السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نلتقي أيها الإخوة الكرام الأحبّة اليوم من هذا الأسبوع الجديد الذي كتب الله لنا فيه الحياة، ومع صفحة جديدة نعيش معها أجمل اللحظات وأحبّ اللحظات، ومع درّة جديدة نريد أن نتملّى بحسنها وبوضاءتها، وببريقها المشعّ نورا علينا في الحياة...الصفحة رقم 30 من مصحفنا الشريف من سورة البقرة العظيمة الجليلة، هذه السورة التي أوصانا الحبيب صلى الله عليه وسلم بقراءتها، لأن في قراءتها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البَطَلَة والبطلة هم السحرة ....قدّرنا الله سبحانه، ورزقنا العيش بالقرآن، وللقرآن ومع القرآن .....
وهذه هي الآيات البينات من صفحتنا الغالية :
وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوَهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوَهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ(191) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفَُورٌ رَّحِيمٌ(192) وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ(193) الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ(194) وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ (195)وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ(196)
وقد توقفنا المرة السابقة مع آخر آية من الصفحة 29 وهي تسبقة لما في هذه الصفحة الجديدة وذلك في قوله سبحانه:
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ (190)
وعشنا مع هذه المقدمة ما يسر لنا الله أن نعيش، ونكمل بإذن الله اليوم ، وفي ذات السياق، سياق القتال الذي كتب على المؤمنين، وكيف كتب، ولماذا كتب، وميزاته، وخصائصه، والإنسانية التي اتسم بها هذا القتال، والحكمة التي رنا إليها شرعه سبحانه وتشريعه له....
فقد جاء أمره سبحانه لعباده المؤمنين الذين نكّل بهم وعذّبوهم، وشردوهم وأخرجوهم من ديارهم وهم ينتظرون الإذن بالرد حتى أذن لهم سبحانه في قوله:
"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير" الآية 39 من سورة الحج
ثم كان الأمر بالقتال وكانت من بدايات هذا الأمر الآية 190 من سورة البقرة وهي مقدمة الآ]ات التي بين أيدينا من صفحتنا المشرفة
وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوَهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوَهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ(191)
ثقفتموهم بمعنى وجدتموهم على وجه الأخذ عند إيجادهم، وهو أخذ بحذق وفطنة وخفة ولنتأمل المعنى اللغوي :
ثَقَفَهُ يثقُفهُ ثَقْفًا غلبهُ في الحِذْق وبالرمح طعنهُ.
وثَقِفَ الرجلُ يثقَف وثَقُفَ يثقُف ثَقْفًا وثَقَفًا وثَقَافَةً صار حاذقا خفيفًا فطنًا.
وثَقِفَهُ يثقَفهُ ثَقْفًا صادفهُ أو أخذهُ أو ظفر بهِ أو أدركه والشيءَ ثقافةً وثقوفةً حذِقهُ.
وفي سورة البقرة وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ قيل أي حيث وجدتموهم في حلٍّ أو حرمٍ. وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيءِ علمًا أو عملاً فهو يتضَّمن معنى الغلبة ولذلك استُعمل فيها قال الشاعر
فإما تثقفـوني فاقتلوني **** فإن أَثْقَف فليسَ ترونَ مالي (1)
وهذا أمر إلاهي لقتل المشركين حيثما وجدهم المؤمنون في حلّ أو حرم، وأن يخرجوهم من حيث أخرجوهم، ويعني بها مكة التي أخرجوا منها، واضطهدوا فيها حتى أخرجوهم منها يبحثون عن ملاذ للدعوة....
والفتنة أشد من القتل
إذ كان المشركون يعيبون على المسلمين القتال عند المسجد الحرام وفي البلد الحرام، فيبي لهم سبحانه أنّما فتنة الإنسان عن الدين الذي ارتضاه له خالقه، وإخراجه من نور الإيمان إلى ظلمات الشرك والوثنية، والصدّ عن دين الله وعن الدعوة أشدّ من هذا الذي يتبرمون منه، فالشرك ظلم عظيم وهو أشد الظلم، هذه الفتنة التي تحصل للمؤمنين عن دينهم، وهذه الفتنة التي يريدون بها للمشرك أن يبقى مشركا ولا تشمله رحمة الإسلام، أشد من القتل الذي يستكبرونه...وفتنة الإنسان عن الإسلام وعن الإيمان، وطأتها أشد من كل وطأة لأنها ظلم له ولنفسه ولبشريته من نيل الخير الذي يعمّها في كل حال وفي كل زمان....هي معرفة الإنسان لربه، وعبوديته لربه، وأن يفرده وحده بالعبادة وبالألوهية، وبالربوبية، ولا يشرك من دونه شيئا ولا أحدا ، ولا يتخذ له ندا، ويعلم علم اليقين أنما كل الحق منزّل من عنده لخير البشر أجمعين، إفراد بالعبادة ، وإخلاص فيها لوجهه وحده ، تذلل بين يديه وحده....وتخلّص من ربقة الهوى ومن سطوة النفس ومن تفلّت عقالها...ومن تسلط الإنسان على الإنسان
وللشهيد سيد قطب رحمه الله في هذه وقفة وتأمل جميل نسوقه هنا :
إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية . ومن ثم فهي أشد من القتل . أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة . ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي , أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله , وتزين لهم الكفر به أو الاعراض عنه . وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد , ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر , ويحسنها للناس بوسائل التوجيه ; بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله . ويجعل من هذه الأوضاع فروضا حتمية لا يملك الناس التفلت منها . (2)
قيل لبعض الحكماء ما أشد من الموت قال الذي يتمنى فيه الموت ، والإخراج من الوطن فتنة، ومفارقة الأحبة والأهل فتنة لأنّ عندها كثيرا ما يكون أهون على الإنسان موته من وقوعه بها...
ومنه قول القائل
لقتل بحد السيف أهون موقعا***على النفس من قتل بحد فراق
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم
وهنا يحدد الله سبحانه مقاتلتهم عند المسجد الحرام ببدء المشركين القتال والمقاتلة عنده، وذلك لشدة حرمته
خطب صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فقال: ياأيها الناس: إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والارض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي. وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم عادت حراما إلى يوم القيامة. فبين صلى الله عليه وسلم، أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص، لا على وجه النسخ فثبت بذلك خطر القتال في الحرم، إلا أن يقاتلوا فيدفعون دفعا
حتى يقاتلوكم فيه، أي إذا بدئ منهم القتال فلتقاتلوهم عند المسجد الحرام على وجه الخصوص دون باقي الأماكن، لأن حرمته تقتضي أساسا حرمة القتال فيه، إلا أنهم إذا بدؤوا بذلك الاعتداء منهم وهم مشركون، وفوق شركهم لا يراعون حرمته، فالأولى أن يكون الرد عليهم من مؤمنين بالله لا يستحلون حرمته إلا لما بدر من ظلمة مشركين يريدون الصد عن سبيل الله تعالى، وإن ترك لهم المجال، وفسح بينهم وبين ما يريدون من قتال في مكان محرم فذلك أشنع وأبغض ....
كذلك جزاء الكافرين، جزاء الكافرين قتالهم، وقتلهم وردّ اعتدائهم وتعديهم بإزهاق أرواحهم الكافرة المعاندة التي لم تنحن لجلال المولى سبحانه .
فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم
فإن انتهوا ........واالانتهاء هنا يكون عن كفرهم، عن غيّهم، عن عنادهم، عن تمنّعهم من الإيمان،ويكفوا عن إصرارهم ....انتهاؤهم الجالب لمغفرة الله ورحمته إنما هو انتهاؤهم عن الكفر، ولا مجال هنا لانتهاء عن أمر سواه يكون مجلبة لمغفرة الله ورحمته، فإن هم انتهوا عن قتال المؤمنين، فأي شيء يجلب لهم مغفرة الله ورحمته؟
انتهاؤهم عن كفرهم باب يفتحونه للدعوة، باب يوصدونه دون الصدّ....
وما أعظم الإسلام , وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة , ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم , الذي قتلوا منه وفتنوا , وفعلو بأهله الأفاعيل !!! (3)
وقد ذكرنا في مداخلاتنا السابقة الغاية من القتال ومن فرضه، وهدف المسلمين من الامتثال لأمرهم سبحانه به، وننقل هذا للإفادة الزائدة:
وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله , وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام , وتسلط عليهم فيه المغريات والمضللات والمفسدات . وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه , ويهابه أعداؤه , فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة , ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة
*********************************
(1) الغني
(2)في ظلال القرآن لسيد قطب
(3) الظلال لسيد قطب
(4) نفس المصدر السابق