و طار عقلي ...
جلست في مقعدي بهدوء ...
فتحت كتابا ...
شرعت أقرأ ...
و بعد بضع صفحات أغلقت الكتاب في إستنكار ...
كان كتاب عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني
و لا أعلم لماذا كنت أقرأ هذا الكتاب عن الفيلم الذي أكرهه من كل قلبي
هل طار عقلي ؟
ياله من سؤال غريب لا يلائم هذا الموقف
ففعلا قد طار عقلي !!
فقد أعلن المضيف إقلاع الطائرة من القاهرة متوجهة باقصى سرعتها الى الدوحة ...
لم يكن مكاني بجوار النافذة كعادتي حين أسافر الى أي بلد
فلا أعلم لما لم أركز في إختيار مكان مقعدي
ربما لإنشغالي بمشروع التخرج وقت الحجز
أو ربما لأني فقدت الإهتمام بالطائرات و السفر عموما
على كل حال
فقد ندمت على ذلك , و كم تمنيت لو رأيت مشهد البلد من فوق
لكن لا داعي لأن أراها , فكم من مرة رأيتها في رحلاتي السابقة
لا يهمني ماذا يقول كتاب عمارة يعقوبيان عن مصر ... و كم من العيوب يسرد حتى صورها بمكمن الجحيم
إن مصر يا رفاق من فوق تبدو و كأنها جنة خضراء ... !!
بنيلها الأزرق الشفاف الذي يتلوى مزينا تربتها بمزارع متدرجة , و بحرها الأحمر الساكن , المليئ بالشعب المرجانيه و أنواع السمك المختلفة , و بحرها المتوسط في الشمال الذي يختلف عن الأحمر ليشكل تنوعا رائعا , فأمواجه عاتيه في كثير من الأماكن بخلاف البحر الأحمر
كل تلك المناظر تستفزني ...
فكيف لتلك الجنة الرائعه أن تتحول الى الفوضى و الهمجية التي نكابدها جميعا يوميا في شوارع القاهرة ؟؟
و كيف لتلك البلد ذات التراث العريق و التي يأتيها سياح من كل مكان أن يكون التعليم فيها سواء كان العالي أو المتوسط أو المنخفض ... تعليما رديئا
أتذكر مبنى عمارة بجدارنه الرخاميه البنيه ... في آخر يوم زرته فيه ... كان في المصعد معي ثلاثة يبدو أنهم يعرفون المبنى جيدا أو أنهم تخرجوا من هنا ثم عادوا بعد سنوات طوال لغرض ما
قال أحدهم بأسف : الكلية باظت خالص ... ده منظر أسنسير
قلت في عقلي : يا ليت الأمر إقتصر على المصاعد فقط...
كنت دائما أشعر أن شيئا غامضا في مبنى العمارة يوحي بأنه كان في يوم من الأيام مكانا عظيما ...
هو ما كان يسرده الكتاب الذي أكرهه كثيرا عن التغيرات التي حدثت في مصر ...
و لكن لماذا بالضبط كنت أقرأ كتاب عمارة يعقوبيان في الطائرة ؟
ربما لأنه ليس كتابي فما كنت لأقتنيه ... فجارتي التي تعشق القراءة و التي تكره مصر كثيرا بعكسي ... قالت عنه أنه كتاب رائع ... فأعطيتها كتابي الذي ورثته عن جدي ( حضارة العرب ) و هو بالمناسبة كتاب رائع لكاتب فرنسي إسمه ( جوستاف لوبون ) يصف فيه بلادنا من النيل الى الفرات
جوستاف لوبون بعكس أغلب المستشرقين , أنصف بلادنا العربيه في كتاباته ... و شرع يسرد مستعينا باسكتشات رسم لمباني تاريخيه
قيمة في مصر و الشام و العراق ... كان يحكي تاريخا تتمنى لو تكون جزءا منه , و يروي قصصا تتمنى لو تعيشها و لو ليوم واحد , و هو من وجهة نظري كتاب مفيد و ضروري لأي دارس للعمارة لأنه أيضا غني بالرسومات القديمة ...
المغزى ... أن كتاب حضارة العرب كان عكس كتاب عمارة يعقوبيان
و قد أهديته الى صديقتي مريم علها تغير وجهة نظرها المتشائمة في مصر و بلادنا العربيه , و هي بدورها أهدتني كتاب عمارة يعقوبيان لكي أغير وجهة نظري المتفائلة عن مصر و بلادنا
... في نظري كانت صفقة خاسرة ... فلو لم يكن كتابي لرميته في أقرب سلة مهملات
فهذا الكتاب يصيب الإنسان فعلا بالغثيان ...
من ألفاظ الكاتب الذي لا يستحي أن يكتب عن أي شيئ !
فقلة الحياء في الفيلم لم تكن من وحي خيال المخرج ... كانت منقولة نقلا عن هذا الكتاب الفاضح ... و أتعجب , أما كان يمكنه أن يكتب نفس القصة بدون هذه الكلمات التي تخدش حياء القارئ ؟؟
لكن شيئا ما في الكتاب جعلني أستمر في القراءة ...
كنت أبحث عن مشهد شاهدته في الفيلم
مشهد عادل إمام ... أو لنقل زكي بك ... مترنح في ميدان سليمان باشا , يكاد يسقط ...... يقف بلا وعي فجأه ... و يصرخ بكل ما تملكه حنجرته من أحبال صوتية
: سألتيني مرة أنا ليه مسافرتش باريس ... عشان البلد ديه كانت أحسن من باريس ... المحلات كانت فخمة ... و الناس كانو محترمين ... الدنيا كانت بخير
و لسخرية القدر , هذا المشهد بالذات لم يكن موجودا في الكتاب ! فهو من تأليف المخرج
و لكن حتى لما لم أجد هذا المشهد ... إستمريت في القراءة ...
ذلك لأني أردت أن أكره مصر ...
أردت أن أكرهها حتى لا أشتاق إليها ...
أردت أن أبرر رحيلي الذي لا أعلم الى متى يدوم ...
أردت ألا أشعر بالذنب ...
فقد درست هنا ... و لبلادي بالرغم من كل الفوضى فضلا كبيرا بعد الله سبحانه و تعالى على تخرجي من كلية الهندسة
و في النهاية أكافئها بالسفر بعيدا!!
فلأكره مصر للأبد
و أي كتاب أفضل في إنجاز هذه المهمة من عمارة يعقوبيان !!
و لكن كان لم يكن الأمر بهذه البساطه ..
حاولت ...
و حاولت ...
و أنهيت آخر فصل...
لكن وجدت قلبي لازال يإن ...
مع وصول الطائرة الى منتصف وجهتها ...
يتبع إن أردتم ...