منذ زمن غاب حِسُّه عن حيه وعن الأماكن التي تعود ارتيادها في حيه وفي غير حيه، ومع غياب حسه غاب ذكره....منذ سنوات هي ذي حاله ....
تساءل الجمع من جيران وأًصدقاء وأحبة عن سر غيابه .... وتناقلوا أخبارا عن أبنائه تقول أنه قد اعتزل الشارع واعتزل كل مكان إلا من بيته الذي يؤويه ....
عمي سعد ذلك الرجل الطيب الرزين، بائن الطول، هادئ القسمات، ذي الهيبة والمسحة الطيبة .... ذلك الرجل الذي لم يُعرف عنه سوء أو ذكر سوء ....
ذلك الرجل الذي لم يؤذ أحدا من جيرانه يوما وهو الذي فاق عمره الثمانين .... عمي سعد البناء .... والبيوت المجاورة لبيته دليل صنعته وإتقانه .... عمي سعد الذي بنى بيتنا العلوي ....والذي بنى للجار بالجنب بيته كله .....
ذكريات تطوف كما الخيال، كما السراب كانت في إحدى حلقاتِها المحكمات طفلة غريرة تعدو بين أطراف الحي الذي كان عمي سعد واحدا من أناسه، واحدا من الذين يفتر مبسمهم لتلك الطفلة كلما لقيها .... فتنطبع الابتسامة في خلدها ختما لا ينمحي أثره، بل يعود أول ما تعود الذكريات يتصدرها وقد كان عنوان الطيبة والسماحة في عمي سعد .....
ذكريات تطوف كما الخيال تعيد للبال وجها صبوحا وطلعة مهيبة هادئة لرجل كل قسمات وجهه كانت توحي بالرجولة ....
تقفز الحلقة تلو الحلقة في سلسلة ذكرياتها القديمة البريئة تلك الطفلة التي كانت ....فإذا عمي سعد ذاك الجار الوقور الطيب الذي كان والدها الحبيب يطيل إليه الحديث، بل يحب أن يحادثه حديث الرجل للرجل .... كان حديثهما محببا إليها وإن لم تكن تفقه منه شيئا، المهم أنه عمها سعد الطيب الذي ترتاح إليه كما يرتاح إليه والدها الحبيب .....
وتمر الأيام بركامها ومنتظَمها .... وتكبر الطفلة وتكبر وتثقل نظراتها التي كانت بالأمس القريب نظرات سائحات كيفما وقعت وقعت وكيفما كانت كانت لا عتب عليها ولا لوم ولا شبهة، فقد كانت بريئة مبرأة مُطلَقة العنان في غير احتراز ولا خوف...وكأنما الطفولة معنى من معاني الحرية أو كأنما الحرية معنى من معاني الطفولة....وعندما كبرت لم تعد ترى عمها سعد إلا كما تقع العين خطأ في أحدهم ... فتقفز بين ناظريها تلك الذكريات ....
غاب عمي سعد عن الحي وغاب ذكره عنه، منذ خمس سنوات مكث ببيته ....وأولاده الذين تزوج الفتى منهم والفتاة، ولكل أصبحت أسرة صغيرة أو كبيرة، بل إن منهم من أصبح جدا وقد زوج أبناءه، وأصبح عمي سعد أب الأجداد .... !!!
توفيت عنه زوجته منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاما ولم يبق من أبنائه من يقوم عليه وبشؤونه كما كانت تفعل زوجته، فكل منشغل ببيته وأبنائه -وإن اقتطع من الوقت له- إلا أنه يحتاج من يلازمه ومن يكون له الستر واللباس عند الحاجة وقد ضعفت قوته وخلا جانبه من أنيس يلازمه أحواله .... فتزوج من جديد لا لشيء إلا ليستأنس ويستتر، ولكن الله شاء أن تصبح له أسرة صغيرة جديدة على كبر، فأنجبت له الزوجة الجديدة ثلاثة من الأبناء أصغرهم طفلة لم تجاوز السنوات الأربع.... سبحان الله تلك الطفلة الصغيرة أخت صغرى لإخوة لها من أبيها هم الأجداد الذين لهم من الأحفاد من يفوقها سنا ....!!
بالأمس القريب... القريب جدا .... اجتمع حول بيت عمي سعد الطيب رجال بوجوه متجهمة، وأصوات من داخل بيته تتعالى لنسوة ينتحبن ... ينتحبن .... ينتحبن الأب العطوف الرؤوف...كلهم أب أو أم بل والجد منهم والجدة، ولكنهم جميعا ينتحبون أبا لهم طعن سنه ولكن قلبه المغمور بالإيمان شاب في طاعة ربه وحبه وقربه .....
بالأمس القريب جدا.... منذ أيام قليلة تعالت أصوات البكاة ..... من كل عمر .... وأحاط ببيت عمي سعد -ملاذه الأخير منذ سنوات- الجارُ والقريبُ والحبيب والصديق القديم منهم والجديد ....
كلهم يذكرون العم سعد.... فمن يذكره وقد عرفه في كل مراحل عمره، ومن يذكره وقد عرفه شيخا كبيرا، ومن يذكره صديقا صدوقا .... والكل اشتركوا في أنه العم سعد الطيب الذي لم نعرف عنه ما خرم مروءته، ولا ما عاب شيبته، ولا ما ندّى له جبينا ولا ما جعله مكروها منبوذا ......
ابنته الكبرى بِداره من أبنائه تبكيه كما يبكي الصغير، لم تعد تبدو تلك الجدة وهي التي تردد : "أبتاه الحنون....أبتاه الحنون " تبكي وكأن كلمتيها دمعات مع دمعاتها الحراقات ..... وإذا ما هدأت أخبرت عنه وعن آخر ما كان منه معها .... وبجوارها شقيقتها التي تصغرها ببضع سنين، تبكي بكاءها ولبكاء شقيقتها الكبرى، وتصنع ما تصنع من غير تقليد ولا محاكاة، بل هو قلب آخر من تلك القلوب الحبيبة القريبة تذكر عنه هي الأخرى آخر ما كان منه معها ......
أبي الحبيب لقد اعتزل الشارع والحي منذ خمس سنوات لا لعلة به أقعدته، ولكن كان إذا ما سئل عن سر اعتزاله أجابنا : بنيتي وما يخرجني ؟؟ وإلى أين أذهب أإلى مكان أجتمع فيه بمن يغتاب فأغتاب معه أو أنصت لغيبة ؟ ألعمل فارغ لم أعد أطيقه ولم أعد أطيق أن يلطخ صفحتي التي أبحث لها عن كل ما يمحو خطاياها ؟؟
إلي بمصحفي .... إلي بقريبي وحبيبي وبكلماته ......
ذاك هو قريبه وحبيبه الذي لازمه طيلة أيام سنوات عزلته، لم يكن عمي سعد عالم دين، ولم يكن شيخا داعيا لله، ولم يكن مجازا في قراءة من القراءات، ولم يكن على درجة من العلم .... بل قد كان بناءا بسيطا .... عرف من اللغة حروفها وأشياءها البسيطة فلازم القرآن ولازمه القرآن .....
أبي الحبيب -والدمعات هطّالات - كان وجهه منيرا كالبدر وهو يقو ل : انظروا ألا ترونهم ؟؟ وصاحب العمامة البيضاء ...ذاك معلمهم وقائدهم جميعا ...والابتسامة تعلو محياه ...لم يكن أحد سواه يرى هؤلاءالذين استبشربرؤياهم وهو على عتبات الفراق .....
أبي الحبيب لقد ختم القرآن الكريم في الأيام الخمسة الأخيرة من عمره .... ذاك صاحبه وقريبه وحبيبه الذي لم يعد يفارقه .....
وإذا بالأخرى تنفجر باكية ، ابنته التي تصغر الكبريات سنا .... أبي الحنون ....أبي الحنون لقد بكاه الجميع ...الجميع يبكيه وينعيه، الجميع يذكره بخير الذكر ....
زوجته الثانية أم الطفلة شقيقة الأجداد ..... تقول : لقد كان زينة هذا البيت .... لم يكن يتعب أحدا ولم يكن يشقي أحدا معه ....
أبي الحبيب ..... كان إذا أغضب أحدنا عاد واستسمحه كما يستسمح الصديق صديقه .....
هكذا كان عمي سعد وهكذا كأنه لم يكن ...... هكذا حلّ في هذه الدنيا ...وهكذا ارتحل .....وجهه المنير بدرا من فعل مصاحبة القرآن الكريم ظل منيرا إلى آخر رمق له في هذه الدنيا .....لم يكن عالما ولا معلما ولكنه كان البسيط الصادق المحب الذي اختار لنفسه عزلة عرف أنها حله لأواخر سنين عمره حتى لا يزيد صفحته إلا نقاء وطهرا، وحتى لا يزيدها ذنبا سعى حثيثا للفكاك منه والخلاص .....
هكذا كان عمي سعد وكأنه لم يكن في هذ الدنيا .... ولكن كينونته هناك هي التي ستبقى وتستمر ....كينونته هناك في تلك الدار الآخرة الخالدة وسعادته هناك هي معنى السعادة لعمي سعد ..... رحمه الله وغفر له ذنبه وجعل القرآن أنيسا في قبره وشفيعا له يوم القيامة ....وتغمدنا بواسع رحمته يوم نصير إلى ما صار إليه ....
ساعتها هل من فعل يشفع لنا، فتستنير به وجوهنا وقلوبنا قبل النهاية وبعد النهاية بداية الحق والحقيقة ؟؟؟؟!!!