..أما قبل،
أعلمَ اللهُ عز وجل آدم عليه السلام وبنيه من بعده أنه سبحانه خلقهم من الأرض واستخلفهم فيها جيلا بعد جيل مكلفين بشرائع إن التزموها عادوا إلى جنة الخلد وملك لا يبلى، وأعلمهم كذلك أنه سيترك الشيطان يعدهم ويمنيهم وأن فريقا منهم سيحفظ عهد الله وميثاقه يوم أعطى الشهادة الأولى في عالم الذَّر وفريقا آخر سيحشر من الشبهات ما استطاع سبيلا فرارا مما توعد الله به من نكث عهده وعصاه واتبع الشيطان وجانب الحق وأهله وناوءهم وناصبهم العداء ورفع عليهم شعار الحرب والبغي.
ولما كان القضاءُ: أن يتتابع الناس من بني آدم في الأرض أجيالا وكان القضاء كذلك أن يكون من كل جيل البرُّ والفاجرُ، وكان الله قد وعد الصالحَ من عباده بالفوز بالآخرة وتوعد الضال بالنكال فيها والجحيم ووعد الأمة من المؤمنين بالنصر في الدنيا وتوعد الظالمين فيها بالهلاك أيضا.
وكانت الأمم كما يقول ابن خلدون أجيالا متعاقبة، تماما، كما آحاد الناس وإن اختلفت أعمارها عن أعمارهم؛ فالناس أفراد يولد الواحد منهم ويحيا ما قدر له ثم يموت فيلقى جزاء ما قدم إن خيرا وإن شرا. أما الأمم فحقبة من الزمن وطائفة من الناس تولد بصحوتهم أو غفلتهم وتحيا ما قدر لها ثم يكون جزاها وفق ما قدمت وبمثل ما عليه نشأت فإن شبت على عدل نمت على خير وإن قامت على ظلم انتهت إلى هلاك.
يعلم التاريخ ذلك علم اليقين كما يعلم الشيخُ الفاني كيف يولد الطفل غضا فتصرفه الأيام والليالي حتى ينتهي كهلا لا يكاد يقوم. كما أخبر التنزيل الحكيم:
"خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً"
وبالمثل أخبر الذكر عن أعمار الأمم كما أخبر عن أعمار البشر فقال في غير موضع :
"فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ..."
وقال كذلك:
"أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ..."
"وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ..."
"ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا..."
"فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ..."
بل لعله – كتاب الله تعالى - أشار إلى العبرة في حياة الأمم أكثر مما فصل في حياة الأفراد، ولما يزل يبشر الصالحين المصلحين " أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ..." وينذر المفسدين " وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيس .."
ولعلك ترى معي هذا الترابط بين حياة الأمم وحياة أفرادها، فكل امرئ يختار في حياته مع أي الأمتين يسلك وأي الطريقين يتخذ .. ولا مناص!
وهو إذ يقرر هذا إنما يحكم على نفسه فقط، إما بالسعادة الأخروية يقينا والدنيوية احتمالا إن اختار طريق الصالحين، وإما بالشقاوة إن اختار طريق الظالمين.
ومع اختياره هذا فهو لا يغير شيئا مما أجراه الله تعالى سنةً في كونه؛ فلن يمنع أن يفوز الصالحون بأخراهم وأن يحرزوا النصر في دنياهم آخر الطريق ولن يُكسِبَ الظالمين خيرا أو يحول دون هلاكهم في النهاية!
إنه ينبغي على كل مكلف أن يعلم أنه حين يختار أي السبيلين يسلك فإنما يختار في النهاية لنفسه أي حال في الآخرة يريد وأي خاتمة في الدنيا ينتظر ولا شيء بعد؛ فبه وبغيره الناجون في منجاهم وبه وبغيره الهالكون في مهواهم. جعلنا الله على خير ما يحب وما يرضى دائما وأبدا،..