(المسألة القبطية.. والشريعة والصحوة الإسلامية) للمهندس أبي العلا ماضي أحد مؤسسي حزب الوسط الحزب المدني ذي المرجعية الإسلامية.......
قسّم المؤلف الكتابَ إلى الثلاثة العناصر التي يتألف منها عنوانه......
يتحدّث الباب الأوّل عن المسألة القبطية......
القبطي هو ساكن مصر Egypt....... أيًّا كانت ديانته..... فقد دخل المصريّون في دين الله أفواجًا... وهم يشكّلون النسبة الأكبر بين الأعراق التي عاشت في مصر من عرب وزنج وتركمان...... إلخ...... وعاشوا سويّا في تآخ مع النصارى واليهود وغيرهم من أهل الملل قرونًا عديدة....
إذا أحببنا تحسس جذور الفتنة الطائفية في مصر..... فسنقع على أول الخيط..... الحملة الفرنسية....
جنّد جنود الاحتلال الفرنسي رجلًا نصرانيًّا هو المعلّم يعقوب حنّا وأعطوه رتبة جنرال...... وكلّفوه بتجنيد ثلاثة آلاف نصراني مصري...... الأمر الذي استنكره البطريرك المصري أيّامها.... وعدّه خيانة......
تكرّر الأمر نفسه بعد مئة سنة..... حينما أصدر جنود الاحتلال البريطاني تصريحًا عُرف بتصريح 28 فبراير 1922م.... يميّز النصارى عن إخوتهم المصريين من المسلمين... الأمر الذي استنكره الأوّلون...... وهو استنكار نابع من إيمان عميق بفكرة الجماعة الوطنية.......
إن فكرة الجماعة الوطنية -كما فهمها المصريون- لا تضع الوطنية بديلًا عن الدين....... وإنما هي فكرة تفعّل الجوانب المشتركة بين الديانتين....... فمثلًا عندما عقد المصريون مؤتمرًا في 1911م باسم المؤتمر المصري حرصوا على مناقشة مسألة كالربا وكيف أن الديانتين حرمتاها........
في عام 1923م صدر أول دستور مصري بالمعنى المعروف....... وكان ضِمْنَ لجنةِ وضعِه عددٌ من النصارى ورجل من اليهود..... وعدد كبير من المسلمين لم يكن منهم أحد محسوب على الاتجاه الإسلامي إلا ثلاثة....... مع ذلك كانت مادة الدستور الثانية (الإسلام هو دين الدولة...... واللغة العربية هي اللغة الرسمية لها..... والقرآن الكريم مصدر رئيس للتشريع) [أضاف الرئيس السادات أل التعريف إلى كلمتَيْ (مصدر رئيس) في 1980م]...... وليس الدستور المصري بدعًا في هذه المادة...... فدساتير أوربا (المتحضرة) تعتمد ديانات ومذاهب رسمية لبلادها وحكامها...... فدستور اليونان يقول أن دين الدولة الرسمي (هو المذهب المسيحي الأرثوذكسي)..... وملك الدنمارك لا يكون إلا إنجيليا..... وكذلك ملكة بريطانيا و لورداتها..... أما ملك إسبانيا فلا ينبغي له إلا أن يكون (مسيحيا كاثوليكيا)..... فهذه الدول تعني السواد الأعظم من سكانها...... بالرغم من أن كثرة كاثرة من سكانها لا تعتمد دينًا معيّنا وبعضهم يدين بالإسلام واليهودية.......
عاش النصارى مع المسلمين في تآخ وسلام..... يتداول أهل الديانتين الوزارات والمقاعد البرلمانية....... ورفض النصارى تخصيص حصة لهم من مقاعد البرلمان.... واعتمدوا الكفاءة سبيلًا لذلك..... وفعلا حصل عدد منهم على نيابة دوائر تسكنها أغلبية كاسحة من المسلمين...... وعندما أتى الاحتلال بيوسف وهبة رئيسًا للوزارة -وهو رجل عميل من الطائفة النصرانية- سارع شاب نصراني هو عريان يوسف عيد باغتياله لئلا يحسَب اغتياله شأنا طائفيا......
ثم جاءت حركة يوليو 1952م وحركات التأميم في 1961م فطالت عددًا من الأثرياء النصارى..... ما دفع عدد كبير منهم إلى الهجرة إلى الخارج...... وزادت الهجرات بعد هزيمة 1967م....... وأخيرًا أصبحتْ ورقة الاضطهاد ذريعة للجوء السياسي إلى دول أوربا وأميركا وأستراليا والحصول على فرصة للعيش (الكريم) فيها على حساب الوطن.......
تولّى الأنبا شنودة كرسيَّ البابوية في 1971م.... ومارسَ نشاطًا انعزاليّا...... يتجلّى في محاولة تكنيس -إن جاز التعبير- كل الأنشطة الدنيوية..... كالرياضة والمطالعة والنزهات وغيرها....... جاعلًا الطائفة النصرانية طائفة معزولة مكتفية بذاتها مستقوية بضغط خارجي مستغلة لضعف الجماعة الوطنية......
عزل الرئيس السادات الأنبا شنودة من البابوية في 1981م...... واعتزل الأخير في دير النطرون حتى رحيل السادات في العام نفسه....... ثم أصدرتْ محكمة القضاء الإداري في 1983م قرارًا بحرمانه من الكرسي بعد أن ثبتتْ عليه تهمة تأليب الطائفة على الحكومة وخاصة أقباط المهجر أصحاب العلاقات المشبوهة بالقوى العالمية الكبرى ورموز الصهيونية العالمية...... بالرغم من هذا أعاده الرئيس مبارك لكرسي البابوية الذي يشغله حتى الآن.
أن ينظر النصراني إلى نفسه نظرة طائفية في كل مشكلة تواجهه، أمر شاق..... فالطبيب النصراني المظلوم مظلوم لأنه نصراني وليس لأنه طبيب مصري يعاني تعنت الجهاز الإداري الفاسد...... والمدرّس النصراني مهان لأنه نصراني لا لأنه ضحية جيل من الطلبة لا يرعى الذمم ولا يعرف حق الكبير...... ورجل الدين النصراني يعاني من التمييز لأنه نصراني لا لأنه رمز ديني لـ(أمّة كثرتْ فيها طوائفها وقل فيها الدين) فلا يسلم فيها رجل داعية أيا كانت ديانته من ألسن الناس......
يجب أن يراجع بنو الطائفة النصرانية الأمر..... وأن يتخلّصوا من عقدة الاضطهاد..... وأن يسارعوا إلى الاندماج الذي هو الضامن الوحيد لسلامة أبناء الوطن كله...... الوطن الذي كان الدين فيه أصلًا...... وكان الدين دافعًا إلى البر والإقساط.... ويومَ أن ولّى الدين ولّتْ السلامة وولّى الإخاء....... (إذا الإيمان ضاع فلا أمان..... ولا دنيا لمن لم يحي دينا).......
الغريب أن من يتاجر بملف النصارى (وملفّ البهائيين واللادينيين) هو نفسه من يسعى لطمس الهوية الدينية من البطاقة..... وهو نفسه من يستخدم خطابًا إقصائيا مع شريحة كبيرة -بل هي الشريحة الأكبر- من الشعب المصري تعرف لدينها قدره على الأقل اعتقادًا....... وينسى حين أن ينسى أن العلمانيين هم الطارئون لا المتدينون من الطائفتين..... وينسى أن المسلم والنصراني يبرّ أخاه في الوطن لأن دين كل منهما يحثّه على ذلك...... وليسا لأنهما هجرا الدين ليصيرا متسامحَيْن........
والآن جاء دور الشريعة.....
لا يكاد داع علماني يذكر الشريعة الإسلامية إلا ربط بها قضية الجزية....... والجزية هي التزام ماليّ يدفعه غير المسلمين الذين يسكنون البلاد الإسلامية في مقابل إعفائهم من الجهاد –وفي هذا رفع للحرج عن هذه الطوائف لئلا تخوض حربًا لا تعرف روحها.... تمامًا كما أعفاها الإسلام من الزكوات لأن الأخيرة نيّة وعبادة قلبية قبل أن تكون ورقًا ومادة-...... فهي عن القادرين على القتال من غير المسلمين...... وهي قدر زهيد من المال لا يكاد يذكر في جنب الزكوات المفروضة على المسلمين –والتي هي مسئولية وليّ الأمر أيضا-.......
ومع هذا يقول الدكتور العوّا: "إن الجزية عقد لا وضع"...... سقط هذا العقد يوم شارك النصارى أبناء البلد المسلمين في القتال..... وسقط يوم تعاقد الفريقان على دستور جديد يسوّي بين الناس في التكاليف ويعرّفهم على أنهم جميعا مواطنون....... وهو قريب من العقد الذي عقده الرسول –صلى الله عليه وسلم- لليهود من أهل المدينة.... فهم أمة مع المؤمنين.... ينفقون معهم... ويقاتلون.....
ثمّ مسألة الدولة الدينية......
للدولة الدينية مفهومان.... فهي دولة يحكمها رجال الدين (الإكليروس) وهذا يسمّى حكمًا ثيوقراطيًّا (ثيو- بادئة معناها اللاهوت....... و –قراط نهاية معناها الحكم..... فهي حكم اللاهوتيين أي رجال الدين).......
ومفهوم آخر..... هي دولة يدين بنوها بدين واحد وتستبعد ما دون ذلك من الناس..... وخير مثال لذلك الدولة الصهيونية وما تفعله بغير اليهود من أهل فلسطين وسوريا ولبنان.......
والدولة الإسلامية بعيدة كل البعد عن هذين المفهومين.......
فالإسلام لا يعرف رجال الدين..... فكل مسلم رجل دين..... وإنما في الإسلام عالم وعامّي... وليس للعالم قداسة الكهنة والأحبار عند أهل الأديان الأخرى......
والدولة في الإسلام دولة كفاءات..... يستعين الناس فيها بأهل الكفاءة على قضاء الحاجات..... كما استعان النبي –صلى الله عليه وسلم- بعبد الله بن أريقط المشرك دليلًا في الهجرة...... ثم حظي غير المسلمين في دولة الإسلام بمناصب كبرى كالوزارة والنيابة...... وفي موسى بن ميمون رئيس الطائفة اليهودية مثال فهو طبيب صلاح الدين الأيوبي الخاص.
ولا تستبعد الدولة الإسلامية غير المسلمين من أرضها.... بالعكس.. (لا إكراه في الدين)...... (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مسلمين).... (لكم دينكم و لي دين).... وأول ما نزل من القرآن في الجهاد (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) فالصومعة بيت الراهب والبيع معابد النصارى والصلوات معابد اليهود والمساجد للمسلمين..... وكلنا يعرف الآيات التي نزلت تبرّئ ساحة اليهودي الذي اتهم ظلما بسرقة درع سرقها مسلم.......
للنصراني أن يأكل ويشرب ويتزوج كما يأمره دينه..... فالخمر حرام على المسلم حلال على النصراني..... إن سُرق زق خمر لمسلم لم يغرّم وليُّ الأمر السارقَ وإن كان الزق لنصراني غرّم السارق..... وكذا الأمر مع الخنزير.... إلخ...... وللنصراني أن يحرّم على نفسه الزواج المتعدد والطلاق... [وقد احتكم البابا شنودة نفسه إلى الشريعة الإسلامية يومَ أحبّ (العلمانيون المتفتحون) تحليل الزواج المتعدد لنصارى مصر].........
الحرية......
الحرية مطلق يفهمه كل أهل دين وأهل مذهب فهما خاصا...... والواقع العملي لا يعرف حرية مطلقة....... فالقانون ملح الحياة..... والقانون قيد..... إذا قال العلمانيون إن ولي أمر المسلمين سيحجب النساء إلا الوجه والكفين..... قال الإسلاميون إن ولي الأمر العلماني يفعل شيئا مماثلا عندما يمنع التعرّي في الأماكن العامة ويحدّده في الشوارع والشواطئ بدرجات......
كلمة أخيرة عن الصحوة........ الصحوة هي اعتماد الدين منهجًا للحياة..... وأغنى هذه المناهج العودة إلى أصل هذا الدين ونبعه الصافي..... وهو ما قد يعرف بالأصولية.......
إذا كانت الأصولية (الفاندامينتاليزم) كلمة ممجوجة غربيا كونها تعني تقديس حرفية الكتب المقدسة عند أهلها...... وإغفال المقاصد وأرواح النصوص..... فإن الأصولية عند المسلمين كلمة محببة إلى القلب....... مرتبطة بأصول الفقه الذي هو علم العلوم..... وهو أداة تفعيل النص في الحياة.....
والأحسن أن نستخدم كلمة التطرف....... وهي كلمة تجوز على أهل المغالاة من الفريقين الإسلامي والعلماني........ العلماني الذي يتحاشى تراثا حضاريا عقائديا عندما يستنكف عن استخدام عبارات مثل (السلام عليكم) أو تسمية محمدًا –صلى الله عليه وسلم- رسولًا (وإن كان يدّعي الإيمان به)...... سعيا منه إلى تحييد اللغة..... وإضفاء النسبية والسيولة على كل قيمة..... وإلغاء المقدّس من الحياة...
الحديث ذو شجون..... والجناية جلّى على هويّتنا........ هويّتنا الدينية التي أثق أنها غالية على قلب كل مصري أيا كانت ديانته...... كل مصري يسعى إلى إيجاد مكان أفضل له تحت الشمس..... مكان أفضل لهويته الكاملة......