المحرر موضوع: طِــيــب القــــــــلوب  (زيارة 57370 مرات)

0 الأعضاء و 3 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #40 في: 2012-07-05, 15:20:53 »
جزاك الله خيرا على هذا الموضوع وهذه المشاركة الخاصة بالعزم وأعظم الخلق عزما صلى الله عليه وسلم..
موضوع العزائم هذا مثير جدا جدا ..

وهو كذلك يا أحمد  emo (30):
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #41 في: 2012-07-05, 15:21:34 »
لا ينفك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا على موقفه من الرسالة التي أمِر بتبليغها، لا يهزّه هازّ، ولا يحيك في ثباته وقوته وإيمانه سبيل من سبل المكذبين المتفرّقة ،المتصدين له، الصادين عن سبيل الله، المتربصين به وبدعوته وبأصحابه الدوائر...
وقد كان صلى الله عليه وسلم وكبراء قريش وأسيادها يترددون على عمّه أبي طالب مستَنَده وداعمه ومانعه من شرورهم ومكائدهم، يجيب عمّه بكل عزم و ثقة مقسما بالله آمِره وباعثه للعالمين رحمة وهُدى : "يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلِك فيه ما تركته " .

هكذا كان في حياة عمّه الذي بقي على عهده له أن يمنعه من قريش ومما يُراد به، وأن يحميه، يدعوه بثقة الحامي الكفء أن يمضي إلى ما أمِر به لا يخشى المتربصين...
وهكذا كان حاله في حياة خديجة زوجه، أول من ثبّته في أولى ساعات الوحي نزولا عليه، خديجة التي كان يعود إليها من وعثاء ما يلقاه ويلقاه أصحابه من محاربيهم والمتصدين لعقيدتهم وإيمانهم، يشكو إليها همّه، ويبثّها حزنه، فكانت تشد من أزره، وتخفّف عنه، وتقوّيه وتذكّره أن ربّه لن يخزيه أبدا ....
فكان يقوى ويشتدّ ويتجدد عزمه ...
حتى جاء عام على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الملأى بالجهاد في سبيل تبليغ الرسالة، وبالشدائد، والتي لم تكد تخلو ساعة من ساعاتها من ألم ونَصَب ...غابت عنه فيه خديجة وأبو طالب كلاهما، في عام واحد، عام أعقب حصار الشّعب الذي فرضته قريش على أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عمومته سواء في ذلك  من آمن منهم أو من لم يؤمن، من فرط ما نال الجوع  من جسَدَي هذين القريبين الحبيبَيْن،فأنهكهما مرضا .... فخلا جانبه من نصيره الأكبر من قرابته ولُحمته يدفع عنه أذى أكابر الكافرين وعُتاة المجرمين، كما خلا جانبه من خديجة رفيقة دربه وحبيبة قلبه والشفيقة عند رزئه، وأم عياله، والقائمة عليه وعلى بيته....

فكيف أصبح بعدهما حاله ؟ وكيف هي همّته وقريش قد خلا لها الطريق، وأصبحت تصول وتجول، لا تخشى مقالة ولا ملامة ولا عذلا وهذا الذي كانت تكرهه وتتوعّده، تقبل على عمّه تبلّغه أن يبلّغه السؤال، وتعرض عليه البديل، وتحاوره من وراء حجابِه، تستنهض في عمّه الحميّة لقومه ولما دان به آباؤه، فتشكو إليه محمدا فيما هي آتية تعرض عليه ما يغري وتعده أن تسوّده عليهم وتملّكه فيهم ...
كيف أصبح حاله اليوم ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم  : "مازالت قريش كاعّة (أي جبانة) حتى توفي أبو طالب"، وقال: "ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب"

لقد اشتدّ به الخَطْب، وتقوّت عليه قريش ، وتجرأت عليه، وأصبحت تنال منه ضربا وتفلا، وحثوا بالتراب، وضاقت مكة على الدعوة، فطفق صلى الله عليه وسلم ينشد النصير من غيرها، فانطلق إلى ثقيف الطائف، فإذا هم وكأنهم قد تواصوا وأهل مكة بنبذه وطرده وصدّه، فنال منه سفهاؤها ضربا حتى أدموا قدميه ....!!

فهل اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله ثقل المَكَارِه عليه، وشدة الأهوال التي نزلت به ، هل سأله أن يخفّف عنه أذاهم وعُدْوانَهم ؟ -ولو سُئِله لأُجيبه-  بل إنه قد اشتكى لله ضعف قوته وقلة حيلته، واستعاذ بنور وجهه أن يكون ما حلّ به غضبا من الله أو سخطا منه عليه، فإنّ كل ما عداهما لا يبالي به وإن كان أضعافا .....!!

فكيف أجابه ربه ؟ هل رقّق قلوب الأعداء عليه؟ هل أضعفهم وأنزل بهم ما يحول به بينهم وبين أذى رسوله وحبيبه وصفِيّه؟

لا...
بل قد كان يمدّه بالفيوضات الربانية التي لم يكن يُطلِع عليها غيرَه، لأنها كانت فضلا منه اختصّ به حبيبه،وأثرةً له عنه دون غيره.... لأنّ محمدا كان النبع النوراني الذي يُصبّ فيه النور الذي يكفي حين ينتشر كل مَن يبصره قلبه،فيعبّ منه ولا ينقص....
فكانت تقويته وترقيته مكانة وشأنا عند مولاه كفيلة بأن تُجْزِئ الأرض كلها، وتجزِئَ الرسالةَ قوةً بمبلّغها ...
ولم يكن يحتاج الأمر في كثير من الأحيان إلى أن  ترى أعين خصومه وأعدائه ما يُختصّ به من فضل ومن معجزات، لأنّ نتيجتها ستظهر في قوة عزيمته وإصراره على المضيّ في دعوته لرب العالمين ،  فأمر سبحانه الشجرة أن تطيعه إلى أمره فتأتيه حين يأمرها، وتعود مكانها حين يأمرها...أرسل إليه عبدا من عباده من نينَوَى بلدة النبي يونس عليه السلام يؤمن به ويُعلي من شأنه ويَنْكبّ عليه مُقَبِّلا أطرافه الشريفة، شاهدا أنه خير أهل الأرض كلهم، أرسل له الجنّ يؤمنون به وينقلبون إلى أهلهم دُعاة لله، وأرسل له جبريل يصحبه ملك الجبال ليأتمر بأمره فيريه ثأر نفسه من أعدائه رأي العين...

وهكذا ....
ما كانت قريش تدري كُنْه هذا الإيناس الإلهي، ولم تكن تفهم سرّ الحبّ الفياض الذي كان يُظِلّ رسول الله من ربّه، وما كانت تعلم أنّ عصاها الغليظة كانت ترتطم بإرادة الله وقوّته وفعله وحراسته نبيّه فترتدّ عليهم حسرة وخيبة ." وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ(48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ(49) " -الطور-

وهكذا يعود رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رحلة الطائف مشحونا إيمانا وحكمة وصبرا وإصرارا على المضيّ قُدُما في رسالته ودعوته، فيدعو القبائل كما كان دأبه منذ مبعثه، ولكنه هذه المرة بشكل أكبر، ويلقى الصدود والرفض، والاستهزاء، ومجرمو قريش يتتبعون خطاه ويشككون القبائل بكلامه، ويخوّفونهم مغبّة اعتناقهم ما يدعو إليه واصميه بالكذب والافتراء ....
فهذا يتفل على وجهه الشريف، وهذا يحثو التراب على رأسه الطاهر، وذاك يتعقّبه بالحجارة ......

ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعين الله تعالى، كلما تلقى الصدود والتكذيب كلما ارتقى به ربُّه الدرجاتِ العُلى، حتى جاء موعد تلك الليلة المباركة التي كانت ليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن لأحد من قبله من الرسل، تلك الليلة التي سَرَّى فيها الله عن قلب حبيبه الحزين لبعد الناس عن رشدهم وهُداهم، الحزين على غفلتهم وتماديهم في الغيّ،يريد لهم الخير وإن آذوه، ويغضب لله ولرسالته العظيمة ولا يغضب لنفسه، ويرضى في سبيلها ألوان التعذيب، ولا يرضى الدنيّة فيها، بل يراها الدرة المكنونة التي لا غِنى عن عنصر من عناصرها، ولا يرضى لها وهو في عزّ الحاجة للنصير من العباد والمجير منهم، أن تكون في مهبّ الريح بين أيدي من يقول بحمايتها من جهة وعجزه عن حمايتها من جهة تتربص بها الأعداء منها، بل يريدها حماية كاملة شاملة .....

وفي تلك الليلة التي نامت فيها أعين الناس، وعين الحي القيوم لم تنم، جاءت الفيوضات الربانية للحبيب القريب من رب البرية تبشّره بفضل من الله عظيم، وتُنبيه أنه القريب المقرّب والحبيب المفضّل الذي سيرى ما لم يَرَه أحد غيره، سيراه عين اليقين، وسيُقرّب من الملأ الأعلى، بل من العليّ الأعلى جلّ في عُلاه ....
جاءت الليلة التي سيُسرى فيها بالحبيب من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه الله من آياته الكُبرى، وسيُعرَج به إلى السماوات العُلى، وسيَدخُلها سماء بسماء، وسيرى الأنبياء، وسيرى جنّة المأوى، وسيعرف، بل سيرى من مآل الناس في الأخرى على قدر تقلب أحوالهم في الدنيا ......

إنها ليلة الإسراء والمعراج ..........
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #42 في: 2012-12-25, 09:45:56 »
كلما قرأت في سيرة الطاهر المطهّر صلى الله عليه وسلم عرفت أن دنيانا من غير معرفة حياته لا شيء...

وعرفت أنّ النبض فينا يعود نبضا له معنى بمعرفة حياته...
عرفت أنه لا انقطاع بين تلك الحقبة التي كان فيها، وبين كل حقب الدنيا حتى تنتهي ...

وعرفت أنّ كل من يرى في حياته ماضيا وتاريخا لا يليق بمن يعيش اليوم أن يقتدي به إما جاهل لم يعرف عن حياته، وإما مقلّد بهرتْه حضارات حدودها الدنيا ومبتدأها الدنيا وآخرتها الدنيا، محروم حُرم لذة العيش بنبض حياته صلى الله عليه وسلم...

وعرفت أن دنيانا ظُلمة من فوقها ظلمة من فوقها ظلمة كلما هجرنا سيرته، وسيرة العظماء الذين اهتدوا بهداه من بعده ...

وعرفت أنّ أكبر أدوائنا أن نبحث لنا عن عظماء حضارات أخرى من ركام التاريخ الساحق، ولا نبحث عن سيرة الطاهر المطهّر، ولا نتعمق في بحر مواقفه، ولا نستشفّ العبرة والدرس من كل خطواته ، ولا نعي الحكمة من كل أفعاله ...

وعرفت كم أنّ أمتنا انصاعت لمن غيّبها عن أصلها،وقطع ساقها عن جذرها، فأبعَدَ أن تكون السيرة المطهّرة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم رأس برامج مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا ...

وعرفت أنّ الحياة لا تكون حياة ولا نعي معناها ولا قيمتها ولا الغاية منها إلا ونحن نسبر غور حياته النورانية التي شَرُفَت الأرض باحتضانها ....وستشرف إلى يوم تزلزَلُ زلزالها وتخرج أثقالها وتحدّث أخبارها...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #43 في: 2013-01-07, 10:40:48 »
سبحان الله...!!
صباح اليوم، وتزامنا مع خطاب الأسد الجسور الذي يكاد الصبر ينقلب رجلا فيصرخ بوجهه المُقطِّب، ويصرخ أن ارحل ارحل...ماذا يبقيك بعدُ يا أسد الظُلّام وجسور الغُشَّام... يا أسطورة البغي والعدوان، يا حاميها الحرامي...يا راعيها الذئب.... متى ترحل ؟؟متى ترحل ؟؟؟!!!

وأنا أتابع خطابه الأُجاج الممجوج... وعيني على "فقه السيرة للغزالي"، وسمعي يلقف شيئا من أجاجه...
إذا بهتافات المنافقين مِن حوله، وتصفيقاتهم المرّة على أشلاء ضحايا كلاب جيشه المسعورة.....
تهتف لهوبحياته وهو يقول وشرّ القول قوله أن مادام الإرهاب قائما مادام مستمرا في حربه ...!

وفي لحظة قوله ولحظة الهتاف، تقرأ عيني كلمات الغزالي وكأني بها ترياق القلوب العليلة، وجواب الصبر الموشك على الصراخ والجزع ....نعم في اللحظة ذاتها أقرأ له رحمه الله وهو يتأمل العِبَرَ من بيعة العقبة الكبرى للحبيب صلى الله عليه وسلم :

"وحكى القرآن أخبار الأولين وكيف أخلص المؤمنون لله فنجوا مع رسلهم، وكيف طغى الكفار وأسكرهم الإمهال فتعنتوا وتجبروا، ثم حل العدل الإلهي، فذهب الظالمون بدداً، وتركوا وراءهم دنيا مدبرة، ودوراً خرِبة. فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم كباطل من جلال الحق منهزم...!! "...

فاستبشرت خيرا...واستبشر صبري معي خيرا...:) فوجوه الأرض ستلعنه كباطل من جلال الحق منهزم...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #44 في: 2013-01-07, 10:41:15 »
سأل الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية من بعد أن عرّفهم بشروطها: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟قال صلى الله عليه وسلم : الجنة.

يقول راغب السرجاني : يا الله! الجنة، الجنة وفقط، الثمن لكل هذه التضحيات الجنة، لم يعد بأي شيء آخر، لم يعد بدولة، ولا بتمكين، ولا بنصر، مع أن هذا كله سيحدث لا محالة، ولكن قد لا تراه، قد تموت شهيدًا قبل التمكين بسنوات، قد تموت طريدًا شريدًا معذبًا، ولكن في النهاية، أنت إلى الجنة ذاهب "إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ" -التوبة: 111-.
-------------------------------

"قد تموت شهيدا قبل التمكين بسنوات" ....!! نعم ولذلك كانت الجنة هي الفوز المضمون يوم الخلود، إن لم يُضمَن التمكين يوم الفناء .....!!
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #45 في: 2013-01-13, 14:54:14 »
بيعة العقبة، وما أدراك ما بيعة العقبة ...

حينما تتّبعها بفكر متأمل، كم تستوقفك مواقفها، وكم يُبهرك ذلك الاجتماع الليلي، الذي كانت فيه النقاشات والأسئلة والأخذ والرد والتوثيق والتأكيد والتثبّت، بين جَمع الأنصار الثلاثة والسبعين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرافقه ويؤيّده عمّه العباس رضي الله عنه، وهو حينها ما يزال على شركه، لم يؤمن بعد، ولكن كان منه العجب العُجاب من السَّنَد والظهر والحماية كما كان من أخيه أبي طالب الذي مات على شِركِه ...

في جزء يسير من ليلة من ليالي العام الثالث عشر للبعثة، في جُنح الظلام،اجتمع مَن على عاتقهم ستُبْنى الأمة، ستُبنى الدولة، سيتحقق التمكين لدين الله، ستشرق شمس الإسلام على الأرض منهم....... واتسم اللقاء بسموّ عقلي وقلبي سواء بسواء،وفيه تمت المشاورات، والتوثيقات، والتعهدات، والمعاهدات، وفيه خرج الجمع بالقرار، وفيه أخِذ الميثاق، وتمت المبايعة...

كل ذلك كان في جزء يسير من ليلة من ليالي ذلك العام،في مكان ما بين مكة ومنى،عند العقبة، في جزء ما بعد الثلث الأول من الليل، حيث تسلل ثلاثة وسبعون رجلا ومعهم امرأتان من نسائهم من بين جمع مِن قومهم الذين ما يزالون على شركهم أدوا معهم مناسك الحج في ذلك الموسم من ذلك العام .

كم كان اللقاء ثريا ونحن نتجاذب الرؤية والتأمل في معاني هذا اللقاء، هذه المبايعة، هذه المعاهدة..... في كل لقطة منه، في كل مرحلة منه، في كل كلام كان فيه، في كل متكلم تكلم فيه ....
كم أن التأمل فيما كان منهم وحده ثري، وأي ثراء !! كم أنّ أولئك كانوا عِظاما بحيث تتمثل وجوههم الوضاءة، وحضرتهم المهيبة، وقوة قلوبهم وتفتحها للإيمان، وإصرارهم على المبايعة رغم كل ما نُشر وبُسط ووضّح من مغارم لا يطيقها إلا رجل اشترى الجنة وباع دنياه بما فيها ....

فكان تأملا أنسانا الدنيا بما فيها، وصغُرت في أعيننا بما فيها، وصرنا وكأنّ الزمان كله قد طُوي في ذلك الجزء اليسير من تلك الليلة، وكأن المكان الذي نحن فيه هو تلك العقبة.... وأي عقبة هي !! عقبة كانت اسما على غير مسمى، عقبة مهدت لنشر الدين، ولتمكينه، ولبناء الدولة الإسلامية .....عقبة ذلّت فيها على النفوس كل الصعاب ....
فعشنا.... حيث عشنا .......


في موسم الحج من العام الثالث عشر للبعثة (13)اعتزم المسيرَ إلى الحج سبعون رجلا من الأوس والخزرج اجتمعوا على موافاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقد قالوا : حتى متى نذَرُ(أي نترك) رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرَد في جبال مكة ويخاف؟"

حتى متى نذره ؟؟؟
هم جَمع من الذين آمنوا من أوس يثرب وخزرجها، بدؤوا في العام الحادي عشر ستة، ثم ارتقوا في العام القابل إلى اثني عشر ،قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وعدوه، فبايعوه بيعة العقبة الأولى بيعة النساء، وعادوا إلى يثرب بعدهاوقد أرفق معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير الذي نجح أيما نجاح في دعوة أهل يثرب للإسلام، وتعليمهم الدين، وعادوا في العام الثالث عشر للبعثة،بعد عام واحد، وهُم جمع من ثلاثة وسبعين رجلا ومعهم امرأتان، تدفعهم الغيرة على رسول الله، وعلى دين الله، تدفعهم روح الإيمان بصدق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعظمة ما جاء به، تدفعهم أن لم يرضوا الدنيّة لرسول الله، فإلى متى سيتركونه طريدا في جبال مكة ؟!! إلى متى ؟؟ يسألها سائل قد أعيته السنون، وأثقلت كاهله، وهو يعلم أن الحق يُضطهد وتُستباح حرمة أهله، ولكن هؤلاء لم يلبثوا في كنف وحِياض  الإيمان والإسلام إلا عاما أو عامَين، وكان العامان كافِيَيْن لشحنهم إيمانا يناطح السحاب سموا، والجبال شموخا ....  فيؤهله لأن يغار لله، ويغضب لله، ويهبّ لله .... "إلى متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرد في جبال مكة ويخاف ؟"



"خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها،ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر،سيّد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم مَنْ معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيّد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه، أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، فأسلم وشهِد معنا العقبة وكان نقيبا ."

ها هم أولاء وهم قد خرجوا للحج، ومعهم المشركون من قومهم، وهم يخفون إسلامهم وأمرَهم عنهم، ويخفون أنهم ما قدِموا هذا الموسم إلا للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ها هم أولاء لا يتركون الدعوة، ولا يتخلون عنها وهم في أشقّ حالة، وأصعب ظرف، ولكنهم، -ولله درّهم- ...إنهم يعرفون من يختارون من هؤلاء لدعوتهم في ظل إخفائهم أمرهم، وخشيتهم من المشركين أن ينقلبوا عليهم ويفسدوا عليهم خطتهم ... إنهم إذ يدعون لله وللإسلام في هذا الظرف يعرفون ما يفعلون، ومع من يفعلون ذلك ....

إنهم -ولا ريب- كانوا أهل حكمة ورزانة ونظر بعيد، فلا يعرّضون جماعتهم ولا خطتهم ولا هدفهم للخطر، بل لننظر كيف أنهم يتخيرون السيد والشريف، وليس السيد والشريف في قوم العرب بذي المال، سفيه العقل، بل إنه عادة بينهم سيد الحكمة فيهم، والرأي السديد، والنظر البعيد، والخُلُق القويم، والأمانة والصدق، والشجاعة والإقدام ... فهم إذ يختارونه لدعوته وهم في طريقهم هذه، وفي ظروفهم هذه، وفي ظلّ سريّتهم تلك، وحرصهم كل الحرص على ألا يفسد أمرهم، ولا يُكشف، يعرفون مَن يختارون.... وها هو الشريف يُسلم، بل ويحضر معهم أخطر اجتماع، ويطّلع على أكبر الأسرار، بل ويعيَّن نقيبا .... فلله درهم من دعاة فطنين، حكماء، يعرفون كيف يزداد خيرهم وهم في أصعب وأخطر ظرف ...إنهم كانوا الرجال... إنهم كانوا المثل الصحيح لمعنى الرجولة ....

"قال كعب: فنِمْنا تلك الليلة مع قومنا في رِحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، وهدأت الرِّجل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلّل تسلّل القَطا (طائر مِشْيَتُه ثقيلة)، مستخفين حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، من ذوي أسنانهم (أي المسنّين منهم) وأشرافهم،وثلاثون شابا،يقال أن أصغرهم كان أسعد بن زُرارة،قال: ومعنا امرأتان من نسائنا، نُسيبة بنت كعب أم عُمارة إحدى نساء بني مازن بن النجّار، وأسماء بنت عمرو أم منيع إحدى نساء بني سَلمة."

ها هم أولاء نِيام مع قومهم، كأن شيئا ليس كائنا، كأنهم لم يلتقوا رسول الله سرا فور وُلُوجهم مكة، ويتفقوا معه على لقاء هذه الليلة ذاتها، وأن يكونوا جميعا عند العقبة ....
ها هم أولاء، وهم ثلاثة وسبعون، يُوقظ أحدهم الآخر، ويتسللون تسلل القطا... بكلمة سرّ؟ بإشارات؟؟ بنأمات؟؟ بحركات ؟!!
المهم أنهم نجحوا في أن ينسلوا من بين قومهم دون أن يشعر أحد بهم .....

 يااااه ما أروعها من خطة .... ما أجمل تلك الليلة وهم فيها يخططون للقاء خير خلق الله، للسمع منه، لإخباره بمكنوناتهم وبما مِن أجله قدِموا إليه، ليعاهدوه، ليُظاهروه ...
ما أروعه من تسلّل في جنح الليل لجَمع مؤمن كل الإيمان أن هذه الدعوة التي تلاقي كل الصدود والتعذيب والتنكيل في مسقط رأسها، لهي دعوة للأرض كلها، فها هُم يهبّون من أرض أخرى ليحتضنوها .... فأيّ تسلل كان تسللكم ؟؟ !! وأي خطة تلك التي اتفقتم يا جَمع المؤمنين الصادقين الحكماء على تنفيذها !!!

وامرأتان من نسائهم معهم.... أي عزّ، وأيّ قدر، وأي قيمة!! وأي تقدير هو للمرأة من الإسلام، وممّن اعتنق الإسلام فعلا وقولا ؟! أي بَون هو وأي شساعة هي شساعته بين جاهليّي الأمس القريب وهم على ما هم عليه من رأيهم بالمرأة وموقفهم من المرأة ورؤيتهم للمرأة، وبين حالهم اليوم وهم مؤمنون بالله وبرسوله، مسلمون ؟! ها هي ذي المرأة ترافق زوجها في مرحلة من أخطر وأهم مراحل الدعوة، فلا ينتقص من رأيها، ولا من قدرها، ولا من دورها، بل يصحبها معه وهو واثق من دورها، ومن فكرها، ومن أنها ستقاسمه الوفاء بالوعد كما قاسمته حضوره وسماعه ...

"كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج،-وكانت العرب إنما يسمّون الحيّ من الأنصار "الخزرج"خزرجها وأوسَها-: إنّ محمدا مِنّا حيث قد علمتم،وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزّ من قومه، ومَنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم،واللّحوق بكم،فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك،وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه وخاذِلوه، بعد الخروج به إليكم، فمِن الآن فدَعُوه، فإنه في عزّ ومنعة من قومه وبلده ."

العباس بن عبد المطلب ! ما يزال بعد على دين قومه ! ويُقدِمه معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويكون أول متكلم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستأمنه على سر من أكبر أسرار الدعوة ! ويدخل مع ابن أخيه ظهيرا، حاضا على نصرته حق النصرة، مخوّفا من خذلانه، مبيّنا لمكانته من قومه وإن كان منهم ما كان، فهو وإن لقي من قومه ما لقي، إلا أنه أيضا لا يعرف مصيره بين هؤلاء الجُدُد، هؤلاء البُعداء، هؤلاء الذين لم يكن ليعرفهم لولا إرادة الله أن يعرفهم، ها هو العباس رغم معرفته بما كاله قومه لابن أخيه من صنوف التعذيب والتكذيب، إلا أنه وبعقل الحكيم الراجح لا يضمن ما سيكون له بين هؤلاء، فقد يناله منهم ما قد يبدو معه ظلم أهله رحمة، وما قد يبدو معه سَموم أهله نسمة .... ما يدريهم أنّ الذي سيكون خير من الذي كان ؟؟!!

بهذا المنطق تحدث العباس الذي ما يزال بعد على دين قومه، بمنطق العقل وبمنطق الحق على السواء، وإن كان ما هو قائم عليه حتى الساعة مخالفا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ....
ولكنها الحكمة ...وأي حكمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إذ استأمنه يعرف مَن استأمن ... وإذ اتخذه ظهيرا وسندا يعرف من اتخذ لذلك ! ولله درّ العباس وهو على غير الإسلام، يحضّ على احتضان الإسلام بصدق لا بغدر، ويخوّف من خذلان الذي جاء به...
ويكأنّ الله سبحانه وتعالى لم يحرم العباس فضل هذه الليلة العظيمة من قبل أن يؤمن، ويهيئه لأن يصبح مؤمنا ....

"فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن،ودعا إلى الله،ورغّب في الإسلام،ثم قال:
"تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل،والنفقة في العسر واليسر،وعلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر،وأن تقولوا الحق لا تخافوا في الله لومة لائم،وعلى ن تنصروني فتمنعوني إذا قدِمْتُ عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءَكم ولكم الجنة
"".

تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبماذا تُراه بدأ ؟ وبمَ عقّب؟!
بدأ بالقرآن، ثم دعا إلى الله ثم رغّب في الإسلام، ولأي شيء كانت هذه البدايات وهذه الأساسات منه ؟؟ إنها كانت لبناء الدولة المسلمة، إنها كانت لبناء الأمة المسلمة، إنها كانت للتمكين لدين الله في الأرض كلها ....
ولمَن يقولون وينادون ويناضلون من أجل فصل الدين عن الدولة، وأين؟؟ في بلاد الإسلام !! أقول وما ضرّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس للدولة أن جعل الأساس هو القرآن، وهو الدعوة إلى الله، وهو الترغيب في الإسلام .... لهؤلاء أقول، أي معنى لدولة مسلمة تفصل الدين عن الدولة ؟؟؟ إنه كمعنى اللامعنى ! إنه كمن يبني السراب ، إنه كمن يريد دينا على هواه، ويريد للسياسة أن تكون بمعزل عن الدين.... وللدين أن يكون بمعزل عن السياسة ... وما بيعة العقبة إلا سياسة رشيدة من أعظم ساسة الأرض، لم يجعل لها من أساس أقوى من قرآن رب السماوات والأرض ...!! فهل منكم يا دعاة الفصل رجل رشيد ؟! أم أنّ رشدكم قد بلغ عنان الصواب حتى رأى في محمد صلى الله عليه وسلم أسطورة لا يجب التأسي بها في عالم الحقيقة !!

وفي بنود البيعة، الوضوح كل الوضوح، القوة كل القوة، اللازم لمعركة بناء الأمة، بينما كانت البيعة الأولى لمعركة بناء النفس، أما وقد بُنِيت تلك الأنفس، فإنّ الدور حان للاضطلاع بمسؤولية بناء الأمة،بناء الدولة المسلمة، ولذلك فالتبعات قوية قوية، قوية....ومن البداية كان هذا الوضوح، وكان هذا الإفصاح، فمَن رضي أن يبايع على هذا وهو واثق من مدى تحمله للتبعات، فليأخذ، ومن لم يرضَ فهو حر أن يُعرض .....

"البراء بن معرور كان قد دُعِي للإسلام من قِبل الأنصار وهم في طريقهم إلى مكة، وكان سيدًا من سادتهم، فقبل الإسلام ، والأنصار بذلك يعلّمون المسلمين جميعًا درسًا لا ينسى، وهو أن الدعوة لا تتوقف مهما صعبت الظروف، فرغم مشقة السفر، ورغم الاحتياط والحذر، رغم كل ذلك لم يتوقف الأنصار عن دعوتهم إلى الله، وسبحان الله! سيموت البراء بن معرور بعد هذا الحدث بأقل من شهرين"

وهكذا يُدْعى البراء بن معرور هو الآخر في ظل كل السرية المحيطة بالأمر، وهو شريف من أشرافهم، فيسلم، ويشهد البيعة، بل يكون أول من يوثق العهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : والذي بعثك بالحق لنمنعنّك ممّا نمنع منه أزُرَنا فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب،وأهل الحلْقة(وهي السلاح عامّة)، ورثناها كابرا عن كابر .

وهكذا يموت البراء بن معرور بعد البيعة بشهرين، فلا يشهد مع المسلمين غزوة، ولا حربا، ولا يجاهد، ولكنّه مات مبايعا، وشتان بين موته كافرا، وموته مبايعا ....!!إن المغزى ليس بطول العمر، بل بحسن العمل، بل بالصدق مع الله، بل بالإخلاص لوجه الله وحده .....فها هو يسلم شهرين، ثم يموت، فيموت مبايعا ....!!

والبراء على ذلك الموقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاطعه أبو الهيثم بن التَّيِّهان رضي الله عنه، فيقول: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال(يعني بهم اليهود) حبالا، وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدَعَنا؟ فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "بل الدّم الدّم والهَدْم الهَدْم، أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربكم، وأسالم من سالمكم"

ما أصدق الرجل، ما أشد حضور عقله مع حضور قلبه، ما أبعد نظره، وما أحكم قراءته لما قد يكون حاك في نفوس الكثير ممن معه ، ولكنهم أحجموا عن الخوض فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد يكون من تحرج، وقد يكون من استكثار مواجهته بها وهو رسول الله...

ابن التيّهان، ها هنا يطرح أمرا مهما جدا، وخطيرا جدا، قد يكون الكثير ممّن معه قد أغفلوه في ساعة نصرة عاطفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّه هنا بإفصاحه يجعل موالاتهم موالاة كاملة خالصة، موالاة قلبية وعقلية، لا تشوبها شائبة من ظنّ أو شك أو خوف . يطرح أمر اليهود الذين يحيطون بالمدينة إحاطة السِّوار بالمعصم،وفيما بينهم عهود وتحالفات، واتفاقيات، واليهود على ما هُم عليه من المكانة والسيادة الروحية والمالية.وهم أهل حروب وصنّاع سلاح، وهو يزيد من تجلية الأمر لمَن معه أنهم سيقطعون كل هذه الحبال التي تربطهم بهم، فيريد جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موقفه منهم إن هو انتصر وعاد إلى مكة...
 فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تواضع ودون رسم أي خلفية من أنّ الرجل يشكك بمواقف رسول الله، بل يتبسم ويعطيه العهد والميثاق الآكَد أنه معهم في السراء والضراء، يذود عنهم ويحميهم مما يحمي منه نفسه وأهله، فإن طُلب دمهم فقد طُلِب دمُه .ولنا أن نتخيّل نفسية ابن التيّهان بعد جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفسيّة كل من كان بداخله تخوّف من هذه النقطة .

والآن ....قد حان وقت البيعة...قد انجلت الغيوم كلها من صفحات تلك النفوس، قد حان لا ريب .......................أم .....أنه لم يحن بعد ؟؟؟!!!! emo (30):

أأصبح لذلك الجزء اليسير من الليل البهيم، كل هذا التحمّل... ليتسع لنقاش أكثر، وأطول، فيُحاط بكل ما يجب الإحاطة به والقوم مقبلون على قرار مصير الأرض كلها .......

نعم ...إنه ليستّع ............... emo (30):

يتدخل رجل آخر من رجال الأنصار .....إنه العباس بن عبادة موضحًا لهم: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَت أموالُكم مصيبةً، وأشرافَكم قتلاً أسلمتموه، فمِن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.

وهكذا، يزيد العباس بن عبادة من توثيق العهد، ويزيد في توضيح الأمر للأنصار، أنه ليس نُزهة، ولا لقاء تلك الليلة وكلمات فيها، ومن بعدها النقض والتولّي، والنكوص، بل هو الوعد الذي يوافقه الفعل ويصدّقه، بل هو تحمّل كل الأذى في سبيله مهما بلغ، إنه يقدّر عظمة الوعد، ويضعهم في صورة الموقف وجلاله،وهم يعدون رسول الله صلى الله عليه وسلم على محاربة الأحمر والأسود نصرة له ولما جاء به . وهكذا يبدو جليا صدق الأنصار، وعزمهم على الحق لا الباطل، والصدق لا الكذب، والوفاء لا الغدر .

فيجيب الأنصار في عزم وثقة: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟قال صلى الله عليه وسلم : الجنة.

إنهم قد عرفوا الجنة .....فلما عرفوها، قبلوا بها ثمنا وجزاء لكل استعداداتهم للتضحية بالنفس والنفيس...قد عرفوها ساعة عاد أولئك الستة، وأخبروهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وساعة عادوا إلى يثرب في العام الذي تلاه وقد أصبحوا اثني عشر رجلا ومعهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن والإسلام.... لقد نزل بمكة ما قارب نصف القرآن في تلك الآونة، فقد عرفوه كله من مصعب، وتشربوا معانيه، وصدقوا وعوده، وآمنوا باليوم الآخر، وبأن الجنة حق، والنار حق .... فعرفوا الجنة وقدروا عظمتها فقبلوها ثمنا، وأدركوا أنه لا يعلو عليها ثمن ....

ولله درّ مصعب بن عمير وقد كان سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم بيثرب، فعلّم وأسس لهذا الجمع المؤمن الواثق، المصدّق المستعد لبذل مهج الأنفس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ودون الإسلام ...لله درّه معلّم هؤلاء البُناة ، هؤلاء الأنصار الناصرون ....لله درك يا مصعب، كم هي حسناتك ؟! وكيف تُراك كنت تقضي أيام عامك بين اليثربيّين، بين خصماء الدهر أوسا وخزرجا، وقد غدوا بالإسلام إخوة متحابّين، فأقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أوسا وخزرجا على قلب رجل واحد، وهذا الإسلام بيده الربانية وحده يجمع شتاتهم، ويوحد صفوفهم، ويأتي بهم إخوانا متحابين ....
ها هو الإسلام وهم يرونه الحل الذي لم يكن لهم قبله من حل، ها هُم يقبلون على البيعة الثانية وقد عاينوا فعل الإسلام فيهم........
وقد جمعهم بعد فرقة، وسالمهم بعد حرب وقتال .... ها هو الإسلام يعمّ به السلام أولا قبل أن يكون منه أي أمر آخر ....
فأين من ينعتون الإسلام بالإرهاب ليعرفوا فعله في خصماء الدهر ؟؟!! ليعرفوا كيف دعاهم هذا السلام الذي عاينوه حقيقةً لم يكونوا ليحلموا بها يوما، أن يقبلوا عليه وعلى نصرته ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم غير مدبرين ولا مولّين، ولا مذبذبين، ولا متهيّبين ....إن لم يكن لإدراكهم العميق بأنّ فيه كل الخير، كل الخير، وبأن في الإدبار عنه كل الشر، كل الشر....

الآن أقد حان وقت البيعة ؟! لا بد أنه قد حان، لا بدّ أنه لم يبقَ من صوت غير صوت الأيادي تصفق على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايِعة، معاهدة على النصرة وعلى كل تلك الشروط التي أعطى ....

أم أن ذلك الجزء من الليل ما يزال يطيق ويتحمّل ما هو أكثر ...........؟؟  emo (30):

بلى ...........إنه ليطيق .... emo (30):

فهذا أسعد بن زرارة يقطعهم فيقول :
رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله.وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.

إنه يؤكد على معنى جديد، وخطير، وبالغ في الأهمية كل مبلغ، على الجهاد، وعلى الاستعداد لفقد خيار القوم وأشرافهم،الاستعداد لحماية الدعوة من كل ما يتعرض لها ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتضحية في سبيل ذلك أكبر التضحيات.

الأنصار كانوا قد سمعوا الوعد: "الجنة" فما عادوا يطيقون صبرًا، ما بينهم وبين الجنة إلا أن يبايعوا، فقاموا يتسارعون وقالوا: يا أسعد، أمِطْ عنا يدك،والله لا  نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
روي عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال:قالت أم عمارة:كانت الرجال تصفق على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بيعة العقبة،والعباس بن عبد المطلب آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بقيت أنا وأم منيع نادى زوجي عرفة بن عمرو: يا رسول الله !هاتان امرأتان حضرتا معنا تبايعانك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد بايعتهما على ما بايعتكم عليه،إني لا أصافح النساء.


وها هو عرفة بن عمرو لا يفوّت الليلة واللقاء، ويكتفي بمبايعة الرجال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من فرط تقديره لزوجته، ها هو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بينهم امرأتان، وأنهما ما قدمتا إلا للمبايعة هما الأخريان، ولم تَقْدَما هكذا لتحضرا، وتكتفيا بالحضور وحده، بل إنهما حرتان ، ذاتَا إرادة وفكر حر، تريدان المبايعة، تريدان المعاهدة، وهما على قدر من الثقة بما في نفسيهما من الوفاء بالعهد، والعمل بشروط المبايعة .....
فيبايعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الشروط .....................

وياااااه على وفاء المرأة المؤمنة الحرة القوية  بعهدها....ياااه على وفاء نسيبة بنت كعب أم عمارة الرائعة ....المجاهدة بنفسها وبزوجها وبأولادها .....
هي تلك التي قامت تذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، يوم انفض الرجال من حوله، وهي تمنعه من ضربات المشركين وتعرّض جسدها لها دونه، وتصاب بالجروح الغائرة يومها، حتى يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوه بعصبة للملمة جراحها ، ويدعو لها ولأهل بيتها، فتتصيّد الفرصة وهي الموفية بوعدها لرسول الله يوم العقبة، فتسأله أن يدعو لها ولأهل بيتها أن يكونوا رفقاءه في الجنة، فدعا لها بما أحبت ....
ليهنأْكِ الدعاء يا أم عمارة ..... طوبى لك طوووووبى ...................

وكأنها وهي قد أعطيت الجنة على وفائها بشروط بيعة العقبة، وقد بايعت عليها، تسأل ما هو أعظم، تسأل رفقة رسول الله فيها ، وهكذا هي الروح المؤمنة العالية التي تطمع فيما عند الله.... في الآخرة، وكلما ارتقى إيمانها كلما ارتقى طمعها في خير الآخرة، وأي خير أعظم من رفقة الحبيب صلى الله عليه وسلم في الجنة !!! وتزهد في الدنيا بما فيها .... فلما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرادها قالت : ما أبالي ما أصابني من الدنيا....!!!

وعاشت أم عمارة ما عاشت مجاهدة في أكثر من غزوة، وكانت تبلي البلاء الحسن، واستشهد زوجها وأبناؤها في سبيل الله ....وتلكم عينة من عينات وفاء أهل العقبة بما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ....
هم قوم صدقوا الله ..... فصدقهم الله .....

فطوبى لكم يا أهل تلك البيعة .... طوبى لكم يا بناة الأمة والدولة، ويا لبنات الإسلام الأولى، ويا مَن أنقذتم الإسلام وأوردتموه موارد النصرة والانتشار والقوة والمنعة .... يا مَن تفتحت قلوبكم للإيمان تفتّح الصدر لنَفَسِه المُحيي ............

ولذلك سمّيتم الأنصار، وكم أنتم مستحقون لهذا الفضل العظيم ..... يا أيها العظماء .....

يااااااااااااااه كم عشنا يوم أمس هذه اللحظات وكأننا نعيش بروح الآخرة لا بروح الدنيا، وكأننا ونحن الأخوات المجتمعات نقرب من طأطأة رؤوسنا إجلالا لعظمة أولئك الرجال، وحياء من حضرتهم المهيبة....حتى قالت إحداهنّ، وقد جعلن بين حين وحين يستوقفن ليقلن ما يجيش في نفوسهن من إعجاب وإجلال وتقدير، وحسرة على واقع نعيشه وددْن لو أنهن لا يعدْن له وقد عِشن جزءا من تلك الليلة العظيمة .... قالت  : اليوم هم أولاء يتبارون على التنمية البشرية، والبرمجة اللغوية العصبية في بناء الفرد ، الآن عرفت إننا نستند لتنمية بشرية، بينما استند هؤلاء العظماء لتنمية إلهية ربانية ....وشتان بين التنميتين.... ::)smile:
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #46 في: 2013-01-21, 09:01:01 »
رمش العيون له انحِنَا وسوادها ليل الهَنا***هو أدعج العينين قد نظرت بنور إلهنا ....
هو واسع الكف الندي خلقا وجودا فاشهدِ*** أسقى من الغيث الهطول روحي فدا تلك اليدِ 

أنشودة في وصف النبي المصطفى
 اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد

وصف النبي المصطفى أنشودة رائعة جدا جدا بدون إيقاع
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل أحمد عبد ربه

  • شباب إيجابي
  • ***
  • مشاركة: 791
  • الجنس: ذكر
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #47 في: 2013-01-22, 21:23:39 »
رمش العيون له انحِنَا وسوادها ليل الهَنا***هو أدعج العينين قد نظرت بنور إلهنا ....
هو واسع الكف الندي خلقا وجودا فاشهدِ*** أسقى من الغيث الهطول روحي فدا تلك اليدِ 

أنشودة في وصف النبي المصطفى
 اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد

وصف النبي المصطفى أنشودة رائعة جدا جدا بدون إيقاع


صلى الله عليه وسلم
أحمق .. من ترك يقين ما في نفسه ، لظن ما عند الناس !

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #48 في: 2013-01-23, 10:21:24 »
سبحان الله يا أسماء
اليوم وصلتني نفس الانشودة على الجوال.. ولكم انعشتني هذا الصباح

صلى الله على محمد
صلى الله عليه وسلم

*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #49 في: 2013-01-23, 10:40:16 »
وهذه هدية لكم بمناسبة ذكرى المولد النبوي   ::)smile:


نور الحبيب يضيء الكون أجمعه
كما أتى ذكره في نص قرآن
هو السراج المنير المستضاء به
من الضلالة يهدي كل حيران
يا فوز من كان بالمختار مقتديا
يقفوا هداه بإسرار وإعلان
ومن يخالف حبيب الله في سنن
ويتبع غيره يرجع بخسران
يخسر في هذه الدنيا وآخرة
يصلى الجحيم ويهوي وسط نيران
وإن ترد صحبة المختار في خلد
وفي جنات وفي روح وريحان

حافظ على الصلوات الخمس في فرح
مع خشوع وإحسان وإتقان
ورافق أهل الهدى تحشر بزمرتهم
ولا ترافق أخا شر وخذلان
واقتدْ بطه النبي واتبع لسنته
صل عليه بآناء وأحيان

*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #50 في: 2013-01-24, 08:54:30 »

ورافق أهل الهدى تحشر بزمرتهم
ولا ترافق أخا شر وخذلان
[/color][/size][/font][/center]

جزاك الله كل خيرا يا هادية وأنعش أرواحنا ، وهدانا لما يحبه ويرضاه  emo (30):
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #51 في: 2013-01-24, 09:17:52 »
إن الله سبحانه وتعالى لَيُهيئ لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم أسباب الانتشار، ويهيئ لرسالته الخالدة أسباب الخلود...

فرغم ما عرفنا من دأب قريش في تتبّع خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكِرام، يكيدون لهم صنوف الكيد ليصدوهم عن دينهم ودعوتهم،إلا أن عظمة مصدر هذه الرسالة، وعظمة تدبيره سبحانه لنبيه ولدينه، لن تحول دون مضيّه أعظمُ مكائد الكفار، ولن يقف بطريقه تناصرهم وتحالفهم ضدّه بكل ما ملكوا من قوة، وهو سبحانه يمهّد لدينه  كيف يشاء وعلى الصورة التي يشاء ومتى يشاء، ويسخّر لنبيّه من النصراء والأولياء مَن يشاء...

وإنه لَيُخيّل لمَن لا يعرف عن هذا الدين ومآله ومصيره وهو يسمع عن جرائم كفار قريش وجرأتهم، وتآمرهم وتكالبهم على أهل الإسلام ما يسمع، أن هذا الدين ذاهب لا محالة، وأن أهله هالكون لا ريب، وأنّه لا صمود لهم أمام كل تلك العواصف التي لا تهدأ ولا تَني، ولا هوادة في قلوب مثيريها ومدبّريها ....

حتى إذا ضاقت على المسلمين أرض مكة، وتقطعت بهم السبل، ورأى المشركون أنهم قادرون عليهم ببطشهم ومكائدهم وتآمرهم، وبقوة جاههم وسلطانهم، أتى أمر الله تعالى، بتسخيره لستة من خيرة شباب يثرب من أوس وخزرج، أرسلهم الله  يستمعون لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثهم عن الإسلام، ويدعوهم إليه، فينقلبوا إلى أهلهم دعاة جادّين غير مستهزئين،مُحكِمين غير مفرّطين....

ويمرّ العام الحادي عشر من البعثة وهم في مدينتهم دُعاة، نشَرَة لخبر الإسلام بين دور يثرب، حتى يعودوا لرسول الله في العام الموالي وهم اثنا عشر نفرا، يأخذ عليهم صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى عند العقبة على ألا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا،ولا يقتلوا أولادهم،ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم،ولا يعصوهُ صلى الله عليه وسلم في معروف. وعادوا أدراجَهم من مكة وهم على عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينهم مصعب بن عُمَير يعلمهم الإسلام ويزرع في نفوسهم نور القرآن، ويربيهم على منهجه، حتى نشأ في عام واحد رجال صنع نفوسَهم القرآن، فإذا هم ثلاث وسبعون من خيرة رجال الإسلام، بل من أعظم من عرف التاريخ الإنساني كله، ييمّمون وجوههم شطر مكة حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتفقون على أنه لا مجال بعدُ لتركه بين أيدي كفار قريش خائفا على رسالته، يلقى في سبيلها وصحابته كل ألوان التعذيب والتكذيب ... وأنّ عليهم أن ينصروه ويحموه ويمنعوه من كل من يريد به وبرسالته سوءا وأذية ....

ويجتمع الرجال، وكل منهم بوزن الرجل كما ينبغي أن يكون الرجال، ويجتمع رأيهم ولا يتفرق، ويعقدون العزم على لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والائتمار بأمره ...فيكون ذلك اللقاء الليلي، وكم لليل الحالك من أسرار، وكم في الليل الحالك من أنوار لا تُدركُها كل الأبصار ....!
يجتمع الرجال المؤمنون الصادقون بسيّدهم وسيّد الأبرار، برحمة الله للعالَمين... يسمعون منه شروطه، فيُقدِمون وهُم لا يَلوون على شيء،لا يتأخرون...يفتحون معه كل المغاليق، ويُجْلُون له كل مُبهَم في أنفسهم حتى لا يبقى بأنفسهم خوف أو مبرّر لخذلان ....

ويبايعُ القومُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرجال -وهُم الرجال- على السمع والطاعة في النشاط والكسل،والنفقة في العسر واليسر،وعلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر،وأن يقولوا الحق لا يخافوا في الله لومة لائم،وعلى أن ينصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمنعوه إذا قدِمَ عليهم مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءَهم...وأنّ لهم الجنة ........

وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حماسة لا تقدّمها العاطفة ويؤخرها العقل، بل يُقدم عليها العقل والعاطفة معا،ويستسيغها العقل مع العاطفة، في غير تراجع ولا تخاذل...
لقد أقبلوا وهُم قد حزموا أمرهم، وهم على أهبة أن يحاربوا في سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته الأحمرَ والأسود، وأن يضحوا في سبيله وسبيل الإسلام بالنفس والنفيس لا يستكثرون ولا يبالون، فقد عرّفهم القرآن بالجنة وهم يتدارسون آياته مع مصعب بن عُمَير من قبل أن يسمعوها مِن فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف بمَن عرف عن الجِنان أن يتأخر وقد وعده بها  خير عباد الرحمن، صاحب الرسالة والبيان، والنور والإيمان محمد عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ....؟!
إنهم قد رضُوا بالجنة ثمنا ....فهُم على الوعد والعهد ... فما أروع تربية القرآن حينما يُخالط معناه نِياط القلوب، ويُهدهد وعده سُويداءَها.

فماذا في الأمر بعد بيعة العقبة الثانية،بيعة الرجال... بيعة الحرب ؟
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #52 في: 2013-02-05, 18:25:03 »
والآن

هاهُم  المهاجرون من مكة إلى المدينة، يتركون خلفهم الدار والأهل والأصحاب ومورد الرزق والمال، لا يبالون بكل ذلك في سبيل النجاة بدينهم وفي سبيل إعلاء رايته وعدم السماح باستئصال شأفته كما أرادت قريش وهي تصعّد من قمعها وصدّها لأهل الإيمان، يتركون ثمرة كدّهم وسعيهم لسنين وسنين وراء أظهرهم، ينقلعون من الجذور انقلاعا، ويذهبون نحو المجهول....

يدفعهم أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم بالخروج، سامعين مطيعين لا يفكرون ولا يناقشون ولا يندمون، يخرجون وهم متوكلون على الله حق التوكّل... الله الذي عرفوه من محمد صلى الله عليه وسلم، عرفوه من القرآن،فعرفوا كم أنكروه وأشركوا به ما لم ينزّل به سلطانا، حتى جعلوا الحجارة والخشب آلهة يتوددون إليها ويتبرّكون بها ويسالونها حاجاتهم، فلما عرفوا كم ظلموا أنفسَهم، وكم كان الله بهم رحيما فأنصف أنفسهم من أنفسهم قدروه حقّ قدره...

الله الذي أخرجهم بمحمد من الظلمات إلى النور ... إنهم وقد نجَوا من الشرك وأسبابه، لم يرضوا أن يعودوا مشركين مقابل أن يُبقوا على ممتلكاتهم وديارهم ومكانتهم بين أهليهم، بل إنهم يفرون بدينهم وإن جُرِّدوا من كل مال ... يفرون بدينهم وإن لاقَوا الأهوال ...لا يردّهم عن هجرتهم رادّ....

وهكذا خرجوا وهُم لا يعلمون إن كان الذي ينتظرهم خيرا أم شرّاً مما كانوا فيه... فإن كان الأهل والأقارب والأحباب قد تنصّلوا منهم لإيمانهم، ونبذوهم وشرّدوهم ... ونكّلوا بهم أفيجدون الرحمة والرأفة بين غرباء لم يجمع بينهم يوم أمر ؟!

إنهم يطيعون الله ورسوله، هذا حَسْبُهم وهذا رأس مالهم، وهذا منطلقهم وهذا دافعهم، وهذا ضامنهم ....فهُم متوكلون على الله حق التوكل، مُخلصون لوجهه، آمنوا فصدقوا الله، وصدقوا رسولَه، آمنوا فضحوا ولم يَلووا على شيء، آمنوا فأيقنوا أن رسول الله حق وأن كلامه حق، وأن وعده حق، وأنّ الذي جاء به حق .... فعرفوا أن ما عداه لن يغني من الحقّ شيئا فاستمسكوا به وهُم مستعدون لكل تضحية بالنفس التي بقيت وقد ضحوا بالنفيس ....

إننا ونحن نعيش معهم خطواتهم النيّرة الخالدة هذه نحو هذا الذي قد يخطر بخاطر أنه المجهول،ونحن نعيشها معهم حروفا مسطورة،نكاد نصرخ بمَن يظنّ بعدُ ممن يقرأ معنا أنّهم مساكين راحلون نحو المجهول وقد اقتُلِعوا من منبتهم الخصيب، أن يا أيها الذي تظنّ بعدُ الظنون  أفنسيتَ رجالا أفذاذا أنصارا أوسا وخزرجا، الواحد منهم بألف، يأخذ الألباب بصدقه وإيمانه العميق، وبعهده الوثيق الذي قطعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم له في كل ما يأمر في النشاط وفي الكسل، وأنهم له في بذل المال، وأنهم له في هلَكة الرجال ودفع النفس دونه ودون دينه ومن والاه، ...أنهم له على الأحمر والأسود من الناس، أنصار يحتضنون الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم خير احتضان ....
إنهم إخوة ينتظرون إخوتهم ...فأي أُخُوّة وأي صلة وأي أرحام ؟!

إن الإسلام هو الرحم وإنّ العقيدة هي الأم الولاّدة .... إنّ الدين هو الآصرة وهو الدم وهو الرحم ....وليس كرحم العقيدة رحِم... إنه الدين الذي آخى بين أعداء الدهر أوسا وخزرجا، إنه الذي أتى بهم مجتمعين متآخين متقاسمين السرّ والعزم والعهد، وعاد بهم وهُم ينتظرون إطلالة إخوة لهُم لم تلدهم لهم أمّ كما ينتظر الواحد ميلاد أخيه في فجر واعد بعد ليل ألمٍ مدلهمّ ....

إنهم الذين عادوا إلى بلادهم يُعِدّون أول وفائهم بعهدهم، يُعِدون لهم المنزل والإيواء، والتكفّل كما يكفل الأخ أخاه وكما يأوي الأخ أخاه...وأول وفاءِ الأنصار هو أول سبب من الله لكلاءة المهاجرين وحفظهم ونصرهم وقد صدقوه.

أي شعر ؟ أي نثر؟ أي قول؟ أي وصف يَفي المهاجرين والأنصار مِعشار الحق ؟! أيّ عين تحيط بجمال المهاجرين والأنصار متعانقين متحابّين؟! أي لغة تُفهِم العالَم كيف يكون الرجل أخا لمَن لم يعرفه يوما فيضمّه إلى صدره؟ ويقاسمه داره وماله ؟!

أيّ شكر لك يا قارئ السطور النيّرة من الهجرة الخالدة،  تضمّه إلى شكري إلى شكر كل مسلم على الأرض تريد أن تلقى به المهاجرين والأنصار يوم تهاجر إلى دار القرار ....شكر العاملين لا القاعدين إن كان في زادِنا ما يليق أن نكون به الملاقينَ ....!!!

« آخر تحرير: 2013-02-05, 18:47:01 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل فارس الشرق

  • شباب إيجابي
  • ***
  • مشاركة: 827
  • الجنس: ذكر
  • وحشيتي سرج على عبل الشوى نهد مراكله نبيل المحزم
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #53 في: 2013-02-06, 10:06:34 »
إن الإسلام هو الرحم وإنّ العقيدة هي الأم الولاّدة .... إنّ الدين هو الآصرة وهو الدم وهو الرحم ....وليس كرحم العقيدة رحِم... إنه الدين الذي آخى بين أعداء الدهر أوسا وخزرجا، إنه الذي أتى بهم مجتمعين متآخين متقاسمين السرّ والعزم والعهد، وعاد بهم وهُم ينتظرون إطلالة إخوة لهُم لم تلدهم لهم أمّ كما ينتظر الواحد ميلاد أخيه في فجر واعد بعد ليل ألمٍ مدلهمّ ....


رائع يا أسماء، بارك الله فيك وجزاك الله خيرا..
"وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ
سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل"
الشنفرى

غير متصل فارس الشرق

  • شباب إيجابي
  • ***
  • مشاركة: 827
  • الجنس: ذكر
  • وحشيتي سرج على عبل الشوى نهد مراكله نبيل المحزم
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #54 في: 2013-02-06, 10:24:19 »

أيّ شكر لك يا قارئ السطور النيّرة من الهجرة الخالدة،  تضمّه إلى شكري إلى شكر كل مسلم على الأرض تريد أن تلقى به المهاجرين والأنصار يوم تهاجر إلى دار القرار ....شكر العاملين لا القاعدين إن كان في زادِنا ما يليق أن نكون به الملاقينَ ....!!!



أجل إن شكرنا لقليل، وإن عزمنا لنذر يسير..
اللهم لك الحمد ولك الشكر كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك..
"وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ
سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل"
الشنفرى

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #55 في: 2013-02-11, 13:12:53 »

أجل إن شكرنا لقليل، وإن عزمنا لنذر يسير..
اللهم لك الحمد ولك الشكر كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك..


لنزر يسير emo (30):
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل فارس الشرق

  • شباب إيجابي
  • ***
  • مشاركة: 827
  • الجنس: ذكر
  • وحشيتي سرج على عبل الشوى نهد مراكله نبيل المحزم
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #56 في: 2013-02-11, 18:52:50 »
 :blush:: :blush::
تمام
"وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ
سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل"
الشنفرى

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #57 في: 2013-02-12, 09:57:51 »
أهلا بكما هادية وفارس الشرق  ::)smile:
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #58 في: 2013-02-24, 13:57:10 »
البيوتـــــــــات الحاضنة

احتضنت بيوت الأنصار إخوانهم المهاجرين، وتقاسموا معهم الدار والأموال، فأصبح البيت الواحد يضمّ المهاجريّ والأنصاري، والمهاجرة والأنصارية، ومن بين هذه البيوت :
** دار المبشر بن عبد المنذر بن زَنْبر بقباء، وضمت عمر بن الخطاب ومن لحق به من أهله وابنته حفصة وزوجها وعياش بن أبي ربيعة.
** دار خُبَيْب بن إساف أخي بني الحارث نزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان .
** دار أسعد بن زُرارة من بني النجار ونزل بها حمزة بن عبد المطلب.
** دار سعد بن خيثمة أخي بني النجار، وكان يسمى بيت العُزاب ونزل بها عُزاب المهاجرين.
** دار بني جَحْجَبَى للمنذر بن محمد بن عقبة، نزل بها الزبير بن العوام وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سبرة بن أبي رُهم وزوجته أم كلثوم بنت سهيل .
** دار بني النجار لأوس بن ثابت بن المنذر نزل بها عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
** دار بني عبد الأشهل ، احتضن فيها سعد بن معاذ مصعب بن عمير وزوجته حمنة بنت جحش .

وكانت هذه الديار وكانت غيرها ...




إنها لم تكن قصورا فارهة عُرفت عبر التاريخ بروعة تصاميمها وبنائها، بل لقد كانت ديارا بسيطة وسط الصحراء، ولكنها ضمّت قلوبا مؤمنة آخى بينها الإيمان، ولو وُزّع إيمانهم على الأرض لما وسعته الأرض، إنّ روعتها كانت في روعة القلوب العامرة  بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم فأنارت دروب العالمين، وعرّفت العالم كله أن دواء الأرض من عِللها ليس إلا هذا الدواء السماوي الخاتم الذي جاء ليصلح شأن الأرض ... إنهم لم يكونوا طُلاب دنيا بل كانوا من ساعتهم مثالا في نبذ بُهرج الدنيا وزينتها، وعَدِّها دارا يعمل فيها المؤمن لإعلاء كلمة الله . فأين نحن اليوم منهم ومجالس الرجال والنساء تَعُجّ بأحاديث الدنيا وآخر صيِحات الدنيا من مظاهر زائلة ؟! وأين نحن من تعلّل المتعلّل بالدنيا وبضيق العيش فيها وأنه الذي يحبس المؤمن عن القيام بدوره إزاء دينه ..حتى ضاعت منه أقلّ أدواره وآكدِها  دوره في بيته بين أهله وعِياله...يتركهم للدنيا ولصيْحاتها وينشغل عنهم بالدنيا وصيحاتها !!

« آخر تحرير: 2013-02-24, 14:10:20 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: طِــيــب القــــــــلوب
« رد #59 في: 2013-02-24, 14:10:50 »


اجتماع دار الندوة ...

إن قريشا اليوم على خطر عظيم، تدركه وتدرك عواقبه، وهي اليوم تشحذ كل همَمِها لتقارع هذا الخطر المحدق بمَجْدها، وبسلطانها، وبمالها، وبتجارتها، هذا ما كانت تخاف عليه قريش، وهي ترى مَنعَة تتحقق لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهي ترى أنّ رسالته يحتضنها أهل بأس وقوة وحرب وعُدة، يرون بأمهات أعينهم كيف يخرج المسلمون من مكة أرسالا متتابعين، منهم أبناؤهم، وأهلهم وذووهم، يرى عُمْيُ البصائر بأبصارهم القاصرة أن هذا الدين هو سبب القطيعة بين ذوي الرحم الواحدة وذوي الوطن الواحد، بينما هُم على علم أنّ أولئك على حق يتبعونه، إلا أن عنادهم وشدة تعلقهم بسلطان الدنيا يحول دون أن يخضعوا ويستسلموا للحق، فيتشبثون بحبائل الباطل الواهية، ويعقدون لها العُقَد ويظنّون بها الإحكام والدوام ....

إنهم يرون كيف يحتضن الأنصارأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم عندهم آمنون سالمون، وأنهم قد هيؤوا لهم أسباب الأمن والسلامة، ويعرفون عن الأنصار ما يعرفون من النّجدة والحميّة وألفة الحرب والشدة فيها .... فهُم على خطر عظيم مِن هؤلاء الأشداء الأقوياء وهُم ينقذون الرسالة من بين فُكوكِهم...من بين فُكوكِ مشركي مكة الذين لو أنهم ملكوا أن يجعلوا المؤمنين بينها لجعلوهم،ولمزقوهم بأسنانهم كل ممزّق ولألقوا بهم أشلاء في غيابات الزمان ... ولطوَوا صفحة هذا الدين الذي نغّص عليهم نهارهم وأرق ليلَهم، هذا الدين الذي ثبت أهله وقد ظنوا بهم أمرا عابرا يُذهبه الترهيب والتخويف والتعذيب والتنكيل، فإذا بصاحب الرسالة المؤيَّد من رب السماء بقوة الإيمان والاعتقاد في نصر الله أقوى عليهم من كل قوتهم، وأشدّ عليهم من كل حيلهم، وإذا أتباعه على تربيته وعلى هداه مقتدون ....

قد أغرَوه بما عندهم، ولم يدركوا أنه عزيز عليهم، وعلى كل إغراءاتهم وإغواءاتهم، ظنّوا أنّ ما اختزنوه من صور لفِكرهم الأرضي القاصر الباطل المخطئ السادر في الغيّ يكفيهم عُدّة للتحايل وللإغراء ولكفّ لسان محمد عن قولة الحق، أو لكفّ قلبه وقلوب أصحابه عن اعتقاد الحق .... إنهم أعداء ما قد جهِلوا ....

 لقد جهِلوا أنّ هذه الرسالة الربانية، والدعوة الإلهية لن يقدر عليها أهل الأرض قاطبة، أهل الدنيا وأهل غرور الدنيا.
إنهم قد جهِلوا أنّ دعوة تأخذ بيد الإنسان إلى هناءة العيش وطمأنينة الحياة في داره الدنيا، وإلى راحة وسعة من السكينة والرضا وصلته برب الأرض والسماء التي لا تُنقَض ولا تُحلّ تبعث في النفس الدواء لكل علة، وتحصّنها من كل تَيْه، وتعرّفها بكينونتها وبتركيبتها، وبما يليق بها تِرياقا وحياة .... ثم تأخذ بتلك اليد لتعرّفها أنّها بعد الموت تحيا...
تحيا من جديد كي لا تموت بعدها، بل لتخلد... لتخلد في نعيم مقيم لا ينازعها فيه منازع ولا يخرجها منها أمر وقد سبق فيها أمر العليّ القدير الذي إذا وعد لم يخلف وعدَه .....
تخلد في حياة بلا موت، وفي صحة بلا سقم، وفي شباب بلا هرم ..... تخلد في النعيم الذي أعدّه الله لعبد عرفه في الدنيا فعبده كما تجب له العبادة وعرف قدره، فخاف غضبه إذا عصاه، ورجا رضاه إذا أطاعه .....

كل هذا كانت قريش تعتدّ له بعدّتها الدنيوية، فبذلت قُصارى جهدها وصاغت مُنهتى فِكرها لردّ الحق في حرب أنهكتْها، واستنزفت قِواها، بل واستنزفت حتى أتباعها بجاذبية هي من روح السماء، لا من أصل الأرض....

أنهكتْها .... فكلما ظنّت أنها على محمد وعلى أصحابه قادرة، كلما قيّض الله لقوم أحبهم وأحبوه أسباب الفِكاك والنجدة والنجاة، ولرسالته ولدينه أسباب التمكين والقوة .....
لم يقدر أهل الفناء على أهل البقاء.... لم يقدر عبيد الفانية على أصحاب الباقية .... لم يقدر عبيد الدنيا على سادتها... وأنّى للعبد أن يقدر على سيّده؟! .... لم يقدر عبيد الجاه والسلطان والمكانة والمال والتجارة على عباد الله ،المخلصين لله، المنيبين لله، المضحّين في سبيل الله .... وأنّى لعبد الهوى أن يقدر على عبد الله .....!!
ها هُم أولاء وهُم يرون أن مكة قد باتت خُلواً من كثير من أهلها، فديارهم مهجورة، وأعمالهم متروكة، وأنّهم وعيالهم قد هاجروا، هاجروا بدينهم إلى أرض تسعه، إلى أرض تحفّه بالرعاية والحضانة وقد شحّت أرض مكة أن تكون له الحاضنة ....

ها هُم يرونهم يهاجرون لا يبالون بمال ولا بجاه، يهاجرون لله ورسوله ..... يهاجرون بأمر من الله ورسوله .... يهاجرون لإنقاذ دين الله من أعدائه من بعد ما تربّوا في مكة ثلاث عشرة سنة كاملة على الصبر وعلى الثبات وعلى الاعتقاد الجازم اللازم في الله، وفي نصر الله....

مشركو مكة وهُم يرون كل هذا .... يجتمعون هذه المرة في يوم سمَّوْه "يوم الزحمة"، يومٌ لم يبقَ فيه أحد من الأعداء الألداء لدين الله إلا وانتقل إلى دار الندوة .... تلك الدار التي اتخذتها قريش لإبرام أمرها، وللبتّ في قضايا مكة ، يجتمع فيها أهل الرأي والحصافة لفضّ النزاعات، ولحل الإشكالات .... إنها دار الندوة اليومَ ،بعد ثلاثة أشهر من بيعة العقبة الثانية،السادس والعشرين من شهر صفَر من العام الرابع عشر للبعثة (26صفر 14للبعثة ) يجتمع فيها الرأي الفصل في محمد وأمرِه ....
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب