تلخيص الحلقة الأولى من "شاهد على العصر مع سعد الدين الشاذلي " رئيس أركان القوات المسلحة المصرية سابقا
"مصر في عهد الملك فاروق- حرب 48"
ما الذي جذبك في الكلية الحربية؟، البزة والمظهر العسكري أم طموحك لتحرير مصر وتطلعك لدور عسكري في ذلك؟الشاذلي: كان الطموح لخدمة البلد، خاصة مع التفات القيادة لتكبير الجيش، ومع غليان مصر بالحركات الوطنية آنذاك،رغم سيطرة الاحتلال الإنجليزي إلا أن الفرصة كانت تبدو أكبر في الكلية الحربية لخدمة الوطن .
ألم يجذبك أي تيار من التيارات السياسية التي كانت تموج بها القاهرة في تلك الأيام ؟الشاذلي: لا، ولم أنضم إطلاقا إلى أي منها، ولكن كنت أتابع أخبارهم.
دخلتَ الكلية الحربية عام 39، وتخرجت كملازم ثانٍ خلال عام ونصف، وانضممت عام 1940 إلى الحرس الملكي، فهل كان يختلف عن الجيش حينها؟الشاذلي: كل ضباط الحرس الملكي كانوا يُنتدبون من الجيش أصلا ، واختِرت للحرس الملكي ،ومكثت فيه حتى عام 1949، يعتبر ميزة للقوات المسلحة، كان دورهم حراسة الملك والقيادة السياسية الممثلة في الملك، الذي كان محبوبا جدا لدى الجماهير، ولم نكن نعلم الكثير مما كان يشاع عنه من فساد، وأظن أنْ كانت فيها مبالغات ، كان يمثل لنا الملك رجلا وطنيا لمعاداته للإنجليز.
كيف كان شعور البريطانيين تجاهكم وهم قادتكم الفعليون ؟الشاذلي: ما كان يميز الاستعمار البريطاني عن الفرنسي أنه كان يسيطر على الرؤوس ولا يتدخل فيما تحت ذلك، فكانت لنا حرية التعبير عن آرائنا، وكنا ننتقد الإنجليز بحرية ونشتمهم...لم يكن هناك قمع .
شهدت تلك الفترة عمليات قتل كثيرة لجنود بريطانيين، هل كانت من تنظيمات سرية داخل الجيش؟ أم من تنظيمات سياسية ؟الشاذلي: كانت تنظيمات مدنية بمشاركة بعض الضباط ،وعلاقة ضباط الجيش بالتنظيمات المعادية للإنجليز كانت قائمة في الأربعينيات وازدادت أكثر بعدها.
أسّس الملك في ذلك الوقت ما عُرِف باسم "الحرس الحديدي" للرد على هذه التنظيمات السرية، فهل كانت لك به علاقة؟الشاذلي: لم تكن لي به أدنى علاقة .
هل كان معيبا الانتماء لهذا الحرس؟الشاذلي: بحسب فعل الحرس الذي قتل من كان ضد الإنجليز مثل "أمين عثمان" والذي كنا نعده عميلا للإنجليز، أما تصفية الزعامات السياسية فهذا خطأ، ولم يكن هناك من سبيل لمعرفة بعض هؤلاء تحديدا، فالنقراشي قيل أنه صفي من الإخوان، وكذلك أحمد ماهر، وكان الرد بقتل حسن البنا .
في عام 1947 صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وكان تمهيدا لقيام حرب 48، هل كنت على إدراك ووعي بالمؤامرات التي كانت تحاك وتدار ضد فلسطين؟ماذا كان فهمك للقضية ساعتها؟
الشاذلي: إلى حد ما،حسب ما كان متاحا يومها من معلومات، كان هناك رفض كامل للتقسيم، وكنا نهتف ضد وعد بلفور، فكنا نصدق كل زعيم سياسي كان ضد التقسيم .
هل كنت تتوقع قيام حرب 48 عام 47 ساعة إعلان التقسيم ؟
الشاذلي: كنا نتخيل حربا أهلية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أما حرب بقوات وجيوش عربية، فلم نتخيلها إلى أن حدثت فعلا.
ماذا كان شكل الحرب وماذا كان انعكاسها ؟
الشاذلي: قبل الحرب بفترة عقد مؤتمر بـ "إنشاص" بمصر، برئاسة الملك فاروق حضره رؤساء الدول العربية، وتم الاتفاق على دخول الحرب،والجيوش التي دخلت فلسطين في ذلك الوقت المصري، والسوري والأردني واليمني والسوداني واللبناني .
وكنت أيامها في الحرس الملكي، فطلبت من القائد إعفائي من الخدمة في الحرس وأن أعود للجيش للمشاركة في الحرب، فتحيّر من طلبي وغضب، وما أن مرت ساعتان، حتى جمع كل الضباط لإعلان قرار الملك بمشاركته في الحرب بسَرِيّة من الحرس الملكي على أن تضم متطوعين، فكنت منهم ، وذهبنا إلى فلسطين .
كيف كان تقييمك لمسار الحرب؟ هل شعرت أن وضع الجبهة لم يكن في صالح العرب؟الشاذلي: وأنا في تلك الرتبة الصغيرة لم يكن لي ما يؤهلني لحسن التقييم، لأن ذلك يحتاج إلماما بالموقف، ولكن من وجهة نظر تاريخية كمحلل، أجد أن حرب 48 من حيث المشاركة العربية لم تعادلها في ذلك إلا حرب 73، لم يحشد المجهود العربي بتنسيق وتآلف بمثل ما كان في حرب 48.
هل كانت القوات الإسرائيلية أقوى عدة وعتادا ؟الشاذلي: أجل بكل أسف، لأن الجيوش العربية آنذاك كانت قد أعِدّت للأمن الداخلي وللحفاظ على الأنظمة لا للقتال، ففوجئنا بهذه الحرب دون أن تكون الجيوش العربية مدربة عليها، الجيش كوادر تتعلم ممن قبلها، فمِمّن نتعلم نحن ؟
طيب ماذا تعلمتم أثناء دراساتكم الحربية ؟الشاذلي: كنا نتعلم على ورق ... !
طيب الجيوش تضع دائما عدوا مفترضا، هل كان أمامكم عدو مفترض ؟الشاذلي: لا ، كانت دروسنا كلها نظرية .
لم تتدربوا على الدروس عمليا ؟ حتى بعد تخرجكم ؟ !!الشاذلي: إطلاقا ، حتى بعد تخرجنا .كان على البندقية والرشاش كل تدريب جيوشنا العربية، إضافة إلى اعتمادنا على الجيش النظامي، الجيوش العربية كلها في 48 كان تعدادها مجتمعة 40ألف، بينما كان اليهود 100ألف فيما كان عدد اليهود الكلي لا يزيد عن 300ألف !!...كان جيشهم شعبيا حسب ما جاء في التوراة عندهم، وكذلك الإسلام لا يحدد سنا للجهاد. واعتمدت الدول العربية على الجيوش النظامية، وقليل من المتطوعين بقيادة المرحوم أحمد عبد العزيز في القطاع جنوب القدس و الذين أدوا دورا مهما .
اليهود لعبوا لعبة خبيثة أثناء الحرب العالمية الثانية ، كانوا يلعبون على طرفين، طرف منهم كان يلعب مع الحلفاء، حتى أنهم شكلوا لواء يهوديا قاتل مع الحلفاء، اكتسب خبرة قتالية ، فلما قامت حرب 48 كان هذا اللواء نواة "الهاجاناه" الذي كان أساس الجيش الإسرائيلي يومها زيادة على غيره من الفصائل، أما نحن فلم يكن لدينا استعداد للحرب، أضف إلى ذلك أن كل الدول العربية آنذاك كانت ترزح تحت نير الاحتلال،بريطاني في مصر، فرنسي في سوريا وفي لبنان وفي العراق وفي الأردن، كل الدول العربية كان هذا حالها، كان العرب مقيدين، ولكن رغم ذلك حشدوا ما كان بقدرتهم .
هل كان هناك استعداد فعلي للحرب ؟ أم كانت حشودا لذر الرماد في العيون؟ أو لتحقيق نصر عسكري إسرائيلي من خلال حرب لم تتم أصلا وكانت فيها خيانات كما ورد في عدد من كتب التاريخ ؟
الشاذلي: القيادات السياسية والعسكرية العليا أفهمتنا أن هؤلاء اليهود عصابات، وبمجرد دخول الجيش العربي سينتهون بسهولة،فتبين أن الحقيقة غير ذلك، كانوا مدربين تدريبا عاليا، ويملكون أسلحة متفوقة، رغم أنه لم يكن لديهم طيران بينما كان للمصريين طيران حربي، كانوا يدرّعون سياراتهم ودباباتهم الحربية، فلم تكن البندقية والرشاش سلاح العرب يقوى على اختراق تلك الدروع المانعة لنفوذ الرصاص، وكانت سياراتهم المدرعة بأعداد كبيرة جدا، بين 400 و600 سيارة، كانت أرقاما رهيبة قياسا إلى القدرات الحربية المتاحة عام 48 .
يعدد أحمد منصور عوامل قوة الإسرائيليين :
أي كانت لهم جاهزية تامة للحرب :1- التدريب العالي.
2- المشاركة في الحرب العالمية الثانية بغرض التدريب على الحروب ومواجهة العرب.
3- استغلال الطاقات المتاحة لهم واستخدام وسائل أفضل للمواجهة .
4- دراسة حالة الخصم (أي العرب) وتقدير ما لديهم من سلاح وكيفية مواجهته .
بالمقابل كيف كانت حالة الجيش العربي ؟الشاذلي: العرب :
1- جيوش نظامية
2- جيوش غير مدربة على القتال، لم يكن بينهم جيش حارب من قبل .
3- خبرتهم القتالية محدودة، إذ كانوا يتعلمون الحرب من خلال أخطائهم الآنية .
4- لم يكن لديهم تحكم بسلاحهم .
5- اشتروا السلاح من السوق السوداء .
أمريكا وروسيا أيد كل منهما قيام إسرائيل في حينها، من أين إذن يقتني العرب السلاح لمحاربة إسرائيل التي اعترف بها كل منهما ؟ لم يكن أمامهم إلا اللجوء للسوق السوداء لاقتناء أسلحة مخلفات غير مضمونة، ليس لهم الحق في اختبارها، فتفوق العدو في :
1- السلاح .
2- في العدد
3- في التدريب .
إذن فلهذا أثير سبب الأسلحة الفاسدة ؟ ما مفهوم الأسلحة الفاسدة لأجيالنا ولما بعدها ؟الشاذلي : بلى كانت هناك أسلحة فاسدة ولكن كانت هناك مبالغة كبيرة في تعليق خسارة الحرب عليها، ومن المفهوم المغلوط لفساد السلاح عدم إدراك الجيوش العربية يومها لتقنيات جديدة تعمل وفقها بعض الأسلحة، فلما تشذ آلية عملها المرئي أثناء الحرب عما تلقوه نظريا من عمل السلاح، يحكمون على السلاح بالفساد، وهذا لم يكن حكما صحيحا، بل كان جهلا من طرفنا بالأسلحة الجديدة وآلية عملها . كانت حالات فردية ولم يكن سببا عاما ،
لا يجب أن نعزو الهزيمة إلى فساد السلاح بل إلى ما ذكرنا من حيث التفوق العددي والعتادي والتدريبي .هل كانت حرب العصابات لا تواجه إلا بحرب عصابات مقابلة ؟ فلو تم تسليح الفلسطينيين للعمل على حرب العصابات؟ أم أن الجيوش العربية كان بيدها أن تؤدي عملا متميزا على الأرض ؟الشاذلي: لم يكن بإمكان الجيوش العربية تقديم أكثر مما كان منها، لم تكن مؤهلة، ولا شكّ أن حرب العصابات أكثر تحررا من حرب الجيوش النظامية التي تتقيد بالأرض فيحدّها ذلك وتصبح مكشوفة للعدو .بينما العمليات الفدائية حرة، وتنتقل من مكان لمكان آخر، وبالتالي فإن هزيمة حرب 48 لا تعود لسبب فساد الأسلحة، وإنما هو تحميل النتيجة لسبب واهٍ ...بل كان السبب تفوقهم عددا وعدة وتدريبا .
في أي درجة تضع حرب 48 في التاريخ العربي الحديث ؟الشاذلي: كانت بداية ....فمجرد تحدي القيادات العربية آنذاك للاحتلال البريطاني والفرنسي الجاثم على صدور العرب ، ودخول الحرب، فهذا كان قرارا جريئا كسر حاجز الخوف والتردد .
كانت هناك اتهامات تاريخية لبعض الزعامات العربية أنها ساعدت الإسرائيليين بعلاقات خاصة معهم في عملية التمكين لهم وقيام دولتهم .الشاذلي: هذا حقيقي، وكان في الماضي وما يزال موجودا في الحاضر، ولا ضمان لعدم وجوده مستقبلا، مادام هناك انتهازيون يقيسون هذه الخيانات بالكسب الشخصي المستقبلي .
ماذا كانت مشاعرك بعد العودة من الجبهة كعسكري في أول حرب خضتها ؟
الشاذلي: حرب 48 لم تكن هزيمة ....
يقطعه أحمد منصور أن
كيف وقد ولدت أرض طفيلية على ظهر أرض أصيلة؟الشاذلي: الحرب فيها جانبان سياسي وعسكري، استغلال العدو للقوى الدولية المساندة، والتهييج الدولي من القوتين الكبريين في العالم، أمريكا وروسيا، إذ كان التعضيد الغربي لإسرائيل عائقا دون عمل العرب، العرب كانوا يحاربون إسرائيل وإذ بالقوى الغربية تعترض للعرب وتضربهم مع إسرائيل ... ! فلكل جيش طاقة، وتكليفه بما لا يطيق خطأ من كلفه وليس خطأه ...
الهزيمة تكمن في أن الإسرائيليين احتلوا أكثر مما حدد لهم في التقسيم، ولا مقارنة بين اليوم و48، فاليوم ومع معاهدات السلام أشد وطءا من 48، إذا كنا نريد إدانة 48، وانتقادها فعلينا أن ندين ما نحن عليه اليوم أكثر بعشرات المرات ، 48 كانت أحسن من أيامنا هذه بكثير .
بشفافية 48 نهايتها أن اليهود أخذوا أكثر مما حدد لهم في التقسيم، ويعتبر خروج العرب منها نجاحا معقولا بين الانتصار والهزيمة ...
يقطعه أحمد منصور أن
هذا مفهوم جديد للأجيال !!فيرد : لا أقول أنها نصر، ولا أنها هزيمة، بل بين بين، والنصر في أن الأراضي العربية لم تؤخذ كلها، لو لم يدخل العرب لأخذوا فلسطين كلها، وقوتهم كانت تسمح بذلك، فكان دخول 45ألف من الجيوش العربية إضافة للمتطوعين، حائلا دون أن يتمادوا ويأخذوا كل فلسطين، الأسلوب اليهودي يختلف عن غيره، فمثلا عند دخوله قرية يذبح 300 فرد فيها، فيؤدي ذلك إلى هروب كل القرى المجاورة وهجرتها ،هذا هو الأسلوب اليهودي، هم تربوا في كنف الاستعمار البريطاني، بينما لا توجد أي قوة فلسطينية مدربة كبوليس أو كجيش للتصدي لهم ، فلم يكن ما يمنعهم من احتلال كل فلسطين لولا دخول الجيوش العربية .
-------------------------
وتابعونا مع تلخيص للحلقة الثانية