1- إنكار الجوانب الغيبية من الإسلام، ومحاولة تفسيرها تفسيرات عقلانية بحتة:
بدأ تفسير القرآن بمنهج عقلي حديث لم يسبق في الشرق منذ يقظته، طبق فيه منهج أستاذه الأفغاني، وكان ذلك بالمسجد العمري ببيروت، فكان يعقد درسه به ثلاث ليال في الأسبوع، واجتذب درسه هذا الحركة الفكرية والثقافية هناك، حتى أن المستنيرين من المسيحيين كانوا يجتمعون على باب المسجد لسماعه. ص37
(وكنموذج لهذا التفسير العقلي نذكر بتفسيره للطير الأبابيل التي ترمي بحجارة من سجيل بوباء الجدري، وللنبوة بالاستعداد الفطري، وللوحي بالإلهام النفسي، وللملائكة التي أيدت المؤمنين في غزوة بدر برفع الروح المعنوية... إلخ..)
تحديده لمعنى الإعجاز الحقيقي للقرآن الكريم، فهذا الإعجاز ليس لغوياً في الأساس، كما انه غير مستمد من كونه كتاب فن او أدب أو علوم أو تاريخ...... وإنما من كونه كتاب دين يهدي الناس إلى المجتمع الفاضل والطريق السوي، والخلق العظيم على مر الازمنة. ورغم اختلاف المكان وتعدد الاجناس.. ذلك هو الإعجاز الحقيقي للقرآن. ص 65
(من المجمع عليه لدى علماء المسلمين أن للقرآن الكريم وجوها عديدة للإعجاز، والإعجاز اللغوي والبياني من أهمها، وهو الذي قام عليه تحدي العرب أن يأتوا بسورة من مثله.
أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوه لك فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله
قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا
قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له
قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني ولا بشاعر الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلوا وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته
قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه
قال : فدعني حتى أفكر
ففكر
فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت ذرني ومن خلقت وحيدا)
إعلاؤه شأن العقل في تفسير القرآن، وهو كتاب الدين الاول والأساسي، ورأيه في وجوب أن يطرح الذين يريدون تفسير القرآن تفسيراً حديثاً مستنيراً، أن يطرحوا جانباً: (رؤية) السابقين من المفسرين، وأن يتزودوا فقط بالأسلحة والادوات اللغوية، وشيء من أسباب النزول، ومعلومات السيرة النبوية، ومعارف التاريخ الإنساني عن حياة الكون والشعوب التي يعرض لها القرآن الكريم. ص 66
(هذا الكلام فيه خلط عجيب... فالآيات القرآنية التي ربما يعاد النظر في تفسيرها وفق العلوم الحديثة التجريبية هي الآيات الكونية التي تتحدث عن خلق الإنسان والحيوان والنبات والكواكب والمجرات والمحيطات، فقد فسرها الاقدمون وفق علومهم ومعارفهم، ومع تقدم الاكتشافات والعلوم تبدت لها معان جديدة، وكان من إعجاز القرآن
الكريم أن العلوم والاكتشافات أتت لتؤكد ما جاء فيه ولم تتعارض معه كما حدث للكتب السماوية المحرفة، مما أثبت لكل ذي لب أنه كلام الله تعالى خالق الاكوان...
لكن الآيات المتعلقة بالاحكام والعقائد والأخلاق، هذه تفسيرها ثابت، وفق دلائل الألفاظ في اللغة العربية الصحيحة، ووفق ما فسرته السنة النبوية الشريفة القولية والعملية، فهذه لا مجال لإعادة النظر فيها، ولا معنى للدعوة لطرح (رؤية) المفسرين السابقين لها، إلا الرغبة في تمييع الدين وقطع جذوره وعلائقه بالسلف الصالح، وتفريغه من محتواه.. )
ولقد كان إعلاء الأستاذ الإمام لشأن العقل في تفسيره للقرآن تطبيقاً أميناً لموقفه العام الذي يعلي من شأن العقل في مختلف ميادين البحث والنظر والتفكير.... وهو في هذا الامر يقف قريباً جداً من موقف الفلاسفة الإلهيين ومنهم المعتزلة، بين مدارس المتكلمين المسلمين، فهو يعتبر كل النتائج التي يصل إليها العقل الإنساني سبلاً توصل إلى ذات الله، أي أن طريق العقل هو طريق معرفة الله، ولذلك فهو يقول: "إن العقل من أجَلِّ القوى، بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون جميعه هو صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله، وسبيل للوصول إليه" . فليس هناك إذن صفحات في هذا الكون محظور على العقل الإنساني أن يطالعها، ويرى فيها ما يراه، ذلك أن الحدود التي تحدد نطاق النظر العقلي هي حدود (الفطرة) لا (النصوص المأثورة) فالله قد "أطلق للعقل البشري أن يجري في سبيله الذي سنته له الفطرة بدون تقييد..." ص 76
فالإسلام عند الأستاذ الإمام دين عقلاني، أي أن العقل حاكم وسيد حتى في جوانبه الدينية، وذلك فضلا عن جوانبه الحضارية، ... ولقد ذهب الرجل فساق الكثير من الادلة على هذه الحقيقة التي ينكرها قوم، ويرتاب فيها قوم، ويرتعد من سماعها آخرون؟!! " ... فالعقل –في الإسلام- هو الميزان القسط الذي توزن به الخواطر والمدركات، فيميز بين أنواع التصورات والتصديقات، فمتى رجحت فيه كفة الحقائق طاشت كفة الا,هام، وسهل التمييز بين الوسوسة والإلهام (7).." ص 76
لا يخفى ما في هذا الكلام من مغالطات، فالعقل له حدوده التي بينتها الشريعة، فالعقل وسيلتنا للتعرف على الخالق جل وعلا، ووجوده، واتصافه بصفات الكمال، ثم في التعرف إلى صدق النبي المبلغ عن الرب تبارك وتعالى، ثم في التأكد من صحة نسبة الأخبار التي يبلغها الناس وينقلونها عن هذا النبي المعصوم، ثم في فهم هذه الأخبار، واستنباط الاحكام منها لتنفيذها...
لكن العقل لا يمكن له ان يحكم على الامور الغيبية، لانه ليس له وسيلة اتصال بها، إلا من خلال الخبر الصادق..
والعقل لا يمكن له أن يتوصل للتكاليف الشرعية المناطة بعنق العباد، أي لكيفية عبادة الله تعالى على الوجه الذي يرضيه، ولا سبيل له إلى ذلك إلا من خلال (النصوص المأثورة التي يصح سندها) والتي يهون من شأنها الشيخ ويسخر منها
والعقل ليس له أن يشرع أو يعارض ما شرعه الله، إن ثبت ذلك بالنص الصحيح سواء من القرآن الكريم أو السنة
(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهما الخيرة من أمرهم..)
وليس هذا لوجوب طاعة وخضوع العقل لخالقه وحسب، بل لمحدودية العقل وقصور إدراكه، فمهما عظمت عقول العقلاء والمشرعين، فإنها لا يمكن ان تضاهي في حكمها أو أحكامها، أحكام الحكيم الخبير العليم تبارك وتعالى، وتبقى نظرتها قاصرة، محكومة بحدود الزمان والمكان والمصلحة الشخصية او الفئوية، والهوى، والخبرات القاصرة، ولا تتمتع بشمول نظرة الشرع الحكيم، وملاءمته لكافة صنوف البشر، وعدم محاباته لفئة على حساب فئة، او طائفة على حساب أخرى.. وتجاوزه حدود الزمان والمكان
وقوله أن العقل حاكم وسيد حتى في الجوانب الدينية، يفتح نافذة واسعة للمنادين بالقوانين الوضعية، وللتغيير والتبديل والمراجعة في التعاليم الدين، فكيف يقول بهذا مصلح ديني؟؟ وإن خفيت عليه مرامي هذا الكلام الخطيرة، فكيف يكون إذاً في عداد العلماء؟ بله المصلحين؟ بله المجددين؟
ولا يخفى على الدارسين لعلوم الشرعية البون الشاسع بين الفلاسفة الإلهيين وأوهامهم، والمعتزلة وانحرافاتهم، وبين علماء اهل السنة والجماعة الراسخين، لهذا لا يملك طالب العلم إلا أن يندهش من وقوف رجل يقال عنه انه مصلح ديني موقفا أقرب للطائفة الاولى، وأبعد عن الطائفة الثانية...
"وأما الدعوة الثانية – التصديق بمحمد فهي التي يحتج فيها الإسلام بخارق العادة، وهذا الخارق للعادة هو الذي تواتر خبره، أي القرآن وحده، وما عداه مما ورد في الاخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهى، ليس مما يوجب القطع عند المسلمين، وهذا القرآن قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم، فهي معجزة عرضت على العقل، وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها حظه الذي لا ينتقص" ص 78
هذا الكلام أيضا يحوي كثيرا من المغالطات، فليس القرآن وحده هو الذي تواتر خبره، بل هناك جزء غير يسير من السنة النبوية ثبتت بالتواتر، عدا عن ان معجزات كثيرة ثبتت للنبي صلى الله عليه وسلم بنص القرآن، مختلفة عن القرآن نفسه، فكيف ينكرها من يؤمن بالقرآن، ويزعم أن معجزة (الخارق للعادة) محمد صلى الله عليه وسلم الوحيدة هي القرآن وحده؟ ومن هذه المعجزات معجزة انشقاق القمر، ومعجزة الإسراء؟ عدا عن معجزاته التي تواترت أخبارها في السنة؟ فكيف نثبت ما تواتر من القرآن؟ ونهمل ما تواتر من السنة؟
_____________________________
7- ذلك أنه يعتبر الوحي إلهاما وإشراقا نفسيا كما أسلفنا..