مصادمة العلم بالدين
ولكن الطامة الكبرى كانت مصادمة العلم بالدين ، وتحريق العلماء أحياء لأنهم قالوا بكروية الأرض ، وبأن الأرض ليست مركز الكون !
يقولون في كتاباتهم إن الكنيسة وقفت هذا الموقف من العلم والعلماء لأن نفوذها كان قائما على الخرافة ، وأنها خشيت لو انتشر العلم وقوّض الخرافة أن يتقوض سلطانها على قلوب الناس، وهذا صحيح، لكنه ليس السبب الوحيد، بل هناك سبب آخر مهم، ألا وهو أن العلوم التي اعتنقها العلماء ونادوا بها كانت في أصولها علوما إسلامية ، تعلمها علماؤهم حين تتلمذوا على كتب العلوم الإسلامية . وقد كانت تعني في نظر الكنيسة غزوا فكريا إسلاميا يهدد كيانها ، وسيطرتها على الناس . لذلك كانت حربها لها حربا صليبية في حقيقتها ، لمقاومة الخطر الإسلامي الزاحف على أوربا من الشرق والغرب والجنوب !
فحين احتك الأوربيون بالمسلمين – احتكاكا حربيا في الحروب الصليبية ، واحتكاكا تجاريا عن طريق جنوة والبندقية ، واحتكاكا ثقافيا وحضاريا في الأندلس والشمال الأفريقي وجنوب إيطاليا وصقلية الإسلامية – حدث تحول هائل في الحياة الأوربية .
لقد وجدت أوربا نمطا من الحياة يختلف تماما عن النمط الذي عاشت به طوال قرونها الوسطى المظلمة.
وجدت دينا بلا كنيسة ولا رجال دين ! دينا يمارسه الناس في علاقة مباشرة بين العبد والرب لا يدخل فيها كاهن ولا قسيس.
ووجدت فكرا واسع الآفاق متعدد الجوانب ، لا حجر فيه على العقل البشري ، ولا رقيب فيه على الناس إلا ضمائرهم ولا محاكم تفتيش تقتحم ضمائر الناس لتفتش عن المخبوء فيها لتقذف به وبحامله إلى النار !
ووجدوا علاقات اجتماعية ليس فيها إقطاع ، وليس فيها عبيد يسامون الخسف والذل والهوان ( 5) . ووجدوا شريعة موحدة يتحاكم إليها الناس كلهم سواسية ، لا تخضع لهوى أمير الإقطاعية الذي تتمثل فيه السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية كلها في آن !
ووجدوا علما هائلا في كل أبواب المعرفة المتاحة يومئذ، وحضارة مشرقة وطيدة الأركان.
وهذا كله على الرغم مما كان قد طرأ على المسلمين من انحرافات خلال قرون من الزمان !
ولم يكن لأوربا بدٌّ من أن تتأثر بهذا كله تأثرا يغير حياتها من الأساس . وكان يمكن – كما قال ويلز – أن تدخل أوربا في الإسلام ..
وكانت الكنيسة أول من استشعر هذا الخطر " الداهم ! " الذي يشكل بالنسبة لها تهديدا مباشرا لكيانها وسلطانها ، ولدينها كذلك ! فوقفت بعنف تذود عن نفسها ، وتصد المد الإسلامي عن أوربا بكل ما تملك من سلطان .
واتخذت الكنيسة وسيلتين أساسيتين لوقف المد الإسلامي : الأولى محاكم التفتيش بكل ما تشتمل عليه من وسائل التعذيب الوحشي ، والثانية أنها كلفت كتابها وشعراءها أن يشنوا حملة شعواء على الإسلام يشوهون فيها صورته في نفوس الأوربيين ، ويلصقون به وبأهله أبشع التهم التي تدعو إلى النفور منه والشعور بالبغضاء نحوه ..
وعلى الرغم من ذلك كله فقد كان الإسلام هو الذي أخرج أوربا من ظلمات القرون الوسطى لتبدأ "نهضتها"، وإن كانت بسبب التشويه الذي تبنته الكنيسة لم تدخل في الإسلام.
ووجدت أوروبا نفسها في مأزق خطير لم تنج من آثاره حتى اليوم، ولم تجد مخرجا من مأزقها ذلك إلا أن ترجع إلى تراثها الوثني الذي عاشته قبل دخولها في دين الكنيسة ، أي التراث الروماني الإغريقي ، لتستمد منه مقومات نهضتها ، وتبتعد في الوقت ذاته عن " الدين "
وكان هذا التراث يحمل في طياته فكرة خبيثة عن العلاقة بين البشر و " الآلهة " .. علاقة صراع دائم لا مودة فيه ولا هوادة ولا تعاطف .. الإنسان من جانبه في محاولة دائبة لإثبات ذاته بتحدي " الآلهة " وعصيانها والتمرد عليها ، و " الآلهة " من جانبها في محاولة دائبة لتحطيم الإنسان وإذلاله كلما أراد أن يثبت ذاته .. وتلك هي مأساة الحياة ! (6)
لقد انقلبت أوربا في " نهضتها " مائة وثمانين درجة كاملة ، لتنتقم من الكنيسة ، ومن الدين الذي أذلت به الكنيسة رقاب العباد ..
انقلبت من
• دين يؤمن بالغيب (7 ) ويكاد يهمل عالم الشهادة ، إلى " دين " يصب اهتمامه في عالم الشهادة ويهمل عالم الغيب !
• من دين يمجّد الله ويسقط الإنسان من الحساب إلى "دين" يمجّد الإنسان ويسقط الإله من الحساب !
• من دين رهباني يزدري الجسد ولذائذه الحسية إلى دين غارق في لذائذ الحس إلى درجة الحيوانية!
• من دين يحارب العلم إلى علم يحارب الدين، ومن دين يحارب الحضارة إلى حضارة تحارب الدين !
• من دين يتصور " الثبات " في كل شيء ويرفض التطور ، إلى " دين " يتصور التطور في كل شيء ويرفض الثبات في أي شيء !
______________________________
( 5) كان في العالم الإسلامي رق . ولكن الإسلام كان قد جفف كل منابع الرق التي كانت قائمة قبله ، فيما عدا بابا واحدا هو رق الحرب التي تقع بين المسلمين والكفار . ولكن ذلك الرقيق كان يعامل معاملة إنسانية وتفتح أمامه كل السبل لتحريره .
(6) يرجى مراجعة الرابط التالي للاطلاع على أسطورة برمثيوس الاغريقية
http://www.ayamnal7lwa.net/forum/index.php?topic=1761.msg23163#msg23163 ( 7) الذي يسمونه في لغتهم الميتافيزيقا ( أي ما وراء الطبيعة ، أو ما وراء العالم المحسوس ) .