ويرويه أبوها:
إن كل أب يحب أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي... ما صدقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحيانا فأظن إن رن جرس الهاتف، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها، تكلمني مستعجلة، ترصّف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائماً.. كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل.. هذا.. يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله؛ ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام، إن في اللغة العربية كلمات النذالة والخسة والدناءة، وأمثالها، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان، والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها كأن فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا نقطر الدما
ثم داس الـ .... لا أدري والله بم أصفه، إن قلت المجرم، فمن المجرمين من فيه بقية من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه النجستين على التي قتلها ظلماً ليتوثق من موتها، ولكنه فعل ذلك كما أوصاه من بعث به لاغتيالها!!
دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته، قطع الله يديه ورجليه، لا .. بل أدعه وأدع من بعث به لله؛ لعذابه، لانتقامه ... ولعذاب الآخرة أشد من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.
لقد كلمتها قبل الحادث بساعة واحدة، قلت: أين عصام؟ قالت: خبَّروه بأن المجرمين يريدون اغتياله وأبعدوه عن البيت، قلت: وكيف تبقين وحدكِ؟ قالت: بابا، لا تشغل بالك بي، أنا بخير، ثق والله يا بابا أنني بخير، إن الباب لا يفتح إلا إن فتحته أنا، ولا أفتح إلا إن عرفت من الطارق وسمعت صوته، إن هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة، والمسلِّم هو الله.
ما خطر على بالها أن هذا الوحش، هذا الشيطان سيهدد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي، فتطمئن، فتفتح لها الباب.
ومرّت الساعة، فقرع جرس الهاتف وسمِعْتُ من يقول: كَلِّمْ وزارة الخارجية. قلت: نعم.
فكلمني رجل أحسست أنه يتلعثم ويتردد، كأنه كُلِّف بما تعجز عن الإدلاء به بلغاء الرجال، بأن يخبرني ... كيف يخبرني؟!!..
ثم قال: ما عندك أحد أكلمه؟ وكان عندي أخي. فكلّمه، وسمع ما يقول، ورأيته قد ارتاع مما سمع، وحار ماذا يقول لي، وأحسست أن المكالمة من ألمانيا، فسألته: هل أصاب عصاماً شيء؟! قال: لا، ولكن.. قلت: ولكن ماذا؟! قال: بنان، قلت: ما لها؟! قال..، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء.
فهمت وأحسستُ كأن سكيناً قد غرس في قلبي، ولكني تجلدتُ وقلت هادئاً هدوءاً ظاهرياً، والنار تضطرم في صدري: حدِّثْني بالتفصيل بكل ما سمعت. فحدثني ... وثِقوا أني مهما أوتيت من طلاقة اللسان، ومن نفاذ البيان، لن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعت.. كنت أحسبني جَلْداً صبوراً، أَثْبُت للأحداث أو أواجه المصائب، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات!!
علي الطنطاوي