خامسا : علاقات الفرد والمجتمع
علم الاجتماع الجاهلي يصور العلاقة بين الفرد والمجتمع على أنها علاقة خصام وصراع
وسواء كانت الجاهلية – في المعسكر الرأسمالي – تعيش الفردية الجانحة ، أو كانت – في المجتمعات – الاشتراكية قبل انهيار الشيوعية – تعيش الجماعية الطاغية ، ففي كلتا الحالتين لا تتفق مصالح الفرد والمجتمع .. ولا يصطلحان !
ويستوي أن يكون المحرض على تكريه الفرد في المجتمع وتبغيضه لتدخله في شئونه " عالم اجتماع " كدوركايم الذي يقول : " إن ضروب السلوك والتفكير الاجتماعيين أشياء حقيقية توجد خارج ضمائر الأفراد ، الذين يجبرون على الخضوع لها في كل لحظة من حياتهم (1 ) .. أو " عالما نفسيا " كفرويد ، الذي يقول في كل كتبه إن " السلطة " المتمثلة في الدين والوالدين والمجتمع هي التي تصيب الفرد بالعقد النفسية والاضطرابات العصبية ( 2) .. أو كان " كاتبا " مثل سارتر الذي يقول إن " الجحيم هو الآخرون " ( 3) .. أو " مربيا " مثل " جون ديوي " الذي يقول " إن التربية يجب أن تكون عملية متحققة بنفسها في ذات نفسها دون تدخل من أي سلطة خارجية لتفرض هدفا خارجا عن العملية التربوية يعوق النمو الحر للفرد ( 4) . أو إيحاءً مسموما في فيلم سينمائي أو قصة أو مسرحية أو مسلسل تليفزيوني .. ففي النهاية يلتقي هؤلاء جميعا في أن " الفرد " يجب أن تتاح له الحرية إلى أقصى الحدود ، وأن " المجتمع " ليس له أن يفرض القيود ! إنه ذات الشعار الذي رفعته الرأسمالية اليهودية أول مرة:
" Laissez Faire , Laissez Passer " دعه يعمل دعه يمـر!
أما في الأمم التي كانت تعيش الجماعية الطاغية ، فالفرد يصور فيها على أنه ذلك الأناني البغيض الذي يريد أن يحقق كيانه على حساب " المجتمع " ، وأنه بأنانيته الطاغية هو العدو الذي ينبغي للمجتمع أن يسحقه تحت أقدامه ، ويتخلص منه ولو بالقضاء الكامل عليه !!
في الحالين لا صلح ولا وئام !
والمجتمع المسلم له أوصاف غير تلك الأوصاف !!
والمجتمع المسلم ليس مجموعة من الملائكة ، إنهم بشر .. يتخاصمون ويتنازعون ويقع بينهم الصدام والصراع .. ولكنهم مع ذلك يظلون أرقى نفسيا وخلقيا من الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولا يدينون دين الحق .
وشهادة التاريخ أولى بالاعتبار .
لقد ظل المجتمع المسلم إلى ما قبل نكسته الحالية التي تجمعت فيها كل الأمراض من الداخل والخارج ، أقل المجتمعات البشرية جرائم ، وأقربها إلى روح المودة والتسامح والتعاون على البر والتقوى ، وأقلها تناولا للخمر والمخدرات .. ومعنى ذلك أن علاقات الفرد والمجتمع فيه جيدة ، وأن الفرد ليس ناقما على مجتمعه ، ولا المجتمع ناقم على أفراده إلى الحد الذي يؤدي إلى انتشار الجريمة ( 5) .
إن الكائن البشري ذو شعبتين في آن واحد ، يكوّنان في مجموعهما شخصيته : شعبة فردية تسعى إلى إثبات الذات وتوكيدها ، وشعبة اجتماعية تسعى إلى الاجتماع بالآخرين ، والأنس بهم ، والاشتراك معهم>
وفي المجتمع المتوازن ، الذي تحكمه " شريعة الله " ، يأخذ الفرد والمجموع كلٌّ مكانَه بأقل قدر من الصراع والتنازع
إن المنهج الإسلامي يكلف الفرد المسلم تكاليف في نفسه خاصة كالإيمان بالله، والعبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج ، ثم تكاليف موجهة للآخرين ، بدءا بالوالدين والأقربين وانتهاء بالمجتمع كله ، بل بالبشرية كلها .. وفي الوقت ذاته يكلف المجتمع تكاليف كالجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتعاون على البر والتقوى .. فتلتقي التكاليف في النهاية بين الفرد والمجتمع ، وتجمعهما في اتجاه واحد ، متوجه إلى الله ، عامل على رضاه .. وهذا هو الذي يجعل الفرد في المجتمع المسلم لا يحس أن المجتمع ضاغط على كيانه ، قاهر لوجوده الفردي ، ويجعل المجتمع لا يحس أن الفرد عدو لا يصلح له إلا السحق !
أما الفرد الشاذ الجانح فله علاجه في المنهج الرباني بحيث لا يقلق أمن المجتمع . علاج يبدأ بالتربية وينتهي بالعقوبة الرادعة إذا أصر على انحرافه .
وأما المجتمع الشاذ الجانح فله علاجه كذلك في المنهج الرباني ، وهو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وتلك مهمة الدعاة ، أو الردع ، وتلك مهمة أولياء الأمور : " يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
والدارس المسلم في علم الاجتماع من مهامه أن يتبين تلك العلاقة الوطيدة بين الفرد والمجتمع في الكيان الإنساني السوي ثم يبينها بدوره للدارسين
_________________________________
(1 ) إميل دوركايم ، قواعد المنهج في علم الاجتماع ، ترجمة الدكتور محمود قاسم ومراجعة الدكتور السيد محمد بدوي ، طبع القاهرة ، الطبعة الثانية ص 168 – 169 .
(2 ) راجع بصفة خاصة كتابه " The Ego and the Id " وكتابه Totem and Taboo .
(3 ) عنوان مسرحية لسارتر .
(4 ) يكرر ديوي هذا الكلام في كل كتاباته ، ولكنه ينسى فيقول إن هدف العملية التربوية يجب أن يكون هو الديمقراطية ! أي أنه يسمح بوجود هدف خارجي ، بشرط ألا يكون هو الدين ! فهو وحده هو المحظور !
( 5) لا يوجد مجتمع بشري – ولا مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم – يخلو خلوا كاملا من الجريمة . ففي مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم من سرق ومن زنا ومن شرب الخمر ، وأقيم عليه الحد . ولكن هناك فرقا واضحا لا ينكره إلا مغالط ، بين مجتمع لا تحدث فيه الجريمة إلا شذوذا يستنكر ، ومجتمع الجريمة فيه شيء عادي دائم الحدوث .