المحرر موضوع: تسع سنوات في سجون سورية...  (زيارة 73780 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #120 في: 2011-05-14, 10:04:23 »
المحكمه الميدانيه

كانت قرابه ثمانيه شهور على اعتقالنا قد انقضت حينما نادوا فجأه أول ما نادوا على رغداء خ ولمى ع وجاء العنصر فأخذهما معا ظنا بادىء الامر أنها زياره لكن ساعه تلتها ساعه اخرى مرتا دون أن نسمع لهما حسا ولم يلبث العناصر ان اتوا بعد قليل وأخذوا واحده ثالثه ورابعه 00 وعندما وصلوا الى السابعه ولم يعد اى منهن قلنا لها:اذا أنزلوك وكانت زياره فقط تصنعى السعال ٬واذا كانت غير ذلك فلا تفعلى شيئا وسنفهم ان الامر مختلف فلما أنزلوها من الطابق العلوى الى القبو ثانيه ساقوها الى غرفه اخرى لكننا شعرنا بقدومها وتنصتنا جيدا ننتظر اشارتها فلم تسعل ولم تفعل شيئا فتأكد لن أن هناك شيئا ما وبعد ما مرت ساعه أخرى وجدناهم فجأه وقد أحضروهن جميعا مصفرات الوجوه باديات الاضطراب ومن شفاههن المرتعشه سمعنا لاول مره عباره (المحكمه الميدانيه)!

كانت المحكمه برئاسه النقيب سليمان حبيب وهو ضابط من القرداحه كث الشعر هزيل الجسمقصير القامه لايكاد يظهر من وراء الطاوله ومعه اربعه ضباط آخرون كانوا يعيدون قرائه ملف كل واحده من البنات عليها ويسردون ما ألصق بها من تهم واعترافات ويسألونها ان كانت تقر بما تسمع ام لا ثم ما كانالا ان توقع وتمضى !لم يكن هناك تعذيب وقتها ولكن
التهديدات لم تنعدم فعلى سبيل المثال وعندما نفت ماجده الاتهامات وقالت بأن اعترافاتها اخذت كلها تحت التعذيب قال لها النقيب حبيب:اذا لم تقولى الصدق فسأرميك من الشباك
وأحكم عليك بالاعدام وأحرمك شمه النفس!

ثم لم يلبث المقدم ناصف ان أرسل ورائها فى اليوم التالى وقال لها :انت قلت فى المحكمه بالامس أنهم عذبوك من هذا الذى عذبك ؟ هل ضربك أحد ؟ هل اذاك أحد حقا؟
فقالت له بارتباك وهي تعلم أنه عذبها بنفسه وأذاقها طعم السياط والخيزران بيديه : نعم

قال لها مزمجرا : من ؟ من عذبك ؟ قالت وقد تملكها الخوف والإضطراب : لا أعرف . . فقال لها بدهاء : لا ٬لم يعذبك أحد ولم يمسك أحد ٬ عندنا هنا ممنوع أن يلمس أحد أحدا أبدا ولكنك غير صحيانة ! الظاهر أنك كنت خايفة جدا . . وليش حتى تخافي ؟ ! ولم تكن التهديدات بأقل إيلاما من عبارات السخرية وبذاءة اللسان لدى أعضاء المحكمة ورئيسها كلهم ٬ فعندما نفت ماجدة أمامهم الإتهامات الملفقة عن علاقتها بخالد الشيخ (أحد المعتقلين ) صاح فيها رئيس المحكمة : هل من الضروري أن أحكي لك ماذا قال خالد الشيخ عن لون رجليك ! فانفجر الضباط الأربعة بالضحك الفاجر وأخذوا يتندرون عليها ويهزأون بها والمسكينة تنتحب بحرقة حتى كادت أن تصاب بانهيار . . كذلك عادت الحاجة رياض من هذه المحكمة وهي تندب وتبكي ٬ فلما سألناها عم حدث قالت أنه صاح فيها : أنت لازم ما تخرجي من السجن وتبقي فيه مثل أهل الكهف . . فكانت تبكي من طيب قلبها وتقول للحاجة مديحة :
أبوي يا حجة . . بكرة انت بتطلعي وأبقى أنا هنا أسند الحيطان ! وأما هالة المسكينة فكانت لا تزال مريضة وقتها لا تعي ما حولها ورغم ذلك قرروا أن يأخذوها إلى المحكمة كالأخريات ٬ فكانوا يسحبونها كالدابة سحبا لتعود دائما متسخة الثياب معفرة بالطين الذي كان يملأ الدرج والممرات أيامها في فصل الشتاء .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #121 في: 2011-05-14, 10:08:53 »
عرض بالزواج . . و آخر بالعمالة!

وبعد أن انتهت اللجنة من مقابلة سبع منا وحسب انتقلت تؤدي الدور نفسه في سجون أخرى ٬ ثم عادت بعد شهرين لتحاكم جميع نزيلات المهجع من المتهمات بالإنتساب إلى الإخوان فقط ٬ فلما أخرجوني أنا إلى المحكمة وقرأوا علي إضبارة التحقيق وما تضمنته من اتهامات سألني النقيب بعدها : ما هي علاقتك بمخلص قنوت ؟

قلت : لا أعرفه .
قال : ألا توجد بينك وبينه علاقة تنظيمية؟
قلت :أبدا .
فعاد يقول : لكنه اعترف بأنه يعرفك .
قلت :هذاغيرصحيح .
وبالفعل فلم أكن أعرف هذا الشاب ولا التقيته رغم أنه كان طبيبا من أصدقاء أخي ٬ وهذا كله من افتراءات عبد الكريم رجب . وسرعان ما وجدتهم يدخلون المسكين علينا يسحبونه
على الأرض سحبا ولا تزال واضحة عليه اثار الرصاصات التي أصابته وهو يحاول الهرب أثناء القبض عليه ٬ فلما أدخلوه سأله رئيس المحكمة : هل تعرفها ؟ أجاب : لا .

فسألني ؟ هل تعرفين هذا الشخص ؟ قلت :لا .
فقال للذي أحضره : خلاص . . خذه من هنا ٬ هذا انتهى أجله !

وبالفعل وحسبما سمعت فقد تم إعدامه فيما بعد في تدمر وكانوا قد أتوا به من هناك . . فلما أخرجوه عاد النقيب وسألني : إذا فأنت لا تقرين بالتهم التي سمعتها تتلى عليك ؟
قلت : لا .
قال : لماذا ؟ هل أجبرك أحد على أن تقولي هذا الكلام وتعترفي به ؟
قلت له : أنا لم أقل هذا الحكي وأكلت قتل الدنيا قبل أن يكتبوه على لساني . . فسألني مبديا استغرابا كاذبا : يعني عذبوك ؟
قلت له : نعم عذبوني ٬ألا تعرف ذلك ؟
قال : لا ٬ لا أعرف ! وكان "أبو فارس " رئيس قسم التحقيق وقتذاك والذي أحضرني من المهجع يقف في الخارج فناداه وقال له : انظر . . هذه ورفيقتها ماجدة بتشكلوا لهما مجلس رحمة . . وأمرني بالذهاب بعد أن طلب مني التوقيع على المحضر الجديد الذي يكتبه . وبعد أربعة أو خمسة أيام استدعتنا اللجنة ثانية أنا وماجدة بشكل منفرد ٬ وعندما ذهبت طلب مني النقيب سليمان نفسه أن أحكي له لمحة عن حياتي ٬ فتكلمت بصفة عامة وأكدت له أنني لست منظمة ونفيت الإتهامات من جديد ٬ فقال لي : طيب أريد أن أسألك سؤالا :
لو أردنا أن نزوجك واحدا بعثيا من عندنا هل تقبلين ؟ قلت على الفور : لا .

قال : لماذا ؟ قلت : لأنني أولا لا أتزوج من غير إرادة أهلي وعلمهم ٬ وثانيا لأنني لا أريد أن أتزوج الآن . .
قال ثانية : لماذا ؟

أجبت : لأ نني أريد الآن إكمال دراستي والفكرة ليست على بالي
فقال بخسة : إي والله لو أنني أخرجت لك الآن واحد من تحت يقصد من الشباب بتوافقي عليه برجليك قبل إيديك ! قلت له :لكن هذا الكلام غيرصحيح .
قال : إي علي ! ثم غير دفة الحديث فأشار إلى جريدة كويتية بين يديه وقال لي : انظري كيف يشحد الإخوان عليكم في الخارج . . في الكويت والعراق . . ولم أستطع أن أرى شيئا بالطبع ولكنه جعل يقرأ لي أن هبة وزوجها وأولادها في سجون سوريا . . وماجدة وأولادها كذلك بعد أن استشهد زوجها . . مبالغات وتضخيمات من هذا النوع . فقلت له : الحمد لله أنني هنا لا أدري ما الذي يجري في الخارج ! وانتهى "مجلس الرحمة" هذا من غير أن نعرف ما الذي انتهى إليه ولا الأحكام التي صدرت عنه . . وعدت إلى ٬ المهجع لتتبعني ماجدة بعد قليل ٬ لكنها سرعان ما اتجهت إلى فراشها وجلست وحدها متقوقعة على نفسها لا تتكلم لا تجيب ٬ ثم وفي منتصف الليل نهضت إلي تقول لي بحرقة : لم أعد أستطيع التحمل . . أكاد أن أنفجر . . سألتها : ما الذي جرى ؟ قالت : منشان الله لا تقولي لأحد ٬ ولو أحد سألك قولي بأنك ما سمعت شيئا . . قلت : خيرإن شاء الله ! قالت : هذا أبو فارس عرض علي أن يخرجونني مقابل أن أتعامل معهم وأنا لم أعرف بماذا أجيبه فأعطاني مهلة يومين لأرد له الجواب . . فلما أدركت ما تعنيه وتعاني منه قمت واحتضنتها وأنا أقول لها : لا تجزعي ولا تصدقي . . هو يكذب عليك فقط حتى يرى ردة فعلك ويلعب بأعصابك وحسب . . فلا تصدقيه ولا تهتمي . ومضت الأيام بالفعل . . لم يفتح أحد الموضوع معها ولم يكلمها أبو فارس بشيء . . فتأكد لها أن الأمر كان لعبة خسيسة منه وحسب . . وتأكد لنا جميعا أن هؤلاء القوم لهم قلوب أقسى من قلب الوحش ٬ ونفوس أحط من أن يحيط بها وصف أو بيان !

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #122 في: 2011-05-14, 10:12:15 »
التنفس !

وفي يوم من الأيام وبعد أكثر من ثمانية أشهر وقد اشتد الكرب وضاقت بالمهجع الأنفاس وازدحمت الفرش وتلاصقت الأكتاف . . وبعد طلبات عدة جاءنا الإذن أخيرا بالتنفس من
عشر دقائق إلى نصف ساعة كاملة . . كل بضعة أيام ! كانت هناك باحة خاصة لهذا الغرض في القسم الجنوبي من السجن ننزل إليها بأربع أو خمس درجات تحت الأرض ٬ كانوا  يقتادوننا إليها مشيا يرافقنا ثلاثة أو أربعة عناصر وينزلوننا إليها ٬ فإذا نظرنا أعلى منا لا نكاد نرى السماء لكثرة ما يحيط بالساحة من أبنية وجدران اسمنتية صماء . . وسرعان ما علمنا أنهم يخرجوننا أولا ثم يعيدوننا ليخرج الشباب إلى الساحة نفسها للتنفس . . فوجدناها وسيلة للإتصال غير المباشر معهم خاصة حينما رأت الحاجة رياض توقيع أخيها على الجدار وعلمت أنه هناك . . ووجدناهم يكتبون بضع كلمات لنا على الجدار فيسألون : هل فلانة موجودة ؟ فكنا نجيب بما نعلم .

وفي مرة تالية سألتهم الحاجة رياض عن أخيها فكتبوا : لا . . فعلمنا أنه نقل إلى تدمر على الأغلب .

وسألتهم أنا في مرة غيرها عن خالد الشيخ الذي طالما سألوني عنه في التحقيق وكان أحد أصدقاء أخي صفوان ٬ فكتبوا : لا . . ورسموا ما يشبه الجمجمة وعظمتين ٬ ففهمت أنه أعدم ! وذات مرة ونحن في فترة التنفس نتمشى أنا وماجدة وكنا معا بجانب الجدار فوجئنا برأس يعلوه الصابون يمتد من نافذة على الجدار ثم يختفي . . فعلمنا بعد التدقيق أنها نوافذ حمامات الشباب وأن واحدا منهم حاول كما يبدو اغتنام الفرصة ليتكلم معنا لكن العنصر لمحه فعاد . . فلما عرفنا ذلك صرنا إذا شعرنا بوجود أحد في الحمام ذهبت إحدانا إلى العنصر المكلف بمراقبتنا لتلهيه بالكلام ونحاول نحن خلال ذلك التحدث مع السجناء ٬ فكانت وسيلة مبتكرة للسؤال عن سجناء نعرفهم والإستعلام عمن لها أقرباء أو أهالي معتقلون .

وذات مرة فوجئنا بأحدهم ألقى إلينا مبلغ مائة ليرة دون أن يشعر العناصر بشيء ٬ فأخذتها إحدى البنات ووضعتها في الحساب الجماعي للمهجع .

وتكرر الأمر مرة ثانية فرموا إلينا بمائتي ليرة ٬ لكن عنصر المراقبة اكتشف الأمر في الثالثة فقامت القيامة على الشباب المساكين ٬ ونال المهجع الجنوبي كله نصيبا وافرا من الإهانة والتعذيب فما عادوا لتكرارها أبدا !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #123 في: 2011-05-14, 10:19:15 »
وتجدد الأضراب . .

والذي حصل أن الحادثة على مرارتها لم تكن نهاية الإتصال بالشباب قدر ما كانت بداية لمرحلة جديدة ومنعطف هام في حياتنا كلها . . فذات يوم لاحق ٬ وبينما كنا عائدات من التنفس بشكل عادي لمحنا طفلين صغيرين أنيقي الثياب تبدو عليهما سيماء النعمة والرفاهية . . ولم نلبث أن علمنا من العناصر أنهما ابنا المقدم ناصيف أحضرهما معه كما يبدو لشأن ما ٬ فلما لمحانا بدورهما نادى الأخ أخته يقول : تعالي . . تعالي جاءت السجينات .

فحرك ذلك في أم محمود حليمة شوقها لأولادها الذين لم تكن تكف عن التلوع عليهم ٬ وهمت أن تحضن الطفل فخاف وهرب ٬ فلما وصلنا المهجع كانت ثورة عواطفها وأشواقها قد انفجرت ففجرت معها شجون بقية الأمهات ٬ وعلا النشيج والنحيب فأغرقنا جميعا في حناياه . . وفاض بنا إلى حالنا الالم حتى أطل السؤال الذي لا يغيب : حتى متى ؟

ولم نلبث أن طرحنا فكرة الإضراب من جديد إلى تلبى مطالبنا ويجدوا لنا حلا . . وكان وقت العشاء قد دنا فقمنا وجمعنا كل ما كان قد توفر لنا من طعام وصلنا عن طريق الشباب بالخفية أو وفرناه من بقايا الزيارات فتوازعناه وأكلناه . . وعقدنا عزمنا على ا لإضراب ٬ فلما أحضروا الطعام لم ينهض أحد لاستلامه من الطاقة ٬ فسأل العنصر باستغراب : لماذا لا تردون ؟ قالت له الحاجة : لا نريد أن نأكل ولا أن نشرب .

قال مندهشا هذه اللهجة الجديدة : أف ! خير . . خير . . طولوا بالكم ! قالت : لا نريد . . خذوا أكلكم ونحن بغنى عنكم . وأغلقت الطاقة . . فذهب العنصر وأخبر رئيس نوبته أبا عادل الذي جاء محموقا وفتح الطاقة بسرعة وقال : ماذا هناك ؟ خير ! ردت الحاجة وقد وسكت الجميع : لا شيء . فسأل ثانية : لماذا لا تأخذون العشاء ؟ ونادى على العنصر ليفتح الباب وأمره أن يضع الطعام قريبا منا ففعل . . فعاد وأغلقه وهو يقول بجفاف :  اللي بياكل على ضرسه بينفع نفسه . . وذهب . . وبعد حوالي نصف الساعة عاد ففتح الطاقة وسأل : شو أكلتم ؟ فلم يجبه أحد .

فلما نظر ووجد الطعام مكانه احتد جدا وأمر العنصر بإخراجه ثم انصرف بادي الغضب وهو يقول : أنتم أحرار . في اليوم الثاني أحضروا الفطور فلم نأخذه . الغداء كذلك . . وصار العناصر ورؤساء الدفعات يذهبون ويعودون إلينا يقولون لنا : ما بصير . . أنتم الآن لا تضروا إلا أنفسكم ولن يرد عليكم أحد.. ولأن أحدهم إذا أفلح في كسر إضرابنا يرفع ويأخذ مكافأة فقد جاء من الجملة أبو شادي رئيس نوبة في القسم الجنوبي يحاول معنا أيضا ٬ وجعل يحاول فتح حوار معنا مظهرا عذوبة في الكلام ولطفا مصطنعا في الخطاب . . فقلنا له بصراحة : إما أن تجدوا لنا حلا فتفتحوا لنا الزيارات لنلتقي أبناءنا وأهالينا أو تخرجونا وتعدمونا !

فأجابنا بكل تبجح : تأكدوا أن أهاليكم إذا وصلوا هنا فنحن لا نردهم . . ولكنهم هم الذين لا يسألون عنكم ! فقالت له ماجدة وقد أخذتنا الحماسة جميعا : لأن أهلنا يخافون أصلا أن يأتوا هنا . . اسم الفرع وحده يخيفهم .

ولم يصل الحوار بنا إلى شيء ٬ ومر اليوم الثاني على هذه الحال ٬ فلما حل الثالث جدت بعض التطورات . . فقست المعاملة ٬ وحضر أبو رامى رئيس النوبة الثانية ونادانا بجفاء : هيا . . كل المضربات إلى الخارج. فراعه أن خرجنا كلنا بما فينا الشيوعيات والمسيحيات والمتهمات بالبعث العراقي . . فنظر إلينا نظرة ملؤها الإستغراب والغضب معا يقول : والله حلوة . . عاملين اتحاد افرو اسيوي ! واقتادنا إلى غرفة التحقيق في القبو فيما بدأ اثنان من العناصر بتفتيش المهجع وتقليب الأغراض والبحث عن أي شيء يمكن أن يؤكل ليصادروه ٬ فعثروا على بعض المعلبات مما كان الشباب قد أرسلوها لنا ٬ فأخرج منيرة وأمرها أن تفتح كل العلب وترمي بها في برميل الزبالة أمام عينيه. . فيما أخذ عنصر اخر يتسلى ويسألنا عما نريد وما هى طلباتنا ٬ فقطعنا عليه الطريق وقلنا له : أنتم تعرفون ما هي طلباتنا وماذا نريد ولا حاجة لمزيد من الكلام . وبعدما انتهى تفتيش المهجع أعادونا إليه ٬ وقطعوا الماء عنه ٬ وبدأ الجوع والعطش ينهشان في بقية جلدنا المنهك نهشا أمر من السكاكين .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #124 في: 2011-05-14, 10:20:47 »
من أجل سن ثوم !

وواقع الأمر فإنني ومنذ اليوم الثاني فقدت القدرة على الاستمرار من الإعياء ٬ وبدأت أتفرغ دما بسبب القرحة ٬ ولم نلبث أن اكتشفنا أنا وماجدة طبق بيض سبق واشتريته من المشتريات كان على سطح أرفف حديدية ركبوها لنا في المهجع فأعماهم الله من أن يعثروا عليه ٬ وكانت هالة مصابة بالقرحة أيضا فخبأت قليلا من حليب النيدو وبعض السكر للإحتياط ٬ فجعلت البنات يذبن بعض السكر بالماء اخر كل ليلة ويشربن منه ملعقة ملعقة لكل واحدة ليتقوين بعض الشيء ٬ واتفقت ماجدة وهالة أن تتركا الحليب والبيض لي وحدي ٬ ولم تخبرا أحدا بذلك حتى لا يفت من عزم أي منا ٬ ولأن الإتفاق تم على أنه إذا فكت أي واحدة منا إضرابها فسيتبعها الجميع ويضيع كل الجهد هباء ٬ لكن حالتي الصحية المتردية جعلت ماجدة وهالة ترخصا لي في الإنفراد ببعض ما يقيتني ٬ فصرت ألعق من الحليب بعض الشيء ٬ وكانت ماجدة تأخذ بيضة كل يوم إلى الحمام فتنقرها من طرفيها وتتركها هناك وتخرج ٬ فأدخل بدوري فأشرقها نيئة بالطبع وأرمي القشر في الحمام . . ولم تدر البنات بذلك إلا عندما صرنا في قطنا وأبحنا لهم بالسر . . فكدن من استغرابهن وغيظهن وقتها أن يخنقنني !

ولقد حدث ذات يوم أن انتشرت رائحة ثوم في المهجع فجأة ٬ فصرنا نتساءل ونسأل ٬ إلى أن أحسسنا بالرائحة تصدر من فم أم شيماء ٬ فلما سألوها أقسمت أنه سن ثوم واحد وجدته بين ثنايا فراشها فأكلته ٬ فقامت القيامة أيضا على سن الثوم ذاك ! ولكن الإضراب صمد واستمر ٬ ولم يفلح الترغيب ولا الترهيب في إثنائنا عن الاستمرار ٬ رغم أن حالة البنات بدأت تسوء وتسوء . . والإعياء ألقى بكلكله عليهن . .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #125 في: 2011-05-14, 10:22:21 »
زعيمة الإضراب !

ودخلنا رابع يوم للإضراب . . وفوجئنا بأبي عادل يفتح الباب علينا عند الصباح وينادي بشراسة ظاهرة : تعالوا هنا . . من زعيمة الإضراب بينكن ؟ فأجبنا بصوت واحد : ما عندنا زعيمة في المهجع .
قال : من اقترحت عليكن الإضراب ؟ قلنا : لا أحد .

قال بحنق : لابد وأن واحدة منكن قالت تعالوا نضرب يابنات . . فمن هي ؟ ولما لم يجبه أحد جعل يتفحص وجوهنا فوقع نظره على أم شيماء فوجدها أكبرنا جسما وأطولنا قامة فقال لها : تعالي
. . أنت زعيمة الإضراب ! فسألته الحاجة : إلى أين أنت اخذها ؟ قال : لتنال جزاءها .

فهبت ماجدة تقول له : لا . . أنا زعيمة الإضراب . . لماذا أخذت أم شيماء؟
أجاب : لأن شكلها يوحي بذلك ٬ ولكن ما دمت اعترفت فتعالي . . ولا أزال أذكر كيف لبست المسكينة حذاءها المهترئ وخرجت وهي ترتدي ثوبا كان أخضر اللون قبل سنين ولكن الأيام جعلته انقلب إلى الصفرة . . وتحته بنطال بيجاما على غير مقاسها يصل الأرض ٬ وعلى رأسها شاشية كالفلاحات أكل الدهر عليها وشرب ! فلما وصل بها غرفة التحقيق في القبو نفسه سألها ثانية : أنت إذا زعيمة الإضراب .
قالت له : لا . قال : ولماذا تكذبين إذا ؟

أجابته : لأنه ليس لدينا لا زعيمة إضراب ولا زعيمة مهجع . . ومع ذلك أردت أن تأخذ أم شيماء بالتهمة .
فقال لها وقد اشتد غيظه : إذا ولأنك بدلت نفسك عن أم شيماء فلا بد وأن تعذبي مكانها . . وجعل يحاول وضعها على الدولاب وهي تصيح به : لا أريد أن اكل . . ما دخلكم في ؟ أنا أتحمل مسئولية نفسي . . فلما وجدها على هذا الإصرار والثبات أعادها وأعفاها من التعذيب ونجت برحمة الله
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #126 في: 2011-05-14, 10:26:50 »
ترغيب . .وترهيب !

وإذا كانت ماجدة قد نجت من التعذيب فإن الشباب الذين تضامنوا معنا وأضربوا نالوا الأمرين بسبب ذلك ! فعندما بلغ نبأ الإضراب المهاجع الأخرى أعلن الشباب في السجن كله حتى الجنوبي منه الإضراب أيضا تضامنا معنا . . لكن الأوامر صدرت بسرعة وأسرع الجلادون والعناصر فعمموا عقوبة الفلقة" على كل سجين على الماشي جعلتهم يتوقفون عن المتابعة ويكسرون إضرابهم تجنبا لمزيد من التعذيب . . ولم يلبث المقدم ناصيف أن أتى بنفسه صبيحة اليوم الخامس فأخرج عائشة إلى غرفة التحقيق وحدها وأتى برغيف خبز وجبن وقال لها : ستأكلي الان أمامي .

فرفضت . . فثار عليها وجعل يشتمها ويقول لها : أكيد أنتم لكم صلة بالخارج وتريدون استغلال أحداث لبنان لإحراج الحكومة . . ولم ندر وقتها ما الذي يجري لا في لبنان أو سورية ولا حتى في الزنزانة التي بجانبنا ! فلما اشتد بالكلام والتهديد عليها خافت من أن يعذبها من جديد فتناولت قطعة جبنة وأكلتها ٬ فلما عادت إلى المهجع وقصت علينا ما جرى قامت قيامة البنات ثانية وخربوا
الدنيا فوق رأسها على هذه اللقمة . . وصبيحة اليوم التالي عاد المقدم وجعل يخرج البنات واحدة إثر أخرى ويحاول أن يدس الطعام في فمهن بالغصب فكن يرفضن ويمتنعن ٬ فإذا أفلح وأدخل اللقمة في فم واحدة منهن رفضت أن تبتلعها . . فلما وصل الدور على هالة وتصرفت التصرف نفسه وكانت قد عادت طبيعية وقتذاك رماها على الأرض وجعل يركلها برجليه ويصفعها كالمجنون بيديه ويقول لها : أصلا أنت عقوبتك ستكون لوحدك . . وسنعيد لك محكمتك (الميدانية) على ما تفعلين . . مشيرا إلى الرسالة التي كتبتها لوالدتها وأرسلتها مع السجينة الفلسطينية التي تبين أنها نقلتها للمقدم . لكن أحدا برغم ذلك لم يأكل ٬ وتوقف عن إحضاري وكنت الوحيدة التي بقيت في المهجع ٬ فلما عدن هناك ازدنا كلنا صلابة وتصميما على الإستمرار والتحدي وقد لمسنا تأثير الإضراب عليهم ٬ وعاد العناصر يحاولون واحدا بعد الآخر باللين وبالخادعة أن ينهوا إضرابنا ٬ فأعادوا لنا الماء أولا ٬ وصاروا يتفننون في إحضار الأطعمة الشهية التي لم نحلم أن نراها في هذا المكان ليغرونا بها . . وذات مرة حضر هيثم بطبق من لبن سميك ما عهدناه من قبل أبدا ٬ واخر من أجود أنواع المشمش وأشهاها ٬ وثالث من صنف اخر . . لكن أحدا برغم الجوع المفرط والإعياء لم يمس أي شيء . . فلما عاد ووجد مسعاه قد فشل كما فشل سابقوه تملكه الغضب . . ونزلت عليه اللعنات . . فأمر عنصرا أن يخرج الصحون ٬ وجعل وهو يشتم الرب والدين يركلها بقدمه فتتطاير في الممر وتتناثر محتوياتها على الأرض والجدران . . واشتد الإرهاق بالبنات وزادت المعاناة ٬ وصارت بعضهن تسقط مغميا عليها وتقيء أخريات . . وغالبيتنا مصابات بفقر الدم أصلا . . ولم تعد إحدانا تقوى حتى على النهوض ٬ فشددنا البطانيات على بطوننا وصرنا حتى الصلاة نؤديها إيماء . .

وبعد ذلك كله وحينما أسقط في أيديهم جاءنا أبو شادي فسألنا بلهجة بادية الجد : قوموا وقولوا لي ما هي طلباتكم .

فقالت له رغداء والكل ممد على الأرض لا يقوى على الحراك : أنا أريد إذا متنا أن تقبرونا في حفرة واحدة . فأجابها ساخرا : طلبك على العين والرأس ٬ ولكن ألا توجد لديكن أية طلبات أخرى ؟
قالت ماجدة : أريد أن أرى أبي قبل أن أموت ولو لدقيقتين . فسألها : لماذا؟ قالت : لأقبل يديه وأكسب رضاه وحسب . فقال متهكما كعادته : والله مرضية كثير! لو كنت مرضية بالفعل لما كانت هذه حالك .

ثم أغلق الباب بلؤم ومض . . ولم يلبث أن عاد ومعه عدة صناديق من المحارم النسائية "دليلة" . . فقالت له الحاجة مستغربة : ماذا تفعل . . وماذا تريدنا أن نفعل بكل هذه الصناديق ؟ قال : ألم تطلبوها بأنفسكم ؟ ألا ترون كيف نلبي لكم كل طلباتكم في الحال !

فقالت الحاجة وقد تملكنا الغيظ جميعا : ماذا ؟ طلبناهم من أول ما وصلنا الفرع وبقينا نطلب ونطلب ولم تردوا . . الآن فقط ! قال : الان فقط وصلني الخبر ! فأجابته وقد كللنا جميعا من التعاطي الممل معهم : خلاص . . لا نريدهم ولا نريد شيئا غيرها . . فقط أغلقوا هذا الباب علينا حتى يأتينا النزع ونموت ثم افعلوا بنا ما تشاؤون ! فقال بلؤم وتهكم : لا . . اطمئني فلن تموتي . . أنت كالقطة بسبعة أرواح ! وجعل يروح ويغدو على مدار اليوم مكررا محاولاته السمجة عسانا نفك الإضراب على يديه فيحوز الجائزة . . حتى ضقنا منه أكثر من ضيقنا بالجوع . . وأنهكنا من كثرة الأخذ والرد أكثر مما أنهكنا العناء والتعب !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #127 في: 2011-05-14, 10:42:20 »
رحلة جديده إلى المجهول !

واستمر الإضراب . . ودخل يومه السابع لنفاجأ في الصباح الباكر بكلبشات الحديد تطرق باب المهجع ففزعنا جميعا ونهضنا برغم الإعياء خائفات ٬ وكنت وقتها في الحمام فسمعت أبا طلال ينادي اسمي بصوت عال يختلط بصوت الكلبشات تتأرجح بين يديه . . وكرر النداء مرتين أو ثلاث وهو يقول : بسرعة . . بسرعة . . فما ظننت إلا أن ساعة الإعدام قد دنت بالفعل ٬ وها هو ذا أت ليقتادني إليه . . فجلست مكاني من الرعب لا أستطيع أن أرد أو أنهض ٬ وما عدت أعرف ما حصل ! فجاءت البنات وأنهضنني ثم أخرجنني إليه ٬ فرأيته وأنا شبه غائبة وضع القيد في يدي . . فنادته الحاجة : فقط وحدها ؟ خذونا معها . . أهي الوحيدة التي تستاهل الإعدام ! كلنا نستاهله . . هيا دعونا نرتاح من هذا العمر! لكنه لم يلتفت إليها وجعل ينادي أسماءنا واحدة تلو الأخرى ويخرجنا إلى الممر ويضع القيود بأيدينا . . ولما لم يأت اسم سجينات التنظيمات الأخرى في القائمة اندفعن نحونا تتقدمهن منيرة وهي تقول له بانفعال : انتظر . . نريد أن نذهب معهن . . فصاح فيها بحنق وهو يدفعها بكل فظاظة : ش . . ر . . فوقعت على الأرض ٬ ورد الباقيات بنفس الغلظة إلى المهجع ثم اقتادنا إلى مكتب الأمانات فدفعوا إلينا أشياءنا هناك ٬ واكتشفت الحاجة في هذا الموقف الحرج أنهم سرقوا ذهبها الذي أخذوه منها ساعة القدوم ٬ ورغم إلحاحها وإصرارها إلا أنها لم تفلح في الحصول على شيء منه ٬ واقتادنا أبو طلال بعدها إلى باحة الفرع ٬ فوجدت نفسي أول الواصلات ٬
ووجدته يجذبني بقوة ويقول لي : قفي هنا .

فلما تلفت وجدتني في منتصف الساحة وقد اجتمعت حولي جميع العناصر ٬ والمقدم ناصيف يطل علينا من  خلف شباك مكتبه .

وأتاني صوت أبي طلال وقد أطرقت رأسي ينادي : ارفعي رأسك .
قلت له : لا أريد أن أرفعه .
قال : سأنزع لك الحجاب في الحال .
قلت : افعل ما تريد .
قال : ألا ترين كم يوجد عناصر حولك ؟ إذا لم تفكي الإضراب الان فسأهينك أمام هؤلاء جميعا .
قلت له : إفعل ماتريد . . ماذا يمكن أن تفعل أكثر مما فعلتم ! فعصب كثيرا وجعل يشتمني  بعبارات قبيحة ويسب الدين . . فلما لم أرد بشيء التفت وصاح لماجدة فوضع الكلبشات لي ولها سويا وعاد يقول لي : أتعرفي لماذا يقف هؤلاء العناصر هنا كلهم ؟ قلت وأنا في غاية التوتر والإرهاق : لا . . لا أعرف . أجاب : هؤلاء أخرجناهم ليتفرجوا عليكم لأنكم صرتم فرجة ! وجعل يهدد البنات ويقول لهن بصوت عال : نحن أخرجناكم الان ليتفرجوا عليكن . . وإذا لم تفكوا الإضراب فسننزع الحجاب عنكن وسنهينكن . . وأنتن تعرفن كيف تكون إهانتكن . . وجعل يرغي ويزبد وينادي كأنما أصابه مس : يا بنات ال. .يا كذا . . والله سنفعل بكن . . . ثم جعل يخرجنا بالتتابع فيكبل كل اثنتين منا سويا ويقتادهما إلى السيارة مباشرة . . ووجدت نفسي الأولى بينهن فلم أجرؤ على الصعود ولم أعد أقوى حتى على رفع قدمي . . ووجدتني تدفعني أياد من ورائي قسرا لأجد نفسي وماجدة مكبلة معي في قفص حقيقي له قضبان وباب وقفل ! ووجدنا بقية البنات تدخلن بعدنا واحدة تلو الأخرى لاهثات الأنفاس . . عندها أحسسنا أن الأمل في الإفراج عنا أو في حل مشاكلنا قد مات . . وأيقنا وقتها أنهم سيقتادوننا الآن إلى تدمر أو إلى ساحة أخرى للإعدام وأنها النهاية . . فداخ البعض . .  وأغمي على بعض . . ووجدنا الحاجة أخرجت ليمونة لا ندري من أين وجعلت تقشرها بيديها وتمسح بها على وجوههن . . فيما أقفل باب السيارة علينا . . وبدأت رحلة جديدة بنا إلى المجهول !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل سيفتاب

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 7766
  • الجنس: أنثى
  • إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #128 في: 2011-05-14, 19:41:11 »

هي رحلة إلى المجهول من أولها إلى آخرها يا هبة ولكن هذه الرحلة وغيرها من رحلات المجهول والتعذيب والقمع بينت معالم الطريق ونتج عنها ثورة وكسر لحاجز الخوف
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #129 في: 2011-05-19, 10:24:54 »

هي رحلة إلى المجهول من أولها إلى آخرها يا هبة ولكن هذه الرحلة وغيرها من رحلات المجهول والتعذيب والقمع بينت معالم الطريق ونتج عنها ثورة وكسر لحاجز الخوف

نعم يا سيفتاب صدقت...

فسبحان الله رغم أن كل هذه العذابات وكل ما لحق بالإخوة والأخوات كان في طي السرية والكتمان، وكان من خلف جدران الظلم والقهر والإذلال والاستعباد، إلا أن الله تعالى بحكمته يشاء أن ينجو إخوة ويبقى فيهم الرمق، وتبقى فيهم الثورة رغم كل ما تعرضوا له مما يفقد العقل ويفقد الرشد، ويبقون على الدرب بعد خلاصهم، ويكتبون ويوثقون هذه الحقائق الأقرب إلى الخيال، لتصلنا الأخبار، فنشعر فعلا أنهم بما ذاقوا وبما عرفوا وبما رأوا قد رسموا معالم الطريق للخلاص ......

لم أعد أقوى فعلا على التعليق ........ تعمدت أن أقرأ هذا الكتاب شيئا فشيئا وألا أقرأه دفعة واحدة حتى أواكبكم من جهة وحتى نأخذه سوية ونتعاطى ما فيه سوية، ونرقبه سوية ........

وكلما قرأت جزءا مما أضع لكم أجد نفسي فعلا بين حالين، حال الأسير وحال الطليق معا، بين متناقضين ولكنهما فعلا قد اجتمعا رغم التناقض الصارخ بينهما

أشعر وكأن كل ما يلحق بالأخوات وبالإخوة يخنقني، وكأنني الأسيرة معهم، كما أشعر أن مشيئة الله تعالى وإرادته وحكمته فوق كل الآلام وفوق كل الاعتبارات والتصورات، إرادته سبحانه بخلاص هؤلاء وخروجهم وتسطيرهم لحقائق ما كانت لتصل بتفاصيلها لولا أنهم لم يخرجوا ........ ليرسموا معالم الطريق فعلا، ليعرّفوا غيرهم من الذين يجهلون ولم يعايشوا ما عايشوا ولم يعرفوا ما عرفوا، ولم يخبِروا ما قد خبِروا .......... هم أداة من أهم أدوات الثورة والدعوة للثورة، والتحريض على الثورة للخلاص من كل آثار الوحش المستشرية أطرافه في هذا الوطن ..........

فهو شعور السجن والحرية معا .......... ولكن شعور الحرية غالب، لأن السجن حدوده محدودة، من حيث الزمان ومن حيث المكان، بينما الحرية التي ذاقها من كان بسجونهم لا محدودة الزمان ولا محدودة المكان، حريتهم أقوى، حريتهم مَدّ عظيم لكل من بقي سجينا بين الجدران المبنية، أو سجينا بين حدود سوريا الكبيرة ....... أرض الله كلها أرضهم، فوجدوا أين يتنفسون، ولم تعد تحدهم جدران الوحش ...... فهاجروا إلى بلاد غير البلاد ومنها واصلوا الجهاد ...........

زمان الحرية أطول وأبقى ......... وزمان السجن والظلم والقهر محدود منته لا دوام له ولا بقاء .........لأن الحرية هي الأصل وهي العَود، فهي حق مملوك للإنسان حين ولد، وحق عائد إليه لا ريب وإن سُلب ...... والسجن والقهر والظلم هي الاستثناءات التي لن تدوم ولن تطول ............


"هبة الدباغ"، "مصطفى خليفة"، "عبد الله الناجي"،"خالد فاضل" .........كلها أسماء لسجناء كانوا في سجون سورية لسنوات، أسماء لطلقاء أحرار واصلوا الجهاد فكتبوا عن سجون سوريا وعن كل ألوان التعذيب والإذلال تفاصيل تجعل القارئ لهم ينتفض، يهتز، يستيقظ، يفيق، يعلم ، يعرف ، يستنير .......... وكلها أفعال هم قد فعّلوها في الأنفس بتحررهم وبمزاصلتهم الجهاد ولكأنه العهد الذي قطعوه على أنفسهم وعلى من ذاق ما ذاقوه من بعدهم أن يوصلوا بصوتهم كل أصواتهم لتخترق حدود السجن وجدرانه .... ليمتد تحررهم ويتعدى ثورة في النفوس الأخرى، ثورة تهز الرأي العام وتحرك ما لم يكن يتحرك .............

فالحرية أصل، والحرية أقوى، والحرية أدوم وأبقى ...........
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #130 في: 2011-05-19, 22:20:14 »
الفصل الثالث الجزء1

الموت البطئ

أخذت السيارة تنهب الأرض نهبا وتكاد في كل انعطافة لها تلفظنا إلى الخارج لولا أن تتلقانا القضبان الصماء تارة وأجساد بعضنا البعض المنهكة تارة أخرى . . وفيما جلس اثنان من الحرس بيننا وبين حجرة القيادة واثنان اخران بين القفص الذي أغلق علينا بإحكام والباب الخلفي مدججين كلهم بالسلاح ٬ بقي أبو طلال في المقدمة بجوار السائق وحده . كنا أنا وماجدة وأم شيماء  والحاجتان ومنتهى وايمان ورغداء ومنى وحليمة وأم محمود وأمل . .

وفي بداية المشوار الذي استغرق قرابة الساعة أصابني الدوار ٬ فلما تلفت لأستنجد بأحد حولي وجدت أكثر البنات مغمى عليهن ! فقد اجتمع علينا الجوع والإرهاق والرعب والهم . . وكانت شهور قد مضت علينا لم نركب فيها سيارة ولا سطعت علينا الشمس بهذا الطول . . وأما أنا وبعد أن بدأت استعادة وعيي حاولت أن أحرك يدي في القيد فشد عليها أكثر ٬ فلما حاولت تخفيف هذا الضغط ازداد واشتد حتى ازرقت أناملي وأحسست أنها ستنقطع ! ولم نلبث وقد بلغ الكرب مداه أن توقفت بنا السيارة عند حاجز للشرطة المدنية ٬ وتقدم أحدهم ففتح الباب الخلفي لبرهة وكأنما أرادوا أن ينزلونا . . وقتها استطعت أن ألمح قوسا معدنيا فوقنا مكتوب عليه بخط عريض "سجن قطنا المدني " لكن الباب عاد فأقفل ٬ وعادوا فساروا بنا إلى الداخل ليتوقفوا عند باب اخر جرت عنده كما تبدى عملية التسليم والإستلام ٬ وبعد انتظار ربع ساعة تقريبا ريثما سلموا الأوراق واستلموها جاء أحد أفراد الشرطة ففتح باب السيارة ودعانا للنزول . كنا لا نزال كالخارجين من القبور لا
نستوعب ما يدور ولا نقوى من الإعياء أن نتحرك . . وأذكرأنني سحبت نفسي سحبا وجاء الشرطي فأسندني ثم أمسكني من يدي وأنزلني . . وارتمينا جميعا من فورنا على الأ رض وافترشناها كالشحاذين ! فيما تحلق بعض رجال الشرطة حولنا يتهامسون ويحوقلون ٬ وأخذ آخرون يطلون من شبابيك المخفر علينا وكأننا مخلوقات من كوكب اخر !

كان منظرنا محزنا مثلما كان غريبا ورهيبا . . فالوجوه مصفرة من الهزال باهتة من اعتياد الظلمة والبعد عن ضوء الشمس ٬ والثياب رثة ممزقة تراخت فوق أجسادنا المنحولة وقد تغيرت ألوانها واختلطت الرقع عليها فكادت أن تغطيها . . وفوق ذلك كنا لا نزال مقيدات الأيادي نتحرك إذا استطعنا أزواجا بالكلبشات ! وتبين فوق ذلك أن أبا طلال قد نسي مفاتيح الكلبشات في كفر سوسة عمدا لا ندري أم سهوا ٬ فتركنا على حالنا في القيود  فوق الرصيف ومض ليحضرها . . لكن وما أن تحركت سيارة المخابرات حتى أقبل الشرطة علينا يدعوننا للدخول إلى غرفتهم إكراما لنا ٬ ولما لم نقو حتى على الإنتقال سحبونا سحبا وأجلسونا هناك في انتظار عودة أبي طلال بالمفاتيح . كانت غرفة الخفر بسيطة المحتويات تضم طاولة مكتب وخزانة السلاح وبعض الكراسي ٬ وكان  العناصر يطلون من الباب بين الحين والآخر ينظرون إلينا نظرات يختلط الإشفاق فيها بالإستغراب ٬ ولا تالبث أن تدمع عيونهم ويبكون مثل النساء ! وأقبل واحد منهم في الخمسينيات من عمره  وحاول أن يفك الكلبشات من أيدينا مرات عديدة فلم يستطع . . فجعل يواسينا والدموع تسيل على خديه ويقول : اطمئنوا أخواتي اطمئنوا . . الان ستنتقلون إلى الداخل وتعيشون عيشة طبيعية من جديد . .

وجعل يشير من النافذة ويقول وهو لا يتمالك نفسه من البكاء : انظروا . . يوجد أولاد هناك . . وشجر . . ونسوان . . هناك واحدة من حماة اسمها غزوة . . وهناك غيرها فلانة وفلانة ٬ يالله إن شاء الله الآن تتنشطوا وتعودوا إلى حياتكم الطبيعية . . وعندما لمحت أم محمود ولدا هناك تنهدت وقالت له : وهل إذا وجدنا أولادا هنا سيعوضوننا عن أولادنا ؟ فقال لها : منشان الله . . والله إن شاء
الله سيأتي أولادك وترينهم وتطمئني عليهم . . ومض الرجل الطيب مسرعا فأحضر لنا شايا نشربه ونحن لا نكاد نصدق ما يجري ٬ ولم يلبث مدير السجن المساعد أبو مطيع أن جاء مع وصول أبي طلال بالمفاتيح بعد قرابة الساعتين ٬ ففك لنا الكلبشات واحدة بعد الأخرى ٬ ومن غير أن يقول لنا أية كلمة مضى بالعناصر والسيارة . . فيما أخذ أبو مطيع يهدئ من روعنا ويؤكد لنا أن هذا المكان مختلف جدا ٬ ولن يكون هناك أي تعذيب ولا خوف بعد اليوم . . ودخل إلى منطقة المهاجع ونحن نتبعه ٬ فلما دخلت أولانا وكانت أم شيماء وجدنا السجينات جميعا هجمن عليها يعانقنها ويحملنها إلى المهجع حملا . . وهي تناديهم ولا يسمعون ترجوهم أن يتركوها لتمشي بنفسها . . والذي تبين أن أبا مطيع دخل على السجينات وأخبرهن بأن نساء خارجات من أحداث حماة أتين إليكن . . منهن المكسورة والمجروحة والمصابة ٬ . وهن في أسوأ حال . ولم يكن الرجل متصنعا ولا كاذبا وقتها ٬ وظننا كذلك فعلا نتيجة الحالة المزرية التي كنا عليها بعد ثلاث سنوات من العيش في قبو لا يشبهه من بقاع الدنيا شيء إلا حفرة القبر!
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #131 في: 2011-05-19, 22:21:39 »
أحكام شكلية : عشر سنوات فقط !

كان سجن قطنا عبارة عن بناء حجري أشبه ما يكون بالبيوت العربية القديمة تتوزع الغرف فيه على محيط باحته ٬ وتفصل بين هذه الباحة وبينهم القضبان الحديدية فتجعل من كل حجرة مهجعا مستقلا بذاته . وعلاوة على مهجع مخصص من قبل للسجينات السياسيات كانت المهاجع الأخرى موزعة حسب القضايا التي حبست السجينات على ذممها ٬ فثمة مهجعان للمتهمات بالقتل ٬ وآخر للحشيش والمخدرات ٬ والرابع للدعارة . . وثمة غرفة خامسة أشبه بالزنزا نة المنفردة كانت والدة مهدي علواني الذي أعدم مع مجموعة من الشباب في أواخر عام 79 مسجونة فيها وحدها ثم أفرج عنها قبل أن نأتي . . لكن وبرغم المجاورة فإن الإختلاط بين السياسيات والقضائيات كان ممنوعا ٬ وكانوا ساعة أن وصلنا قد سمحوا للسياسيات بالخروج لاستقبالنا ٬ لكن بعضا ممن كن يعرفننا لم تتمكن من التعرف علينا بادئ الأمر ! فسناء س . التي كانت معي في الجامعة جعلت تحملق في وتقول : غيرمعقول . . هل هذا أنت ؟ ماذا حصل . . هل جففوكم في العلب ! وأقبلت غزوة ك . أيضا تستقبلنا بضحكتها وفكاهاتها . . وغمرت الفرحة قلوبنا وقلوبهن وكأننا التقينا في بيوتنا معززات مكرمات ! وبين خليط من القبلات والدمعات والتنهدات جلست كل واحدة تقص قصتها . . ولم يلبث أن حضر العقيد موفق السمان قائد المنطقة ورئيس السجن فسلم علينا ورحب بنا وقال لنا أنتم هنا في أمانتنا ولن تجدوا إلا خيرا ٬ وجعل يؤكد علينا أنه لم تعد للمخابرات أية علاقة بنا  ٬ وأنه لم يعد لذلك أي معنى للاستمرار في الإضراب ٬ راجيا إيانا أن ننهيه للتو ونصبر ونحتسب حتى يأذن الله بالفرج . . وحضر أحد رجال الشرطة بكرسي للعقيد فجلس عليه أمامنا ٬ ولم يلبث أن أخرج أوراقا بيده وقد ارتسمت معالم الجدية أكثر على قسمات وجهه وقال لنا دون أن تختفي ظلال الحرج عن نبرته : اسمعوني الآن . . لا أريد بكاء ولا نواحا . .

اسمعوا فقط . فسألته الحاجة : ليش إيش في ؟ قال : هذه ورقة الأحكام التي بلغتنا سأقرأها عليكم لتعلم كل منكم حكمها. ومن غير أن يترك لنا فرصة لاسترداد الأنفاس شرع يقرأ : حكمت محكمة أمن الدولة على المتهمة هبة دباغ بعشر سنوات مع الأشغال الشاقة . . فصاحت الحاجة رياض : اه . . ولي على قامتي انشا الله يا هبة .

وهجمت علي وضمتني وهي تبكي وتنوح . . وردت الحاجة مديحة معها: ولي على قامتي انشالله . . عشرسنين ! لكن أثر المفاجأة والتأثر بما سمعوه لم يلبث أن تقلص عندما تذكرت كل منهن نفسها وجال بخاطر كل منهن عدد السنين التي حكمت بها أيضا  ٬وسرعان ما اتجهت الأنظار إلى المقدم ثانية وقد بدأ يكمل قراءة بقية الأحكام : حكمت محكمة أمن الدولة على المتهمة رياض د . بعشرين عاما مع الأشغال الشاقة ! فصاحت به بانفعال : وقف أبوي ليكون دبانة عملت نقطة هنا بالغلط ! ماذا ؟ هل قلت 25 عاما ؟ غير معقول فتركوني واتجهوا إليها وقد تضاعف حكمها يواسونها ويخففون ما وسعهم عنها . .

ثم تتابعت قراءة الأحكام : منتهى ج . عشرون سنة . الحاجة مديحة عشر سنوات . رغداءخ . ومنى ع . أربع سنوات (لكنهما جلستا معنا السنين العشرة) ! أم شيماء 4 سنين . عائثة ق . أربع سنوات . حورية أم محمود عشرة . منى ف . وأختها عشرة . ماجدة ل . عشرون . هالة عشرة . ترفة عشرة سنين . . ولما انتهى من الأسماء كلها ورأى حالة الوجوم التي كستنا وتأثرنا وبكاء من يبكي منا ونحن مضربات بالأصل وحالتنا حالة قال لنا مواسيا : هذه مجرد أحكام شكلية وحسب ٬ وان شاء الله تخرجوا قبل ذلك ولا تطولوا ٬ ولا أحد جاء هنا إلا وخرج . . ثم جعل يحدثنا عن حقوقنا هنا والمزايا المتحققة لنا ٬ وأخذ يشجعنا هنا لكي نتناول الآن طعام الإفطار ونعود إلى حياتنا الطبيعية . . وخلال ذلك أعدت البنات لنا مائدة طويلة على طول المهجع الذي خصصوه من فورهم لنا نحن القادمات الجدد ٬ فالتفت إلى ماجدة وأنا أصيح ولا أكاد أصدق نفسي : بندورة . . خيار . . بقدونس . . وبيض إ! لكننا وعلى الرغم من الجوع الشديد والطعام الشهي إلا أننا وما أن ابتلعنا اللقمة الأولى بعد سبعة أيام من الإضراب حتى أصبنا جميعا بمغص في المعدة وعجزنا عن الإستمرار . . لكننا أنهينا إضرابنا واستعدنا بعضا من حيويتنا ٬ وكانت سعادتنا غامرة وقد لمسنا نجاح
إضرابنا ولو إلى حد ٬ وبدأنا وقد حدثتنا سابقاتنا عن نظام الزيارة الأسبوعي لكل الأهالي . . بدأنا نعد الأيام انتظارا ليوم الجمعة الآتي . . وننسج الأحلام من ظهيرة يوم الأربعاء الذي وصلنا فيه ترقبا لهذا اللقاء الذي طال .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #132 في: 2011-05-19, 22:22:31 »
أشغال شاقة !

كان مهجعنما عبارة عن غرفة مستطيلة الشكل لا يجاوز طولها خمسة أمتار تقع في زاوية السجن اليسرى ٬ وبعد أن يتجاوز الداخل درجة حجرية في البداية تنخفض أرضية المهجع بما يسمى "العتبة" ثم تعود لترتفع إلى المستوى الأ ول من جديد . وفي الزاوية اليسرى هناك حجرة الحمام ٬ وثمة نافذتان تطلان على باحة السجن على يمين الباب . وبعد أن استلمنا المهجع وعلمت كل منا حكمها عاد مدير السجن فسلمنا فرش إسفنج ومخدات وبطانيات على عددنا ٬ لكنهما كانت كلها قديمة ومستعملة ومنتنة ٬ وسرعان ما دب الخلاف بين القادمات وهن يتسابقن للفوز بأحسن الفرش والبطانيات وأفضل الأماكن ٬ وبالطبع لم تتسع الغرفة لنا جميعا ٬ وحسما للخلاف صارت فرشتى انا وأختي على العتبة ونصفها الآخر على الخلاء ! وبعد أن مرت الأزمة على خير واستطعنا آخر الأمر الإستقرار على حال جعلنا ننظف المكان معا ونعد مسكننا الجديد فيه . وخلال ذلك لاحظنا أن بعض زوايا الغرفة متآكلة من القدم ٬ وجانبا من الدرجة التي على الباب مكسور بما يهدد أي عابر بالزلق ٬ فسالنا مدير السجن أبا مطيع إن كان بالإمكان السماخ لنا ببعض الإسمنت لترميمها فوافق ٬ وفي اليوم الثاني جاءنا مبكرا وفتح علينا الباب فخرجت الحاجة رياض أول
من خرج ٬ فما أن راها وناداها حتى وجدناها وقد أغمي عليها ٬ وأسرعت الحاجة مديحة فسكبت عليها الماء وصحتها ٬فلما فتحت عينيها تشبثت بها وهي تقول : أبوي يا حاجة ٬ يريدون أن يأخذونني إلى الأشغال الشاقة! من شان الله تكلمي معه . . قولي له لا أستطيع . . ضغطي يرتفع . . ونفسي والله يضيق ولا أتحمل . . وصارت المسكينة تبكي كالممسوس . . فخرجت الحاجة مديحة وقد تملكتها الدهشة وسالته : ما الذي حدث . . إلى أين ستأخذها ؟ قال الرجل باستغراب واضطراب : والله لم أفعل لها أي شيء . . لم أزد عن أن أقول لها تعالي يا حاجة وخذي الإسمنت . لكنها وكما علمنا بعده ٬ ولضعف سمعها من جهة ورواسب الخوف التي لا تزال تملؤ نفسها من جهة أخرى ظنت أنه يريد أخذها لتبدأ تنفيذ حكم الأشغال الشاقة . . فأغمي عليه
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #133 في: 2011-05-19, 22:23:30 »
ولاده "معقل " في المعتقل !

كان مهجع السياسيات قبلنا غاصا كذلك بنزيلاته القادمات من شتى المحافظات : غزوة ك . من حماة ٬ وسناء د . من دمشق ٬ وأم معقل وولدها الذي ولدته في السجن أيضا ٬ وأم هيثم من جسر الشغور ٬ وأم عبد الباسط وابنتها عائدة وهما من الجسر أيضا ٬ وسنيحة وفاطمة من اللاذقية ٬ وأم محمود كامل من اللاذقية أيضا . ولكل من هؤلاء كانت قصة . . ولكل منهن مأساة وغصة . كانت غزوة طبيبة أسنان من حماة ساعدت بشراء بيت في دمشق للشباب الملاحقين ٬ ولكن عبد الكريم رجب اكتشف ذلك وأبلغ عنها فاعتقلوها من عيادتها في صوران ٬ وفي البداية أحضروها
إلى فرع الأمن السياسي بحماة ثم نقلوها إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق ٬ وبقيت 8 أشهر أحضروها بعدها إلى قطنا لتبقى معنا إلى النهاية . أما سناء ر . هناك حوالي 6 فيبدوأن أحدا ما قد استعمل هويتها في شراء بيت وهي لا تدري ٬ وانكشف البيت بعدما تبين أنه باسمها فاعتقلوها وأتوا بها ٬ وسناء من مواليد 1965 وكانت معنا في كلية الشريعة ٬ وقد اعتقلوها في نفس اليوم الذي اعتقلت فيه ولكن الجهة التي فعلت ذلك كانت التحقيق العسكري ٬ وأثناء التحقيق معها سألوها عني ثم طلبوا منها أن تأخذهم إلى بيتي في دمشق ٬ وبالفعل ذهبوا معها إلى البيت وقدموها أمامهم لتقرع الباب ٬ فلما فعلت خرجت لها أمي وكنت بالطبع قد اعتقلت الليلة السابقة ولا يزال العناصر كامنين في البيت ٬ فلما رأتها أمي قالت لها إذهبي ولا تعودي ثانية في محاولة لإنقاذها من الإعتقال  ٬لكن الدورية التي وراءها والعناصر في الداخل سرعان ما اتصلوا معا وعلموا أن جهة أخرى اعتقلتني فعادوا بها إلى الفرع من جديد . وأما ثالثة السجينات مطيعة ح . أم معقل فكانت معلمة مدرسة شملها قرار تحويل المدرسين المشكوك في ولائهم للنظام وتحويلهم أواخر السبعينات إلى الوظائف الإدارية ٬ فمنعت من التدريس وتم تحويلها إلى أحد المستوصفات كموظفة إدارية . . وأثناء ذلك لوحق زوجها ولكنه تمكن من الهرب ٬ فأتوا واعتقلوها مكانه إضافة إلى اعتقال والده كرهينة! وكانت مطيعة أيام اعتقالها في أواخر الثلاثينات من عمرها وأما لأربعة أولاد  ،وتحمل الخامس في اخر شهور الحمل ٬ لكن ذلك كله لم يشفع لها ٬ فأتوا وأخذوها رهينة عن زوجها ووضعوها مؤقتا في مستوصف عسكري تابع للأمن السياسي بالجسر ٬ وهناك وفي الحجرة التي اعتقلوها فيها ونتيجة الخوف والتهديدات التي أسمعوها إياها جاءها الطلق على غير موعد ٬ فجعلت تدق الباب عليهم وتستغيث وهي تخبرهم أنها تضع مولودا دون أن يجيبها أحد ٬ فلما خرج المولود وعلا بكاؤه سمحوا لإحدى الممرضات بالدخول إليها لمساعدتها . . لكن كل شيء كان قد تم ! وبعد ذلك نقلوها والمولود إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق وبقيت هناك عدة شهور قبل أن ينقلوها إلى سجن قطنا فنلتقيهما هناك ولم يكن معقل قد جاوز شهوره السبعة أو الثمانية بعد . . ولقد أطلقت حليمة عليه اسم معقل تيمنا بالصحابي معقل بن يساراضافة إلى أنه ولد في المعتقل . . وعلى الرغم من أنها كانت غاية في الصبر إلا أنها ذاقت المر كثيرا من أجله ٬ وعلاوة على لوعتها المستمرة وهي ترى ابنها يقضي طفولته الغضة في السجن من غير ذنب ولا سبب ٬ وترى مستقبله مجهولا كمستقبلها رهن المهاجع والزنازين والسجون . . علاوة على ذلك الإحساس المؤلم فقد كانت أشد ما تعاني بشأنه وهي تراه بين أيدي الجميع ووفق هواهن . . وكل منهن تفرغ فيه شوقها لبنيها أو تسلي به مللها من رتابة الحياة حولها فتحاول أن تعلمه ما يروق لها حتى ولو لم يرق للأم ! وتجذبه إليها أو تستبقيه معها حتى ولو لم يرضها ذلك ! ولقد تسبب لها بعض من ذلك بكثير من المشاكل والحرج . .

فمن أين لا تدري بالتحديد تعلم الولد أول ما تعلم النطق أن يقول "طظ أسد". . فكان كلما سمع اسمه أو رأى صورته قال ذلك . . وذات مرة مرض معقل وازدادت شكاته فسمحوا بنقله إلى المستوصف للكشف عليه ٬ وهناك وهو بحالته تلك رأى صورة الرئيس معلقة ٬ فما أن راها حتى صاح "طظ أسد بين الناس . . ولم تدر أمه وقتها كيف نجت لكنها وفي مرة تالية وعندما أخذوها إلى المحكمة الميدانية كان لا بد وأن تصطحبه معها ٬ فلما كانوا أمام اللجنة التفت معقل فرأى تمثال رأس الأسد في زاوية الغرفة قريبا منه فبصق عليه وقال نفس العبارة ٬ فأمر الضابط باقتياد الأم وابنها فورا إلى المنفردة للتأديب ٬ فجعل معقل يبكي وهو يصيح "طظ أسد". . وصارت أمه كلما حاولمت أن تسكته أو تسد له فمه ازداد صياحا وتردادا للعبارة . . وكان عليها أن تتحمل المعاناة في المنفردة من جديد بسببه أو بسبب من لقنوه العبارة وحملوها الثمن !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #134 في: 2011-05-19, 22:24:23 »
إثاره الشغب !

وممن سبقننا إلى قطنا أيضا كانت أم هيثم من جسر الشغور أيضا ٬ وهي أم لأربعة أطفال شارك زوجها في إيواء بعض الملاحقين ببيتهم فداهمته الخابرات واشتبكت معهم ٬ فقتل البعض وفر اخرون واعتقل أبو هيثم وزوجته وذاقا معا أشد أنواع العذاب . . وفيما تم إعدام الزوج فيما بعد كما ترجح أم هيثم فقد تم استبقاؤها في السجن بتهمة إثارة الشغب . . وهي نفس التهمة التي وجهت لأم معقل وأم عبد الباسط وابنتها عائدة في المحكمة الميدانية ولم يخرج هؤلاء جميعا إلا أواخر عام 85 . وأماسميحة وفاطمة ٬ وهما بنات خال وبنات عمة من مرج خوخة بمحافظة اللاذقية فقد خرجتا مع مجموعة من أقربائهما الملاحقين الذين التجأوا إلى الجبال حول قريتهم . وكان عمر فاطمة وقتها 15 سنة وسنيحة 16 سنة ٬ وكانت معهم بنت ثالثة اسمها غنية عمرها 18 سنة . وهناك في الجبل جلست البنات مع المجموعة الهاربة يطبخن لهم ويساعدنهم في بعض الأمور حتى جاءت عليهم فسادة فداهمتهم الخابرات وحصلت مقاومة انتهت باستشهاد غنية وبعض الشباب الآخرين ٬ واعتقال سميحة وفاطمة . وقد أخذوهما بادئ الأمر إلى سجن الشيخ حسن بدمشق ليومين أو ثلاثة لم تسلما خلالها من التعذيب ثم أحضروهما إلى قطنا . وفيما لم يسلموا
غنية لأهلها ودفنوها بأنفسهم فقد تم نقل الشباب الذين اعتقلوا معهما إلى تدمر جميعا .

وكان من نزيلات المهجع الثاني قبلنا أيضا سيدة من اللاذقية اسمها أم محمود كامل في الخمسينيات من عمرها ٬ ومي جدة وأم لأربعة أو خمسة أبناء . وكان اعتقال أم محمود قبل اعتقالنا بأيام فقط بتهمة مساعدة الملاحقين بتأمين وثائق سفر لهم عن طريق أحد أقربائها . وفي البداية تم سجنها في كفر سوسة قبل أن نأتي هناك ولكنهم نقلوها بسرعة إلى قطنا . وقد تحدثت أنهم عذبوها وضربوها دونما أية مراعاة لسنها ٬ وظلت في السجن بعد ذلك ولم تخرج إلا معنا .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #135 في: 2011-05-19, 22:25:06 »
تجسس مزدوج !

ومن نزيلات قطنا كانت أسماء الفيصل زوجة رياض الترك الزعيم الشيوعي المعروف ٬ وهي طبيبة في الخمسينيات من عمرها ٬ وكانت موجودة هناك في المهجع الثاني من قبل أن نأتي ٬ وأظن أنها كانت قد أمضت في السجن ثلاث سنين قبلنا ٬ لكنه تم الإفراج عنها بعد أشهر قليلة من لقائنا بها ٬ وبرغم قصر الفترة إلا أنها تركت في نفوسنا انطباعا حسنا عنها ولمسنا طيبها وحسن تصرفاتها معنا ٬ وذلك على العكس من أميرة زركلي التي كانت شريكتها في المهجع عند وصولنا أيضا ٬ وهي سيدة دمشقية كردية الأصل في الخامسة والأربعين من عمرها ٬ متزوجة من عراقي وتشتغل معه في السفارة العراقية ومتهمة بالتجسس المزدوج لصالح العراق وسورية معا ! وبعد اكتشافها سجنت في سورية فيما صدر عليها الحكم في العراق بالإعدام غيابيا وطلقها زوجها بعد ذلك ٬ وخرجنا من السجن وهي لا تزال فيه . وكانت هذه السيدة لا تكف عن إيذائنا وإثارة المشاكل معنا والحديث بالسوء دوما عن الإخوان ٬ وكانت لا تكف عن ترديد قولها على مسامعنا : بكره
شوفوا . . ستخرج كل السجينات وسجينات الإخوان جالسات ينظرن مساكين بأعينهن . . والذي حصل أننا خرجنا جميعا في النهاية وبقيت هي تنظر إلينا بأعينها سبحان الله . . ولم يفرجوا عنها إلا بعدنا بسنة أو ربما سنتين !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #136 في: 2011-05-19, 22:25:52 »
ضحايا !

كانت حياة السجن في قطنا مختلفة عن سابقتها بكفرسوسة لا ريب ٬ والميزات والتحسن الذي وجدناها نعمة كبرى ٬ لكن السجن يظل في كل الإعتبارات هو السجن . . والقيد قيد حتى ولو كان من ذهب . . وبعد أن يفقد الإنسان في السجن طعم الحرية تمتد بين ناظريه من ثم قائمة أطول من أن تعد من أصناف المشاكل والالام والمعاناة المتنوعة . . وعلى العموم كنا في النتيجة مجبرين على التكيف والتعايش . . نحاول كلما ضاقت علينا الحال أن نجد منفسا جديدا يعيننا ويهون علينا الخطوب . لم نكن نختلط في البداية مع السجينات القضائيات لأن الأبواب كانت تفتح لنا بالتناوب ٬ مجموعة في الصباح والأخرى في المساء ثم يعكسون الآية في اليوم التالي ٬ لكننا كنا نتكلم معهن من وراء القضبان ونستمع إلى قصصهن فنجد في ذلك بعض التسلية والترويح . . وكنا ننصحهن أحيانا ونريهن أغلاطهن ٬ لكننا وجدنا الكثيرات منهن كن ضحايا سوء تربية الأهل أو ظروف السوء التي أحاطت بنشأتهن . ولقد نجحنا ذات مرة في المساعدة على استنقاذ إحداهن
من واقعها السيىء ومستقبلها المظلم ٬ فنتيجة لخلاف معهم قام أهل هذه الفتاة بطردها من البيت بلا رجعة ٬ فلم تجد من يؤويها إلا امرأة قوادة أخذتها إلى بيتها ومضت بها في هذا الطريق ٬ فلما أحسسنا أنها ضحية تدفع ثمن سوء تصرفات الغير سعينا للإتصال بباحثة اجتماعية كانت تأتي ضمن مجموعة من الباحثات لتعمل وسط السجينات ٬ وعلى الرغم من أن الإتصال كان محظورا بيننا وبين هؤلاء الباحثات أو حتى مع طلاب الحقوق الذين يحضرون دوريا لدراسة حال السجن والسجناء القضائيين ٬ إلا أننا وفقنا في الإتصال معها بطريقة ما ٬ وبعدما أطلعناها على رأينا ومعلوماتنا تفاعلت الباحثة معنا ومع السجينة ٬ ولم تلبث أن أخذتها إلى المحكمة وعالجت لها وضعها هناك ووجدوا لها من ثم شابا زوجوها إياه .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #137 في: 2011-05-19, 22:26:45 »
ا ا القروانة ا ا !

وإذا كان المقام هنا هو الحديث عن مواصفات سجن قطنا فإن من الطريف الإشارة إلى وضع الطعام الذي كنا نتناوله في هذا المنزل الجديد ! فلقد كانت الوجبات الرئيسية تأتينا من سجن القلعة بحلل أو صواني معدنية ٬ لكن "القروانة" ما كانت تصل إلا وقد كدنا نموت كلنا من الجوع . . فلقد كان على السيارة أن تقل السجينات القضائيات إلى المحكمة وترجعهن وتأتي بالطعام في الطريق . . فإذا وصل أنزله الشرطة في باحة السجن وفتحوا للسجينات ليتجمعن ويتوزعنه بينهن . . لكن المشاكل والخناقات سرعان ما كانت تندلع : وضعتي لها أكثر . . وأقل . . ونريد هذه أن توزع لنا . . ولا نريد تلك . . ولا ينتهي الأمر إلا وقد تفرقت القلوب واشمأزت النفوس . . فلما ازدادت المشاكل عين مدير السجن غزوة لهذه المهمة ٬ وظلت المسكينة حتى خروجها موكلة بتوزيع وجبات الطعام على كل السجينات ! واذا كانت هذه كيفية توزيع الطعام فإن نوعيته كانت قصة أخرى . . فكثيرا ما كنا إذا حضرالطعام وبدأنا نحركه طفت الصراصير على سطحه أو تمهلت حتى نلتقطها بين
الأسنان ! وكان اعتياديا أن تصلنا الصواني وآثار أقدام المرافقين منطبعة عليها وقد وطأتها أثناء النقل . . واذا بكر السائق في الوصول لسبب ما رمى "القروانة" على باب السجن الخارجي فتسبقنا الكلاب والقطط إلى الطعام قبل أن يحضر مدير السجن ويفتح الباب !

وصرنا لذلك نطلب من إحدى السجانات أن تشتري لنا سرا بالطبع مع طعامها شيئا نأكله . . وبعد ذلك سمحوا لنا رسميا بذلك فصارت أم ديبو السجانة الأخرى تأتي بالأغراض وتبيعها لنا ولكن بأسعار مضاعفة إ! كذلك كانت هناك مشكلة أخرى في الماء الذي لم يكن يصل عبر الحنفيات في المهاجع ٬ وإنما كان علينا أن ننتظر وصولها إلى المهاجع بالتناوب من حنفية رئيسية في السجن مددوا منها خرطوما متفرعا على كل الغرف ٬ وكانوا يديرونه على المهاجع بالساعة ٬ ويتحكم كل مهجع بالمهجع الذي يليه إذا شاء . . وكان الماء لذلك أحد أسباب المشاكل بيننا ! وعندما حضر جهاز التلفزيون إلى المهجع بمرسوم من إدارة المخابرات لتثقيفنا "ثوريا" وإطلاعنا على منجزات النظام الرائدة إ! حضر سبب جديد للخلاف بين النزيلات . . وكان من طرائف التلفزيون أن الحاجة رياض تصر على أن يلتزم الجميع الهدوء والسكينة ويصغوا باهتمام إلى كل نشرات الأخبار لعل خبرا يصدر بالعفو عنا فتكون أول من يتلقاه ! ولقد حصل فيما بعد وأثناء ما سمي ببيعة الأبد
للرئيس الأسد عام 85 أن صدر عفو بالفعل ولكن عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية فقط ٬ لكن الحاجة رياض التي واظبت على سماع الأخبار انتظارا لمثل هذا النبأ سقطت فور سماع الموجز مغشيا عليها وهي تصيح : الحمد لله سأرى أمي . . فلما سمعنا التفاصيل أسقط في نفوسنا وسقطنا مكسوري الخاطر ٬ لكنها كانت فاجعة بالنسبة للحاجة رياض . . بقيت أياما على اثرها غارقة في لجج الدموع والأحزان !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #138 في: 2011-05-19, 22:27:31 »
حريق !

ومما لا يغيب عن البال من أيام سجن قطنا النار التي شبت أكثر من مرة هناك شاهدا جديدا على قساوة الحياة التي نحياها وعنصرا اخر من عناصر الألم والتوتر والإضطراب التي تلفنا باستمرار . . ففي المرة الأولى اشتعلت النار في حمام مهجع القتل فالتهمت سجينة متهمة بقتل زوجها اسمها فاطمة . . وامتدت النار إلى المهجع كله فأحرقته وكادت تودي بحياة السجينات الأخريات . . ووقتها كنت أنا وماجدة على شباك مهجعنا المطل عليهن نقرأ القرآن بعد المغرب . . فجعلن ينادين علي وقتها ويستغثن بي ٬ لكن الأبواب كانت مقفلة علينا جميعا ٬ فجعلنا ننادي بدورنا على السجانة أم ديبو لتفعل شيئا ٬ لكنها لم تكن ترد علينا في العادة بعد إقفال المهاجع ولا تستجيب . . فلما وصلت ألسنة النار إلى ساحة السجن وغطى الدخان المكان كله وكاد الحريق يطال أشرطة الكهرباء وأوعية الغاز في المطبخ المجاور . . قرعت أم ديبو جرس الإنذار آخر الأمر . . وحضر العناصر يحاولون في ظلمة الليل تبين مصدر الحريق دون جدوى . . وفي النهاية وأثناء الهرج والمرج قامت إحدى سجينات المهجع نفسه فأطفأت ببطانيتها النار عن السجينة التي شبت بها النار وعن المكان . .

لكن الناركانت قد التهمت جزءا كبيرا من جسد فاطمة فأسلمت الروح بعد أسبوع . . وكان أنين المسكينة طوال ذلك وهي في غيبوبتها يمنعنا النوم ويزيد من عذابنا النفسي . . ورائحة لحمها المتقيح تزكم الأنوف وتزيد في معاناتنا وألمنا . . وأما المرة الثانية فكانت في مهجعنما نفسه عندما اندلعت النار في "البابور" أثناء استحمام واحدة من البنات ٬ فقامت من اضطرابها بقفل الباب بدلا من فتحه والتجأت إلى الزاوية التي تقابله من الحمام  ٬ فصارت النار بينها وبين الباب وكادت الأخرى تحترق ٬ لكن لطف الله تداركها وتداركنا . . فاضطررنا إلى كسر القفل ٬ ودخلت ماجدة جزاها الله خيرا فحملت البابور لا تبالي بالنار المشتعلة فيه ٬ فأخرجته إلى العتبة وألقته هناك ٬ واحترقت يدها بسبب ذلك .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: تسع سنوات في سجون سورية...
« رد #139 في: 2011-05-19, 22:28:46 »
رحمهم الله !

واذا كانت ميزات سجن قطنا المدني الإيجابية لا تعد قياسا بكفر سوسة ٬ إلا أن السماح بالزيارات كانت في طليعة ذلك كله . ولقد تنعمنا في فترة من الفترات بحرية المراسلة ٬ فكتبت إلى بيت أخي بحلب وبيت عمتي وحتى أم شيماء بالسعودية . . وكنت أتلقى البريد منهم جميعا ٬ لكن ذلك لم يدم أكثر من شهرين أو ثلاثة ثم عاد نظام الرقابة الصارم على الرسائل وعلى الكتب والمطبوعات ٬ فيما استمرت الزيارة الأ سبوعية كل يوم جمعة ولم تتوقف .

كان الاهالى يتوافدون من شتى المحافظات الى سجن قطنا منذ الفجر يترقبون ساعة اللقاء . . وبعد أن يتجمعوا على البوابة ساعات طوالا ويعن على بال المسؤول يومها السماح لهم بالدخول يكون النهار قد انتصف عى أحسن الأحوال . . فيسوقونهم إلى قاعة الزيارة كأول خطوة ٬ وبعد أن يتم تفتيش "الزيارات " أو الهدايا والأغراض التي جلبها الزائرون فيستبعد ما قد يخالف التعليمات أو لا يوافق هوى العنصر القائم على التفتيش ٬ ويجاز المسموح أو ما يمكن أن ينال العنصر نفسه نصيبا منه أو عطاء عليه . . بعد ذلك يطل الزوار علينا وبيننا وبينهم حاجزان من القضبان بينهما ممر يبقى رجال الشرطة يتسكعون فيه يراقبون أحاديثنا ويتدخلون فيها بعض الأحيان وفينا إ! وكانت ليلة لا توصف ونحن ننتظر أول يوم جمعة بعد وصولنا لنطلب من أهالي السجينات قبلنا الإتصال بأهالينا وإخبارهم بانتقالنا وبمكاننا ٬ فلما حضر أهل غزوة حينها رجوتهم أن يفعلوا ذلك مع أهلي لعلهم يحضرون الجمعة التالية ٬ ولم أكن أعلم أن أحدا منهم لم يعد على قيد الحياة وأنهم قد قضوا نحبهم قبل حوالي ثمانية أشهر في أحداث حماة ٬ لكن أهل غزوة كانوا يعلمون بالطبع ٬ علاوة على أن والدتها نفسها استشهدت في الأحداث ٬ لكنهم عادوا في الأسبوع التالي واعتذروا بأنهم لم يعرفوا مكان أهلي بعد التغيير الكبير الذي حصل في المدينة . . وجعلوا يحدثونني عن الأحداث ولكن أحدا لم يذكر شيئا عن أهلي وعائلتي . . وفي الزيارة التالية حضر أهل رفيقتي سناء فرجوتهم أن يذهبوا إلى دار عمتي في دمشق ويخبروها بانتقالي ٬ فلما اجتمعوا معها وعلموا أخبار أهلي منها أشفقوا علي ولم يثاؤوا إخباري ٬ وأجابوني في زيارتهم التالية أنهم لم يستدلوا على البيت ٬ وفي الزيارة التي تلتها قالوا أنهم ذهبوا فوجدوها مريضة ولم يسالموها عن أهلي ٬ وبدأت أحس أن في الأمر شيئا غيرطبيعي ٬فلما ذهبوا قلت لسناء مواجهة : تعالي لأقول لك . . أمك ذهبت إلى عمتي وعمتي قالت لها شيئا . . فماذا هناك ؟ هل مات أبى فلم تتمالك نفسها وردت بصوت خافت : الله يرحمه . قلحت : الله يرحمه . . إذا كان مات فالله يرحمه . فقالت لي : هكذا بكل سهولة الله يرحمه ؟ قلت لها وكأن ألم السجن يسهل على الإنسان كل شيء : الله يرحمه . . ماذا يمكن أن أفعل له إذا مات ؟ لو نطحت رأسي بالجدار فلن يرجع ! فوجدتها تبكي وبقايا كلام لا تزال على شفتيها ٬ فقلت لها : هل مات أحد اخر معه ؟ فأشارت لي نعم برأسها . قلت لها : أمي ماتت ؟ قالت : الله يرحمها .

صحت : ولي . . وأين إخوتي إذا ؟ فقالت لي : ذهبوا مع أمك . . لم ترض بأن تتركهم فأخذتهم معها ! قلت لها : بماذا تخرفين . . هل تمزحين ؟ كل إخوتي ماتوا ! قالت : إي كلهم . . الله يرحمهم . . أليس ذلك أحسن من أن يبقى أحد منهم وينشغل بالك عليه ! قلت وأنا كمن يتخبط في كابوس مرعب : إي طيب خلاص . . لا تزيدي . وما عدت أريد أن أفهم أي شيء أو أسمع المزيد . . ولم تلبث عمتي وعمي أن حضرا في الزيارة التالية فلفت نظري أن وجدتها تلبس السواد وساكتها مستغربة : عمتي . . لماذا تلبسين الأسود ؟ فقالت لي : هيك والله جاي على بالي الأسود ! قلت لها : هل توفيت جدتي ؟

قالت لي : لا . قلت : إذا لماذا تلبسين الأسود !
فغمزني عمي بطرف عينه لأغير الموضوع ٬ لكنني لم أتمالك نفسي وقلت له : عمي . . لماذا تغمزني ! هل هناك شيء ؟ قال لي وهو لا يريد إعادة القصة أمام عمتي التي صدمت جدا بما حدث : لاشيء . . للأشيء حدث . فقلت لها من جديد : صحيح لماذا تلبسين الأسود؟ ترى نقز قلبي ! فابتسمت لي ابتسامة حزن وابتدرني عمي بقوله : كيف تسالينها هذا السؤال . . ألا تعرفين الخبر ؟ قلت وكأني عدت إلى ذاكرتي تلك اللحظة وحسب : نعم . . عندي خبر بأن أهلي استشهدوا ٬ لكن أنا أسالها لماذا هي لابسة الأسود . . ولم يخطر لي أنها تلبسه على أهلي . . ونسيت أنها متشحة بالسواد حزنا على بيت أخيها ! فقال لي عمي وهو يراني أمامه أتصرف ببلاهة : إي حزنانة على أهلك . . هل فهمت ! قلت لها : أنظري ٬ إذا مرة ثانية ستأتين لابسة أسود لعندي فلا تأتي . . لأن الشهيد حي مو ميت ٬ واذا أردت أن تحزني عليهم لأنهم أحياء فلا تأتي لعندي .

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب