صَحَتْ مصر أمسِ على صيحةِ الحق........ خرج الشعب كلًّا واحدًا...... يسار ويمين...... مسلمون ومسيحيون.... رجال ونساء...... صغار وكبار..... لا يخافون في الحقّ لومة لائم.... ينشدون سقوط نظام الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد......
وصلتُ إلى (الميدان) بعد الغروب....... وكانت فيه بقية من رائحة القنابل المسيّلة للدموع......
كان الناس كثرًا.... وكانوا يهتفون لمصر وينكرون الظلم ويغنّون نشيدها القديم الذي نثر فاتحته مصطفى كامل وقدّس به سيد درويش للبلاد (بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي)..... ويعيدون نشيد الثورة التونسية (إذا الشعب يومًا أراد الحياة....).....
كان الثوار قد تحصّلوا على خوذات ودروع أمنية..... فرقى أحدهم عمود النور وبدأ يلوّح بالخوذة ويخفق بالعلم...... وبين يديه لافتات الجماهير الغضاب (ارحل ارحل يا مبارك.... الطيارة في انتظارك)..... وتصدّق السماء على حدسنا بالطائرات العديدة التي راحت تئز وتبرق...... والله وحده يعلم ما تحمل..... هل كان (جمالا) أو (عزا) أو (حسنيا) أو أي لصّ من العصابة الظالمة......
كان السعد في العيون...... والأمل في الوجوه....... والظلم مبدّدًا في الهواء كسحابات الدخان....... وكيف لا؟ وصرخة القاهري تشفعها صرخة السكندري..... وصياح الفلاح يعتنق صدى الصعيدي..... وأمل محمّد يغازل رجاء بولس..... كل الناس على قلب رجل واحد.....
لقد خرجتْ مئات آلاف المصريين إلى الشوارع...... فيها خمسون ألفا إلى (ميدان التحرير) وحده...... حيث رجعة الفرعون في (متحفه المصري)..... وعيش المصري في (المجمّع)....... و(الجامعة الأمريكية) بيننا وبين قبلة الله في مكة... حينما صلى الناس لله العِشاء على تراب الميدان...... فاتصل سبب التراب الميت بالتراب الحي....... وتجدّد لكل امرئ شبابُ دينه..... فالمسجد بين يدينا....... والكنيسة من خلفنا...... والكنيس على قيد أشبار منّا........ وراح الأمل يروّي منّا العصب والعظم.... فالطاغية قد سقط أو يوشك..... والظلم إلى زوال.......
سرعان ما تأسّستْ إذاعة للثورة في الحديقة تولّاها عبد الرحمن يوسف القرضاوي الشاعر السياسي وعضو جماعة الإخوان المسلمين...... وتقدّم عبر ميكروفونها ناس كثر بشرونا بالنصر المبين...... كان أولهم الروائي الدكتور علاء الأسواني الذي قال أن وجودنا وثورتنا تردّ عنّا تهمة التونسيين لنا بالتخلف..... فثلاثمئة ألف في الشوراع ولا تحرّش ولا تخريب..... فأي خلق وأي تحضّر!....... ثم جميلة إسماعيل المذيعة..... وأخيرا نقيب المحامين الشاب الذي نيّف على الثمانين وبارك سقوط دولة الفرد.......
كان عبد الرحمن يذيع البيانات....... "لقد استولى إخوانكم في المنصورة على أمن الدولة....... وإخوانكم في المحلة على مبنى المحافظة...... وفي السويس سقط أول شهيد وثاني شهيد للثورة....... وفي الفيوم وكفر الشيخ والإسكندرية عشرات الآلاف......"....... الله أكبر! لقد ذهب الطغيان إلى غير رجعة.....
ثمّ حذّر المسئول عن التظاهر الناسَ من انتشار عناصر أمنيّة في ثيّاب مدنيّة لأجل إفساد كل شيء..... كانت هناك جماعة من (البلطجية) تحمل العصيّ تنتشر......
عند انتصاف الليل تمدّدتُ جوار (مينا) و(ماريو) عند ساحة (المجمّع)....... لكنّ الأرض بدأتْ تميد والصياح يعلو....
وبعد انتصاف الليل بدقائق بدأ البلطجية يلقون (البمب) والحجارة على الأمن للتحريش...... كنّا نهتف للعسكر ونقول (يا عسكري أنا اخوك..... مش زي ما فهّموك...... يا عسكري ساكت ليه؟.... إنت بتاخد أد إيه؟....)..... هناك من كان يهتف (حضرات السادة الظباط.... روحوا جنينة الحيوانات...... والجنينة مش بعيدة...... ميكروباص بنص جنيه.....)...... وعندما اشتدت وطأة التحريش بدأنا نصرخ من جديد (سلمية...... سلمية....... سلمية)...... لكن البوليس الذي لا يرحم بدأ يرش الماء بكثافة....... وأغرق الميدان بعشرات القنابل المسيلة للدموع........ فامتنعت الرؤية وانقطع النفـَس وثارت المعدة وكادت الروح تزهق........ لولا أن قيّض الله لنا شبابا يحملون الخلّ..... فغسلت وجهي وزال عني وجعي إلى حين....... في العتمة كان العساكر يطلقون الرصاص.... وسقط الكثيرون بين قتيل وجريح....... كان الناس ينزفون بكثرة من الجبين والوجه والرِّجْل...... ورحنا نركض من الميدان حتى النيل...... عبر شوارع جانبية مظلمة......
هل كان نفاقًا؟..... لقد ذهبتُ في آخر الناس..... فقط لأنني غير مسيّس... لقد خرجت أنكر المنكر...... خرجتُ وقد حالت خلاياي خوفًا...... وركضتُ لأنّ جسمي الأعزل أوهن من احتمال الماء والغاز والصفير والهراوات والرصاص...... لقد دسسنا رؤوسنا في المعاطف وركضنا.... وحولنا الناس يسقطون....... هناك خمسمئة الآن يسامون سوء العذاب في معتقلات السفّاح الكفّار حبيب العادلي........
لقد ذهب كل شيء...... الحلم والخيمة والبطانية...... كل شيء ذهب....... لكن نصر الله آت لا محالة...... "ألا إن نصر الله قريب".......... إن موعدكم الصبح........ إن موعدكم الجمعة.......