من أنتم وماذا تريدون؟ فقال الرسل: نحن رسول قتيبة بن مسلم، وهو يدعوك إلى الإسلام، فإن لم تفعل فالجزية، فإن لم تفعل فالحرب. فغضب الملك، وأمر أن ينصرف رسل قتيبة إلى دار الضيافة، وفي اليوم التالي دعاهم ملك الصين، ثم قال لهم: كيف تكونون في عبادة إلهكم؟ فقام رسل قتيبة وصلوا أمام ملك الصين، فلما ركعوا وسجدوا ضحك منهم الملك، ثم قال لهم: كيف تكونون في بيوتكم، فلبس رسل قتيبة ملابس العمل في البيت، فأمرهم الملك بالانصراف، وفي اليوم الثالث: قال لهم ملك الصين: كيف تدخلون على ملوككم، فلبس رسل قتيبة الملابس الفاخرة والعمائم، ودخلوا على ملك الصين، فقال لهم ملك الصين: ارجعوا، فرجعوا. ثم جلس ملك الصين مع أمرائه فقال لهم: كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا: هذه الملابس التي لبسوها أشبه بهيئة الرجال. ثم أمر الملك بإحضار رسل قتيبة، فلما دخلوا عليه قال لهم: كيف تلقون عدوكم، فشد رسل قتيبة السلاح، ولبسوا الخوذ، وتقلدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وركبوا خيولهم، فلما نظر إليهم ملك الصين رأى أمثال الجبال، ودخل في قلوب أهل الصين الخوف والرعب من رسل قتيبة، فقال ملك الصين لأصحابه الأمراء: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا كهؤلاء قط.
وفي مساء ذلك اليوم أرسل ملك الصين في طلب رسل قتيبة، وقال لهم: ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم، فذهب إليه هبيرة، فقال له الملك: قد رأيتم عظيم ملكي، وليس أحد يمنعكم مني، وأنتم بمنزلة البيضة في كفي، وأنا سائلك عن أمر، فإن تصدقني وإلا قتلتك، فقال هبيرة: سل. فقال ملك الصين: لم صنعتم ما صنعتم من زي أول يوم، والثاني والثالث؟ فقال هبيرة: أما زينا أول يوم فهو لباسنا في أهلنا ونسائنا، وأما ما فعلنا في اليوم الثاني فهو زينا إذا دخلنا على ملوكنا، وأما زينا في اليوم الثالث فهو إذا لقينا عدونا. فقال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى قتيبة، وقولوا له ينصرف راجعًا عن بلادي، فإني قد عرفت حرصه، وقلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم عن آخركم، فرد عليه هبيرة في شجاعة المؤمن وعزته فقال له: تقول لقتيبة هذا؟!! كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه، ولا نخافه.
أعادت هذه المقالة ملك الصين إلى صوابه، وأيقن أنه أمام قوم لا يجدي معهم التهديد ولا الوعيد فاعتدل في كلامه، وقال لهبيرة: فما الذي يرضي صاحبكم؟ قال: إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطي الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها قال: فدعا بصحائف من ذهب فيها تراب وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمان وردهم، ووطئ التراب.
وهكذا انتهت هذه المرحلة من فتوحات قتيبة، التي طوي فيها أقاليم ما وراء جيحون، ثم عبر نهر سيحون، وفتح فرغانة والشاش، وأشروسنه، وكاشغر، وفرض سيادة الإسلام على ملك الصين، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وكان قتيبة قائداً عسكرياً فذا، وبطلاً سياسياً بارعاً، قهر الصعاب وتغلب على كل المشاكل التي واجهته، ولم يثنه عن عزمه لا صعوبة الطرق ووعورتها ولا قسوة المناخ وشدته، فقد كان عزمه حديداً، وكان هدفه رشيداً، وغايته عظيمة، والعون من الله مكفول للمخلصين لهذا الدين العظيم.
يتبع ...