وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
إننا أيها الإخوة الكرام ، نرقب في متابعتنا لهذه الكلمات الربانية العليّة بنيانا يتعالى ، تتبعنا الأساس وهو يوضع ، إيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين والكتب السماوية ، إيمانا راسخا لا يشوبه شك ولا مرية ، إيمان يجعل الإنسان متصلا بربه اتصال من يوقن أن عين الله لا تغيب عنه ولا عن أي دقيقة من دقائق الكون كله ، إيمان من يستأنس بالله وبوجود الله ، فلا يجزع لمصيبة تصيبه ، أو لخطب أو كرب يلمّ به ، إيمان من يعلم أنه من الله وإلى الله راجع ...
وبعد هذا الأساس تأتي اللبنات لترصف واحدة فوق أخرى ، تعلي بنيان البرّ ،.... فإنفاق على حبّ إنفاق ابتغاء الخلاص ، الخلاص من أسر المال وعبودية المال ، ليبقى التوجه لله وحده والعبادة لله وحده ، ولا يصبح الإنسان عبدا لنفسه وهواها ، إنه إنفاق من أجل الإبقاء على حلاوة العبودية لله .....
ونصل إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ....ركنان أساسيان من أركان الإسلام ، فلا تغني النافلة عن الفرض ، وإيتاء المال على حبه من باب الصدقة لا يغني عن فرض الزكاة ،
إقامة الصلاة ، وهي العماد عماد الدين كله ، إقامتها حتى يخرج المؤمن منها كمن دخل يغتسل ، دخل ليفضي بما عنده لرب العزة مولاه ، يخرج منها ليس كمن قام بحركات رياضية لا تعدو أن تكون حركات ، والفكر سارح ذاهب عنها ذاهل ، والروح قابعة بدرك لم تصعد وإن درجة ... الصلاة تحقيق للانسجام والاتساق بين معاني العقل والروح والجسم ، كل جزء من الثلاثة يكمل الآخر ، فعقل يقرأ ويتدبر ويفكر فيما يقول ، وجسم يتحرك ويفي بواجب الحركات ، وروح تتسامى وترحل في ساعة رحيلها من الدنيا إلى لقاء تتمناه وتنتظره وتسعد بحلوله مع الله .....
والموفون بعهدهم إذا عاهدوا
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا
الوفاء بالعهود ، وأهمها على الإطلاق العهد مع الله تعالى ، عهد هذه الأمة المحمدية مع الله ، عهدها لحمل الرسالة ، العهد الذي لا يناله الظالمون
وعكس هذه الصفة النفاق
يقول صلى الله عليه وسلم
(آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) ""رواه الشيخان"" وفي الحديث الآخر: (وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)
بنو إسرائيل كانوا ناقضين للمواثيق ، مخلفين لعهدهم مع الله فباؤوا بغضب من الله .....أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي أمة الحق والتصديق والولاء لله ولرسوله ....
قال الله تعالى : وأَوفوا بالعهد إِن العهدَ كان مسئولاً ؛ قال الزجاج : قال بعضهم : ما أَدري ما العهد , وقال غيره : العَهْدُ كل ما عُوهِدَ اللَّهُ عليه , وكلُّ ما بين العبادِ من المواثِيقِ , فهو عَهْدٌ . وأَمْرُ اليتيم من العهدِ , وكذلك كلُّ ما أَمَرَ الله به في هذه الآيات ونَهى عنه . وفي حديث الدُّعاءِ : وأَنا على عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما استَطَعْتُ أَي أَنا مُقِيمٌ على ما عاهَدْتُك عليه من الإِيمان بك والإِقرار بوَحْدانيَّتِك لا أَزول عنه , واستثنى بقوله ما استَطَعْتُ مَوْضِع القَدَرِ السابقِ في أَمره أَي إِن كان قد جرى القضاءُ أَنْ أَنْقُضَ العهدَ يوماً ما فإِني أُخْلِدُ عند ذلك إِلى التَّنَصُّلِ والاعتذار , لعدم الاستطاعة في دفع ما قضيته علي ؛ وقيل : معناه إِني مُتَمَسِّكٌ بما عَهِدْتَه إِليّ من أَمرك ونهيك ومُبْلي العُذْرِ في الوفاءِ به قَدْرَ الوُسْع والطاقة , وإِن كنت لا أَقدر أَن أَبلغ كُنْهَ الواجب فيه . و العَهْدُ الوصية , كقول سعد حين خاصم عبد بن زمعة في ابن أَمَتِهِ فقال : ابن أَخي عَهِدَ إِليّ فيه أَي أَوصى ؛ ومنه الحديث : تمَسَّكوا بعهد ابن أُمِّ عَبْدٍ أَي ما يوصيكم به ويأْمرُكم , ويدل عليه حديثه الآخر : رضِيتُ لأُمَّتي ما رضيَ لها ابنُ أُمِّ عَبْدٍ لمعرفته بشفقته عليهم ونصيحته لهم , وابنُ أُم عَبْدٍ : هو عبد الله بن مسعود . ويقال : عهِد إِلي في كذا أَي أَوصاني ؛ ومنه حديث عليّ , كرم الله وجهه : عَهِدَ إِليّ النبيُّ الأُمّيُّ أَي أَوْصَى ؛ ومنه قوله أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ ؛ يعني الوصيةَ والأَمر . و العَهْدُ التقدُّم إِلى المرءِ في الشيءِ . والعهد : الذي يُكتب للولاة وهو مشتق منه , والجمع عُهودٌ وقد عَهِدَ إِليه عَهْداً و العَهْدُ المَوْثِقُ واليمين يحلف بها الرجل , والجمع كالجمع . تقول : عليّ عهْدُ الله وميثاقُه , وأَخذتُ عليه عهدَ الله وميثاقَه ؛ وتقول : عَلَيَّ عهدُ اللهِ لأَفعلن كذا ؛ ومنه قول الله تعالى : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ؛ وقيل : وليُّ العهد لأَنه وليَ الميثاقَ الذي يؤْخذ على من بايع الخليفة . والعهد أَيضاً : الوفاء . وفي التنزيل : وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ؛ أَي من وفاء ؛ قال أَبو الهيثم : العهْدُ جمع العُهْدَةِ وهو الميثاق واليمين التي تستوثقُ بها ممن يعاهدُك , وإِنما سمي اليهود والنصارى أَهلَ العهدِ : للذمة التي أُعْطُوها والعُهْدَةِ المُشْتَرَطَةِ عليهم ولهم (1)
العَهْدُ: الوَصِيَّةُ والأَمر، قال اللهُ عز وجلّ: "أَلَمْ أَعْهَدْ إليكُمْ يا بَنِي آدَمَ"، وكذا قوله تعالى "وعَهِدْنَا إلى إِبراهيمَ وإِسماعيلَ"، وقال البيضاويُّ، أَي أَمرناهما، لكونِ التوصيةِ بطريقِ الأمر. وقال شيخُنا: وجعل بعضُهُم العَهْدَ بمعنَى المَوْثِقِ، إلا إذا عُدِّيَ بإِلى، فهو حينئذٍ بمعنى الوصية. قلت: وفي حديث عليٍّ، كرمَ الله وجهه. "عَهِدَ إِليَّ النبيُّ الاُمّيُّ صلى الله عليه وسلم"، أَي أَوصَى. والعَهْدُ: التَّقَدُّمُ إلى المَرْءِ في الشيء. والعَهْدُ المَوْثِقُ، واليَمِينُ يَحْلُِ بها الرجُلُ، والجمع: عُهُودٌ، تقول: عليَّ عَهْدُ اللهِ ومِيثاقُه لأَفْعلَنَّ كذا، وقِيلَ: ولِيُّ العَهْدِ، لأَنَّهُ وَلِي المِيثَاقَ الذي يُؤْخَذُ على من بايعَ الخَلِيفَة، وقد عاهَدَهُ. ومنه قولُ الله تعالى: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عَاهَدْتُم" وقال بعض المفسرين: العَهْد كُلُّ ما عُوهِد اللهُ عليهِ، وكل ما بينَ العِبَادِ من المَوَاثِيقِ فهو عَهْدٌ(2)
والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
نأتي مع ختام هذه الآية الكريمة ، ونوشك أن نتم مراقبة هذا البنيان المتين..... البرّ ......
والصابرين ...............ما بالها لم تأت كما يتصور أن تكون عليه ، وهي معطوفة بناء وحركة على ما قبلها من الأسماء ، والموفون بعهدهم ، أليس حريا أن تأتي "الصابرون" ؟؟؟
ولهذا السؤال جواب يقول أنها قد نصبت على الاختصاص أي وأخص بالذكر الصابرين ، وهذا الأسلوب معروف بين البلغاء ، فإذا ذكرت صفات للمدح أو الذم وخولف الإعراب في بعضها فذلك تفنّن ويسمى قطعا ، لأن تغيير المألوف يدل على مزيد اهتمام بشأنه وتشويق لسماعه .
إذن فهذه الصفة مخصوصة في المعنى ، ومؤكّد عليها ، الصبر وذكرت له ثلاث حالات تكاد تكون هي كل الحالات
فصبر على البأساء وهي الفقر ، والبأس هو الشدة والحرب ، والضراء السقم والجوع
وفي حديث علي , رضوان اللَّه عليه : كنا إِذا اشتدَّ البأْسُ اتَّقَيْنا برسول اللَّه يريد الخوف ولا يكون إِلا مع الشدَّة .
البأْسُ و البَئِسُ على مثال فَعِلٍ , العذاب الشديد . ابن سيده : البأْس الحرب ثم كثر حتى قيل لا بَأْسَ عليك , ولا بَأْسَ أَي لا خوف ; قال قَيْسُ بنُ الخطِيمِ : يقولُ ليَ الحَدَّادُ , وهو يَقُودُني *** إِلى السِّجْنِ لا تَجْزَعْ فما بكَ من باسِ (3)
وقد مرّ في آية سابقة من سورة البقرة ، وفي ثاني نداء للمؤمنين قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين"
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
الصدق والتقوى صفتان خاتمتان لأهل البرّ ، الذين آمنوا بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتوا المال على حبه أهله ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصبروا ، صادقون ، متقون
يقول صلى الله عليه وسلم :"عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البرّ " أجل الصدق يهدي إلى البرّ ، إذا تتبعنا الأوصاف السابقة والتعريفات الربانية السابقة للبرّ واحدا واحدا لرأينا الصدق رأس حالها ...
الإيمان بالله واليوم الآخر ، بصدق ، إيمانا خالصا صادقا ليس معه شك أو ريب ، الإيمان بالملائكة والكتب والنبيين والتصديق بهم ، الإيمان بهم هو التصديق بهم جميعا ، وألا نكذبهم كعهد بني إسرائيل التكذيب ،إيتاء المال على حبه ، بصدق صادقين مع أنفسنا ونحن نؤتيه ، صادقين مع أنفسنا أنما نحن نجاهدها ولا نريد لها أن تركن إلى عبادة المال ، نصدق معها ونحن نواجهها بضعفها إزاء المال وإزاء فتنته ، ونريد وقد صدقناها أن نجاهدها ونغير من سوء حالها وأن نخلصها من براثن الأهواء والشهوات ، والصدق في التوجه لله تعالى بصلاة خاشعة هي الصلة الصادقة بين العبد وربه ، والصدق في إخراج المفروض من حق المال إلى مستحقيه ،
والوفاء بالعهد صدق وثبات ووفاء رأسه الصدق ، والصبر صدق في كل حال صدق مع النفس ، ومداواة لجراح الجزع فيها بطبّ الصبر ....
والصدق يهدي إلى البرّ ......أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
المتقون ....، وهل التقوى إلا إتيان ما يرضي الله وتجنب ما يغضبه ، والبرّ سعة الخير وسعة الخير بكل وجه إرضاء لله تعالى ، وحب الخير والسعي له سعي لإرضاء الله تعالى ، ولنتأمل صيغة الصفتين وتركيبتيهما :
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ، جاء الخبر في الجملة فعلا ماضيا "صدقوا"لإفادة التحقيق وأن ذلك وقع منهم واستقر ، ، وأتى بخبر الثانية في جملة إسمية "وأولئك هم المتقون "ليدل على الثبوت وأنه ليس متجدا بل صار كالسجية لهم ومراعاة للفاصلة أيضا .
*******************************************************************
1- محيط المحيط
2- تاج العروس
3-محيط المحيط