أميرة محمد محمد محمد
في اليوم السابق لسفري إلى رحلة الحج هذا العام نزلت خصيصا لشراء دفتر صغير ، دفتر ضئيل ، فقط لتدوين مشاهدات الحج ، و كأني هكذا سأهرب بها للأبد من توحش النسيان ،،
و حين امسكت القلم لأبدأ الكتابة ، وجدت أن ما يضطرب بالداخل من تأثير الخارج ، أكبر من أن ينزلق بهدوء عبر فوهة حبر واحدة ،،
كيف يمكن ليد إنسان بكل عجزها عن الاتيان بما لم يتزل قبلا من بيان أن تصف هذه النسمات ، الجلوس في ساحة الحرم ، التأمل في الوجوه المختلفة ، و الانتباه إلى الحقيقة الغائبة ، كل هؤلاء الأغراب انبثقوا من رجل و امرأة و تفرقوا كل مفرق ثم جمعتهم جمعا أخوة الدين ،
تقف بين كل هذا الزخم و رأسك يكاد ينفجر من اللغات التي تطرق أسماعك أول مرة ،
تذكر حديث الحبيب عليه الصلاة و السلام حين سأله أحد الصحابة كيف سيحاسب الله البشر يوم القيامة في وقت واحد ، فأجاب الرسول بكلمات بديهية و صعبة في آن واحد : بأنه سيحاسبهم جميعا في وقت واحد كما يرزقهم جميعا في وقت واحد ،
حتى ذهابي إلى الحج لم أفهم أبدا عبقرية الإجابة خاصة أني كنت اعتقد بسخافة تامة أن الرزق عملية ميكانيكية ، تطلب من الأرض فيتنزل من السماء ، حتى شاهدت الابتهالات و التوسل و المناجاة و العتبى و الاستغفار و الحب و الدموع و الخوف و الرجاء و تنوع الطلب و تموج العطاء من ملايين البشر ، يدعون في صعيد واحد ، رب واحد ، بألسنة لا حصر لها و لهجات لا خالق لها إلا إله ،،
كيف يمكن لقلم بعد كل هذا أن يمتلك ناصية التدوين ،
كيف يمكن للسان مهما بلغت بلاغته أن يصف رونق اليقين المتسربل في الأجساد الفقيرة المتعبة التي لا تملك ذهب الفنادق و لا كنوز النفط ، حين تتمدد نائمة بساحة بيت الله ، لا غطاء عليها إلا رحمته و لا وسائد تحتها إلا عطائه ،
الأجساد المشعثة المغبرة القادمة حبوا و زحفا يحركها الحب لعل من يتوجهون إليه ، يبتسم لهم و يرضى ،
كيف يمكن توصيف هذه العاطفة الغزيرة لسيدنا إبراهيم و أنت ترى في ذهول روعة تحقق دعوته التي دعاها يوما منذ آلاف السنين "بأن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إليها"،
أي كرامة هذه كانت بينك و بين الله يا خليل كي يحقق دعوتك بمثل هذا النور ،،
السماء المكية بنجومها و قمرها المكتمل ليلة التمام ، المآذن العالية التي تهزم في جلال كل محاولات الملوك لتشييد بروجهم لإطفاء هيبتها ، العائلات المتناثرة بأطفالهم و ألعابهم و أحلامهم و لحظة تجمعهم على دقائق الأكل البعيد عن المطاعم الفاخرة ،
كيف يمكن لإنسان أن يحتمل كل هذا و لا يتفتت من فرط الجمال ، كيف يمكن لقلب أن يحوي هذا الكون الصغير و كأننا نطالب ذرة رمال باستنشاق الربيع المؤيد بشلالات الورود ،
رغم كل شئ حاولت اقتناص بعض هذه الأنشودات و نظمها في سطور تصلح للكتابة لكن لا تصلح لتجسيد الحقيقة ،
لعل في يوم من الأيام حين يعيدنا الله إلى هناك ، نتخلص من عبء بشريتنا و نصير طيفا يطبع ما تراه العين و يحويه الشغاف ، و ينشره بين معذبي الأرض ، هدية صغيرة قبل الرحيل ، ربما تشفع لنا حين نقف أذلاء نطرق الباب .
-----------------------
في الحقيقة أعجبتني الخاطرة كثيرا.. فخشيت ان نفقدها بين تراكمات الفايسبوك