علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم
اختان يختان بمعنى خان ، وهي بمعنى الغدر وعدم الإخلاص، فخيانة أنفسهم هي ضعفهم من قبل أن يحدد لهم مجال حلّ إتيان نسائهم، ومصارحة بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يأتون نساءهم وقد ناموا بعد إفطارهم، أنزل الله أنه علم أنهم كانوا يختانون أنفسهم ، فينقصون الأجر عليها، علم سبحانه بضعفهم وقلة صبرهم فأباح لهم وهو تيسير آخر، لحكمته سبحانه وتعالى لم يحدّد لهم المجال فورا مع فرض الصيام لحكمة منه سبحانه،أحلّلهم هذا الأمر تيسيرا آخر على التيسير يعلّمهم أنه سبحانه يريد أن يخفف عنهم
وهو القائل عزّ من قائل :
يريد الله أن يخفّف عنكم وخلق الإنسن ضعيفا النساء28
فها هي خلقته الضعيفة تنمّ عن نفسها وتنطق عن نفسها، وها هو سبحانه العالم بها وهو خالقهم بهذا الضعف يخفف عنهم، فلا يكلفهم ما لا يطيقون وإنما يريد بهم رحمة وشفقة ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، فتاب سبحانه عليهم وعفا عنهم، وهو التواب الرحيم العفوّ الكريم
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ. الشورى 25
فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب الله لكم
والأمر هنا بالمباشرة ، الآن وهي ظرف زمان يعني الوقت الحاضر ، وهي عند الحكماء نهاية الماضي وبداءة المستقبل به ينفصل أحدهما عن الآخر (1)
الآن أحلّ الله لهم من بعد ما عاينوا اختيانهم أنفسهم بأنفسهم،أمر بأن يباشروهنّ مع وصل وعطف بأمر آخر لصيق بهذا وهو ابتغاء ما كتب الله لهم، ويوقول جمهور المفسرين أنّ ابتغاء ما كتب الله هو الولد الولد الذي هو غاية كبرى من غايات هذه العلاقة الحميمية بين النصفين بين الزوج وزوجته اللذان جعلهما المولى سبحانه سببا في وجوده ....
ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء , ومن المتعة بالذرية , ثمرة المباشرة . فكلتاهما من أمر الله , ومن المتاع الذي أعطاكم إياه , ومن إباحتها وإتاحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها . وهي موصولة بالله فهي من عطاياه . ومن ورائها حكمة , ولها في حسابه غاية . فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد , منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط .
بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما , وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما . وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى . . ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها , في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها . وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء . المنهج الخارج من يد الخالق . وهو أعلم بمن خلق , وهو اللطيف الخبير . (2)
ويكمل سبحانه في سياق هذا التحليل وهذا الحكم والأمر الربانيّ ما يبيّن الحدود ويضع المجال الزمنيّ الذي يباح فيه، فهو ليس صياما مستمرا عن المباح من الشهوات ولا هو خروج عن الفطرة البشرية في قدرة التحمّل يكمل شطر الآية بقوله تعالى :
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ
فيتضح هنا هذا المجال الزمنيّ المحدّد لإباحة المباشرةوالأكل والشرب ، حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ....
ولنلاحظ أيها الإخوة ولنتأمل أنه سبحانه في الصيام يرقى بالنفس البشرية عن كل شهوة أرضية، عن كل غريزة فالجوع والعطش غريزة، والشهوة الجنسية غريزة، لا مفرّ منهما ومن وجودهما في النفس ، ولكنها غرائز حددت لها الحدود ووضعت لها القوانين التي تجعلها سَلَمًا لصاحبها ،وتنأى به عن الحيوانية، تميّزه عن الحيوان الذي هو أيضا يأكل ويشرب ويشبع غريزته الجنسية، يقيدها بقيود ويجعل لها حدودا قيّمة بدين القيّمة، يجعل لها أبواب تحلّها ويغلق دونها ما يجعلها منطلقة بلا حدود فتفقد الإنسان ميزته، وتفقده كرامته وتفقده أفضليته على خلق الله سبحانه ....
الصيام تدريب للنفس على مقاومتها ومجاهدتها حتى فيما هو حلال طيب، الزوجة لزوجها حلال والزوج لزوجته حلال ، الأكل والشرب من حلال ، ولكن الصيام يمنعها كلها ، ويحرّمها في مجال زمني يشبّهه في ذلك بالملائكة الذين هم خلق الله تعالى من نور لا يأكلون ولا يشربون ولا يتزاوجون، لا يعصون الله ما أمرهم ويسبحونه لا يفترون ..... الصيام وفترة الصيام ترقى بالإنسان إلى عالم نوراني،عالم يجعله أسمى فأسمى فأسمى، تدربه على التحمّل والصبر ودفع نوازع الشهوة فيه، تدربه على الرقيّ من عالم التراب إلى عالم الروح في فترة.......هو مخلوق من تراب ونفخة من روح الله ، الصيام يقربه إلى عالم الروح أكثر ويبعده عن عالم المادة وعن عالم الشهوة ......
ولكنه لا يطيل به حتى ينفذ صبره، لا يطيل به حتى ينفجر متحوا من النقيض إلى النقيض ، وإنما هو دين الوسطية، دين لا يغالي في هذه ولا يغالي في تلك،دين يعلمنا أن للروح غذاء وللجسم غذاء، يعلمنا أنّ الروح تطلب، والجسم يطلب، عالم يؤلف بين مطالب هذه ومطالب تلك ولا يبخس كليهما حقا، دين رقيه وروعته وسموّه وميزته وسَمْتُهُ في هذه الألفة التي يحدثها بين الشقّين، دين علم وإيمان، دين عقل وقلب دين جعله المولى الخالق الذي خلق كل شيء ، جعله ليتواءم وكلّ شيء
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ...... يجب أن نأخذ هذه الكلمات المتتاليات غير منقطعة ولا منفصلة، فالأكل والشرب وقد وصلهما الله تعالى بالمباشرة الزوجية مجالها الزمنيّ حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فالمؤمن يفطر من صيامه وقت غروب الشمس، ويمسك عن مأكل ومشرب وجماع مع طلوع الفجر ، وذاك هو الخيط الأبيض الذي يتبيّن من الخيط الأسود ......... إنه من الفجر
ويجوز ان تكون ( من ) للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوله(3)
وفي سبب نزول هذه الآية وكيف لم ينزل لفظا "من الفجر " جاء :
أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد قال: أخبرنا جدي قال: أخبرنا أبو عمرو الحيري قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا أبو حسان قال: حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد قال: نزلت هذه الآية (وَكُلوا وَاِشرَبوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأبيَضُ مِنَ الخَيطِ الأسوَدِ) ولم ينزل (مِنَ الفَجرِ) وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له زيهما فأنزل الله تعالى بعد ذلك (مِنَ الفَجرِ) فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار رواه البخاري عن ابن أبي مريم. ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن ابن أبي مريم.(4)
كما روي أن بعضهم كان يعقد خيطين أبيض وأسود ويضعهما تحت وسادته ويبيت يرقب تبين الأبيض من الأسود ، فذهب أحدهم يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما فعل ، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: إن كان وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل ......
والآن تأملوا معي أيها الإخوة الكرام هذا الغوص اللغوي الجميل في قوله تعالى "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" ، وسأضع لكم خلاصة هذا التأمل
يرد السؤال لماذا أخرج المعنى عن الاستعارة ودخل في باب التشبيه البليغ والاستعارة أبلغ وأدخل في الفصاحة ؟ ويقصد هاهنا أنه لم تبق "يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود" وحدها بل زيد لها "من الفجر" والتي خرجت بها عن الاستعارة ، فتجيب اللغة هنا ، أنّ من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام ولو لم يذكر
لا يفهم منه المراد إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة ولا بتشبيه قبل ذكر الفجر فلا يفهم منه إذن الا الحقيقة وهي غير مرادة، أي لا يفهم منه قبل التوضيح إلا ما قد بدا من عبارتي خيط أبيض وخيط أسود
وسبحان الله على هذه اللغة العظيمة التي تفصح عن الحق أكبر إفصاح ، وتبين أكبر بيان
*****************
1-لسان العرب
2-في ظلال القرآن لسيد قطب
3-الكشاف للزمخشري
4-أسباب النزول للواحدي