لقد كان علماء الدين دائما في تاريخ هذه الأمة هم قادتها وموجهيها وهم ملجأها كذلك إذا حزبها أمر وملاذها عند الفزع,.. تتجه إليهم لتتلقى علم الدين منهم وتتجه إليهم ليشيروا عليها في أمورها الهامة، وتتجه إليهم إذا وقع عليها ظلم من الحكام والولاة ليسعوا إلى رفع الظلم عنهم بتذكير أولئك الحكام والولاة بربهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وكان العلماء يُضطهدون من قبل ذوي السلطان أحيانا، ويلقون في السجون أحيانا، ويؤذون في أبدانهم وأموالهم وكراماتهم أحيانا ولكنهم يصمدون لهذا كله، تقديرا لمسئوليتهم أمام الله
وكان العلماء دعاة إلى الجهاد كلما حدث على الأمة عدوان ـ يذكرونها بالله واليوم الآخر، وبالجنة التي تنتظر المجاهدين الصادقين، وكانوا يشاركون في الجهاد بأنفسهم أحيانا، بل يقودون الجيوش بأنفسهم في بعض الأحيان.
تلك كانت مهمة علماء الدين والدين حي في النفوس.. وفي التاريخ نماذج عديدة لعلماء أرضوا ربهم وأدوا أمانتهم وجاهدوا في الله حق جهاده، وصبروا علي ما أصابهم في سبيل الله فما ضعفوا وما استكانوا
فأين كان " العلماء " في تلك الفترة التي نحن بصددها من التاريخ؟
هل كانوا في مكان القيادة الذي عهدتهم الأمة فيه إلى عهد ليس ببعيد.. آخره موقفهم من حملة نابليون؟
أم كان كثيرا منهم قد استعبدوا أنفسهم للسلطان ومشوا فى ركابه يتملقونه ويباركون مظالمه فيمدونه فى الغى بينما البقية الصالحة منهم قد قبعت فى بيوتها أو انزوت فى الدرس والكتاب تحسب أن مهمتها قد انتهت إذا لقنت الناس " العلم "
إن" العلم " الدينى الموجود فى تلك الكتب زاد ضرورى لكل متخصص فى علوم الشريعة ، ولكن لا ليقف عنده بل ليجعله مرتكزا ينطلق منه إلى دراسة الحاضر دارسة إسلامية علمية أى النظر فى الحاضر : هل هو مستوف لشروط " الصحة الإسلامية منضبط بضوابط العقيدة والشريعة أم منحرف عنها أم ناقص فى بعض جوانبها ثم تقديم العلاج الإسلامى لجوانب النقص وجوانب الانحراف .
بعبارة أخرى كان واجب العلماء أن " يتحركوا " بهذا الدين و " بالعلم " الذى يعلمونه من هذا الدين لصياغة المجتمع صياغة إسلامية صحيحة ووضع كل من الحاكم والمحكوم فى وضعه الصحيح برد الحاكم إلى الالتزام بشريعة الله فيزول من ثم ما هو واقع فى المجتمع من ظلم سياسى واجتماعى واقتصادى ورد المحكومين إلى الالتزام بأوامر الإسلام ونواهيه فيزول من ثم ما هو واقع فى المجتمع من فساد خلقى وروحى وسلوكى .. أو الجهاد فى سبيل هذا الأمر على الأقل فيتحقق من الإصلاح بقدر ما يخلص الناس نياتهم لله وبمقدار ما يبذلون من الجهد اللازم للإصلاح .
ثم كان واجب العلماء أن " يجتهدوا " بما فقهوه من فقه هذا الدين ليضعوا الحلول الإسلامية المستمدة من مصادر التشريع الإسلامى للمشكلات التى جدت فى حياة الناس . فمهمة الفقه الدائمة هى مد ظل الشريعة بالاجتهاد حتى يغطى كل ما يحد فى حياة الناس وضبط ما يجد فى حياة الناس بضوابط الشريعة لكى لا تشرد بعيدا عن المنهج الربانى الذى أنزله الله ليحكم كل الحياة .
فهل كان العلماء على المستوى اللازم لهذه المعركة الضخمة فى ذلك الحين ؟
وما نريد أن نظلمهم فقد كان منهم ولا شك من صدع بكلمة الحق ومنهم من ألقى بالمنصب تحت قدميه حين أحس أنه يستعبده لأولى السلطان أو يلجمه عن كلمة الحق ومنهم من فكر واجتهد .. ولكنهم قلة بين الكثرة الغالبة التى راحت تلهث وراء المتاع الأرضى أو تقبع داخل الدرس والكتاب على ما فيهما من جوانب القصور .
وحين كانوا كذلك كان قد برز فى الساحة زعماء علمانيون _ صاغهم الاستعمار والغزو الفكرى _ يطالبون بحقوق الجماهير . يطالبون أن تكون " الأمة مصدر السلطات " وأن يكون للحاكم حدود يلتزم بها ولا يتجاوزها وأن يكون هناك " دستور " يحدد اختصاص كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وبرلمان يجمع " ممثلى الأمة " ويكون له وحده حق إصدار القرار.
وينادون فى الوقت ذاته " بالإصلاح " فى كل المجالات : فى مجال التعليم . فى مجال الاقتصاد . فى مجال الخدمات الصحية فى مجال المرافق العامة .
وينادون بإزالة التخلف الذى وقعت فيه الأمة فى كل ميدان .. التخلف العلمى والحضارى والفكرى والمادى.
باختصار يقومون بمهمة " القيادة " التى تقاعس عنها علماء الدين
بالإضافة إلى عنصر آخر يفتقده علماء الدين فى ذلك الوقت هو إطلاعهم على أحوال العالم الحاضرة وإلمامهم بثقافة العصر وتمرسهم ببعض الخبرات العملية على الأقل فى بعض المجالات .
حين كان الأمر على هذه الصورة فأين كان يتوقع أن تتجه الجماهير ؟
صحيح أن الجماهير تبينت فيما بعد أن هذا كله كان أسطورة ضخمة !
أما فى مبدأ الأمر فقد كانت " اللعبة " تأخذ بالألباب يزيد من تزيينها فى أعين الجماهير غياب القيادة الطبيعية لهذه الأمة المتمثلة فى علماء الدين