فارس الشرق
قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) آل عمران
بين سبحانه وتعالى أهم المشتهيات التي يحبها الناس، وتهفوا إليها قلوبهم، وترغب فيها نفوسهم، فأجملها في أمور ستة.
أما أولها: فقد عبر عنه القرآن بقوله: (من النساء) ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شيء فطري في الطبيعة الإنسانية، ويكفي أن الله قد قال في العلاقة بين الرجل والمرأة (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) وقال تعالى - في آية ثانية (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) وإن بعض الرجال قد يستهين بكل شيء في سبيل الوصول إلى المرأة التي يهواها ويشتهيها والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها هنا وصدق رسول الله حيث يقول: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، ولذا قدم القرآن اشتهاءهن على كل شهوة. و(من) في قوله (من النساء والبنين) بيانية، وهي مع مجرورها في محل نصب على الحال من الشهوات.
واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمراة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغني عن ذكر الطرفين معا، وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة خصوصا في هذا المجال الذي يحرص فيه القرآن على تربية الحياء والأدب في النفوس، ولأن المرأة في هذا الباب يهمها أن تكون مطلوبة لا طالبة. وحتى لو كانت محبتها للرجل أشد فإنها تحاول أن تثير فيه ما يجعله هو الذي يطلبها لا هي التي تطلبه.
وأما ثاني المشتهيات: فقد عبر عنه القرآن بقوله (والبنين) جمع ابن، وهو معطوف على ما قبله، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء لأن البنين ثمرة حب النساء، واكتفى بذكر البنين، لأنهم موضع الفخر في العادة وحب الأولاد طبيعة في النفس البشرية فهم ثمرات القلوب، وقرة الأعين ومهوى ألفئدة، ومطمح الآمال، ولقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يقول: (رب هب لي من الصالحين) وسيدنا زكريا يقول: (رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين) والإنسان في سبيل حبه لأولاده يضحى براحته، وقد يجمع المال من أجلهم من حلال ومن حرام، وقد يرتكب بعض الأعمال التي لا يريد ارتكابها إرضاء لهم، وقد يمتنع عن فعل أشياء هو يريد فعلها لأن مصلحتهم تقتضي ذلك.
وصدق الله إذ يقول: (أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة) وصدق رسوله حيث يقول: (الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة (أى أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت لئلا يصيب أبناءهم اليتم وآلامه، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغي أن ينفق فيه إيثارا لهم بالمال، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه.
أما الأمر الثالث من المشتهيات: فقد عبر عنه القرآن بقوله (والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة) والقناطير جمع قنطار، وهو مأخوذ من عقد الشىء وإحكامه، تقول العرب: قنطرت الشىء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها.
قال الفخر الرازى (القنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: إنه وزن لا يحد. واعلم أن هذا هو الصحيح، ومن الناس من حاول تحديده. فعن ابن عباس: القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية).
ولفط (المقنطرة) مأخوذ من القنطار. ومن عادة العرب أن يصفوا الشىء بما يشتق منه للمبالغة أي والقناطير المضاعفة المتكاثرة المجموعة قنظارا قنطارا كقولهم: دراهم مدرهمة وإبل مؤبلة.
وقوله (من الذهب والفضة) بيان للناطير، وهو فى موضع الحال هنا.
والمراد أن الإنسان محب للمال حبا شديدا، قال (وإنه لحب الخير لشديد) وقال تعالى - (وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما)
وفي الحديث الشريف الذى رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله قال: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب (والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقالت السيدة - عائشة - رضي الله عنها - (رأيت ذا المال مهيبا، ورأيت ذا الفقر مهينا (وقالت: (إن أحساب ذوى الدنيا بنيت على المال).
وإنما كان الذهب والفضة مبحوبين، لأنهما - كما يقول الرازى - جعلا ثمنا لجميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء (وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذى هو محبوب لذاته - وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب - لا جرم كانا محبوبين).
وأما المشتهيات الرابعة والخامسة والسادسة فتتجلى في قوله (والخيل المسومة والأنعام والحرث).
ولفظ الخيل يرى سيبويه أنه اسم جمع لا واحد له من لفظة ، بل مفرده فرس فهو نظير قوم - ورهط ونساء . ويرى الأخفش أنه جمع تكسير وواحده خائل ، فهو نظير راكب ، وطائر وطير . وهو مشتق من الخيلاء لأنها تختال في مشيتها .
والمسومة : أى الراعية في المروج والمسارح . يقال : سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى . أو المطهمة الحسان ، من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة .
والخيل كانت وما زالت زينة محببة مرغوبة ، مهما تفنن البشر في اختراع صنوف من المراكب برا وبحرا فمع وجود هذه المراكب المتنوعة ما زال للخيل عشاقها الذين يعجبهم ما فيها من جمال وانطلاق وألفة . ويقتنونها للركوب والمسابقات . . . { والأنعام } جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم . ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها .
والأنعام فيها زينة . والإنسان في حاجة شديدة إليها في مركبه ومطعمه وغير ذلك . قال - تعالى - { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم } و { والحرث } مصدر بمعنى المفعول أى المحروث . والمراد به المزروع سواء أكان حبوبا أم بقلا ، أم ثمرا إذ من هذه الأشياء يتخذ الإنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته .
تلك هى أهم المشتهيات في هذه الحياة إلى نفس الإنسان قد جمعها القرآن في آية واحدة ، وقد اختصها - سبحانه - بالذكر لأنها أوضح من غيرها في الاحتياج إليها والتلذذ بها ، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية أم روحية ، أم مالية ، أم غير ذلك من ألوان المتع ، ومن مستلزمات الحياة .
منقول عن التفسير الوسيط لطنطاوي