كتاب: المعجزة أو سبات العقل في الإسلام - جورج طرابيشي
هناك نقطة محورية جدًا لم ينتبه لها الكاتب وهو أن "المعجزة" يختلف هدفها حسب ظروف ظهورها، فليست كل المعجزات جاءت للبرهنة على مصداقية نبوة النبي. فعندنا موسى شق الله له البحر لينقذه من فرعون لا ليُثبت نبوته! وكذلك حين انفجر له الحجر ١٢ عينا جاء ذلك ليشرب منه قومه! لا ليُثبت لهم نبوته فقومه مؤمنون من الأصل... وكثيرة هي معجزات موسى مع بني إسرائيل حصلت في أوساط مؤمنين. ونجد أمثلة مشابهة في معجزات سليمان الكثيرة، ومعجزة ارتداد بصر يعقوب بعد العمى.. وأيضا عندنا المعجزات التي أهلك الله بها قوما كافرين، فهذه معجزات جاءت لتعذيبهم وإهلاكهم لا لبرهنة نبوة نبيهم. فالأمثلة على معجزات لم تأتي للبرهنة كثيرة ومتنوعة ولا يخلو القرآن منها.
هذه النقطة التي لم ينتبه لها الكاتب وهي تنقض أغلب ما طرحه بخصوص معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم...
ففكرة الكتاب المحورية هي التناقض الظاهر بين القرآن الذي يرفض مرارًا وتكرارًا وفي عشرات المواضع إيراد معجزات (أو الآيات بالتعبير القرآني)، فالمشركون طالبوا عدة مرات بمعجزات تثبت نبوة الرسول، وكان رد القرآن دومًا واضحًا وصريحًا في هذا الرفض.
هذا الرفض القرآني هو نفسه السبب الذي جعل الكثير من العلماء يرفضون قصة معجزة انشقاق القمر (وهي مروية بطريق الآحاد) ويفسرون آية "وانشق القمر" بأن المقصود بها يوم القيامة. (أوردُ رأي العلماء هذا لأبين بأن فكرة الكتاب المحورية ليست غريبة على الخطاب الإسلامي-بالرغم من أنها ليست السائدة أيضا-.)
بعد ما يتحدث الكاتب عن المعجزة بوجهة النظر القرآنية الرافضة، يتطرق لأحاديث السير التي عدت معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم بالمئات بل بالآلاف! بل يقول الكاتب بأن الروايات التي تحكي معجزات الرسول كان يزداد عددها مع الزمن! فالمؤلفات الأولى كان عدد المعجزات بها أقل بكثير من المؤلفات المتأخرة! هذا حسب ما يدعيه الكاتب في بحثه الذي لم أستطع التأكد منه بطريقة مباشرة (كعادتي الدائمة في التأكد من كل ما أقرأه).
ويستنكر الكاتب هذا التناقض الظاهر بين القرآن الرافض للمعجزة وقصص السيرة التي تعدد وتفصل في معجزات الرسول (ص) ويرى أنه سبات عقلي أصاب الأمة... ما لا ينتبه له هذا الكاتب هو أن هذه المعجزات -في مجملها- التي تُروى عن الرسول (ص) هي معجزات حصلت في أوساط قوم مؤمنين (طبعا هناك قصص شاذة تعد بالأصابع حصلت للكافرين كقصة انشقاق القمر) وبالتالي هدف هذه المعجزات لم يكن اثبات نبوته من عدمها بل جاءت المعجزات النبوية لأهداف أخرى كزيادة إيمان من آمن وتقوية عزيمتهم وتثبيتهم وتذكيرهم بأن الله معهم أو انقاذ الرسول من مأزق كأن يكون هناك من يريد قتله وغيرها من أسباب... إضافة إلى أنها معجزات حصلت في وسط مجموعات صغيرة من الناس أي كان الشهود عليها قليلا! وهو متنافي مع هدف المعجزة المبرهنة على النبوة التي تقتضي أن يراها الأغلب أو الكل لتكون برهانا وحجة قاطعة على من رآها... ناهيك على أن هذه المعجزات لم تأتِ بطلب من القوم، بل جاءت مفاجئة دون أن يتوقعها أو يطلبها الحضور، وهذا منافٍ للمعجزة المبرهنة التي تأتي بطلب وإلحاح من القوم فيوردها النبي كدليل على نبوته! فهذه المعجزات -الغير مبرهنة- لها أسبابها التي لا تتناقض أبدا مع صريح القرآن الرافض، لأن القرآن يرفض المعجزة المبرهنة لا باقي أنواع المعجزات...
طبعًا أوافق الكاتب في أن الكثير من هذه المعجزات النبوية التي تعج بها كتب السيرة مبالغ فيها ودخلها الكثير من التلفيق والزيادات وأوافقه بأن مذهب السنة المتساهل في نقل مثل هذه الأخبار هو منهج غير علمي، وحجتهم فيه هو أنهم يتشددون في نقل مرويات الأحكام أما مرويات القصص والرقائق فيتساهلون فيها لأنها لا تضر! وأرى أن هذه المرويات تضر العقل السليم والدين معًا!
يتطرق الكاتب وباحتشام -في الهوامش- لإشكالية معجزة الإسراء وإمداد الله بجنود لم نراها في معركة بدر، فها هو القرآن الرافض للمعجزات يثبت حصول معجزتين للنبي!
وهي ليست إشكالية كما يدعي الكاتب، فكما قلت في الأعلى هذه معجزات جاءت بأهداف أخرى غير البرهنة على النبوة، فالإسراء -كما أفهمه- خفف عن الرسول وطبطب عليه بعد تعذيب وسخرية قومه، والإمداد بالجنود قوّى المؤمنين وحماهم ونصرهم في معركة كانت موازين القوة لصالح العدو، ليأتي انتصارهم بمثابة معجزة يشهد لها التاريخ. بل إن هذا التأييد والنصر الإلهي لا يختص بالرسول (ص)، بل هو مع كل مؤمن اتخذ الأسباب المادية والروحية في نضاله: "فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ".
نقطة أخرى أهملها الكاتب:
ينقل الكاتب لنا عشرات وعشرات المرويات عن معجزات حصلت للرسول (ص) نجدها في كتب السيرة للأقدمين، وفي الحقيقة لا أدري ما كان حال هذه المرويات في العصور القديمة، لكن في عصرنا الحاضر -على الأقل- لا نجد لهذه المرويات أثرًا كبيرًا يذكر، بل أغلب ما نقله الكاتب لم أسمع به من قبل! ولا أعرف سوى ٢ أو ٣ قصص للمعجزات من التي ذكرها الكاتب أما الباقي فلم أسمع به! ولا أدري هل هذا هو حال الشيعة (فجزء كبير من الكتاب يتطرق لمعجزات الشيعة التي حصلت لعلي وأهل البيت والأئمة ال١٢)، لكن عند السنة على الأقل لا تشغل قصص المعجزات هذا الحيز الضخم الذي يشعركَ إياه الكاتب.
في الأخير يضع الكاتب نظرية مفسرة لهذا التضخم الكبير في قصص المعجزات:
السبب الرئيسي كما يقول هو التوسع الضخم في الفتوحات الإسلامية مما أدى لاحتكاك كبير بأقوام الديانات الأخرى والحاجة لوسائل فعّالة لدعوتهم للإسلام، وأنه لم يجد المسلمون من بد سوى مخاطبتهم بلغة المعجزة التي يألفها الناس ويصدقونها، بدل لغة القرآن -العقلية- التي سيكون إدراكها صعبا عليهم. يعني هي عقدة نقص بالدرجة الأولى بدليل الكثير من المؤلفات التي تورد الصفحات في إثبات أن معجزات الرسول (ص) أعظم وأقوى من معجزات من سبقه من الأنبياء!! وكأنه مزاد علني لإثبات من أفضل مِن من! ونسينا أن هذه المعجزات هي فضل من الله يُؤتيه من يشاء..
ويرى أن المعجزات عند الشيعة أضخم وأكثر مبالغة وعجائبية مقارنة بالسنة، وهو برأيه منطق المهزوم الذي يحتاج لقليل من الخيال وقليل من الإعجاز ليبرر ويفسر ويثبت صدقه وأن الله معه، خصوصا إذا تذكرنا حال أهل البيت الكئيب الذي دومًا ما ينتهي بالقتل والتصفيات! فالسنة كانت الفئة المهيمنة الغالبة فلا تحتاج لكثير من التبرير -الإعجازي- لمواقفها السياسية.
هناك نقطة لم يتعرض لها الكاتب وهو ما نعرفه تاريخيًا من أن أفواجًا كثيرة أسلمت لما رأته من عدالة وأخلاق ومبادء سامية في الإسلام والمسلمين الأوائل.
لا أوافق الكاتب أيضا في أن الخطاب القرآني مشروط بعروبة اللسان، فرسالة القرآن يمكن ترجمتها لأي لغة، صحيح أن الترجمة تُفقد النص إيقاعه وجماله البلاغي، لكن المعنى الذي يُخاطب العقل الإنساني يبقى ثابتًا أيًا كانت اللغة... فآية القرآن عقلية قبل أن تكون لغوية! وحصر الإعجاز القرآني في اللغة هو من فعل المتأخرين، وهو أمر لم يرد فيه دليل لا قرآني ولا حديثي! بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين راسل ملوك الأعاجم من قبط وغيرهم خاطب عقولهم لا غير! أو على حد تعبير الغزالي: "أيها الإمبراطور، إن نبينا عندما كاتب سلفك، لم يذكر له خارقة من خوارق العادات التي عرضت له، وإنما خاطب عقله، واستثار أنبل ما في نفسه، وذكر له أنه باق على إسلامه." ناهيكَ على أن حصر الإعجاز في اللغة يوقعنا في مأزق عالمية الرسالة وحجيتها على باقي الأمم!
يتطرق الكاتب أيضا لموضوع تصنيم أو تأليه آثار الرسول (ص) والتبرك بها، وأيضا يتطرق لموضوع جعل أحاديثه في منزلة مقاربة جدًا للقرآن بل إن البعض ينسخ آيات القرآن ويؤول معانيها من أجل السنة! فأصبح القرآن تابعًا للسنة لا متبوعًا!!
عمومًا هذا الكتاب بحث قيم جدًا، وفيه نداء لا يمكن تجاهله لإيقاظ العقل الإسلامي من سباته. ويُحزنني أن يأتيَ هذا النداء من خارج صفوفنا لا من داخلها.