وفي ديننا أن الطاعة في المعصية معصية أخرى؛ ولقد كان لنا عضرفوط بحاثة في الأديان دراسة لكتبها علامة نقاب؛ فكان مما علمنا: أن المخلوق مبني على النقص إذا هو ماض إلى الفناء، فيجب ألا يتم منه شيء إلا بمقدار، وألا تكون القوة فيه إلا بمقدار؛ ولهذا كان العقل التام في الأرض وهو مجموع العقول العظيمة كلها، وكان أتم الآراء وأصحها ما أثبتت الآراء نفسها أنه أصحها وأتمها. فلا الدين اتبعت أيتها الفيلة، ولا اتبعت فينا العقل، وليس إلا هذا "التفيّل" الكاذب.
فلما سمعت العنز ذلك تنقشت وغضبت، وقالت: إياكم وهذه الترهات من ألسنتكم، وهذه الأباطيل في عقولكم؛ لا أسمعن منكم كلمة الدين ولا كلمة الأنبياء والعضافيط... فذلك وحي غير وحيي أنا؛ وإذا كان غير وحيي أنا فأنا لست فيه، وإذا لم أكن أنا فيه فهو لا يصلح للحكم الذي شرطه أن الدولة ليس فيها إلا أنا واحدة. وذلك إن لم يجعلكم غرباء عني جعلني غريبة عنكم، ما بد من إحدى الغربتين، فهو أول القطيعة، والقطيعة أول الفساد، وما دام في الدين أمر غير أمري، ونهي غير نهيي، وتحليل وتحريم لا يتغيران على مشيئتي, فأنا مجنونة إن رضيت لكم هذا...!
فضحكت "العمامة" وقالت للماعزة: بل قولي: أنا مجنونة بـ"أنا"؛ أفلا يجوز وأنت خلق من الخلق أن يعتري عقلك شيء مما يعتري العقول؟ ولسنا ننكر أنك قوية الرأي في ناحية القوة، حسنة التدبير في ناحية الشجاعة، متجاوزة المقدار في ناحية الحزم والحرص على مصالح الدولة؛ ولكن ألم يقل
الحكماء: إن الزيادة المسرفة في جهة من العقل، تأتي من النقص المتحيف لجهة أخرى؛ وإنه رب عقل كان تماما عبقريا في أمور، لأنه ضعيف أبله في غيرها؛ يحسن في تلك ما لا يحسنه أحد، ويحكم منها ما لا يحكمه أحد، ثم يغلط في الأخرى ما لا يغلط أحد فيه؟
قالوا: فجاشت العنز وفارت من الغضب فورة الجبار، وخيل إليها من عمى الغيظ أنها ذهبت بين الأرض والسماء، وأن زنمتها امتد منها خرطوم طويل، وأن قرنيها انبعج منها نابان عظيمان؛ وقالت: ويحكم! خذوا هذه "العمامة" فاشنقوها؛ فإنها كما قالت؛ تقدمت إلينا بالرأي والحبل...!
وكان في العظاء ضعاف ومهازيل وجبناء، ومأكولون بكل آكل؛ فتشبح
1 لهم أن أنثى الفيل هذه ستخلقهم فيلة إن هم أطاعوها؛ فإذا مردوا عليها فإنها من صرامة البأس بحيث تجعل كل ظلف من أظلافها جبلا فوقهم كأنه ظلة فتسوخ بهم الأرض. ثم أنهم انخذلوا وتراجعوا، وأخذت "العمامة" الصالحة فشنقت، وخمد الرأي من بعدها، وانقطع الخلاف والدين والعقل الحر؛ وأقبلت دولة العظاء على العنز تجرر أذيالها.
قالوا: واغترت الماعزة وأحست لها وجودًا لم يكن، وعرفت لنفسها وهي ماعزة نابهة شأن الفيل القوي، فلجت في عمايتها وكفرت بجنسها، وقالت: لم يخلقني الله فيلة وخلقت نفسي؛ فأنا لا هو...
وثبت عندها أنها ليست بعنز وإن أشبهتها كل عنز في الدنيا؛ وذهبت تقلد وتعيش على مذاهب الفيلة بين العظاء، فإذا مشت ارتجت وتخطرت كأنها بناء يتقلقل، وإذا اضطجعت أنذرت الأرض أن تتمسك لا تدكها بجنبها...!
ومر ذلك الفيل بهذا الخراب مرة أخرى، فلاذت العظاء كلهن بالفيلة.. وتأهبت هذه للقتال، وتحصفت في المبارزة والمناجزة... "والمعانزة" فنصبت قرنيها، وحركت زنمتها، وطأطأت، وشدت أظلافها في الأرض، وثبتت قوائمها، وصلبت عظامها، ونفشت شعرها، وتشوكت كالقنفذ، وأصرت بكل ذلك إصرارها، وكانت عنزا نطيحة منذ كانت تتبع أمها وتتلوها، فكيف بها وقد تفيلت؟
ثم إنها ثبتت في طريق الفيل ليرى بعينيه هذا الهول الهائل... فأقبل فمد خرطومه، فنالها به، فلفها فيه، فقبضه، فرفعه، فطوحها، فكأنما ذهبت في السماء...!
وتهاربت العظاء ولذن بأجحارهن، ثم غدون على رزقهن، فإذا جيفة العنز غير بعيد، فدببن عليها وارتعين فيها، وعلمن أنها كانت ماعزة فيلها جنونها، وأدركن أن الكذب على الحقائق قد جعل الله له حقائق أخرى تقتله، وأن من غلب أمة العظاء على أمرها فليست الأيام والليالي عظاء فيغلبها؛ وأن تغيير المخلوقات، إنما يكون بتحويل باطنها لا بتحويل ظاهرها، وأن الإناء الأحمر يريك الماء محمرا والماء في نفسه لا حمرة فيه، حتى إذا انكسر الإناء ظهر كما هو في نفسه؛ وكل ما يخفي الحق هو كهذا الإناء: لون على الحق لا فيه؛ ثم أيقن أن محاولة إخراج أمة كاملة من نزاعات ماعزة مأفونة، هي كمحاولة استيلاء الفيل من الماعزة...!
قال كليلة: واعلم يا دمنة أنه لولا أن هذه العنز الحمقاء قد كفرت كفر الذبابة، لما أخذها الله أخذ الذبابة.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن ذبابة سوداء كانت من حمقى الذبان، قدرت الحماقة عليها أبدية، فلو انقلبت نقطة حبر في دواة لما كتبت بها إلا كلمة سخف.
ووقعت هذه الذبابة على وجه امرأة زنجية ضخمة، فجعلت تقابل بين نفسها وبين المرأة، وقالت: إن هذا لمن أدل الدليل على أن العالم فوضى لا نظام فيه، وأنه مرسل كيف يتفق على ما يتفق, عبثا في عبث، ولا ريب أن الأنبياء قد كذبوا الناس, إذ كيف يستوي في الحكمة خلقي "أنا" وخلق هذه الذبابة الضخمة التي أنا فوقها؟
ثم نظرت ليلة في السماء، فأبصرت نجومها تتلألأ وبينها القمر، فقالت: وهذا دليل آخر على ما تحقق عندي من فوضى العالم، وكذب الأديان، وعبث المصادفات، فما الإيمان بعينه إلا الإلحاد بعينه، ووضع العقل في شيء هو إيجاد الألوهية فيه، وإلا فكيف يستوي في الحكمة وضعي "أنا" في الأرض ورفع هذا الذبان الأبيض ويعسوبه الكبير
2 إلى السماء؟
ثم إنها وقعت في دار فلاح، فجعلت تمور فيها ذهابا وجيئة، حتى رجعت بقرة الفلاح من مرعاها، فبهتت الذبابة وجمدت على غرتها من أول النهار إلى آخره, كأنها تزاول عملا؛ فلما أمست قالت: وهذا دليل أكبر الدليل على فوضى الأرزاق في الدنيا، فهاتان ذبابتان قد ثقبتا ثقبين في وجه هذه البقر واكتنتا فيهما تأكلان من شحمها فتعظمان سمنا؛ والناس من جهلهم بالعلم الذبابي يسمونها عينين. وأنا قضيت اليوم كله أخمش وأعض وألسع لأثقب لي ثقبا مثلهما فما انتزعت شعرة؛ فهل يستوي في الحكمة رزقي "أنا" ورزق هاتين الذبابتين في وجه البقرة؟
ثم إنها رأت خنفساء تدب دبيبها في الأرواث والأقذار؛ فنظرت إليها وقالت: هذه لا تصلح دليلا على الكفر؛ فإني "أنا" خير منها؛ "أنا" لي أجنحة وليس لها، "وأنا" خفيفة وهي ثقيلة؛ وما كأنها إلا ذبابة قديمة من ذباب القرون الأولى، ذلك الذي كان بليدا لا يتحرك فلم تجعل له الحركة جناحا
3. ثم إنها أصغت فسمعت الخنفساء تقول لأخرى وهي تحاورها: إذا لم يجد المخلوق أنه كما يشتهي فليكفر كما يشتهي؛ يا ويحنا! لم لم نكن جاموسا كهذا الجاموس العظيم، وما بيننا وبينه فرق إلا أنه وجد من ينفخه ولم نجد؟
فقالت الذبابة: إن هذا دليل العقل في هذه العاقلة، ولعمري إنها لا تمشي مثاقلة من أنها بطيئة مرهقة بعجزها، ولكن من أنها وقور مثقلة بأفكارها، وهي الدليل على أني "أنا" السابقة إلى كشف الحقيقة!
وجعلت الذبابة لا يسمع من دندنتها إلا، أنا، أنا، أنا، أنا... من كفر إلى كفر غيره، إلى كفر غيرهما؛ حتى كأن السماوات كلها أصبحت في معركة مع ذبابة.
ثم جاءت الحقيقة إلى هذا الإلحاد الأحمق تسعى سعيها؛ فبينا الذبابة على وجه حائط، وقد أكلت بعوضة أو بعوضتين، وأعجبتها نفسها، فوقفت تحك ذراعها بذراعها, دنت بطة صغيرة قد انفلقت عنها البيضة أمس، فمدت منقارها فالتقطتها.
ولما انطبق المنقار عليها قالت: آمنت أنه لا إله إلا الذي خلق البطة!
-------------------------------
1: أي تمثّل لهم
2 اليعسوب: أمير النحل والذبان ونحوهما، خيل للذبابة أن القمر أمير هذا الذباب الأبيض.
3 إشارة إلى أن الوظيفة تخلق العضو كما زعموا.
---------------------------------
انتهت