المحرر موضوع: طِــيــب القــــــــلوب  (زيارة 57376 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #60 في: 2013-02-25, 09:48:08 »
وبعد اجتماع دار الندوة، وإجماع القوم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم

لقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه ليخبره الخَبَر، وليبشّره أنه رفيقه في رحلته، وليتفق معه على تنفيذ خطة كاملة متكاملة يستطيع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الفِرار من تتبّع قريش المُحدِق به من كل جانب، في لحظة من اللحظات العسيرة الصعبة، إن لم تكن أشدّ اللحظات صعوبة في الدعوة المُحمدية ...
إنه على علم من الله تعالى بتربُّصهم به، في تلك الليلة ذاتها من اليوم الموالي لذهابه إلى أبي بكر رضي الله عنه في وقت غير الوقت الذي تعوّد زيارته فيه ، فليس أمامه صلى الله عليه وسلم من الوقت إلا الشيء القليل، القليل جدا...

وفي هذا الوقت القصير وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم خطة كاملة رزينة ذكيّة لهجرته وصاحبه، أخذ فيها بكل الأسباب المتاحة له، ولم يغفَل سببا، ولم يعوّل على نبوّته وعلى قدرة الله تعالى على حفظه وتيسير الأمر له بين طرفة عين وانتباهتها، لم يُعوِّل على دعاء يخصّصه في هذا الوقت الحرِج، دعاء خالص ملحّ يدعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذهب إلى أبي بكر خصيصا ليجتمع وإياه  للدعاء، وهو صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة، وهو الذي أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قبل عامَين من ذلك الوقت في ليلة واحدة حدث فيها ما حدث، وعاد فجرا إلى مكانه الأول من غير لَاي منه ولا تعب ...!!
لم يعوّل على نبوّته وخصوصيته عند ربّ العزة وهو الذي نزل عليه وحي قبل لحظات يُعلِمُه بكيد المشركين له ...!! بل طفِق يأخذ بالأسباب ....

إن الله سبحانه يعلّمنا بنبيّه صلى الله عليه وسلم وبخطواته هذه كيف علينا أن نأخذ بالأسباب ثم نتوكل على الله، وأن التوكل على الله ليس أن نتوكل ونحن قاعدون ننتظر حدوث معجزة ... ولو كانت المعجزات تتهاطل أمطارا لتهاطلت على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعا بلا هوادة، ولما أخذ أحدهم بسبب من الأسباب، ولما ابتُلي بينهم أحد بمشقة او عذاب وهُم أكثر عباد الله ابتلاء ...!!

وسنرى الخُطّة النبوية البارعة التي رسم معالمَها رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج من مكة وصاحبه بسلام، خطوة بخطوة لنعلم مدى ألمعيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدى ثباته في أحرج الأوقات التي يفقد فيها البشر أعصابهم فلا يعرفون كيف يتصرّفون وهُم في أوج الحصار وبين يَدَي الهلاك المُحدِق ...
« آخر تحرير: 2013-02-25, 10:08:40 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #61 في: 2013-02-25, 10:39:54 »
وكان أبو جهل بين أولئك المتربّصين برسول الله، المحيطين ببيته، قال لأصحابه في سخرية: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره، كنتم ملوك العرب والعجم،ثم بُعِثتم من بعد موتكم، فجُعلت لكم جِنان كجِنان الأردنّن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جُعلت لكم نار تُحرَقون فيها .

ولكأني أراه في لحظات الحسم التي يراها تامّة متمّة لمكرهم ....ولكأني به يكاد يطير فرحا وهو يردد كلماته تلك، ولكأني به من فرط فرحه وغبطته لا يقوى على إخفاء سخريّته وهزئه فيجهر بها كلمات في وقت يُعْدِمون فيه كل نأْمة وكل هينَمة... لكأني به يعتز ويفخر ويبطر منتهى البطر وهو يرى مقام النجاح من قبل حلول ساعة الصفر ...!!

إنه هذا الجاهل أبو الجهل والجهلاء، لم يظنّ -وهم محيطون هذه الإحاطة بمن يُريدونه جثة هامِدة بين أيديهم ، وهُم كُثُرٌ لا يخافون قلّة-، إلا أنهم ظافرون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاضون مأربهم فيه، متخلّصون منه ومن دعوته إلى أبد الآبدين ...
إنه وهو يقول قولته هذه فرِحا أشِرا بطِرا، لا يرى ما بينه وبين هلاك محمد إلا ساعة من زمن هي قريبة في عَدّ الزمن أقرب من كل قريب إليهم ينقضّون فيها عليه وهو نائم آمِن لم يتسلّح للقاء عدو، ولم يدرِ بمكر ماكر فيعدّ له مكْرَه ...
إنّ أمنيته ورجاءه لم يعد إلا قاب قوسين أو أدنى.... فهو يراها قريبة ،قريبة... قريبة ....وكأنها التي حصلت وانتهت .. وانتهى معها كل أمر من محمد ... وعاد فيها الأمر لهم ولباطلهم وللهواهُم ولسلطانهم ولمجونهم، ولكفرهم ....

إنه حسِب وهو الذكي الأريب الذي أشار بهذه الحيلة وبهذا المَكر أنه الناجح لا محالة ... والظافر لا ريب .... ولكن هيهات هيهات يا أبا الجهل والجهلاء ...هيهات أن يُترك لجهلك ولأمثالك ان يظفروا على دين الله وعلى إرادة الله وعلى أمر الله ...!!
ومنك عرفتُ كم أنّ الجهل حقا هو الجهل بالله، وبقدر الله، وبإرادة الله التي لا تعلو فوقها إرادة، وليس هو الجهل بحرف أو بخبر ...!

« آخر تحرير: 2013-02-25, 10:57:32 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #63 في: 2013-03-11, 10:04:06 »
لقد كان غار ثور صعب المرتقى، والطريق إليه وعرا، ذا أحجار كثيرة،فحفِيت قَدَما رسول الله صلى الله عليه وسلم.روِي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال أبوبكر: لو رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صعدنا الغار، فأما قَدَما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقطّرتا دما، وأما قدماي فعادت كأنهما صفوان(الصخر الأملس). قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعود الحِفية.

وقد رُوي أنه في عهد عمر بن الخطاب تحدث أناس، كأن عمر رضي الله عنه أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنهما،فبلغ ذلك عمر فقال: والله لَلَيلة من أبي بكر خير من آل عمر،ولَيَوم من أبي بكر خير من آل عمر،لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر،فجعل يمشي مرة أمامه، ومرّة خَلفَه،ومرّة عن يمينه،ومرّة عن يساره حتى فطِن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا من فِعلك، فقال: أذكر الرّصد فأمشي أمامك، وأذكر الطلب فأمشي خلفَك،ومرة عن يمينك، ومرّة عن يسارك، لا آمن عليك، فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببتَ أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق، ما كانت لتكون من مُلِمّة (وهي المصيبة العظيمة من مصائب الدهر) ، إلا أردتُ أن تكون بي دونك، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة على أطراف أصابعه كي يُخفِي أثره،حتى حفِيَت رجلاه، فلما رأى أبو بكر رضي الله عنه أنها قد حفِيت حمله على كاهله، وجعل يشتد به حتى أتى به فَمَ الغار فأنزله. وكان ذلك مع الصبح. ثم قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله، فأستبرئَه لك، قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدّت العرب، فقال بعضهم: نصلّي ولا نزكّي، وقال بعضهم: لا نصلّي ولا نزكّي، فأتيته ولا آلُوه نصحا، فقلت: يا خليفة رسول الله! تألَّفِ الناس وارفُق بهم، فقال: جبّار في الجاهلية، خوّار في الإسلام، فبماذا أتألّفهم؟ أبشِعر مفتعل؟ أم بشِعر مفترى؟ قبض النبي صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي،فوالله لو منعوني عِقالا مما كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال: فقاتلْنا معه، فكان والله رشيد الأمر، فهذا يومه –دلائل النبوة للبيهقي-


فدخل أبو بكر الغار فاستبرأه، فلم يترك فيه جُحْرا إلا أدخل فيه أصبعه مخافة أن يكون فيه سبع أو حيّة، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه،فكلما رأى جُحرا شقّ ثوبه ثم ألقمه الجُحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع،وبقِي جُحر وكان فيه حيّة، فوضع عقِبَه عليه(والعَقِب عظْم مؤخر القدم)ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسَه في حِجره ونام، فلُدِغ أبو بكر في قدمه من الجُحر، ولم يتحرّك مخافة أن تخرج الحيّة من مسكنها، وحتى لا ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلت دموعه تنحدر على الرغم منه،فابتلّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالَكَ يا أبا بكر؟، قال: لُدِغْت فداك أبي وامي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكان اللدغة ، فذهب ما يجده من الألم.ثم لما أصبح النهار قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأين ثوبك يا أبا بكر؟، فأخبره بالذي صنع، فرقع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: "اللهمّ اجعل ابا بكر معي في درجتي يوم القيامة".

هذا غيض من فيض فضل أبي بكر الصدّيق مع صاحبه وحبيبه الذي يفتديه بأبيه وأمه، والذي لا ينفكّ قلبه يردّد قبل فمه كلما كلمه : "بأبي أنت وأمي يا رسول الله"، إنه يفتديه بأبيه وأمه، وبأولاده، وبماله، بل وبنفسه....
وهكذا الإيمان حقا، وهكذا قد فعّل الصدّيق بسجيّته وطبيعته وصدق ما في قلبه من حبّ عظيم لصاحبه وحبيبه صلى الله عليه وسلم معنى الإيمان كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ من والدِه وولدِه والناسِ أجمعينَ"-صحيح البخاري-.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #64 في: 2013-03-12, 09:31:31 »
تصميم قمت بإعداده عن خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته وصاحبه رضي الله عنه :

« آخر تحرير: 2013-03-12, 10:00:09 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #65 في: 2013-03-25, 11:37:04 »
هذا نبي الله صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى المدينة التي تنتظر إشراقته عليها شمسا تُعِمّ الضياء في أرجائها الحاضنة، وقمرا ينير ليلها الساكن الهادئ النّاعم بعَبَق وَعْدَيْن لبيعَتَيْن  في عقبة واحدة، ذلّلت لمضيّ الرسالة الخالدة كل العقبات ...وعد الاثني عشر رجلا، ووعد الثلاثة والسبعين...

ذانك الوعدان اللذان لم يكونا كلاما، بل كانا أول الفعل...حينما همّ الرجال في ليلة العقبة الثانية مِن فورهم ليفعلوا وهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم أن يميلوا على أهل مِنى بأسيافهم لما سمعوا الشيطان من غيظه يجمع عليهم أهل الجَباجِب، لولا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حكمته وبعد نظره أجّل جهادهم ودفاعهم إلى حين بين الأحايين ....

وأول الأحايين لقاء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنصاره،ساعة يطلع البدر عليهم من ثنِيّات الوداع ....

هذا الحبيب المصطفى الذي نجّاه ربه من أكبر مكائد قريش وهي تعِدّ دفوفها وطبولها وغوانيها وقِيانها لاحتفالها الأعظم بخلاصها من محمّد بضربات رجال قبائلها، وكأنها الضربة الواحدة، فتُفرِّق دمه عليها، ويحار بعدها قوم محمد وآلُه من أيها يأخذون الثأر ....!
وإذا المولى في عليائه قد قدّر لقريش ما حذرته، بل وأقوى ...قد قدّر لها ألا تهنأ، قدر قدّر لها ألا ترغد ولا تسعد، قد قدّر لعينها ألا تقرّ...

هذا الحبيب المصطفى من غار ثور يخرج إلى الفضاء، حيث الصحراء وحيث السماء وحيث الجبال، وحيث الناس...
يمشي وصاحبه....  وأي صحبة!! وأي رحلة، وأي رَحْل وأي راحلة، وأي راحِلَيْن هما ؟!
إنها الرحلة إلى الدار الحاضنة... إنه الإيمان والهُدى رَحْلُهما وزادهما... إنه التوكل على الله راحلتهما قبل الراحلتَيْن...
إنهما الراحلان الاثنان، الصاحبان في بداية الوحي، وعند الإسرار، وعند الجهْر... وفي أيام العُسْر من أهل الشرك والكُفر...وفي يوم الخروج من بين القوم ليلا وهُم الظانون أنّ محمدا على فراش النوم يغطّ، وأن أبا بكر بمكة على حاله وقد هاجر المسلمون إلا هو وصاحبه النائم...
الصاحبان في الغار لأيام ثلاثة، يفتدي الصدّيق صاحبه بأبيه وأمه، يستبرئ له الغار،ويستقبل بيديه وقدَمَيه الأفاعي والهوامّ لئلا تقع يد من يدَي صاحبه أو قدم من قدميه على واحدة منها ....
ويفرش له حجرَه لينام عليه ويرتاح من بعد ليلة ليلاء لأواء ، تحفّى فيها الصاحب الحبيب المفتَدَى  حتى دميت قدماه....
وتنساب دمعات حرّاقات من وجنتَيه على وجه صاحبه الآمن النائم على حجره، لينتبه أنّ أفعى لدغتْه،وأنّ قلبه المحبّ يتحمّل لدغتها، ولا يتحمّل أن يقضّ مضجع الصاحب الحبيب ....!!
إنهما اليوم الراحلان ....الحاملان خير الدنيا بما فيها، إلى حيث حاضنة هذا الخير العميم ...إلى مدينة تنتظر إشراقة محمد لتتنوّر ...

إنها طريقُهما إلى المدينة .....إنّه "محمد" البدر في طريقه إليها....إنه"محمد"   الشمس في طريقها إليها.......
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #66 في: 2013-03-26, 08:56:19 »
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في طريقهما حتى مرا على أم معبَد الخُزاعيّة، وكان منزلها بقُدَيْد، وكانت امرأة كهلة لا تحتجب احتجاب الشابات، وكانت عفيفة عاقلة تجلس للناس وتحدّثهم (يقال عن مثل هذه المرأة في اللغة "امرأة بَرْزَة")،كانت بخيمتها تسقي وتُطعِم من يمرّ بها، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر لحما وتمرا ليشتريا منها، فلم يجدا عندها من ذلك شيئا، وقد أخذ الجوع والعطش من القوم كل مأخذ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في جانب خيمتها، فقال: ما هذه الشاة يا أمّ مَعبد؟قالت: شاة خلّفها الجَهْد عن الغنم، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالتْ : بأبي أنتَ وأمِّي ! إن رأيتَ بها حلبًا فاحلُبْها، فدعا بها رسولُ اللهِ  صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فمسح بيدهِ ضَرعَها، وسمى اللهَ  تعالى، ودعا لها في شاتِها، فتفاجَّت عليهِ، ودرَّت واجترَّت،
فدعا بإناء يربضُ الرهطُ، فحلب فيهِ ثجًّا(أ ي لبنا كثيرا)، حتى علاهُ البهاءُ(رغوة اللبن)، ثمَّ سقاها حتى رَوِيتْ، وسقى أصحابَهُ حتى رَوَوْا، ثمَّ شرب آخرُهم، ثمَّ حلب فيه ثانيًا بعدَ بدءٍ، حتى ملأَ الإناءَ، ثمَّ غادرهُ عندَها وبايعَها، وارتحَلوا عنها.

فلما عاد زوجها  أبو معبَد يسوق أعنُزا عِجافا (أي عنزات هزيلات)، ورأى اللبن عجِب، فقال: من أين لك هذا يا أم معبد؟ والشاء عازب حائل(أي غير حوامل)، قالت: لا والله إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك من حالِه كذا وكذا، قال:صفيه لي يا أم معبد، فوصفتْه له، فقال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر ، ولقد هممتُ أن أصحبه ولأفعلنّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلا.-من طبقات ابن سعد، ومن تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر-

وصف أم معبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أروع، ولا أروع  emo (30):




ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #67 في: 2013-04-07, 17:23:00 »
لم يبقَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القليل ليطلّ على أصحابه بالمدينة وعلى أهلها المتلهّفين شوقا لرؤيته...

لم يبقَ عليه إلا القليل ليهلّ عليهم بطلعته البهيّة وهم ينتظرونه كالحيّ ينتظر لحياته المعنى... كميت قبرته جاهلية ظلماء،وآن أوان انبعاثه حيّا بالإسلام ، وليستنشق عبير الحريّة بعبوديته لله، من بعد ما ضاقت نفسه ذَرْعا بأسْر الخرافة والبعد عن معرفة خالقها الذي جعلها من روحه نفخة ....

لم يبقَ الكثير على الحبيب صلى الله عليه وسلم وصاحبه المحبّ المفتديه بنفسه وبأبيه وأمه، وبماله وعياله ليبلغا تُخوم المدينة، تُخوم تلك الأرض الحاضنة التي انتشل أهلها الأنصار الأحرار الرجال الأبرار رسالة الإسلام من فُكوك المشركين الذين ظنّوا كل الظنّ، وسدروا في غيّ ظنّهم البعيد وأملهم المديد، أنّهم قد ظفروا بأنفاس محمّد فهي قاب قوسين أو أدنى من أيديهم ليكْتُموها إلى الأبد ...
فلا يُسمَع لها بين الفِجاج رِكز، ولا يُحسّ له من نبض ...

لم يبقَ الكثير على الملوّعين بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم،الذين يفتدون نظرة من عينيه بأرواحهم ومُهَجِهِم ليروه عَيانا بَياناً، ليتملّوا بوجهه الوضيئ وقلبه المضيئ ....
لتستنير حياتهم كما دُروبُهم كما تُراب الأرض من مدينتهم الغرّاء بنور محمد الهادي ...

لم يبقَ على حبات الرمل الحارقة الكثير لتبعث بالنقباء منها إلى أطراف المدينة تبشّر حبات رملها الطيّبة بأريج محمّد وصاحبه الصدّيق يبعث الطّيبَ في أرجاء طَيْبَة ....

لم يبقَ الكثير على جبل أُحُد لتزفّ له جبال الصحراء الممتدّة، تلك التي مرّ بها المهاجر محمّد بُشرى اعتلائه له يوما قريبا ليهتزّ توقيرا وهَيبةً من حضرة النبيّ الكريم فوق تُربتِه الموحّدة الشاهدة جهادا واستشهادا في سبيل رسالة الحق العليّة ....

لم يبقَ الكثير على ديار المدينة وعلى ناسها، وعلى رجالها، وعلى نسائها، وعلى أطفالها وعلى شيوخها لترفرف عليهم وهُم أيقاظ وهم نِيام، وهُم قُعود وهُم وُقوف سُعاة رحمة مَن بالمؤمنين هو الرؤوف الرحيم ....

لم يبقَ الكثير على رجالها وعلى نسائها ليتعلموا منه معنى الحياة ومعنى الوجود، ومعنى امتداد الحياة إلى لانهاية للحياة بعد هذه الدنيا القصيرة التي تأخذ أصحابها في رحلة قصيرة لتوصلهم بَرّا بين البرور فإما جنات بأنهارها وإمّا نار بشَرارها ....

والمؤمنون لم يفهموا معنى السعادة مذ خُلِقوا إلا بعدما عرفوا بمحمّد أن الله واعدُهم بها أبدية لا تنهيها الموت ولا يذهب بها القبر بل تبدأ بعد الموت، وتُبنى بلِبان القبر ....
وبأنّ قبر السعيد روضة من رياض جنات تنتظر قُدومه عليها وتستعدّ له وتشتاق له كما يشتاق الحبيب لحبيبه ....

يااااه ما أجمل القبر في ميزان المؤمن الصالح العامل للصالحات ...
يااااه ما أسعده بالموت وهو يرجو لقاء الأحبة محمدا وصحْبَه ......:)
لم يبقَ الكثير .......
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #68 في: 2013-04-09, 09:33:32 »
لقد وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة... إنه بقُباء جنوبي المدينة ... على بعد خمسة كيلومترات منها .... إنه بديار عمرو بن عوف.... ها هُم الأنصار ملتفون حوله، وها هو ذا مع وصوله قُباء، ومكوثه فيها لأربعة أيام لا يضيّع يوما منها بلا عمل، ويبدأ برأس كل العمل، فيؤسس لمسجد قُباء ....

وفي قُباء يلتقي سلمانَ الفارسي، وفي قُباء تبدأ مرحلة من مراحل تكشّف الحقيقة لذلك البحّاثة عنها، سَلمان الفارسي ....وما أجمل قصة إسلامه ....ولا مفرّ من ذكرها كلما ذكرنا وتدارسنا ..... فنوردها ها هنا :

--------------------------------------------
إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقُباء سلمان الفارسي رضي الله عنه، وكان قد سمع بمبعثه صلى الله عليه وسلم وأنه يخرج بالحجاز، فلما علم بقدومه المدينة أسرع إليه فأسلم، ولنترُك سلمان رضي الله عنه يحدثنا عن قصة إسلامه بنفسه، يقول سلمان رضي الله عنه : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جَيّ ، وكان أبي دِهقان قريته (أي رئيسها)، وكنت أحبَّ خلق الله إليه ، لم يزل به حبه إيّاي حتى حبسني في بيته كما تُحبس الجارية ، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطِن النار(أي خازنها وخادمها الذي يلازمها ولا يتركها) الذي يوقودها ، لا يتركها تخبو ساعة ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ وكانت لأبي ضيعة عظيمة ، قال ‏‏:‏‏ فشغل في بنيان له يوما ، فقال لي ‏‏:‏‏ يا بني ، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي ، فاذهب إليها فاطّلعها ‏‏.‏‏ وأمرني فيها ببعض ما يريد ، ثم قال لي ‏‏:‏‏ ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهمَّ إلي من ضيعتي ، وشغلتَني عن كل شيء من أمري ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس ، لحبس أبي إيّاي في بيته ، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت ‏‏:‏‏ هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ، فوالله ما برِحتهم حتى غربت الشمس ، وتركت ضيعة أبي فلم آتها ؛ ثم قلت لهم ‏‏:‏‏ أين أصْلُ هذا الدين ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ بالشام ‏‏.‏‏

فرجعت إلى أبي ، وقد بعث في طلبي ، وشغلته عن عمله كُلِّه ، فلما جئته قال ‏‏:‏‏ أي بنيّ أين كنت ‏‏؟‏‏ أولم أكن عهدت إليك ما عهدت ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ قلت له ‏‏:‏‏ يا أبتِ ، مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس ؛ قال ‏‏:‏‏ أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه ؛ قال ‏‏:‏‏ قلت له ‏‏:‏‏ كلا والله ، إنه لخير من ديننا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيته ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ وبعثت إلى النصارى فقلت لهم ‏‏:‏‏ إذا قدِمَ عليكم ركْب من الشام فأخبروني بهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى ، فأخبروني بهم ‏‏.‏‏ فقلت لهم ‏‏:‏‏ إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم ، فآذنوني بهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلي ، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ‏‏.‏‏ فلما قدمتها ، قلت ‏‏:‏‏ مَنْ أفضل أهل هذا الدين علما ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ الأسقف في الكنيسة ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فجئته فقلت له ‏‏:‏‏ إني قد رغبت في هذا الدين ، فأحببت أن أكون معك ، وأخدمك في كنيستك ، فأتعلم منك ، وأصلي معك ؛ قال ‏‏:‏‏ ادخل ، فدخلت معه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ وكان رجل سوء ، يأمرهم بالصدقة ، ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنـزه لنفسه ، ولم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ فأبغضته بغضا شديدا لِما رأيته يصنع ؛ ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم ‏‏:‏‏ إن هذا كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ، ويرغبكم فيها ، فإذا جئتموه بها ، اكتنـزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقالوا لي ‏‏:‏‏ وما علمك بذلك ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت لهم ‏‏:‏‏ أنا أدلكم على كنزه ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فدُلَّنا عليه ؛ قال ‏‏:‏‏ فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ فلما رأوها قالوا ‏‏:‏‏ والله لا ندفنه أبدا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فصلبوه ، ورجموه بالحجارة ، وجاؤوا برجل آخر ، فجعلوه مكانه ‏‏.‏‏

قال ‏‏سلمان ‏‏:‏‏ فما رأيت رجلا لا يصلى الخمس ، أرى أنه كان أفضل منه وأزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله مثله ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأقمت معه زمانا طويلا ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت له ‏‏:‏‏ يا فلان ، إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى ، فإلى من توصي بي ‏‏؟‏‏ وبمَ تأمرني ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ أي بني ، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه ، فقد هلك الناس ، وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه ، إلا رجلا بالموصل ، وهو فلان ، و هو على ما كنت عليه فالحَقْ به ‏‏.‏‏
فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له ‏‏:‏‏ يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره ؛ قال ‏‏:‏‏ فقال لي ‏‏:‏‏ أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم يلبث أن مات ‏‏.‏‏

فلما حضرته الوفاة ، قلت له ‏‏:‏‏ يا فلان ، إن فلانا أوصى بي إليك ، وأمرني باللُّحوق بك ، وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ‏‏؟‏‏ وبم تأمرني ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ يا بني ، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنّا عليه ، إلا رجلا بنَصِيبِين ، وهو فلان ، فالحقْ به ‏‏.‏‏
فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب نصيبين ، فأخبرته خبري ، وما أمرني به صاحبه ، فقال ‏‏:‏‏ أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته على أمر صاحبَيْه ‏‏.‏‏ فأقمت مع خير رجل ، فوالله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حُضر قلت له ‏‏:‏‏ يا فلان ، إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ؛ فإلى من توصي بي ‏‏؟‏‏ وبمَ تأمرني ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ يا بني ، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمُّورية من أرض الرّوم ، فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأتِه ، فإنه على أمرنا ‏‏.‏‏

فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب عمورية ، فأخبرته خبري ؛ فقال ‏‏:‏‏ أقم عندي ، فأقمت عند خير رجل ، على هدى أصحابه وأمرهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ واكتسبت حتى كان لي بقرات وغُنَيْمة ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ ثم نزل به أمر الله تعالى ، فلما حُضر قلت له ‏‏:‏‏ يا فلان ، إني كنت مع فلان ، فأوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ‏‏؟‏‏ وبمَ تأمرني ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ أي بني ، والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه ، ولكنه قد أظل زمان نبي ، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام ، يخرج بأرض العرب ، مُهاجَره إلى أرض بين حَرَّتَيْن ، بينهما نخل به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ ثم مات وغُيِّب ، ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كَلْب تجار ، فقلت لهم ‏‏:‏‏ احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه ؛ قالوا ‏‏:‏‏ نعم ‏‏.‏‏ فأعطيتهموها وحملوني معهم ، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني ، فباعوني من رجل يهودي عبدا ، فكنت عنده ، ورأيت النخل ، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ، ولم يحقّ في نفسي(أي لم يكن على يقين من ذلك) ‏‏.‏‏

فبينا أنا عنده ، إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة ، فابتاعني منه ، فاحتملني إلى المدينة ، ‏فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام بمكة ما أقام ، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرقّ ، ثم هاجر إلى المدينة ‏‏.‏‏

والله إني لفي رأس عذق لسيدي (أي نخلة)أعمل له فيه بعض العمل ، وسيدي جالس تحتي ، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال ‏‏:‏‏ يا فلان ، قاتل الله بني قَيْلة ، والله إنهم الآن لمجتمعون بقُباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم ، يزعمون أنه نبي ‏‏.‏‏
قال سلمان: فلما سمعتها أخذتني العُرَواء(الرعدة والانتفاض من البرد)،حتى ظننت أني سأسقط على سيّدي ، فنزلت من النخلة، فجعلت أقول لابن عمّه ذلك:ماذا تقول؟، فغضب سيّدي، فلكَمَني لكْمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟، أقبِلْ على عملك، قال: قلت: لاشيء، إنما أردت أن أستثبته عمّا قال.‏‏ وقد كان عندي شيء قد جمعته فلما أمسيت أخذته ، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء ، فدخلت عليه ، فقلت له ‏‏:‏‏ إنه قد بلغني أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء قد كان عندي للصدقة ، فرأيتكم أحقَّ به من غيركم ، قال ‏‏:‏‏ فقربته إليه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ‏‏:‏‏ كلوا ، وأمسك يده فلم يأكل ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت في نفسي ‏‏:‏‏ هذه واحدة ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ ثم انصرفت عنه ، فجمعت شيئا ، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم جئته به فقلت له ‏‏:‏‏ إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة ، فهذه هدية أكرمتك بها ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ، وأمر أصحابه فأكلوا معه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت في نفسي ‏‏:‏‏ هاتان ثِنْتَان ؛ قال ‏‏:‏‏ ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد ، قد تبع جنازة رجل من أصحابه ، و علي شمْلَتَان لي(أي كسوتان) ، وهو جالس في أصحابه ، فسلَّمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره ، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ؛ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وُصِف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ؛ فقال لي رسول الله‏ صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ تحول ، فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم أن يسمع ذلك أصحابه ‏‏.‏‏ ثم شغل سلمانَ الرقُّ حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد ‏‏.‏‏

قال سلمان ‏‏:‏‏ ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ كاتبْ يا سلمان(والمكاتبة عقد بين السيد وعبده على العبد فيه أن يدفع لسيّده مالا يصير بعد إتمامه حرّا) ؛ فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفقير، وأربعين أوقية (والفقير الحفرة التي تُغرس فيها الفسيلة) ‏‏.‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ‏‏:‏‏ أعينوا أخاكم ، فأعانوني بالنخل ، الرجل بثلاثين وَدِيَّة(الوديّ صغار النخل) ، والرجل بعشرين ودية ، والرجل بخمس عشرة ودية ، والرجل بعشر ، يعين الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية ؛ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ اذهب يا سلمان ففقِّر لها(أي احفُر لها موضعا تغرس فيه) ، فإذا فرغتَ فأتِني أكُنْ أنا أضعها بيدي ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ ففقَّرت وأعانني أصحابي ، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها ، فجعلنا نقرّب إليه الودي ، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، حتى فرغنا ‏‏.‏‏ فوالذي ‏نفس سلمان بيده ما ماتت منها وديّة واحدة ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ فأديت النخل وبقي عليّ المال ‏‏.‏‏ فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب ، من بعض المعادن ، فقال ‏‏:‏‏ ما فعل الفارسي المُكاتب ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فدُعِيت له ، فقال ‏‏:‏‏ خذ هذه ، فأدِّها مما عليك يا سلمان ،‏‏ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ خذها فإن الله سيؤدي بها عنك ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ فأخذتها فوزنت لهم منها ، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم منها ، وعتق سلمان ‏‏.‏‏ فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق حرا ، ثم لم يفتني معه مشهد ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن رجل من عبدالقيس عن سلمان ‏‏:‏‏ أنه قال ‏‏:‏‏ لما قلت ‏‏:‏‏ وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله ‏‏؟‏‏ أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه ، ثم قال ‏‏:‏‏ خذها فأوفهم منها ، فأخذتها ، فأوفيتهم منها حقهم كله ، أربعين أوقية ‏‏.


« آخر تحرير: 2013-04-09, 09:35:07 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #69 في: 2013-04-09, 09:36:33 »
وهكذا هي قصة هذا الرجل العظيم، هكذا أراد الله لمن أحبّ البحث عن الحقيقة، وسعى لها سعيها أن يهديه إلى الحق...
هكذا كان هذا البحّاثة عن الحقيقة فائزا بالحق، وبصحبة نبيّ الحق، وبلقب الصحابي الجليل الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت"، وهو ذلك الفارسيّ الذي عاش قسطا وافرا من حياته خادما للنار، عابدا لها كأحسن ما يعبدها إنسان...
تلك كانت ربّه المعبود الذي كان يحرسه لئلا ينطفئ ، لا يغيب عنه ساعة مخافة أن ينطفئ!.... كان هو الذي يوقدها وهو الذي يحرسها،وأي رب كان ربّه العاجز عن أن يحمي شراراته من الخبوّ ...!!

هكذا يريد الله لعبد صادق يتحمّل في سبيل الحقّ وفي سبيل الوصول إليه أن ينتقل من الرّفاهِ والعيش الرغيد وقد كان ابنَ سيّد بلدته ورئيسها إلى عبد يُأمَر فيطيع، ويضربه سيّده كما يحلو له، لا يملك لنفسه أمرا ولا نهيا وهو العبد الضعيف المملوك المُهَان ....

ثم يزيد أمله مع عزمه من بعد ما تكشّفت له الحقيقة واستبانتْ ،وقد رآها مجسّدة في شخص المصطفى صلى الله عليه وسلم، في سلوكه وهو الذي لا يقبل الصدقة، ولكنّه يقبل الهدية، كما في جسده الشريف خاتما للنبوّة مطبوعا به ظهره الطاهر، يلقي سلمان الباحث عن الخاتم بين ثنايا الجسد، كما بحث عن الحقيقة بين ثنايا الأرض،-من بعد تكشّفه لعينه- بروحه بين ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا شاهقا كحال طفل يأنس بصدر أمّه التي غابت عنه لسنوات، فغابت بغيابها الحياة، وهي ذي بين ذراعيه الحانِيتَين تعود من جديد، بل تعود أحلى وأسمى، بل تعود كما أحبّ الله له أن تعود، وكما أحبّ هو أن يجدها حقا يعلو ولا يُعلَى عليه...

سلمان الذي لم ينسَ أوصافا حُدّدت له،وظلّت تخالِجُه وترنّ في وجدانه، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحبها، فيقوى، ويعتدّ، وقد سرى الحق بنوره في قلبه سريان الدم في عروق الحيّ السليم من كل سقم، ويعمل دائبا على تحرير نفسه من سيّده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبرحه رحيما، محبّا عطوفا رؤوفا، يسعى معه، ومعه أصحابه يسعَون من هدي النبي وتربيته لتخليص صاحبهم اليوم الذي كان بالأمس القريب مجوسيا عابدا للنار، خادما لها .....

إنها آصرة العقيدة عندما تنادي في أعماق الفطرة والفطرة والفطرة فتلتقي و تتجاذب، وتتقارب، وتتآلف، وتتحابّ لأنها الرحم والأمّ التي لا تفرّق بين ابنٍ لها وابن .....
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل أحمد عبد ربه

  • شباب إيجابي
  • ***
  • مشاركة: 791
  • الجنس: ذكر
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #70 في: 2013-04-09, 11:31:05 »

حقا .. إن قصة كل صحابي هي رائعة من الروائع التي لا نملك معها إلا أن نطأطئ الرأس احتراما وتوقيرا، بعد أن نرفعها إعجابا وانبهارا .

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ

وَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِهِ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِهِ ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّه حَسَنٌ ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ .
أحمق .. من ترك يقين ما في نفسه ، لظن ما عند الناس !

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #71 في: 2013-04-13, 08:52:50 »

حقا .. إن قصة كل صحابي هي رائعة من الروائع التي لا نملك معها إلا أن نطأطئ الرأس احتراما وتوقيرا، بعد أن نرفعها إعجابا وانبهارا .

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ

وَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِهِ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِهِ ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّه حَسَنٌ ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ .

أهلا بك أخي أحمد وجزاك الله كل خير .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #72 في: 2013-04-13, 10:19:04 »
تابعوا هذا الفيديو بداية من الدقيقة الأولى و45ثانية

https://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=s-fbJTsQ3-M

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #73 في: 2013-04-13, 10:19:23 »
هذا مقال جميل للدكتور راغب السرجاني عن ما بين العهد المكي والعهد المدني أضعه ها هنا :
---------------------------------
العهد المدني-د.راغب السرجاني-

إذا كنا قبل ذلك قد تحدثنا عن العهد المكّيّ؛ فإن الكثير من الأحداث المهمة جدًّا في العهد المكيّ أُغفلت؛ لكثرتها وصعوبة الإلمام بكل ما تمَّ في حياة رسول الله من دروس وعبر وعظات وأحداث وأحكام وتشريعات.

العهد المكي والعهد المدنيإذا كنا نقول ذلك في العهد المكّيّ، فإن الحديث عن العهد المدني يبدو صعبًا بشكل لافت للنظر؛ وذلك لأن المدينة المنوَّرة كان بها من الأحداث الكثير والكثير، وهي أحداث متشعبة من غزوات وسرايا ومعاهدات ولقاءات ومعاملات وحياة زوجية لرسول الله ، وتعاملاته مع الصحابة، ومع المنافقين، ومع أعداء الأمة من اليهود ومن المشركين وغيرهم.

الإعجاز في السيرة النبوية
في الحقيقة هناك تنوعات هائلة في السيرة النبويّة، إننا قد نتحدث في السيرة سنوات وسنوات ودائمًا سوف نجد الجديد؛ لأن السيرة النبويّة كنز لا تنتهي عجائبه، وكما نقرأ القرآن الكريم، ونأتي بالجديد في فقه الآيات، وفي فهم المعاني، ويبدع المفسرون في تفسير بعض الآيات، مع أن القرآن نزل منذ 1400 سنة، فكذلك السيرة النبويّة، كلما قرأنا حدثًا خرجنا منه بالجديد، وكتب السيرة التي تُؤلَّف اليوم بعد 1400 سنة من التدقيق والتحليل والدراسة للسيرة النبويّة، ما زالت تأتي بالجديد.

إن السيرة النبويّة إعجاز وترتيب دقيق من رب العالمين I، وقد وضع الله فيه كل المتغيرات وكل الأحداث التي من الممكن أن تحدث في الأرض وإلى يوم القيامة؛ لكي يقيم الله حجته على البشر في قوله I: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

ففي كل مواقف الحياة تستطيع أن تجد أسوة حسنة في رسول الله ؛ لأجل ذلك، وفي تناولنا للعهد المدني لن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نتناول كل الأمور بالترتيب، سنغفل بعضها، ونحيل هذه الأمور إلى أبحاث أخرى إن شاء الله.

السمات العامة للعهدين المكي والمدني
على سبيل الإجمال، فإن فترة المدينة المنوّرة بصفة عامة لها سمات عامة تميزها عن فترة مكّة المكرّمة، وتستطيع أن تقول: إن فترة مكّة فترةُ بناءٍ للفرد المسلم الصالح المؤمن بربه وبرسوله الكريم المعتقد في البعث والحساب ويوم القيامة، وفي دخول الجنة أو النار، كانت فترة بناء للأواصر القوية بين الجماعة المسلمة الصغيرة جدًّا، كانت فترة تجنب للاستئصال قدر المستطاع، تارةً عن طريق التخفِّي، وتارةً عن طريق تجنب الصراع بكل وسيلة ممكنة، وتارةً أخرى عن طريق الهجرة إلى الحبشة، فقد هاجر المسلمون مرتين إلى الحبشة، والثالثة كانت إلى المدينة المنوّرة.

أما فترة المدينة المنوّرة فكانت فترة بناء للأمة الإسلاميّة بكل ما تعنيه الكلمة، فإذا كنا في فترة مكّة نبني أفرادًا، فإننا قي فترة المدينة نبني دولة كاملة قوية بكل ما تحتاجه الدولة من مؤسسات، ولا شك أن هذه قضية شاقّة وعسيرة، لكن بدأها الرسول بصبرٍ وبدأ معه المؤمنون في هذا البناء الكبير، بناء أمة بكل الأصول والتفريعات.

إننا إذا أردنا أن نقيم (شركة كبرى) من لا شيء سيكون هذا أمرًا غاية في الصعوبة، فما بالنا إذا أردنا بناء أمة، فقصة البناء هذه من معجزات الإسلام؛ لأنه لم تقم أمة في هذا التوقيت بهذا المعدل السريع والبناء القوي والعمق الحضاري الرائع إلا في أمة الإسلام. بعض الدول قامت في وقت قصير، ولكنها أيضًا وقعت في وقت قصير، ولم تترك خلفها أي تراث حضاريّ يُذكر، فلو قارنا بين قيام أمة الإسلام وبين قيام أمة التتار، تجد أن أمة التتار أيضًا قامت سريعًا، وانتشرت انتشارًا هائلاً في الأرض، ولكن أين تراث التتار الآن؟! أين الميراث الحضاري لهذه الدولة؟ انتهى بالكامل، بل على العكس دخلت دولة التتار التي كانت تحتل مساحات شاسعة من العالم الإسلامي دخلت في الإسلام؛ لأن دين الله يختلف كُلِّيَّة عن كل قوانين البشر الوضعيّة، فهو دين غالب قاهر {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت: 42].

لا شك أن بناء هذه الأمة واجه تحديات هائلة داخليّة وخارجيّة، داخل المدينة المنوّرة وخارجها، داخل الجزيرة العربيّة وخارجها، تحديات في كل جوانب الحياة، سلاسل متتالية من الصراع من أزمة إلى أخرى، ومن مشكلة إلى مشكلة أكبر، ومع ذلك تم بناء الأمة الإسلاميّة.

وهذا الأمر لم يكن حكمة بشريّة فقط من رسول الله مع أنه أحكم البشر، وأعلم الخلق ، لكنَّ هذا وحيٌ من رب العالمين، هذا منهج إلهي صادق، كيف تُبنى أمة بهذا الإعجاز الواضح، وبهذا التوقيت المعجز؟! ففي غضون عشر سنوات فقط أصبحت دولة المدينة المنوّرة دولة معترف بها في العالم كله، لها قوتها ومكانتها ولها سفراؤها ولها مراسلاتها إلى كل بقاع العالم، ولها لقاءات حربية صارمة مع قوى كبيرة جدًّا في موازين العالم في ذلك الوقت.

فهي تجربة رائعة حقًّا وتستحق الدراسة، بل يجب دراستها جيدًا.

حقيقة الإسلام
الحقيقة أن الدين الإسلامي ليس مجرد صلاة وصوم وقيام ليل وذكر، بل هو منظومة متكاملة تحكم حياة الأفراد، وحياة المجتمعات، بل وحياة الأرض بصفة عامة، يقول ربنا I في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

تعلمنا في فترة المدينة كيف يكون المحيا لله رب العالمين في كل جزئيّة من حياتنا.

في فترة مكّة كان هذا يطبق على المسلمين، لكن لم يكن عندهم تشريعات، ولم تكن لهم دولة أو سياسة أو اقتصاد، فهذه الأمور لم تكن واضحة؛ لأن المسلمين كانوا جماعة صغيرة جدًّا مضطهدة ومعذبة ومشردة، لكن الدستور الإسلامي وضَحَ تمام الوضوح في فترة المدينة المنوّرة.

ومع كون المحلل للأحداث يجد أن فترة بناء الأمة تبدو في ظاهرها أصعب من فترة مكّة التي كانت فترة بناء للأفراد، إلا أنني أقول: إن الفترتين كانتا على مستوى واحد من الأهمية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هناك أمة إسلامية قويّة بدون تربية مكّة، لن تُفهم فترة المدينة مطلقًا دون الرجوع إلى فترة مكّة.

تربيةُ مكّة كانت هي الأساس للصرح الضخم الذي بُني بعد ذلك في المدينة المنوّرة، إن الأساس قد لا يراه عامّة الناس، الأساس الذي يحمل فوقه عشرات الطوابق، لا أحد يراه، لكن العالمين ببواطن الأمور يقدّرونه جيدًا، يعرفون عمقه ومساحته وقوّته ومدى تحمله، وإذا كان الأساس ضعيفًا فما من شك أن البناء سينهار، قد يستمر فترة من الزمن، لكن مع أول زلزال أو هزة ولو بسيطة سينهار تمامًا. وما أكثر ما رأينا من دولٍ -وربما كانت دولاً إسلامية- قد انهارت؛ لأن الأساس كان ضعيفًا والتربية كانت ضعيفة! وما أحداث (طالبان) منا ببعيد. نحن لا نشك في نياتهم أو أخلاقهم أو طباعهم أو عادتهم، لكن البناء كان ضعيفًا والتربية كانت ضعيفة، ولأجل هذا كان الانهيار في فترة قصيرة؛ لأنها لم تدرس سيرة الرسول دراسة متأنية منهم، أو ممن وقع من أمثالهم في حلقات التاريخ المختلفة.

إنني أقول لكل العاملين على الساحة الإسلاميّة: إن دراسة السيرة ليست ترفًا فكريًّا، إنما هي فريضة على كل من أراد أن يعزّ هذه الأمة أو يشارك في بنائها.

http://islamstory.com/ar/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%87%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%87%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #74 في: 2013-04-14, 09:42:07 »
إنّ في كل سطر من سطور سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تربية وعظة لو تأملنا ودققنا...

لم تكن حياته صلى الله عليه وسلم إلا تربية في كل دقيقة من دقائقها، في كل لحظة من لحظاتها...
صلى الله عليه وسلم لم يعش لنفسه، بل عاش مدرسة للمؤمنين مفتوحة أبوابها لا توصد، عاش سنوات بعثته ونبوّته، لو عُدت بمقياسنا لرأيناها قليلة، ولكنها كانت عامرة بالتربية وبالتوجيه، فكانت بميزان سنوات الدنيا المديدة ما امتدت وما طالت ....
لم يكن صلى الله عليه وسلم يفتر، وعلى هذا نجد الكنوز المترامية في سيرته، وكلما أبحرنا وغصْنا وجدنا اللآلئ والدرر الكامنة في الأعماق تنادي أنه كما أن السطح عامر، فالأعماق عامرة، فمن شاء أن يطفو على السطح رأى خيرا ولا مس خيرا، ومن شاء أن يغوص اكتشف خيرا أعظم ....فجعلنا الله من الغوّاصة ....

لم تكن حياته خاصة، بل قد كانت عامة وكأنه عاش حياة الكل، وعاش حياةً للكل ....
فلننظر كم في السطور، وكم بين ثناياها .....

كان أهل المدينة –منذ أن سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة-  يترقّبون قدومه عليهم، فكانوا يغدون لذلك كل غَداة إذا صلّوا الصبح إلى ظاهر الحَرَّة فينتظرونه حتى يردّهم حرّ الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أوَوا إلى بيوتهم  أوفى(أي اطّلع) رجل من يهود على أُطُم من آطامِهِم (أي حصن من حصونهم) لأمر ينظر إليه، فبصُر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبَيَّضين(أي لابسين ثيابا بيضا)، يزول بهم السّراب(أي ظاهرين بارزين لا يغطيهم شيء)، وقد رأى ما كانوا يصنعون، وأنهم ينتظرون قُدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يملك اليهودي أن صرخ بأعلى صوته : يا بني قَيْلة، هذا جدّكم قد جاء(وقَيلة جدّة كانت للأوس والخزرج)، فخرجوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة، فسُمِعت الرجّة في بني عمرو بن عوف والتكبير، وتلبّس المسلمون السّلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول،فقام أبو بكر رضي الله عنه للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا في ظلّ نخلة، فطفِق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحيّي أبا بكر، حتى زال الظلّ وأصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل أبو بكر حتى ظلّل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك .-صحيح البخاري وسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد-


"فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف "

"عدل بهم ذات اليمين"، انظروا كيف ييمّن صلى الله عليه وسلم في كل حال...لننظر كيف يختار اليمين لأهل اليمين .

" وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا في ظلّ نخلة، فطفِق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحيّي أبا بكر"

جلس الرسول صلى الله عليه وسلم صامتا في ظل نخلة!!  إنه الرسول المنتظر من محبّيه الذين جعلوا يتشوّفون للقائه فورما سمعوا بخروجه من مكة وصاحبه الصديق، إنهم ينتظرونه متلهفين لرؤياه، متشوقين كل الشوق، ينتظرون قدومه عليهم، وجلّهم لا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، جل الأنصار لا يعرفه، وكل هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في ظل نخلة ويقدّم صاحبه الصديق رضي الله عنه ليكلم الناس، ولا يقدم هو نفسه ، ولا يجتهد معرفا بنفسه، ولا يحيّيهم بالإشارة تحية "أنا هنا"، وتحية "ها أنا ذا" وتحية "أنا هو" !!، لا يكلّف نفسه عناء التعريف بنفسه، بل ينتظر، ينتظر انتظار المتواضع الذي يعلمنا التواضع، وسلوك التواضع...
وننظر من حولنا فإذا الرئيس بين الرؤساء اليوم ،والمسؤول بين المسؤولين  إذا دخل مدينة من مدن بلده، وهو الذي عرّفتْ به الصور المتناثرة في كل وسائل الاتصال الحديثة قبل الصوت والمقاربة التي تكاد تكون ضربا من ضروب الخيال،نراه -وإن فتك به الإجهاد والعياء-،  ينقلب أنشط النشطاء وأكثر الناس حركة وخفة، وهو يرى جَمْع المصفقين والمهللين والمنتظرين، والمنادين بحياته وكأنه الذي لم تكتب له الموت فيما كُتِب له  !!

تراه يلوّح بيده وبتقاسيم وجهه وبهزات رأسه أن "أنا هو ذا"...!!

أما الرسول الكريم العظيم فلا يبالي بكل هذا...
ذاك هو تواضع عظيم .... تلك هي حكمة حكيم ... يعلم لمَ جاء وبمَ جاء، وأنّ العمل أقوى دلالة من الكلام، ومن الإشارة، ومن إظهار النفس والاعتداد بالنفس، يعلم أنه جاء معلما، فهو ذا يعلّم من أول أيامه، من أول لحظات وصوله... يعلّم التواضع، فترى التواضع وكأنه لا يليق إلا بمقام العظماء الذين على قدر قيمتهم يكون تواضعهم .....

"حتى زال الظلّ وأصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل أبو بكر حتى ظلّل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك "

ها هو المحب الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لا ينسى من أمور الحبيب صلى الله عليه وسلم أمرا، كحال المحبّ المتيّم بحبيبه، يذهل عن الناس وعن نفسه وعن حاجاته وهو المهتمّ بحاجة حبيبه .... فلا يغفل عن أدقّ أمر يحتاجه صلى الله عليه وسلم في خضمّ تلك الحشود الملتفة حوله وكل أولئك المستقبلين المتجمعين .... فما أن لامست الشمس جسده الشريف حتى همّ يحول بينه وبين حرّها بردائه، وكأن الناس لما رأوا درجة اهتمامه بصاحبه، عرفوا حينها قدره، وأنه لا يكون إلا النبي المنتظَر .... الذي يتلهفون شوقا لرؤياه ....عندها عرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم .


فكيف لا يكون في كل سطر من سطور السيرة المطهرة دروس وتربية وعظة ؟!!








ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #75 في: 2013-04-16, 12:52:56 »
عرفنا البراء بن معرور، والحمد لله أن عرفنا رجلا عظيما مثله، عرفنا كيف يصنع الإيمان في صاحبه، ولا يشترط في الإيمان طول عمر به ، بل يشترط الصدق معه .... البراء بن معرور رضي الله عنه وأرضاه... هو ذاك الرجل الذي جاء في صحبة لم يكن يعلم أنها ستأخذه إلى طريق تغير حياته تغييرا كليا، جذريا .... أقبل مع أولئك الثلاثة والسبعين ولم يكن منهم، لم يكن ساعتها مؤمنا مثلهم، لم يأتِ ساعتها ليضرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موعدا للقاء، لم يأتِ مع مَن أتوا وقد عقدوا العزم على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنهاء رحلة عذابه وما كانت تنال منه قريش .... بل قد أتى وهو لا يدري ما كان يعدّه ثلاثة وسبعون رجلا ولا ما عقدوا العزم عليه .....
لم يكن يعلم أنّ ممّن معه صحبة سفر  مؤمنون مستخفون بإيمانهم عمّن جاء معهم من قومهم من المشركين، وهو قد كان واحدا منهم ... ولكنّ مقادير الله تعالى، ومشيئته تقضي أن يكلمه بعضهم في سرّ وخفية عن الإسلام وهم في الطريق من المدينة إلى مكة، في طريق سفرهم، يشاء الله أن يدعوه بعضهم إلى الإسلام، ويشاء الله له كل خير بأن تقبل نفسه الإسلام من فورها، فيسلم، ويصبح واحدا من الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، بل وواحدا من النقباء ....
ذلك البراء بن معرور الذي رد على العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستثبت موقف المبايعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراز مخاطر ما هم مقدمون عليه من نتائج مبايعته، ردّ عليه قائلا: "قد سمعنا ما قلت، وإنا والله لو كان في أنفسنا غير ما تنطق به لقلناه،ولكنّا نريد الوفاء والصدق، وبذل مُهَجِ أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم،فتكلّم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربّك ما أحببت"

هو الذي أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:"والذي بعثك بالحق لنمنعنّك ممّا نمنع منه أزُرَنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب،وأهل الحلْقة، ورثناها كابرا عن كابر ."

فما خبر البراء بن معرور بعد مضيّ وقت قليل من بيعة العقبة الثانية إلى وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة ؟
بعد شهرين من بيعة العقبة الثانية التي كانت في موسم الحج من العام الثالث عشر للبعثة، ووصول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لم يفصل بينه وبين تلك البيعة إلا شهْرَا صفر ومحرم، ليحلّ بها في 12 ربيع الأول من العام الرابع عشر للبعثة14للبعثة(السنة الأولى للهجرة). ماذا حلّ بالمبايع والنقيب البراء بن معرور؟

ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤوف بالمؤمنين، الرحيم بهم ، ولأنه لا ينسى أصحابه، فلقد سأل عن البراء بن معرور أول قدومه المدينة، فقيل له: توفّي وأوصى بثلث ماله لَكَ يا رسول الله، وأوصى أن يُوَجَّهَ للكعبة لما احتضر،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصاب الفطرة،وقد رددتُ ثُلُثَه على ولده"، ثم ذهب فصلى عليه فقال: "اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك، وقد فعلتَ "-رواه الحاكم في المستدرك، وقال هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي-
وكانت وفاته رضي الله عنه قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر...لقد عاش مسلما لمدة لم تزد عن شهرين، ومات مبايعا نقيبا، فسبق صدقه وإخلاصه السنوات المديدة والعمر الطويل، وكان إيمانه مِحَكّ مآله...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #76 في: 2013-04-16, 12:55:19 »
والآن ........

ها قد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة... لقد ترك مكة مرغَما، ولولا أنّ أهلها أخرجوه منها لما خرج منها، لقد كانت أحبّ بلاد الله إليه ... ولكنّه تركها في سبيل إعلاء كلمة الله، وفي سبيل الانتقال بالرسالة السماوية من أرض تريد استئصال شأفتها إلى أرض تحتضنها وتحتضن صاحبها صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ضحّوا بالنفس والنفيس في سبيلها، وتركوا من خلفهم الديار والأموال والأملاك لينتقلوا إلى حيث تنجو الرسالة وتنتشر ....

لقد لاقى في مكة وأصحابه  ما لاقَوا، ويشاء الله سبحانه أن يصبح الطريد من مسقط رأسه منتَظرا مترقبا في بلدة غير بلدته، بين ناس غير ناسه، وقوم غير قومه، ولكنها آصرة العقيدة تعلمنا في هذه السيرة المطهرة يوما بعد يوم كيف تكون أرضي هي أرض الإسلام،وكيف يكون ناسي وأهلي هم ناس الإسلام وأهله، وكيف يكون ولائي لله، ولدين الله، ولعباد الله المؤمنين ...

ها هو الحبيب صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد غادر مكة ... ها هو يحلّ بها وقد تنورت بنوره بدرا طلع عليها في جنبات ليل كاد يأتي على كل بصيص فيها لولا رحمة الله برحمته المهداة محمد صلى الله عليه وسلم ...

ها هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يُنهي مرحلة من الصراع المرير بين الإيمان والكفر، بين الحق والباطل، بين النور والظلمة، فهل تراها انتهت؟ هل ترى الأفراح والأهازيج والنشيد المتعالي، وأصوات الرجال مع النساء مع الأطفال مهللين بقدوم محمد صلى الله عليه وسلم علامة النهاية السعيدة ؟ نهاية الأتعاب والآلام ومصارعة موجات الباطل المتلاطمة ؟

أم أنها بداية جديدة لعهد جديد مع ما فيه من انتشاء للدعوة فيه من دوام الوقوف موقف المدافع عنها، الذائد عن حياضها ؟

 فلنرَ شيئا عن هذا (نقرة على الصورتين لقراءة واضحة):





« آخر تحرير: 2013-04-16, 12:59:18 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #77 في: 2013-04-22, 14:09:39 »
في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة للبعثة، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يثرب، فسمّيت بقدومه عليها المدينة المنورة، وقد استقبله الأنصار بفرحة ليس لها مثيل...
رسول الله، الذي كان بالأمس القريب مطارَدا، مضطهدا من قومه في مسقط رأسه مكة، وقد اجتمعوا على قتله والخلاص منه...ها هو اليوم يُستقبل كما لم يستقبل أحد  قبله ولن يُستقبل أحد بعده، بحفاوة منقطعة النظير، وبفرحة هزّت أرجاء المدينة المنورة وما جاورها، بل وبقيت ترنّ مزيّنة  التاريخ الذي تبدّل وجهه، وتغيرت وِجهته مذ سطعت على المدينة شمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلع عليها بَدْره...فأصبح ليلها كنهارها مَحَجّة بيضاء تُشِعّ من ربوعها نورا على الأرض  ...

رسول الله صلى الله عليه  وسلم وهو في تمام الثالثة والخمسين من عمره، وقد قضى من فترة بعثته نبيا صلى الله عليه وسلم حتى ساعة وصوله المدينة المنورة ثلاثة عشر عاما، قضاها بمكة كاملة يؤسس لبناء الفرد المسلم، يعرّفه بربّه، وبدينه الذي هو عند الله الإسلام، وبعقيدته التي أخرجتْه من براثن الجاهلية والشرك واتخاذ الخُرافة ربا معبودا،واتخاذ العباد أربابا، إلى نور التوحيد والإيمان بوحدانية الله ربا خالقا، ورازقا، ومحييا ومميتا، وفعالا في كونه وخلقه ما يريد، وكيفما يريد، وعلى النحو الذي يريد ....

ثلاث عشرة عاما كاملة قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا على حاله، مستقيما، مؤديا للأمانة، مبلغا للرسالة، متصديا لمشركي قريش وترصّدهم له ولأصحابه بشتى ألوان التعذيب والصدّ والتكذيب ... لينتقل بعدها إلى أرض شاء الله تعالى أن يكون أهلها أنصارا للرسول وللرسالة، شاء الله تعالى أن يحبيهم بنعمة النصرة واحتضان الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم، على أن يحموه مما يحمون منه أنفسهم وأولادهم وحُرمتهم، متجشّمين بعهدهم مع رسول الله كل الصعاب، ومستعدّين لبذل أنفسهم ومُهَجِهم دون شوكة يُشاك بها صلى الله عليه وسلم...
هكذا أراد الله تعالى أن يقيّض له صلى الله عليه وسلم المتوكل على ربه كل التوكل، وحق التوكل مَن يؤمن به، وبما جاء به،ويبذل في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض النفس والنفيس ....

إنهم علموا علم اليقين أنهم قد مدوا نُحورَهم دون نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعوه على حرب الأحمر والأسود، لا يبالون بقتل أشرافهم، وذهاب أموالهم ...
إنهم لم يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأهازيج والأناشيد وهُم لاهُون عما ينتظرهم في قابل الأيام من مشاقّ ومصاعب وعداوات مُعلَنة وغير مُعلنة، ظاهرة ومُضمرة من مشركي قريش الذين لم تنطفئ نارهم، ولم يبرد سُعارهم، ومن يهود المدينة الذين أقضّ مقدمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مضجعَهم، وأشعل سلطان الإسلام فيها نارَ حقدهم وكُرههم، وألهبت قيادة محمد صلى الله عليه وسلم للمؤمنين فيها حسَدَهم، وأخرجتْ تربيته لأصحابه التربية الربانية القرآنية العظيمة أشواكَ كِبرِهم،كما كان لهم وللمنافقين معهم دور كبير في بثّ الفِتن في صفوف المسلمين، والعمل على نقض عُرى الأخوة بينهم، وزعزعة إيمانهم، وزرع بذور التفرقة والتشتيت ...

لم يكن الأمر هيّنا، ولم يكن الأنصار في غفلة عمّا ينتظرهم من وجوب الاستعداد والتأهب لمحاربة صنوف الحاقدين والصادين عن سبيل الله وعن دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم ....

ها قد انتهى الدور المكي، من أدوار الدعوة المحمدية الخالدة، ليبدأ عهد جديد في الدعوة إلى الله، وإقامة دعائم الدولة الإسلامية، من بعد ما كانت مكة لبناء الفرد المسلم القوي المؤهل لأن يكون لبنة قوية، وأساسا صلبا لدولة قائمة بكل مقوماتها ودعائمها...
فلا يستطيع أحد كائنا مَن كان التهوين من دور مكة العظيم العظيم في بناء الفرد وبناء الأمة، وبناء الدولة، ففيها تكونت لَبِنَاتُ الإسلام القوية، ببناء النفس المؤمنة الصادقة التي قويَتْ عقيدتها واعتقادها في الله ربا حتى آمنت بكل ما نزّل من عنده توجيها وتربية وأمرا وحكما لا يقف دون إنفاذه والعيش به أمر ولا ظرف من الظروف .

ليبدأ العهد الجديد الذي لا يقلّ أهمية عن عهد مكة، عهد الدولة والأمة القوية التي على عاتقها نشر الإسلام في بقاع الأرض كلها،وفتح مغاليق الأرض بنور الإسلام، وذلك كان وما يزال دور أهل هذا الدين العظيم في كل عصر وفي كل زمان .

ولذلك ابتدأ المسملون تأريخهم من وقت قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة،وكان أول من وضع التأريخ الهجري للمسلمين  عمر بن الخطاب بمشورة عدد من كبار الصحابة، ويعد ذلك نَقلة مهمة في حضارة المسلمين،واختيرت البداية بعام الهجرة، لأنها حدث مِفْصلي في مسيرة الدعوة وبناء المجتمع المسلم، وأعلنوا شهر الله المحرم بداية لكل عام، مع أن وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان في ربيع الأول.

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #78 في: 2013-05-05, 11:12:19 »
أبو أيوب الأنصاري


أبو أيوب الأنصاري هو ذلك الأنصاري الذي أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سأل أيّ البيوت أقرب إلى مكان بُرُوك ناقته، وكان له شرف نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه في بيته، فمكث به نحوا من سبعة شهور أو سنة حتى بُني له مسجده ومساكنه فانتقل إليها .

فرح أبو أيوب بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه،فقام بخدمته، وكان يأتيه بالماء من بئر أبي أنس مالك بن النضر، وكان شديد الحرص على راحته، قال أبو أيوب رضي الله عنه: لما نزل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السُّفْل، وأنا وأم أيوب في العُلْو، فانتبه أبو أيوب ليلة فقال: نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! فتنحَّوا فكانوا في جانب ، وبات أبو أيوب الليل ساهراً يكره أن يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الليل فيستأمره في التحويل(أي كرِهَ أن يأتيه ليلا يطلب منه الإذن في التحويل)، فلم يزل ساهرا حتى أصبح، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيّ الله! بأبي أنت وأمي إني لأكره وأٌعظِم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهَرْ أنت فكُنْ في العُلْو، وننزل نحن فنكون في السُّفْل، فقال: "يا أبا أيوب ! السُّفْل أرفق بنا وبمَن يغشانا"، قال أبو أيوب: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سُفْله، وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حُبٌّ لنا فيه ماء،(والحُبُّ وعاء الماء كالزير والجرة)، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ، ما لنا لِحاف غيرها، ننشّف بها الماء تخوّفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه، فنزلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مشفق فقلت: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، ولم يزل يتضرع إليه حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتاعه فنُقل إلى العُلو ومتاعه قليل .-سيرة ابن هشام وصحيح مسلم-

قال أبو أيوب رضي الله عنه : وَكُنَّا نَصْنَعُ لَهُ الْعَشَاءَ، ثُمَّ نَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ تَيَمَّمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، حَتَّى بَعَثْنَا إلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ وَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ بَصَلًا أَوْ ثُومًا، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ أَرَ لِيَدِهِ فِيهِ أَثَرًا. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَزِعًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، رَدَدْتَ عَشَاءَكَ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ مَوْضِعَ يَدِكَ، وَكُنْتَ إذَا رَدَدْتُهُ عَلَيْنَا، تَيَمَّمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ مَوْضِعَ يَدِكَ، نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ؛ قَالَ: "إنِّي وَجَدْتُ فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَأَنَا رَجُلٌ أُنَاجِي"، فقال أبو أيوب: أحرام هو؟، قال: لا، ولكني أكرهه، وفي لفظ آخر: أستحيي من ملائكة الله تعالى، وأما أنتم فكُلوه، فقلت: إني أكره ما تكره، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤتى (أي يأتيه المَلَك)، ثم لم نضع في طعامه شيئا من الثوم أو البصل بعد. .-سيرة ابن هشام وصحيح مسلم-

وهذا تسجيل جميل جدا فيه محاولة لتصوير بيت أبي أيوب الأنصاري وحكاياته مع سُكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتَه:

الشيخ يعقوب |( بيت أبى أيوب الأنصاري )| حدث فى بيت الرسول
« آخر تحرير: 2013-05-05, 11:40:07 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #79 في: 2013-05-17, 19:58:51 »
لقد كانوا يعرفون أن مجرد النطق بـ " لا إله إلا الله محمد رسول الله " يعني فقدانهم لسلطان إرهاب الناس والقبائل. ولو كانت المسألة مجرد كلمة تقال، ويبقى الأمر على ما كان عليه لقالوها، ولكنها كانت كلمة تغير من الأمر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولا يبقى من جبروت لأحد، فكل الناس سواسية. لذلك تصدى صناديد قريش لدعوة الإسلام. وهكذا نجد أن كل رسول يأتي يبرز له من يعاديه من أصحاب الفساد والجبابرة في الأرض، مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ }[الأنعام: 112].

والمثال على ذلك هو إرادة الحق في أن يجعل صيحة الإيمان في الجاهلية تأتي أولاً إلى أذن سادة العرب جميعاً وهم قريش الذين لا يجرؤ أحد على التعرض لهم، لكن النصر لا يأتي لمحمد وهو في مكة حيث كانت مقام السيادة؛ لأن النصر لو حدث في أول الدعوة ومحمد صلى الله عليه وسلم يحيا بين قومه في مكة لقال قائل: لقد حدث النصر من قوم ألفوا السيادة وأرادوا أن يسودوا العالم كله لا الجزيرة العربية وحدها، وأن قريشاً قد ساندت محمداً لاستبقاء هذه السيادة وبسطها على غيرهم، ولكنه - سبحانه - جعل مقام النصر ينبع من المدينة المنورة.


إنّ الصرخة أولاً جاءت في أذن السادة ثم التف حولها المستضعفون في الأرض الذين لا يستطيعون حماية أنفسهم، ثم هاجروا وقوّاهم الله من بعد ذلك على الأقوياء.

إننا نجد كل داع إلى الله يأتي إنما يريد استبقاء خير النبوات حتى لا يأتي الران على القلوب، وإن استبقاء هذا الخير يغضب منه الجبابرة والمنحرفون الذين يريدون السيادة على العالم بفكرهم. والداعية إلى الله الذي لا تجد له عدواً يصيبه بالسوء حظه من ميراث النبوة ضعيف، والداعية الذي له أعداء له من ميراث النبوة الشيء الكثير.



الشعراوي
« آخر تحرير: 2013-05-17, 20:05:32 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب