نظرت من حولي فإذا الناس في شغل فاكهون، بين غدوّ ورواح وجيئة وذهاب، وأصوات تعلو، فساعةً تَميز كلمة من جمع كلمات، وساعةً لا تكاد تَميز كلمة على كثرة الكلمات وامتلاء الأفق بالأصوات ...
إذا الرجل الذي تنبيك مشيته، وينبيك خُطوُه أنه يقطع الطريق قطعا يبتغي نقطة الوصول...لا ينظر إلا أمامه ...منشغل عن كل مَن حوله....مسرع....مغذّ سَيْره ، يغالب طول الطريق بعزم قَدَميه مع عزم فكره على بلوغ نقطته ....
كم مرّةَ حدّثت نفسي مذ بدأتْ تعقل نفسي : ليت شعري ! ما أوسع خطوة الرجل قياسا إلى خطوة المرأة !!...إنها لأوسع بكثير وتظنّ المرأة المرافقة لرجل في الطريق أنه يسرع كما هي تسرع ! بل وتلهث خلف خطواته ليكونا على خط واحد ويبقيا مترافِقَين ... ! بينما إذا نظرتْ إليه وجدته يمشي الهُوَينى لا تعب ولا نَصَب... لا لهث ولا سباق ... إنه يمشي مرتاحا ... !!فقط يمشي ... !!
ليت شعري ....ما تُراه السبب في هذه المفارقة العجيبة ؟؟ آه إنها خطوته الواسعة التي لا يبذل معها جهدا إضافيا بينما تلهث المرأة حتى تقطع مع خطواته المسافة ذاتها ....
أتراها شيئا من الأشياء يُعرف ويقرَّر معرفة ونكتفي بصورته الظاهرة ؟؟ أتراها هي الطبيعة الغالبة في كل جنس وحسبها أن تكون الطبيعة ؟ ! أم أنها تحدّثنا بمعاني أخَر ؟؟ أم أنّها تذكرنا بلوعة وآهة حبيسة ...حبيسة كانت أم طليقة ...أسيرة كانت أم حرة بائنة عن قوة فيه ذاك الرجل لم تعد تراها المرأة المؤمنة بربها فيما يجب أن تراها فيه...لم تعد تراها إلا بين طيات الكتب في حكايات الرجال عن الرجال.... !
أم تراها تلك العلة التي تختبئ مع جملة العلل في قلوب الصادقين حرقةً وفي أحلاقهم غصة ....؟؟
أم تراها تلك الصرخة الحرّة التي تكبتها المؤمنة الحرّة تفتقد معتصما... ليس لها على غرار النّاشدات رجالا كيفما كان النشيد !! بل للأمة ................
غاية أمانيها بدمعها الحرّاق المنسكب على جلباب ليلها البهيم مع شحّ من يفهم ومن يعي ومن يقدّر أن تجد من يفهم معنى دمعها أو يعي أو يقدّر ....
أجل ....ما تزال تلك الخطوات عنده أوسع من خطواتها ...وما أراها اليوم إلا أنّها أوسع من خطواتها ...
مازلت أرمق يد الرجل منهم فإذا هي أعرض من يدي ....أغلظ من يدي... وإذا أصابعه أكبر وأضخم من أصابعي .... مازلت أرى قبضة يده أقوى من قبضتي ... !!
كم حدّثتني نفسي وأنا أرى أبي أو أخي يفتح ما استعصى عليّ فتحه ... أرمقه لعلّ حبّات عرق تتصبّب من جبينه وهو يفعل...أو لعلّ حمرة تعلو وجنتيه فتغمر وجهه كلّه وهو يفعل... لعلّ ما قد كان معي وأنا أخاصمها وأعاركها يحدث معه .... لعلّ قوته تخور، ويعلن الاستسلام ويعلي رايته تؤنس رايتي اليتيمة .... لعلّ شيئا من ذلك يحصل معه ...
لا كلّ ذلك ليس بكائن، ولا حاصل معه ... وما كانت مني تلك المراقبات إلا أماني منّيت بها نفسي التي جزمت إ ذ ضعفت أن الأمر جَلَل ولن يقدر عليه كما عليه لم أقدر ....وأمانيّ ما تفتأ يفضحها اعتقادي الجديد السليم أنّ يدي هي الأضعف من يده، وأنّ يده هي الأقوى من يدي، وأنه ما استعصى عليّ ليس عليه بعصيّ ....
أتراها مجرّد حقيقة عرفتها لا تعدو أن تكون قوة أكبر .... وساعدا أقوى.... وقبضة أحكم ... فلا تلقي بظلالها على معاني أخَر .... ؟؟ !
كم حدّثتني نفسي في حلم مستغرق كلما جنّ الليل ووجدتُني بين جدران البيت لا أشذّ عن قاعدة اللَّوذ به كلما حاكت عقارب الساعة ظلمة الليل في سطوتها وأمرها فينا نحن بنات حواء ... !!
كم حدّثتني بعمق الحالم الذي يرى نفسه في الحال وهو أبعد ما يكون عنه ... كم صوّرَتْني أسري بين أكفان الليل السوداء مرفوعة الهامة، واثقة لا أبالي كما لا يبالي الرجل إذ يفعل .... وحدي ليس معي أحد، كما يكون هو وحده ليس معه أحد .... لا يخشى لومة لائم ينعته بسبابة أو وصمة واصم يكبّر ما صنع فهو في اعتقاد الكلّ صغير عادي لا غبار عليه ...لا لشيء إلا لأنه الرجل، ولأنه الأقوى على أن يكون في تلك الحال .... والذي غالبا مالا يخاف على نفسه وهو يسري مع من يسري ....
أما أنا فليت شعري...من أين لي بقوة كقوته تحقّق حلمي !!! فكل ذرة فيّ تعلن ضعفها إزاء قوة ساعات الليل ووقع دقاتها المخيف وأنا خارج حدود بيتي، وأنا بين السماء والأرض لا بين جدران بيتي ....
لم تجرؤ نفسي على الجهر بحديثها هذا لأخي أو أبي لأنها لا تجد قوة في المحاجّة ولا الملاجّة والحال مني ضعف به أقرّ مع حديثي نفسي بالصور والأحلام ..... !!
أتراها مجرّد حقيقة فيه لا تزيد عن كونها حقيقة ، ومجرّد أحلام عندي غثّة لا ترقى لأن تسمن حقيقة ؟؟
أتراها مجرّد حال وطبيعة وفطرة وغالب لا يُقهَر ولا يَتحول ولا يتبدّل ؟؟
أتراه هو الأقوى فهو الأحقّ بذلك الحق من الليل وأنا الأضعف فأنا الأبعد عن الحقّ منه والأقرب للحلم به ؟؟ فلا يزيد عن هذا بمعنى أعمق ولا يزيد عن هذا بوحي أكبر، ولا يزيد عن هذا بهدف أكبر لأجله جعل الله هذا فيه وهذا فيّ .... وجعل حقيقة القوّة فيه وحلم القوّة فيّ ؟؟؟
ألهذا فقط أيها الرجل ؟؟؟