع هبة . .

وكانت أمي تضع غطاء صلاة مثلها أيضا وتجلس لتخيط وفي مرة ثانية وكنا ننادي عاثشة بعيشة فقال للحاجة :منشان الله لا تنادونها عيشة . قالت له : وماذا تريد أن نناديها ؟ قال : نادوها أم
النظارات . سالته : ولماذا ؟ قال : لأن أمي اسمها عائشة . قالت له : وأبوك . . ماذا يشتغل ؟ قال : عنده مكتبة قرآن بالحاضر . سالته :أين ؟ فوصف لها المحل وصفا دقيقا كأنه يراه فازددنا تأثرا عليه وتعاطفا معه . . وجلس أحمد معنا وهو يبدع يوما بعد يوم على غير كل الأولاد . . كان ولدا عبقريا بالفعل . . لا توجد طبخة ولا خياطة ولا شغلة إلا وتعلمها . . وكان يؤذن أجمل أذان ويتلو القران أحلى تلاوة . . واذا دعا بعد الصلاة يقول : اللهم أنزل قنبلة على سجن تدمر! وسمع المقدم موفق السمان مدير السجن بقصة الفتى ٬ فلما التقآه عطف عليه وصار يأخذه معه إلى البيت فيحممه ويدلله أيما دلال ٬ وكان للمقدم بنت وصبي متقاربان في العمر مع أحمد ٬ فصار يأخذه معهما إلى المسبح ٬ ووضع له سائقا خاصا ليتنقل به بين السجن والبيت ٬ وأخذه مرة إلى المحل الذي يشتري منه احتياجات بيته ٬ لكن الولد تعلم على المكان فصار يذهب إلى البائع وحده يقول له أعطني كذا وكذا على اسم العقيد ٬ ثم يضع هذه الأشياء بصندوق ويذهب إلى محطة القطار فيبيعهم فيه ويرجع إلى السجن عندنا ٬ فإذا حضر المقدم يسأل عليه رآه بيننا ٬ وإذا غاب عنا نظنه عند المقدم . . حتى إذا حان اخر الشهر وجد المسكين فاتورة كبيرة عليه لم يدر من أين  ٬ فلما استعلم أخبره البائع أن أحمد كان يشتري على اسمه . . فسكت !
« آخر تحرير: 2011-07-06, 20:02:12 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل أبو الوليد

  • شباب إيجابي
  • ***
  • مشاركة: 975
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #156 في: 2011-07-06, 20:02:04 »
تابعت الفصل الأول وسأكون معكم بتتمة الأجزاء مع صمتي بما قرأت !!!
جزاك الله خيراً أختي الكريمة
{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } النساء104


غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #157 في: 2011-07-06, 20:04:34 »
تابعت الفصل الأول وسأكون معكم بتتمة الأجزاء مع صمتي بما قرأت !!!
جزاك الله خيراً أختي الكريمة


أهلا وسهلا بك أخي أبا الوليد ... نعم أعلم سر صمتك فما يقرأ هنا جَلل جَلل ...!!
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #158 في: 2011-07-06, 20:17:15 »
شخصيتان . . وصفعتان !

وانتشر صيت أحمد وذاع حتى بين الأهالي ٬ فصاروا إذا حضروا لم يغب نصيبه من الهدايا ٬واذا انصرفوا تنافسوا من سيأخذه ليزور عنده . . وصار أحمد حكاية وتنعم إلى حد البطر . . وصار إذا قالت له واحدة منا : لم فعلت هذا؟ رعف بسرعة وأغمي عليه وأخذمع الأيام يحب أناسا ويكره اخرين ! ولا يتورع أن يرمي العداوة بين واحدة وأخرى وتكشفت له قدرات رهيبة في هذا السياق . وذات مرة لم يعجبه في عائشة شيئا ما فمضى إلى الشرطي وقال له : عيطت علي . فانفعل الشرطي حنوا على الولد وقال لها : إذا تكررت الحادثة مرة ثانية فسأمنع عنك الزيارات ! وكأن قلبها كان دليلها بالفعل ٬ فلقد قالت لنا مبكرا إن لهذا الولد شخصيتان . . وهو غير طبيعي . لكن الأمورلم تتكشف حتى ظهيرة يوم كان مقررا أن يذهب أحمد فيه ليزور أقارب للحاجة في حمص ٬ وبينما كانت الحاجة تلبسه البوط الجديد وقد أجلسته في حضنها وقف أحد الشرطة في الخارج ونادى : سمير جفان . فما وجدنا الولد إلا وقد تفجر الرعاف من أنفه وأغمي عليه . . فقالت له الحاجة مستغربة : على من كنت تصيح ؟ قال لها : ألم تري كيف وقع صاحبكم على الأرض ؟ قالت له : لماذا ؟ قال : هذا ليس اسمه أحمد . . هذا اسمه الحقيقي سمير جفان . . ألم تروا صورته قبل مدة في التلفزيون ؟ وتذكرنا وقتها أنهم أعلنوا بالفعل عن ولد ضائع وعرضوا صورته ورأيناها ٬ ولكن أحدا لم يخطر على باله وقتها أنه هو نفسه . . وتذكرنا كذلك أنه عندما رآها حينذاك أسرع فأطفأ التلفزيون وكأنه يلعب " وبين الحيرة والعجب جعلوا يغسلون له وجهه والدم يدلق من أنفه دلقا ٬ ثم لم نجد إلا رجلا كبيرا في السن يقف على الشبك وهو يبكي ويطرق رأسه عليه . . فعلمنا أنه أباه ! وهنا دخل الشرطي فأخذ الولد للمقدم ٬ فلما ساله : من علمك أن تقول أن اسمي كذا وتدعي بأن أهلك استشهدوا في الأ
حداث ؟ قال له : هبة . قال له : أكيد هبة ؟ قال له : نعم . . أنا ما الذي يدريني ؟ هي كانت تعلمني وتقول لي إحك كذا واعمل كذا . ولم أجد إلا وقد ناداني المقدم لمقابلته ٬ ومن غير أن أعي ما الذي يجري نزل بي بهدلة يقول : الله لا يعطيك العافية . . تريدي أن تسيئى إلى سمعة الدولة . . أنت حاقدة . . لئيمة . . أنا فكرتك غير ذلك . . فقالت له الحاجة مديحة التي تبعتني : طول بالك أبوي . . ماذا حدث ؟ فقال لها : هي تريد أن تنزع سمعة الدولة . . هذه حاقدة . . قلبها مليان . . سالته : لماذ ا ؟ قال لها : هي علمت الولد يقول كل هذا . . . قالت له الحاجة : تعال أقول لك . . كل البنات قربوا صوبه إلا هي لا سايرته ولا شيء .

فردني المقدم إلى مكاني وقد ازداد تعجبه وحيرته . . وعادت الحاجة معي تهدئ من روعي . . فلما قابلت الشرطي أثناء رجوعنا سالته أن يشرح لها ما الذي يجري . . فقال لها : هذا
الولد يخرب بيته . . عمال يلعب علينا كلنا كبيرنا وصغيرنا ويدعي اليتم وهو له أهل . . وأضاف : وهذه أمه وهذا أبوه المسكين يقولان الآن بأنه يعمل فيهم مثل هذا الفصل بين كل فترة وفترة . . فيهرب من البيت ويختلق القصص الغريبة ليخدع بها الناس !

وهنا اقتاد المقدم الولد إلى غرفة التحقيق وساله بحضورأبيه عمن علمه ذلك حقيقة ٬ فاعترف الولد أنها فعلته وحده وأنني لم أعلمه أي شيء ٬ فما تمالك المقدم نفسه وصفعه من الغيظ صفعتين على وجهه كادتا تقضيان عليه . . ومع ذلك فلم يغير الولد من تصرفاته أو يبدي ندما ولا اعتذارا . . ومضى مع أهله يقدم رجلا ويؤخر أخرى ونحن كلنا كأننا في مشهد من مشاهد الأفلام السينمائية بين مصدق ومكذب !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #159 في: 2011-07-06, 20:19:34 »
إ فـــــــــــــــــــرا ج

كان عام 84 قد انتصف وانسلخت من العمر سنون وشهور ما عدنا نبالي حتى بعدها . . وكان يوما عاديا كمئات من أيام السجن المملة غيره يوم أن دخل أبو مطيع مدير السجن علينا فجأة وصاح على باب المهجع : إيمان ت .إيمان ق .عائشة ق . حليمة . . فلما التفتن إليه وتقدمن يستطلعن الخبر ألقى إليهن العبارة كالقنبلة وقال هيا . .جهزن أنفسكن . . إفراج ! لم تستوعب البنات العبارة بادئ الأمر . . وظن أن ثمة خطأ ما . . في النقل أو في التلقي . . فلما عاد وأكد ما قال احتبست الكلمات واختلجت في الصدور القلوب . . ولم تلبث أم شيماء وايمان أن ردتا دامعتي العينين : لا نخرج إلا مع كل السجينات . . وتقدمت إيمان فجثت عند رأسي وكنت لا أزال مريضة وقتها وصارت تبكي وتقول لهم : لن أخرج إلا أن تخرجوا هبة معي . فقال لها أبومطيع : بإمكانك أن تبقي هنا على الرحب والسعة لولا أن الأمر أتى بالإفراج ٬ لكن بإمكانك أن تخرجي وتجلسي تنتظرينها على باب السجن ماشاء الله ! قالت له : لا لن أخرج . . لن أخرج . .

ووقفت أم شيماء تبكي من جهتها وتقول لي : كيف سأخرج وأنت لا تزالين هنا ؟ وأخيرا لم يجد إلا أن يسحبهما سحبا وهما تحاولان التشبث بالشبك وبالقضبان ولا تكفا عن النحيب حتى خرجتا . . وعلمنا بعدها أنهم أخذوهن إلى أمن الدولة في البداية ثم أفرجوا عنهن من هناك وما عدت رأيتهن بعدها . لكن خروج هذه الدفعة ثم الإفراج عن سناء بعد أسابيع قليلة وبمناسبة الحركة التصحيحيئ فيما أذكر أحيا فينا الأمل ٬ وظننا بأن باب الفرج قد فتح وأن أيام خروجنا قد دنت أيضا . . غيرأن الأيام التالية كذبت ظنوننا . . فمات الأمل من جديد . . وعاد مزيد من السجينات يفدن علينا دفعة وراء دفعة ٬ فيحرك فينا الألم الراكد ٬ ويزيد فينا الشعور بأنها حياة ها هنا بين المهاجع والزنازين إلى الأبد !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب