( 5 ) في الدراسات النفسية
تقوم دعوى الموضوعية في الدراسات النفسية على أساس أن معظم أبحاث علم النفس اليوم قد أصبحت تجريبية ، تجري في المعمل ، ويقوم الباحثون بتحليل النتائج تحليلا " علميا " فلا يكون لهم فيها موقف ذاتي.
وهذا المنهج في الدراسات النفسية مملوء بالثغرات التي يجب أن يتجنبها التأصيل الإسلامي.
الثغرة الاولى: اننا إذا تصورنا النفس البشرية طبقات – أو مقامات – فأي طبقاتها هي التي يمكن أن تدخل المعمل ، ويتم فيها التجريب ؟ لا شك أنها الطبقات القريبة من الحس ، كمعامل التعب ، ومعامل الانتباه ، وقياس الذكاء ، والميول التي يمكن أن تشاهد أو تحصى أو تقدم عنها استبيانات ( على فرض أمانة المشاركين في الاستبيانات في تقرير حقيقة أوضاعهم ، وعدم اللجوء إلى التظاهر بما يعتقدون أنه مستحسن عند الناس ! ) .
ولكن هل تنتهي النفس البشرية عند هذه المقامات ؟ وهل هذا هو أهم أو أثمن ما في النفس البشرية ؟
حقا إننا من الوجهة العملية قد نستفيد فوائد كثيرة من مثل هذه التجارب – وخاصة في مجال التعليم – لأنها تجعلنا على بينة من أفضل وسائل الأداء لتحقيق الهدف الذي نريد تحقيقه ، فلا نضيع جهدا يمكن أن نوفره ، ولكن .. في نطاق محدود من النفس ، وجوانب محدودة من الحياة !
ولا شك أن جنوح الغرب في واقعه المعاصر إلى الجانب النفعي ( البراجماتي كما يسمونه Pragmatic ) هو الذي جعل هذه التجارب – ونتائجها – تجد صدى واسعا عندهم ، لأنها تلبي أهدافهم في المحيط الذي يعيشونه ويهتمون به ..
ولكن هل هذا هو " الإنسان " كما يجب أن يكون ؟
هل تقف اهتمامات " الإنسان " السوي عند الأوضاع المادية والمجالات النفعية ؟ أو عند الحياة الدنيا ؟
الثغرة الثانية: في العينة التي يجرون عليها تجاربهم لأنها ليست ممثلة للنوع البشري كله تمثيلا صادقا بحيث تعمم النتائج المستخلصة منها على كل البشرية
إنها بحكم الواقع محصورة في هذا الجيل ، وفي بقعة واحدة من الأرض ، هي التي تجري فيها التجارب في الوقت الحاضر . فمن قال إن الغرب هو كل البشرية ؟ ومن قال إن الحاضر هو كل التاريخ ؟! وبالتالي : من يقول إن النتائج التي تستخلص من هذه التجارب نتائج نهائية كالنتائج التي تجري على المادة ، أو حتى على الحيوان ؟
إنما ينقصها لكي تكون معبرة عن هذا الجيل أن تجري في أماكن مختلفة من الأرض ، من بيئات مختلفة ، من ثقافات مختلفة ، من عقائد مختلفة ، من رواسب تاريخية مختلفة.
ولا يجوز لنا أن نهدر الكم الهائل من المعلومات التي حصلنا عليها من هذه التجارب ، ولا الفوائد العملية التي جنيناها منها ، إنما فقط علينا أن نتواضع بعلمنا ، ونعلم منذ البدء أن هناك آفاقا من العلم بالنفس البشرية لا تصل إليها تجارب المعمل ، ولا بد من الرجوع فيها إلى علم فوق علم الإنسان .
الثغرة الثالثة: المدارس النفسية او النظريات التي يبنى عليها علم النفس:
1- علم النفس التحليلي ، الذي يمكن أن نطلق عليه بحق علم تبرير الجريمة! أو علم تزيين الجريمة ! فهو يسقط الإرادة الضابطة في الإنسان، ويفسر الأمور على أساس جبرية نفسيه لا تدع للإنسان مجالا للاختيار .. هذا في مجال تبرير الجريمة. ثم يدعو إلى إطلاق الشهوة البهيمية على أنها علاج للكبت .. وهذا في مجال تزيين الجريمة. وفي كلا المجالين يتعامل مع الحيوان وليس مع الإنسان.
2- فرويد والتفسير الجنسي للسلوك البشري: على الرغم مما تكشف للناس من التزييف الواضح في نظريات فرويد، ومن اعتماده في نظرياته على المرضى والشواذ، وتعميم الملاحظات المستقاة من حالاتهم على الأصحاء والأسوياء (1 ) ، فما زالت السموم التي بثها قائمة في مجالات كثيرة، من بينها العيادات النفسية.
3- المدرسة السلوكية: وحين توارى فرويد عن مكان الصدارة في الساحة، خلفته مدرسة أخرى لا تقل عنه سوءاً في تصورها وتصويرها للإنسان . وهي المدرسة السلوكية التي لها السيادة اليوم في الدراسات النفسية، والتي تعتمد اعتمادا أساسيا على تجارب المعمل، ولكنها تستمد تجاربها أساساً مـن عالم الحيوان، ثم تجريها – بنجاح ! – على عالم الإنسان !
كلتا النظرتين : نظرة فرويد ونظرة السلوكيين ، تفسر جوانب من الإنسان، ولكنها لا تحيط به، ولا تستطيع أن تفسر المقامات العليا من النفس البشرية، التي لا تصل إليها "جنسيات" فرويد، ولا تجارب السلوكيين .
لا مناص لنا عند التأصيل الإسلامي في الدراسات النفسية من الرجوع إلى المصادر التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، لتكون أساسا لأبحاثنا ومنطلقا لدراساتنا وتجاربنا . وبالرجوع لها نجد:
1- أن الله أودع في فطرة الإنسان أن يعرف خالقه ويتوجه إليه بالعبادة ( أي الدين )، وأن بعض الفطر تعتل " فيطبع " الله على قلوبها ، فتضل عن خالقها فتعبد سواه.
2- أن الله خلق في الفطرة نوازع شتى، هي بمثابة الدوافع التي تدفع الإنسان للعمل والنشاط ليحقق مهمة الخلافة التي خلق لها، والتي من مهامها عمارة الأرض.
3- أن الله لم يترك الإنسان مع هذه الشهوات بلا قدرة على الضبط، فالإنسان السوي يستخدم الدوافع والضوابط معا فيتوازن وتستقيم حياته، أما إذا أحجم عن استخدام الضوابط الفطرية فإنه يهلك بشهواته.
و "الصحة النفسية" بالنسبة له هي أن يكون كيانه كله : فكره ومشاعره وسلوكه في الاتجاه الذي يحقق غاية وجوده
4- أن الإنسان ليس أحادي الاتجاه كالحيوان ، إنما هو مزدوج الاتجاه ( كما أنه مزدوج التركيب ) ومن أجل ذلك فإن له في كل لحظة وفي كل حالة طريقين اثنين يختار أحدهما، أحدهما يوصف بأنه خير والآخر يوصف بأنه شر، وقد وهبه الله القدرة على التمييز بين الطريقين، والقدرة على اختيار أحدهما.
5- أنه كائن أخلاقي بطبيعة تكوينه، بسبب وجود هذه الخاصية فيه ، لذا فأعماله ذات قيمة أخلاقية مصاحبة لها.
6- أن في تكوين النفس الإنسانية "خطوط متقابلة" مثل الحب والكره، والخوف والرجاء، والإيمان بالمحسوس والإيمان بما لا تدركه الحواس، والفردية والجماعية، والواقع والخيال، والسلبية والإيجابية .. وكل منها قوة ضاغطة أو جاذبة، فإذا كان كل منها في مكانه الصحيح اعتدل الإنسان وتوازن أما إذا اختلت أو اختل بعضها في النوع أو المقدار فهنا يفقد الإنسان توازنه ، ويحتاج إلى تقويم ( 2) .
تلك خلاصة سريعة للتصور الإسلامي للنفس البشرية .. وواضح أنه يختلف عن التصور الغربي السائد اليوم في أمور أساسية، وإن التقى معه في بعض الجزئيات. ومهمة الباحث المسلم في الدراسات النفسية أن يستحضر معه دائما هذا التصور الإسلامي، ثم ينطلق منه ليبحث في جميع المجالات التي يشملها علم النفس، وخاصة في مجال التربية والتعليم، وفي مجال الدعوة، وهي التي تهم الباحث المسلم بصفة رئيسية.
موضوعات مقترحة:
وإن من الموضوعات التي يجدر بالباحث المسلم أن يعكف عليها ويوليها اهتمامه، هذه الموضوعات على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر :
- تأثير العقيدة في تشكيل النفس الإنسانية .
- تأثير العقيدة في إنشاء حالة الاتزان العاطفي والسلوكي عند الإنسان .
- تأثير العقيدة في دفع الإنسان إلى بذل الجهد والمثابرة عليه .
- الظاهرة الروحية عند الإنسان ( التليباثي – الاستشفاف – الرؤيا الصادقة).
- الإيمان بالغيب عند الإنسان وتفرده به عن الحيوان .
- مكان الدين من الفطرة .
- نشأة الضمير عند الطفل .
- نشأة القيم العليا في الفرد والمجتمع .
- دور العقيدة في علاج الاضطرابات النفسية والعصبية .
- التكوين النفسي للرجل والمرأة ، وعلاقة هذا التكوين الفطري بالدور المنوط بكل منهما ، وهل هما متماثلان أم متكاملان مع الاختلاف .
وفي كثير من هذه الموضوعات سيجد الباحث المسلم نفسه رائدا .. وسيجد نفسه في أحيان كثيرة يسبح ضد التيار . فليعزم العزمة الصادقة وليمض في الطريق !
______________________________________
( 1) لا يرى فرويد أن هناك في البشر من هو سَوِيّ ! ويقول صراحة إن كل الناس مصابون بهذا النوع أو ذاك من الأمراض النفسية والعصبية . وقال في كتاب " Three contributions " " ص 32 " نحن جميعا مصابون بالهستريا إلى حد ما ! We are all hysterical to some extent
(2 ) اقرأ إن شئت فصل " خطوط متقابلة في النفس البشرية " من كتاب " دراسات في النفس الإنسانية " .