المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (التــــــغابن)  (زيارة 78 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(1)
يسبّح له كلُّ ما خلقه، ولك سخّرّه، وتكفر به يا من جعلك في الأرض الخليفة !
[/b]

وفي ظلال هذا الجزء من قرآننا، جزء "المجادِلة" ما نزال ننتقل بين سورة وسورة، بين تربية وتربية، لنجدنا  دوما بين "تخلية" و"تجلية" و"تحلية"... التخلية من صفات الإنسان الذي ينكص عن مهمّة الخلافة التي لأجلها خُلق...  والتجلية لمعالم الطريق الذي عليه سلوكه، والتحلية بصفات الخليفة في الأرض.

ما نزال في رحاب القرآن كلّه -كعادتنا- مع القوانين الإلهية، والكشوفات الربّانية لأحوال الأرض، وأحوال البشر، وأحوال الأمة الرائدة، التي هي خير أمة أخرِجت للناس. أخرجت لتكون المُصلحة لما أُفسِد في الأرض، لتُطعِمها من جوع العدل، وتؤمّنها من خوف الظلم ! أمّة جُعلت التّرياق والدواء للإنسانية وللوجود، بدستورها الشامل الكامل الذي تحمل، بالقرآن ... !
إنه دربٌ نقطعه، هو درب حياة البشرية قاطبة، ولا مشكاة لها تضيئ عتمته من دون القرآن ... !

ومجدّدا ... !  إنني لست أُملي عليك يا من تقرأ كلماتي ! ولكنني في كل مرة أدعوك لأن تعيش معي حياةً، القرآن فيها للروح روحٌ... حياة بكل أبجدياتها، ورسومها ومعالمها ومحاورها، هو فيها المشكاة التي تضيئ لنا، فنتبيّن بها سويّ الطريق من مُعوجّه، نتبيّن بها العقبات والمعيقات، والحُفَر والأخطار بكل أنواعها ... نتبيّن بها  جذور العلل في أنفسنا وفيما حولنا، ونستشرف الطبّ والحلّ ... !

امضِ معي عليها وأنت تَميز بعقلك خبيثا من طيب، وسليما من سقيم، وستذوق... ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف ... !
وهذا الجزء، وقد قطعنا المسافات فيه، حتى بلغنا منه مبلغنا هذا، وأضاءت لنا منه قبسات السُّوَر بدءا من "المجادِلة" وصولا إلى "المنافقون" ... كانت القضية المشتركة بين سُوَرِه "الانتماء للجماعة المؤمنة"، وخصائص هذا الانتماء، والتي أهمّها على الإطلاق "الولاء والبراء"، عرفنا كيف عالجتْ كل سورة منها جانبا من جوانب هذه الخاصيّة الحيوية (تُرجى العودة إلى مطلع :قبس "المنافقون" حيث إضاءات حول اختصاص كل سورة بجانب من جوانب القضية).

حتى بلغنا سورة "المنافقون" ونحن نلمح في سـَمْتها العامّ البيان والتحذير، والكشف للحقائق المستورة في أنفس أفراد هذه الفئة الخطيرة على الجماعة المؤمنة، فطُرِقت قضية الولاء والبراء فيها من باب التحذير من كذب المنافقين، وهم يدّعون ولاء وموادّة، بينما يُبطِنون كُرهاً ومحادّة ... !

خرجنا من سورة "المنافقون" ونحن أحدُّ إبصارا، خرجنا نبحث ونحثّ، نبصر في جنبات أنفسنا، ونبحث فيها عن تلك الصفات لا في غيرنا، فالله سبحانه ما حدّثنا عن صفاتهم، وما كشف لنا من حقائقهم، وما بيّن لنا كذبهم لنسقط على الناس من حولنا، أو لنجعلها علامات تخوّل لنا نَعْتَ أحدهم  بالنفاق !  فذلك ليس لنا، ولا من أدوارنا، بل هو لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور... ! له سبحانه وحده ... ! ولكنّ كشفَهم بشخوصهم اختُصّ به زمن رسول الله ﷺ، لما اقتضته حساسية تلك المرحلة، وضروريات تنقية الصفّ المؤمن .

لقد بصّرتْنا "المنافقون" من بداياتها بضرورة مراقبة أنفسنا، وبضرورة اجتناب هُوِيّ النفس إلى دركات تلك الصفات، بصّرتنا أن نحثّ النفس على اجتنابها، وعلّمتنا أن المظاهر دستور المنافقين الذي يحتكمون إليه، ومبلغ علمهم، من أثر كفرهم الذي يبطنون ... ! علمتنا الاحتراس من نفاق العمل وإن كنّا صِحاح العقيدة.

وقد ذكرت السُّوَر قبلها في عدد من آياتها صفات للمنافقين، ليجتنبها المؤمن، حتى جاءت  "المنافقون" مفصّلة في البيان والتحذير والتعليم،  وانتهت بالخطاب الصريح لجمع المؤمنين ألا يكونوا مثلهم في الاحتكام لمظاهر الدنيا وزينتها والغفلة عن ذكر الله وعن أمره : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) ﴾ [المنافقون].

أن يسارع المؤمن من قبل أن يأتيه الموت، فما من فائدة عندها وما من جدوى للأمنيات ! وهو الأجل الذي لا يؤخّر والله خبير بكل عمل، يحصيه ليُجازَى صاحبه يوم الجزاء من بعد انتهاء أيام دنياه، أيام الابتلاء ... !
هكذا انتهت سورة "المنافقون" بالإشارة إلى يوم الجزاء ... بالإشارة إلى علم الله بكل عمل، لإرادة منه سابقة، وحكمة قضت بمجازاة كلٍّ بما عمل في يوم مجموعٌ له كلُّ البشر... !

لنقف بعدها مباشرة على عتبات سورة تحمل اسم ذلك اليوم العظيم صريحا،  إنها : "سورة التغابن"...
فلنَسْبُر غَوْر هذه السورة، أتُراها تنضمّ إلى زمرة سابقاتها فتشاركها معالجة قضية الولاء والبراء، أم أنها تنفصل ؟ ! -ولو أننا ما عهدنا انفصالا- ولننظر في إطار ما يميّزها.

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ﴾

وتُستَهَلُّ بالتّسبيح كما عرفنا في "الحشر" و "الصفّّ" و"الجمعة"، التي افتُتِحت بالتسبيح، جاء في الأولَيَيْن بصيغة الماضي : ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) ﴾، وجاء في "الجمعة" بصيغة المضارع، كما جاء في هذه السورة كذلك، ليجتمع تنزيه الله العظيم من كل نقص وعيب بالصيغَتَين، أنه الذي سبّح له ما في السماوات وما في الأرض منذ الأزل، وأنه الذي يسبّح له ما في السماوات وما في الأرض إلى الأبد ... ! 

الله العظيم، الحقيقُ وحده سبحانه بهذا التمجيد وهذا التنزيه، وهو الكامل سبحانه، الذي ليس كمثله شيء، له صفات الكمال، وصفات الجلال، وصفات العظمة ...
وإن هذا الافتتاح ليُلْقي بظلال الهَيْبة والعظمة في النفوس، وكل ما في الأرض وما في السماوات يشهد لله تعالى بالكمال، وينزّهه عن النقص !  كما تُذيَّل الآية هذه المرة بـ : ﴿... لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ على خلاف آيتَيْ "الحشر" و"الصفّ"، حيث ذيّلتا بـ :﴿... وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾،وذيّلت افتتاحية "الجمعة" بزيادة " المَلِكِ القُدُّوسِ ":﴿...المَلِكِ القُدُّوسِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
ليجتمع تسبيح كل ما في السماوات وما في الأرض لله بصفاته المذكورة كلها،  لعزّّته وهو الذي لا يُغلَب، ولحكمته التي لا يشوبها خلل، ولمُلكه لما أوجد، ولحمد كل الخلائق له، ولطلاقة قدرته على كل شيء .

صفات هي لله وحده، طلاقة في كل واحدة منها !  كمال في أثر كل صفة !

وإنّ هذا الإنباء الربانيّ بحقيقة تفاعل الكون والوجود  مع الموجد سبحانه، لهو تعليم ضمنيّ للإنسان بحقيقة خالقه، فهو واحد من أهم تصوّرات العقيدة، العقيدة في الله الواحد الأحد الذي يُعبد وحده، ولا يُعدَل به شيء، وهو الذي لا ندّ له ولا شريك. تصوّر يجعل المؤمن على بصيرة من كمال ربّه المعبود الذي تتظافر كل مكونات الوجود في تنزيهه وتمجيده، ليبحث هو في نفسه، فيعرف -وهو يبصر هذه المكونات من حوله ويتفاعل معها وقد سُخِّرت له- أنه الأجدر بهذا التسبيح وهذا التنزيه، وهو الذي كرّمه ربُّه على كل ما خلق، وسخّر له كلّ ما خلق !

﴿... لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
المالك سبحانه لما خلق، الخالق لما ملك... يستحقّ الحمد على كل نعمه وآلائه، وهو الذي تقوم السماوات والأرض بما فيهنّ بأمره وتدبيره، وتتناغم وتتكامل وتتناسق بمـَنّه وفضله، فكيف لا يُحمَد أن سخّر للإنسان كلّ ما خلق ؟ !  للكائن الذي قضى في أمره أن يكرّمه بالعقل، ويجعله في الأرض خليفة . سبحانه الملك الذي هو على كل شيء قدير، لا تحدّ قدرتَه حدود، ولا يصعب عليه شيء، ولا يحول دون فعله ما يريد حائل !

هكذا هو هذا التصوّر الإيمانيّ الخاص الذي يؤسس لهذه العقيدة، التي تجعل كل الأمر لله، وتجعل كل الكمال له، فيعيش المؤمن عارفا بصفات ربّه، كلّما أعملها في نفسه وتمكّنت منه عقيدةً لا تتزحزح كلما كان مُقدّرا لربّه حقّ قدره، متوجّها له وحده، متوكلا عليه، منيبا إليه ! لا يكون وحده والله معه، ولا يضعف والله سنده، ولا يخاف والله مأمنه، ولا يذلّ والله عزّه ... !

وأذكر هنا أواخر السورة السابقة (المنافقون) وفيها الحثّ على ألا ينشغل المؤمن بالمال والولد عن ذكر الله، ليأتي في مستهلّ سورتنا ذكرٌ من أهمّ الذكر، تسبيح وحمد لله الملك الذي هو على كل شيء قدير ...فتَمُدّ السورة يدَها للسورة، لتمسك السورة باليد الممدودة، وتمضيان ... !

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) ﴾
أيها الإنسان ... ! يا أيها العاقل دون كل خلق الله، يا مكرّما بعقلك ! 

يا مخاطبا دون كلّ من خلق ! يا من سخّر لك كل ما خلق، يا مكلّفا دون كل ما خلق، ويا من حُمِّلتَ الأمانة... ! تلك التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبَيْن أن يحملنها، وأشفقْن منها ، وحملتَها... ! يا مَن حملتَها !
يا مَن كلّم ربُّك فيك ملائكته قائلا : ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
فقالوا فيك لربّهم : ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ !
فقال ربّهم وربّك : ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ... !!

الملائكة عابدون لا يفترون، مسبّحون بحمد الله لا يفترون ... ! ولكنّك كنتَ المكلّف دونهم، وكنتَ حامل الأمانة دونهم ... !
يا أيها المخلوق المكرّم !  كلُّ ما سُخِّر لك يسبّح بحمد ربّه وربّك ... أفلستَ الأحقّ أن يفعل، وقد سبّح له ما جعله لك سُخرة ؟ !
أيها الإنسان ...  أيها الناس... أيها البشر ... !

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ...﴾
فهي ذي أولى نِعَمه، وأعظم مِنَنه ... ! خلقكم من بعد ما لم تكونوا شيئا مذكورا : ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) ﴾[الإنسان] .
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(2)﴾
منكم كافر ومنكم مؤمن... !
 خلقكم وأنعم عليكم جميعا بنعمة الخلق والإيجاد، ولم تكونوا من قبل خلقه لكم شيئا، من عدم خلقكم ... ! من تراب أوجد أباكم ! ومن ضلع أبيكم أوجد أمّكم !  ثم أنتم من صلبٍ إلى رحم، من ماء مهين خارجون إلى الدنيا ! منتشرون في الأرض، عامرون لها، فمنكم رئيس ومنكم مرؤوس، ومنكم أمير ومنكم مُؤَمَّرٌ عليه، وكلّكم سائح في أرض الله، ماش في مناكبها، مبتغٍ من رزقه، آكلٌ من فضله، ساعٍ من إنعامه عليكم وفضله ومَنّه، ابتغاء فضله ونِعَمِه ومَنّه ... !

لولا خلْقه لك لما كنت شيئا، يا أيها الناظر مِن علُ !  يا أيّها المعتدّ بقامتك، وقوّتك، وبصرك، وبسمعك، وعقلك، وعلمك ... ! يا حاملا بين يديك سَوْطا تُلهِب به ظهر إنسان مثلك ! يا معتدّا بالسلاح تقتل به كلّ مَن قام بوجهك، وكلّ من حال دون جبروتك وشهوة تسلّطك، ويا مستكبرا بمؤتــمِرٍ بأمر منك كيفما كان، هو لك منفّذه وقاضيه فيمن قضيتَه فيه ... !

يا من قمتَ تُحاجّ إبراهيمَ في ربّه، أن آتاك الله الملك -وهو مالكه ومالكك- ولو لم يؤتِكَه لما كنت ذاك الملك ! إذ قال إبراهيم : "رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيت" قلتَ في تبجّح وصلافة وجهالة ووقاحة : "أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ"... !!

ولكن سرعان ما بُهِتَّ وإبراهيم يسألك أن تأتي بالشمس من مغربها  !  لا لشيء إلا لأنّ الذي جعل مطلعها من مشرقها، لتكون حياتها على الأرض في ساعات مشرقها المحدّدة، هو الذي حدّد كيف تكون الحياة في الإنسان ، وكيف تكون فيه الممات ... !
خَلَقَك، وأنعم عليك بألوان النعم لتحيا، ولتسعى، ولتتفكر،   فتمردت، واستكبرتَ، ونظرت فيما سخّره لك، فجعلته أداةً لاستكبارك ولحربك لخالقك، ولأمره فيك ... ! وأنكرتَ أن يكون شيء فيك وفيما حولك منه !  وكفرتَ بهُداه، وكذّبتَ الهُداة المبلّغين عنه، وافتريت عليه الكذب، وظلمت نفسك ! إذ استغنيتَ فتألّهتَ ! وحسبتَ أنك أحسنتَ بها صنعا، وأمدّ لك ربّك فتماديتَ وتماديتَ ... !!
فهل يليق كفرٌ بمن خلق، فرزق وأنعم وعلّم وهدى ؟ ! هل يليق كفر بمن أوجدك من عدم يا من أركستَ فيك فطرة فُطرتَ عليها، وعاندتَ، ولاججتَ، وأعليتَ عقيرةً بالكفر والإلحاد ومحاربة الله ورُسُله، ومحاربة شرع الله، وكلّ منادٍ بتحكيم شرع الله ... !

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ...﴾

ولكأني بـ : "فَمِنْكُمْ كَافِرٌ " !   تحلّ محلّ الاستنكار والعجب، من بعد منّة الخلق على العبد ! أفتكفرون وقد خلقكم ؟ ! أفتكفرون بمن خلقكم ؟ !   كما تقوم مقام كفران المنعَم عليه بالنعمة، وجحود العبد لفضل سيّده ... !
وكما أنّ منكم كافرا ... فإنّ منكم مؤمنا...
أنت يا أيها الإنسان المخيّر بعد الهداية، المخيّر ابتلاءً، أتحسن الاختيار أم تسيئ ؟ أتبصر فتهتدي، أم تختار العمى فتضلّ ؟ ! تعقل فتسمع، أم تقع بِشِراك الهوى فتُصَمّ : ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾ [الإنسان].

لقد خلقك بالقدرة على الاهتداء، وجعل فيك القلب والعقل، فإذا أنت أعملت عقلَك سمعت الهدى، وإذا أنت أبصرتَ بقلبك أبصرتَ الهدى ... ولقد هداك السبيل، وبيّن لك الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وأودعك الاختيار ، فإما أنت شاكر مؤمن، وإما أنت جاحد كفور... ! ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ  فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ  وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا  وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام:104].
إن قضيّة الإيمان والتصديق، والإذعان لله الخالق، والتسليم بأنّ كتابه هو الهدى، ليست قضية مقرّرات وإلزامات وإملاءات ...بل هي قضيّة اختيار ونظر، وإعمال للعقل، وإبصار للحق بعين القلب والعقل معا ... !

وقد شدّتني كلمات لابن عاشور في كتابه "التحرير والتنوير" عن منّة الخلق، وعبادة الشّكر التي لا تكون إلا للخالق : «إذ عمدوا إلى عبادة أصنام يعلمون أنها لم تخلقهم فَما كانت مستحقّة لأن تعبد، لأن العبادة شكر. قال تعالى﴿ أَفَمَن يَخلُقُ كَمَن لَّا يَخلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(17) ﴾[النحل]».

﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
بصير بما هو كائن منك أيها الإنسان، اخترت الكفر أو اخترتَ الإيمان، سبحانه يحصي عليك عملك، لأنك مبتلى في دنيا لن تدوم، ومُجازى في يوم دائمٌ ما بعده، إنْ إحسانا فبإحسان، وإن سوءا فبسوء ...
كما أنّ هذه الجملة الشريفة تُفنّد ضمنيّا دعوى مَن يقول بأن الآية تساوي بين كفر في الإنسان وإيمان !  بصير سبحانه بما تعملون، فهو يحصي ليجازي عبده بما قدّم، إيماءةٌ هي بالوعيد لأهل الكفر، وبالوعد لأهل الإيمان... وما دعوى المساواة التي ينسبونها للآية إلا تأويل هوائيّ من الكافرين، ومن الذين يميلون مع الأهواء حيث تميل،  يؤوّلون من القرآن فتوى لكفرهم بالقرآن ... !!  وهاتِ المنطق من خبطهم إن أفلحتَ ... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(2)
سوّى النفس وهداها وسوّّى الخلقة وعدلها، ليوم توفية الحقّ الذي به خلق!


﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) ﴾

وهذا مزيد من أساسات التصوّر الإيماني عن الله تعالى، مزيد من ذكر صفات الله تعالى وأفعاله، وفي هذه الآيات ظلال من "مكيّّة" القرآن... ولقد قال من قال بمكيّة السورة من جوّ هذه الآيات في صدرها،  جوّ العقيدة وتثبيت التصوّرات الإيمانية،  كما قال مَن قال بمدنيّتها، أو بشطر منها وشطر،  إلا أنّ هناك من رجّح مدنيّتها  كلّها، لأنه ما من مانع للتذكير بالتصورات العقدية في السُّور المدنية ... وإلى ذلك أذهب –والله أعلم-   وذلك اتساقا مع جوّ السُّوَر السابقة التي عرضت لقضية الانتماء، وقاعدة الولاء والبراء في المجتمع المسلم، وهي الأسس التي تحتاج إلى تذكير وترسيخ وتعهّد، وقد انتقل بها المؤمنون من مكة لَبِناتٍ تبني الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، أُسُس من عقيدة متينة صلبة تُبنى عليها النُظم الاجتماعية الحياتية للجماعة المؤمنة .

من بعد ذكره سبحانه لخلق الإنسان، وكيف يجحد مِن عباده مَن يجحد فيكفر به، وقد خلقه بعد أن لم يكن شيئا، ويؤمن من يؤمن، وهو سبحانه البصير بعمل كل عامل ...

يأتي الآن ذكر خَلْقِه سبحانه للسماوات والأرض، فإذا هو الخلق المتلبّس بالحق، في إشارة لغوية بحرف الباء في: " بِالْحَقِّ "، مع إشارة  قويّة إلى الغائية من هذا الخلق والحكمة منه، وأنه سبحانه ما خلق السماوات والأرض هباء ولعبا وبلا غاية، ومن لا شيء إلى لا شيء:  ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ(38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) ﴾ [الدخان].
بل لقد خلق السماوات والأرض أصلا لغاية امتحان الإنسان، ولبعثه ومجازاته على بلائه في ابتلائه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا  وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ(7)﴾ [هود].

وذلكم هو الحقّ، البعث للجزاء على الحَسَن بالحَسَن، وعلى السوء بالسوء، على الإيمان بالجِنان، وعلى الكفر بالنيران. كما أنّ في قوله سبحانه: "بالحقّ" مزيد تجلية لعدم تسوية بين كفر وإيمان، على ما يتقوّل الذين رأوا في قوله تعالى :  ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ...﴾ تسوية ! ذلك أنّ الحقّ هو الوجه الذي يضادّه الباطل، فخلقه السماوات والأرض بالحق، يقتضي تفريقه سبحانه بين حقّ وباطل، وأنّ الإيمان والكفر ضدّان، وكما أنهما لا يلتقيان في قلب رجل واحد، فكذلك لا يرتضي الله سبحانه كليهما -حاشاه- وهو الذي يقضي بالحق، ويخلق بالحق، فكيف يرتضي حقا وباطلا، وهو الذي خلق بالحق دون الباطل ؟ ! 

﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ﴾
خلق السماوات والأرض، وصوّر الإنسان، فجعله في أحسن تقويم...
يذكر سبحانه من مِنَنِه على الإنسان -من بعد ذكره لمنّة خلقه- منّة تصويره في أحسن صورة، فكل أجزاء جسمه متسقة، متناسبة، متكاملة، في شكل يُلقي في خاطر الناظر إليه الحكم بالحُسن على وجه، وعلى قدّ، وعلى مشية وعلى هيئة ... جعله بتركيب جثماني عظيم دقيق، مازال العلم إلى يومنا يسبر أغواره ويكشف أسراره، وبديع صنعه الناطق على تفرّد الخالق سبحانه بإبداع الخلق وكمال التصوير:﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) ﴾[الذاريات].

﴿ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ﴾ ...
منه الخلق سبحانه والتصوير، وإليه الرُّجعى والمصير ... !

وفي هذا أنقل ما وقعت عليه في تسجيل لداعية اسمه "الدكتور العصَيْمي" في  شرحه لكتاب  "فتح الرحيم الملك العلام في العقائد والتوحيد والآداب والأحكام " لصاحبه العلامة عبد الرحمان بن ناصر السعدي التميمي، فيه تفريق دقيق بين ثلاثة أسماء حسنى  لله تعالى، كلها تصبّ في صفة الإيجاد، أنقله في سياق الخلق والتصوير المذكُورَيْن  في هذه السورة :

« الخالق البارئ المصور، تجتمع كلها في أصل الإيجاد، فالخلق يتعلق بالإيجاد العام وهو التقدير، والبرء يتعلق بفصل المقدّرات من الموجودات بعضها عن بعض، فهو أخص من الخلق، والتصوير تتميم للفصل بالتفريق بالصور، فالله خالق بارئ مصور، خلق الأشياء بتقديرها تقديرا عاما في إيجادها، ثم فصل نظائرها بعضها عن بعض، ثم فرق بينها بالصور، فالحيوانات قدرها من موجوداته، ثم فرق بينها بما جعل من أنواعها، فبرأ أسدا وفهدا ونمرا مع كونها من السباع جميعا، ثم في الجنس الواحد -كالأسود مثلا- جعل لكل واحد منها صورة تختص به ... » . انتهى.

ثم انظر إلى ذكر الله تعالى لمنّة خلقه الإنسان، ثم منّة تصويره له، ذكر الخلق، ثم أعقبه بالتصوير، إذ قَرن بالخلق حال الإنسان الاعتقادي، بين كفر أو إيمان، فكان ذكر الاعتقاد القلبي أسبق من ذكر التصوير الجثماني،  وأرى ذلك من فرط التصاق إيجاد الإنسان بالغاية من إيجاده -كمخلوق مكرّم عاقل مكلّف- بالابتلاء، في بيان للغاية الكبرى من خلقه، ويصدّق ذلك قول الله تعالى  :  ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) ﴾[الإنسان]

منذ بدئه من نطفة، من قطرة ماء مهين، قُرن بالابتلاء : ﴿مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾.  بل إنّ خلق السماوات والأرض، كان أساسا لابتلاء الإنسان !! كما عرفتنا آية سورة هود:﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا  .... ﴾ [هود: من الآية 7].

وقد جاء ذكر التصوير بعد ذكر الخلق المقترن بالحالة الاعتقادية في سورتنا، لبيان اعتناء الله تعالى بسويّة نفس الإنسان وهدايتها، كما بسويّة خلقته واعتدالها. فكان الاعتقاد والجوهر أولى من الصورة  والمظهر.

ونمضي مع الآيـــــــــــــات :
﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) ﴾
انتهت الآية السابقة بقوله سبحانه : ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾، إليه مصير خلقه لحسابهم وجزائهم، فجاءت هذه الآية، تبيّن أن المصير إلى من يحيط علما بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية...

جاء ذكر علمه في هذه الآية ثلاث مرات، من الشأن الأعم إلى الشأن الأخص، فما في السماوات وما في الأرض شامل لشأن الإنسان، وما يعلن الإنسان وما يسرّ شامل لذات صدره، فجاء الانتقال من الأعم إلى الأخص، في تدليل على الإحاطة الكاملة الدقيقة المفصّلة التي لا تحدّها حدود، والتي تحيط بالدقيق كما تحيط بالجليل، وتحيط بمتناهي الدقّة كما تحيط بالدقيق، وتحيط بالخفّي كما تحيط بالجليّ ... !

فالذي خلق السماوات والأرض بالحقّ -سبحانه- يعلم ما فيها، والذي خلق الإنسان وصوّره فأحسن صورتَه، يعلم ما يسرّ وما يعلن، وهو العليم بذات الصدور، إيغالا في علمه بدقائق الأمور، بخباياها، وبخفاياها، حيثما اختبأت، وحيثما كانت، عليم بها سبحانه، لا يعزب عنه مثقال ذرة : ﴿...لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3)﴾[سبأ: من الآية3].

وهو الذي بطلاقة علمه، مع طلاقة عدله، مع طلاقة حكمته، مع طلاقة قدرته، يبعث كلّ مَن خلق من أول خلقه الدنيا إلى آخرها، ليحاسبهم جميعا، ويوفيهم أجورهم غير منقوصة ... !
وإنني لا أجد حِيال هذه العظمة خيرا مما جاء في افتتاح السورة يسعفني، ويعبّر عن استشعاري للهيبة مع هذه العظمة المطلقة، فأقول : سبحان الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير !!
تناسق وتساوق بين الآيات نلمسه ونعيشه، يجعلنا نسبّح، ويجعلنا نجيب عن الآية بالتي تسبقها أو بالتي تليها،  ونعقّب على المعاني وظلالها من السياق، ومن نسائم التساوق ... !

وانظر معي هذا الانتقال السّلس والملازم نحو يوم البعث نقطة بنقطة... !
ظلاله تُلقى في ثنايا الآيات إيماءات تحملها العظمة الإلهية في كمال صفات الله سبحانه وجلال ذاته... من بداية السورة وهي تظلّنا ...

* ففي قوله سبحانه : ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ﴾  : على كل شيء قدير سبحانه، لا يعجزه شيء، كما لا يُعجزه البعث وهو أكثر ما يكذّب به الكافرون، بينما هو أهون عليه سبحانه من الخلق الأول .

* وفي قوله سبحانه :﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) ﴾: أفبعد أن خلقكم يُكفَر به؟ !! فكيف لا يكون من يوم للجزاء ؟؟ وقد وقع بحكم إيداع الله للاختيار في الإنسان، الاختلاف حول ما تسوق المقدّرات وما يحيط بالإنسان -من عظمة الإبداع الإلهيّ في النفس وفي الكون المسخّر له-  إلى وجوب الإيمان به، وعبادته وحده، وعلى هذا تعيّن أن يَلقَى الكافر في ذلك اليوم وبال اختياره، وعاقبة ضلاله. زيادة إلى : " بَصِيرٌ " سبحانه الذي يعلم كل أعمال عباده، ويحصيها عليهم، لمجازاة كلّ بما يستحق يوم الجزاء.

* وفي قوله سبحانه :﴿ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)﴾ : بيان أوضح في أنّ الخلق منه، وأنّ الأوْلَ إليه سبحانه في يوم اللقاء الأعظم .

* وفي قوله سبحانه :﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) ﴾: إحاطة علمه بأحوال كل ما خلق، بكل ما في سماواته وأرضه، وبكل ما يُظهر الإنسان وما يضمر، لموافاته بكتابه يوم الحساب، ولتوفيته حقّه .
وبعد جولتنا مع هذه الآيات الأولى، أحب أن أعود مرة أخرى إلى فِرْية المفترين على الله، المؤوّلين الآية الثانية من السورة بأنّها التسوية بين كفر وإيمان، لننظر إلى دور السياق وترابط الآيات وتكاملها، في إعطاء الصورة الكاملة للمعنى المُراد... فأين معنى التسوية المزعوم، وأن الله يرضيه كليهما-حاشاه سبحانه- ونحن -آية إثر آية- يتبين لنا أن قوام أمر الدنيا ووجودها هو "الحقّ"، وأن الحق هو ما يرتضيه الله سبحانه، وغيره الباطل، هو الهدى وغيره الضلال، الضلال الذي سيلقى من اختاره على الهدى عاقبة سوء اختياره، وهو الذي هُدِي وأرِي الطريق ولم يُترَك سُدى : ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (39) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ (40) ﴾ [القيامة].

لذلك فإن القرآن لُحمةٌ واحدة، لا يستقيم أن نفهم المراد منه فَهْم الأشتات المتفرقة، لأن ذلك يفتح أبواب التأويل الهوائي لمن هبّ ودبّ ... وها نحن على دربنا نمشي مَشْي الذي يقتبس من نور الآيات المتواليات للخطوات المتتابعات ... !
ثم انظر معي ...انظر... فإنّ القبس يجعلك تبصر ... !

 إن بين الآيات تناغما، وتناسما ... إن الآية منها لتكرّس لمعنى الآية، وإنها لتبعث بك للواحدة منها لتأخذ منها التصديق والتأكيد ... !
اذكر معي في آية التسبيح، وهي مفتتح السورة، تذييلها بقدرة الله المطلقة : ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ... أليست تُلقي بمعاني القدرة المطلقة على فعله سبحانه أي شيء ؟ ! أليست قدرته بالتي تأتي على كلّ من يكفر من عباده فلا تُبقي منهم ولا تَذَر ؟ ! فلا يُسمَع لهم بعدها من ركز في الأرض؟ ! والأرض اليوم تعجّ بالكافرين، والله سبحانه يبقيهم... إنها حكمته وإرادته، وقضاؤه الذي قضاه أن تكون الدنيا دارا للابتلاء، فيُبتلى مؤمن بكافر، وكافر بمؤمن، أيثبت مهتدٍ على هُداه أم يضلّ، أيتحول ضال عن ضلاله أم عليه يقيم ؟ ! : ﴿ ...وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا  ﴾ [الفرقان : من الآية 20].
ولنمضِ مع السورة وآياتها المترابطات، ولنقتبس لدربنا ! فإنها أنوار العلم وأنوار الهدى، وأنوار الحقّ، وأنوار العقل الذي حبانا به المولى سبحانه، لنبصر ولنسمع ... فاللهمّ بصّرنا ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(3)
وبين "زعم" العبد، و"حقّ" الربّّ القديرّ مسافة:
﴿بََلَى وََرََبِّّي لَتُُبْْعََثُنّّ ﴾!


﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) ﴾

ويْكأنّ الآيات وأنت تعايشها، وتمشي معها الهُوينى، وتستشرف مراميها، وتبحر في تفاصيلها، تجعلك تسبق فتقول بما سيلحق فيها ... ! عن طلاقة قدرة الله تعالى قلت، عن قدرته على إهلاك كل كافر، حتى وجدتُني -وقد كتبت ما كتبت- مع هذه الآيات دون سابق نظر فيها ساعة كتبت ... !

إنها تجيبك، إنها تروي غليلك، إنك حينما تعيش حياة الغوص في بحر القرآن، والاقتباس من أنواره، والتأمل والنظر والتفكّر والتدبّر في آيِه ، تجدها تحاورك، تسألك، تجيبك، تفتح معك الآفاق، وتبادلك العيش والحياة والحركة كما بدأتَ معها ... !
لكأني بالآية تسألني، وقد تفكّرت في حال الكافرين وقدرة الله على إهلاكهم :

﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5﴾
لقد جاءت استفهاما للمشركين حول رسول الله ﷺ، جاءت تبكّتهم، جاء استفهاما تقريريا، تبكيتيّا ... سؤال يُحدث هزّة في النفس الغافلة اللاهية الذاهبة عن الرشد ...
إنّ أنباء مَن سبقكم قد لحقتكم، إنكم لتمرّون على ديارهم، وإن قَصصهم لبالغ لكم جيلا عن جيل، قوما عن قوم، عُمّارا للديار عن عُمّار قبلهم ... قوم عاد في شبه الجزيرة العربية، وقوم ثمود بعدهم، وقوم لوط قريبا منهم ... كلّهم قد تنوقلت أخبارهم ...
والكافرون في كل زمان ... وخطاب القرآن يعنيهم كما عنى مَن قبلهم ... هذا الكتاب الذي أنزِل هدى للناس جميعا، وبُعث به النبي ﷺ رحمة للعالمين ... خطاب لكل زمان، وتقرير لكل زمان، وتبكيت لكفار كل زمان ... وهو السؤال الذي يُسأَلُه كل الناس مؤمنهم وكافرهم، وكلّهم يعلم من تلك القصص، ومن تلك الأحداث ... يذهب الأصل وتبقى الآثار شاهدة على ما كان في دارِس الديار ...يذهب البشر، ويبقى التاريخ يخلّد الأحداث، ويرويها ... !

أما نحن أهل القرآن !  فقد جاءنا النبأ اليقين، والقصص الحق من ربّ العالمين في هذا الكتاب المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ...
بلى قد جاءنا نبؤُهم يا رب... ! قد جاءنا ... !

الذين كفروا من قبل، ذاقوا وبال أمرهم، ذاقوا عاقبة اختيارهم الكفر على الإيمان، ذاقوا عذاب الله الذي جاء الرُّسُل ينذرونهُموه ...جاؤوا يدعونهم أن يؤمنوا لئلا ينالهم، ولكنهم أصرّوا وعتوا، وتجرؤوا، وكذّبوا، وافتروا على الله الكذب، وجعلوا يستهزؤون بالرسل، ويذيقونهم علْقَمَ عنادهم وكبرهم ... ! 

أهلك الله أقواما، وأنزل بهم عذاباته ألوانا، فمَن أهلكه بالغرق، ومن أهلكه بالريح، ومن أهلكه بالصيحة ... ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) ﴾ [العنكبوت].  ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) ﴾ [الحاقة] .

عذابات الدنيا، وعذاب أليم ينتظرهم يوم القيامة ... عذاب اليوم الآخر لمن كفر باليوم الآخر !

وها قد بلغنا التصريح في السورة من بعد الإشارات التي عرفنا في الآيات الأولى، التصريح بعذاب اليوم الآخر ... عذاب الكافرين ... وانظر في السّياق والتّساوق والتّناسق، وكيف تُجمَع لك أطرافُ المعاني لينجلي عنك اللُّبس، وتتجلّى لك الصورة ... ! انظر إلى مَن يأخذ بالقطعة ويأتيك يريد أن يبهتَك وهو يقول : «إن ربك في القرآن يساوي بين كفر وإيمان، يرضى من العبد كفرا كما يرضى منه إيمانا» !!   قل له عندها : «ألم يأتِك نبأ الذين كفروا من قبل ؟؟ ! »..  أجبْه بالقرآن عن شُبْهته في القرآن ... ! ولا تُصغِ منك أذنا لمَن يُلقي إليك بالشبهة مغلّفة بقطعة تأويل هوائية منه على أنها الآية التي تصبّ في شبهته ... !

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) ﴾
هذا سبب ما لحقهم من عذاب وإهلاك في الدنيا، وسبب ما ينتظرهم في الآخرة، إنهم كانت تأتيهم رسل الله بالبينات، فكانوا ينكرون أن يُبعث فيهم رسول بشر منهم، وذلك من استكبارهم، وعنادهم ولجاجهم، ومن قلة تفكّرهم في آيات الله من حولهم، وفيما جاءهم به رسلهم من آيات خارقات رأتها أعينهم، ولمستها أيديهم، ومن آيات بينات في كتبهم تهديهم سواء السبيل... !

كانوا يسألون بعثة الملائكة رسلا، كانوا يحسبون أنّ لهم أن يُملوا على الله ما يفعل وما لا يفعل : ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ  قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2) ﴾[يونس].  ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ  لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) ﴾[الفرقان] .   ﴿ قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا (95) ﴾ [الإسراء].

البشر أهل الأرض، والملائكة أهل السماء ... والأرض ليست للملائكة مستقرا ولا مقاما، ولو كانت لهم كذلك لأنزل الله ملائكة من جنس الملائكة يهدونهم ... !  أي أسوة هي للبشر فيمن لا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج، ليس فيه من خصائص البشر ما يدعو البشر لاتباعه ... ! أيّ حجج واهية، وأي لجاج، وأي فراغ ؟!! إنما هو العناد، وإنما هو حجب البصيرة وطمس التعقّل بالهوى ... !! فلا سمع ولا إبصار... !!  ويُلبسون لِجاجهم ثوب الحِجاج، فتراهم يستشنعون الحق والمنطق  كمن يستشنع الباطل والهُراء : ﴿... فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ...﴾ !!

لن يهدينا بشر منا ... ! ليسوا خيرا منا... يظنون أن الله يُملي عليه عبدٌ من عباده أمرا ... ! أو أنهم يعلمون ما لا يعلمه سبحانه !  وتحضرني هنا قصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، حينما قالوا لنبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون خلفه في سبيل الله: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا  قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ  قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ  وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)  ﴾ [البقرة].

يزِنون بموازينهم الدنيوية، يزنون بظاهر من الحياة الدنيا، يزنون بالمظاهر التي يحتكمون إليها من قلة فقههم وضيق أفقهم، ومن انكفاء أنفسهم على كفرهم ومن إعراضهم وتكذيبهم ... ! فكانت تتمة الآيتين: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ  وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ . 
يؤتي ملكه من يشاء...  واسع  عليم، يؤتي النبوة من يشاء، ويؤتي فضله من يشاء ... طلاقة المشيئة منه سبحانه، وطلاقة العلم وطلاقة الحكمة ... !

ثم يا أيها المنكرون أن يكون الرسول بشرا، ما بالكم تتخذون أصناما آلهة تُعبَد، وهي صور لرجال صالحين كانوا بشرا من البشر ؟ ! عجبا لكم إذ تعجبون من بشرية الرسول، ولا تعجبون من تأليهكم حجارة صورا لمن كان بشرا ... !

﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) ﴾
فكفروا وتولوا، وأعرضوا عن الهدى لاستمساكهم بقشّة الرسول البشر، واستغنى الله عنهم، سبحانه لأنه الغنيّ الحميد ... غنيّ عن كل خلقه، لا يزيد مؤمن في ملكه وفي قوته، ولا ينقص كافر من ملكه ومن قوته ... مع كفرهم به، هم الفقراء إليه الذين ينالهم من عطاء ربوبيته ما ينال البشر جميعا، فيعطيهم، وهو الغنيّ عنهم ... !

العقل يقضي بأن الذي خلق والذي ملك هو الذي يُعبَد، والخالق الموجد الممتنّ عليك بالإيجاد أصلا، مستغن عن إيمان مخلوقه به، ومن يسدي لك معروفا،  ينتظر منك عرفانا وشكرا،  فهذا الخالق أكبر منّاً وأكبر تفضلا عليك، بالكينونة والإيجاد،  ورغم ذلك هو عنك المستغني...!
 ولكأنّ الآية بيان وجواب  على الاستنكار الذي يقع من نفسك موقعه، حينما  تقرأ في الآية الثانية أن من خلق يُكفر به : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ...﴾ !

﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) ﴾
ومن إنكارهم على الرسول اصطفاء الله له وبعثته بالرسالة وهو البشر منهم، إلى إنكارهم للبعث .. هكذا هُم ! وإن إنكارهم للرسول وتكذيبهم ببعثته، وتطاولهم عليه، ووَهْمَ إملائهم أن يكون الرسول ملكا، شامل لإنكارهم ما يأتيهم به الرسول من التعليم والهدى والإخبار بالغيوب المحجوبة عنهم، فكان إخبار الرسول لهم عن شأن البعث واليوم الآخر، متفرعا عن كونه رسولا أصلا، فلما كذّبوا به جاء تكذيبهم بما يبلغهم من شأن الرسالة،  من قواعد الإيمان والتصور الإيماني للوجود، وللغاية منه، وأنّه كائن بعده أوان للجزاء والحساب ...

ولننظر تَمَحْوُر السورة حول يوم البعث، ولننظر بلوغنا اسمه صريحا في : ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ﴾من بعد ذلك التعريض، وتلك الإشارات التي سبقت في الآيات .
وها هم المشركون يزعمون زعما بغير علم، والله يخاطب العقول، وله الحجّة البالغة، يعطي العلم سبحانه، ويسأل العقول أن تعطي مما هو من عمل العقول :  ﴿...قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا  إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) ﴾ [الأنعام] .
إنهم يزعمون، يقولون بلا دليل، بلا حجة، بلا برهان، والزعم هو القول يغلب عليه الكذب، فأي تقرير وأي حقيقة تلد من رحمٍ عقيم ؟ !! إن الحقيقة لا تلد إلا من العلم والحجة والدليل ... !
أأنتم الإله الذي خلق ؟﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) ﴾ [الطور] .   

أم أن شركاءكم الذين تدعون قادرون على خلق شيء ؟ !  ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ  إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ  وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ  ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ﴾ [الحج].
أي شيء في أنفسكم أو في الكون مِن حولكم يدين لكم بالخلق، حتى تقرّروا -زعما- ألا بعث ...؟ !
ألا قولوا ! أأنتم خلقتُم لتعلنوا ما قرّرتم بعد خلقكم ؟؟ !

ألا أفصحوا ! أيّ شيء تملكون أنتم من سرّ الإحياء أو سرّ الإماتة، لتملكوا أن تقرّروا بعثا من عدمه ؟؟ !
إنه سبحانه ما عيِيَ بالخلق الأول ليعيَا بالخلق الثاني وهو عليه أهون ! أما أنتم فليس لكم أن تقرّروا شيئا لستم أهلا لبلوغ معناه وسرّه لا بالإيجاب ولا بالسلب ! إنه ليس لكم ... ! بل للذي خلق الخلق الأول، والخلقُ الثاني عليه أهون ... !

﴿...قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) ﴾
وهذا رسول الله ﷺ يلقّنه ربه أن يجيبهم، يجيبهم بالقسم بالله أنهم مبعوثون:﴿ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾  وإنه ليس البعث وحده بل إنه البعث لغاية الحساب : ﴿ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) ﴾. تبعثون لتنبّؤوا بما عملتم، وتنبّؤون لتحاسبوا، ولتُوَفَّوا أجوركم ... ولتلقوا جزاء ما عملتم ... وما ذلك على الله بعسير، بل إنه عليه لَيسير ... !
وفي القرآن آيات ثلاث، جاء فيها القسم بالله على أحقيّة البعث، وهي على التوالي:

*﴿وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (53) ﴾ [يونس].

*﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ  قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3) ﴾[سبأ].

*وآيتنا هذه من سورة التغابن : ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) ﴾

وإنّ آخر هذه الآية : ﴿ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ  ﴾   لَيعيدنا إلى بداية السورة، إلى آية التسبيح  :
﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ في ذلك التناغم الذي عرفناه في رحاب هذه السورة،  كيف يعسر عليه البعث والإنباء والحساب والجزاء، وهو على كل شيء قدير ؟ !  لقد تقررت طلاقة قدرته سبحانه، التي لا يجوز معها إنكار ما يُنكَر على محدودي القدرة، لا يجوز مقارنة ذي القدرة المطلقة بمحدود قدرة !
وأحب أن أشير هنا إلى أمرٍ ملفت ... فلنتأمل ... !

﴿ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ  ﴾    فيها معنى : ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
إنها هنا النتيجة التي نستطيع أن ننطلق منها انطلاقا عكسيا لنصل إلى مسبباتها :
تُُبعََثون حقّا وبََعْْثُكم عليه سبحانه يسير ------ >   لأنه سبحانه يسبّح له كل ما في السماوات وما في الأرض وهو على كل شيء قدير.
تُُبعََثون حقّا وبََعْْثُكم عليه سبحانه يسير ------ >  لأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض،  وما تسرون وما تعلنون .
تُُبعََثون حقّا وبََعْْثُكم عليه سبحانه يسير ------ >  لأنه خلق بالحق، فلا تسوية بين مؤمن وكافر : ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36﴾ [القلم].
والآيات بتسلسلها عرفنا منها انطلاقا من البدايات إلى النتيجة، وفي كلا الاتجاهين بيانٌ لطلاقة قدرة الله تعالى، ولخَلْقه سبحانه بالحقّ في الخلق الأول وبالحقّ في الخلق الثاني سواء بسواء.
ومع هذه الآية نكون قد بلغنا التصريح بيوم البعث -وقد كان التعريض به فيما سبق  من خلال مواجهة إنكار الكافرين له، وتقريرهم الهوائيّ الذي لا مبنى له ولا معنى-  بالقسم على أنه حقّ، وأنه على الله يسير، لنجدنا الآن في عرض آيات جديدة، نحاول أن نقف عندها، ونرقب الترابط :
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(4)
مقاماتٌٌ للمتغابنين يوم التغابــــــــــــن!


﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) ﴾
وعلى هذا الذي عرفنا، وعلى هذا الذي بيّن الله لنا، فليس أمام العبد إلا أن يُذعن لله تعالى لينجو. وأعود في كل مرة إلى قضية الآية الثانية من سورتنا، لأنها مثال على ما انتشر من تحميل آيات القرآن الكريم ما لا تحتمل من معنى، بل لتُناسب حاجات في أنفس المشككين والطاعنين في الدين، بقرآنه وسنّته، وهم دأبهم الاقتطاع من السياق، وادّعاء بثّ القرآن لقضيّة نسبية الحقيقة، وأنّ الحق أوجهٌ لا وجه واحد، وعليه فإنهم يتأوّلون قوله سبحانه : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) ﴾ على أنه رضى الله سبحانه بالكفر كما بالإيمان !

فلننظر في كل مرّة إلى دور السياق وتساوق الآيات، وبيان لاحقها لسابقها، وتناغم سابقها مع لاحقها، فبعد بيان الحق في خلقه الأول للسماوات والأرض، وللإنسان، وبيان الحقّ في البعث خلقا ثانيا هو عليه أهون،  هذا أمره سبحانه لعباده أن يؤمنوا، وهو الذي خلقهم وهداهم للإيمان به، ما تركهم سُدى، وما تركهم هملا، بل بيّن لهم، وزوّدهم بالتصور اللازم لهذه الحياة، ولوجودهم فيها، ولما ينتظرهم بعدها...

آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزل على رسوله، بالقرآن، آمنوا لتنجوا من هولٍ توعَّدَ الله به كل كافر في يوم عظيم، فيه اللقاء العظيم، فيه يُوفّى كلٌّ حسابَه ... !

وهنا أحــــــب أن أقف وقفة...
إن قرن الإيمان بالله ورسوله بالإيمان بالقرآن بيّنٌ، ذلك أن أمر الله تعالى وهداياته مبثوثة في هذا الكتاب الذي أنزَلَ على رسوله ﷺ، هو وعاء الهُدى، والرسول هو الحامل له والمبلّغ لهداياته ...  وإنّ واحدا من أهم أسباب إعراض مَن أعرض عن القرآن إنكارهم للآخرة، إنكارهم للبعث وليوم يُحاسَب فيه الإنسان على ما قدّم في الدنيا، يريد أن يعيث فيها دون قيد ولا رقيب، ولا حسيب ... لا يريد أن يُحاسب، بل أن يطلق العنان لهواه ولشهواته،  وهذا حال إنسان هذا الزمان، ولعلّه أشدّ وطئا من حال من سبقه في أزمنة مضت ... !

إنسان صنع من المادّة أداتَه ليكبر، ويعلو ويعلو ! حتى رأى نفسه المستغني عن إله، علا واستكبر حتى طغى وتجبر، وتُرك للامتحان والابتلاء، ولله يرى عمله ويرى أين يبلغه طغيانه، فحسب أنه الإله على الأرض، وأنه الذي يفعل فيها ما يريد، وكما يريد، وبالشكل الذي يريد ... !

لهذا يجد عبد الدنيا وعبد المادة، وعبد الشهوة  ثقلا كبيرا في أن يؤمن برقيب يحصي عليه أعماله ليحاسبه عليها، يجد ثقلا كبيرا في الإيمان بيوم مجموع له الناس، يقف فيه العبد ليُنبَّأ بما عمل، وليُحاسَب وِفق ما بُصّر به في الدنيا، وما بُلّغ به من ضوابط وأوامر ونواهٍ :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) ﴾[القيامة].

يريد ليفجر أمامه، فلا يؤمن بحسيب رقيب، سيلقاه في يوم لا ريب فيه ... !  وإن كان ما يدّعيه ويزعمه من أنه لن يُبعث، فليمنع عن نفسه الموت !  ذلك الحق الذي يعلم –وإن تناساه- أنه آتٍ، تلك المرحلة التي تأخذه إلى حيث ينكر ... ! وحتى إن تمادى وقال أنه لا ينقله إلى دار أخرى، فليقهره وليغلبه وليمنعه... !  لماذا لا يملك القدرة على الامتناع عن المضيّ نحو مجهول لا يحبّ أن ينتقل إليه، من دار هو يعبدها ولا يريد منها خروجا ... !

وقد أورد القرآن استفهاما فيه استنكار إعراضهم عن القرآن، وجاء معه الجواب عن علّة ذلك فيهم : ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً (52) كَلَّا  بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) ﴾ [المدثر].

إنهم معرضون عنه، لأنهم لا يخافون الآخرة: ﴿ كَلَّا  بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) ﴾  لا يؤمنون بها ... كما جاء في سورة الإسراء : ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا (45) ﴾[الإسراء]. حجاب مستور يُضرب بين المنكر للآخرة والبعث وبين القرآن ... ! 

ولذلك جاءت الدعوة في هذه الآية من سورة التغابن إلى الإيمان بالله وبرسوله، وبالقرآن، من بعد بيان أحقيّة البعث،  لأن تحقّق الإيمان بالآخرة من جملة القرآن،  يوجب في النفس الإيمان بالقرآن جملةً، وإنكار خبر الآخرة من جملة ما جاء من خبر القرآن يؤدّي إلى إنكار القرآن كلّه  وإنكار أوامره ونواهيه وأخباره الغيبية، القرآن فيه تعليم الله سبحانه عباده ليستعدّوا، ولئلا يكون للناس ساعة اللقاء على الله من حجة، فلا يقول كائن مَن كان أنه لم يُنذَر، وأنه لم يدرِ ولم يعلم، وقد أقام الله عليه الحجة بالرسول وبالكتاب .
إنها الدعوة إلى سبيل النجاة في اليوم الآخر : ﴿ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) ﴾، خبير سبحانه بحقيقة من يؤمن، وبحقيقة من يكفر، وبحقيقة من يظهر الإيمان وهو على الكفر... الخبير سبحانه، العليم بذات الصدور.

﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ﴾
 وهكذا انتقلنا من آية إلى آية بسلاسة وانسياب حتى بلغنا التصريح بيوم البعث، ولمن يتأمل وينظر، ويُعمل التفكّر، فإنه لم يكن انتقالا مفاجئا، بل لقد كان تدريجيا، بدءا من أول آيِ هذه السورة إلى الآية السابقة، حيث ذُكر البعث بصيغة الفعل المضارع : " أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا "، بينما جاء هنا(الآية09) باسمه...  باسم جديد، هو اسم السورة أصلا، وهو موضوعها  "التغابن" ...

ولننظر الرابط بين هذه الآية وسابقتها، والتي كانت فيها الدعوة للإيمان بالله ورسوله والقرآن، ليأتي بعدها مباشرة ذكر يوم الجمع، يوم التغابن...لقد كانت فيها تذكرة مسبقة بما يُنجي من أهوال هذا اليوم، وبما يجعل الإنسان فيه سالما سعيدا، مشرق الوجه، آمن النفس ...

﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ... ﴾
يومَ يجمع الله كل عباده، كل من خلق ...يوم يبعث فيه سبحانه عباده في خلق جديد، هو خلق بالحق كما كان خلقهم الأول بالحق، كما كان خلق السماوات والأرض بالحق، الله الذي هو على كل شيء قدير...يومٌ يُنبَّأ فيه الإنسان بما عمل، والله مُـحْصٍ عليه في دنياه كل أعماله، عليم بما ظهر منها وما خفي، عليم بذات الصدور ... !

ويليق أن تكون : "يَجْمَعُكُمْ "  بمعنى جمعه سبحانه كلّ البشر ليوم الجمع، كما يليق أن تعني أيضا جمع العظام ليوم الجمع، والتي جاء عنها في سورة القيامة :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾[القيامة].
ليس اسم "التغابن" ليوم القيامة بتلك الشهرة التي هي لغيره، من مثل "الحاقة"، و"القارعة"، و"الغاشية"، و"يوم الفصل"، و"يوم الدين"، و"يوم البعث" ...

ولقد اجتهدتُ في قراءة ما جاء عن أئمة المفسرين في معنى "التغابن"، فوجدت اقتضابا في سرّ جعلها اسما ليوم القيامة ... حتى أن ابن عاشور –عليه رحمة الله- في تفسيره "التحرير والتنوير"  من بعد بذل جهده في النظر في مدلولها، يحدّث عن ذلك الشحّ في تفسيرهم لها فيقول: « وأكثر المفسرين مر بها مرّا . ولم يحتلب منها درّا . وها أنا ذا كددت ثمادي ، فعسى أن يقع للناظر كوقع القراح من الصادي ، والله الهادي . » -التحرير والتنوير-

ولقد لاحظت ما لاحظ ابن عاشور من تقصير في الوقوف عند مدلولها بما يروي الغليل ويفصّل، ويُبيّن وجه جعلها اسما ليوم القيامة ...فوجدتُني أقف عندها، أبحث في مقامات للإنسان في يوم القيامة تليق بهذه التسمية تحديدا، حتى وقعت على ما أراه يحمل معنى التغابن في ذلك اليوم العظيم ...
وجب أولا أن نتبيّن معنى "التغابن" لغويّا . فهي من مادة : "غَبَنَ" يغبن غبنا: غَبَنَ حَقَّهُ : نَقَصَهُ .غبَنه في البيع والشِّراء :غلَبه ونقَصه وخدعه ووكسَه.
إذن فهو إنقاص يحصل من جهة إنسان تجاه إنسان، فلا يعطيه القيمة المستحقة لما يأخذ منه، وقد كثر استعمالها في التجارة... ولكنّ الكلمة هي : "التغابن" على صيغة المفاعلة والتفاعل، أي التشارك في الفعل الواحد، من مثل "التحاور"،  وهو الحوار يكون بين اثنين أو أكثر، فكلٌّ  يأخذ بحظ منه وطرف، و"التبارز"  فكلٌّ يبارز الآخر،  فـالتغابن هو ما يكون من غبن متبادل، أي أن الناس يغبن بعضهم بعضا، فلا يعطي الواحد منهم الآخر حقّه، كلٌّ يغبن الآخر، فغابن مغبون ومغبون غابن .

وهذه الصيغة التشاركية هي التي جعلتني أتأمل ما جاء عن مدلول الكلمة، وموقع فعلها في ذلك اليوم، فقد جاء عن كثير من المفسرين -إن لم يكن كلّهم- ما مفاده أنّه يوم يتغابن فيه أهل الجنة وأهل النار، فيأخذ أهل الجنة الثمن الوافي، ويأخذ أهل النار الخسار والبوار.
ولكنّني هنا لم أشتفِ !   ورأيت أن الأمر يحتاج مزيد تفصيل وشرح لهذه الحالة، حتى لا يبقى من لبس في كون الغُبن يقع من أهل الجنة، وكأنهم قد بخسوا أهل النار حقّهم، أو كأنّ الأمر بيدهم يومها ... !  بل  لقد رأيت أن التغابن يتخذ في ذلك اليوم أشكالا، ويقع في مقامات استوحيتها من خبر القرآن العظيم، أذكرها فيما يلي مرقومة :

* بمعنى الغبن في التجارة: الإنسان في حياته الدنيا في تجارة، فإما أن تكون تجارة رابحة، وإما أن تكون تجارة خاسرة، بحسب اختياره، ولقد وصف الله تعالى الكافر وهو يختار الكفر على الإيمان بقوله سبحانه: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) ﴾ [البقرة].  اشتروا الضلالة بالهدى، فغُبِنوا... !  غبنوا أنفسهم، بخسوها حقّها، وهي النفس التي خلقها الله، وأودعها أدوات الإدراك والاهتداء !  أودع فيها القدرة على الاختيار وإعمال العقل لسماع الحق، وإيقاد جذوة البصيرة لإبصار الحق، أودع فيها سبحانه الفطرة السليمة التي تحتضن الحق وتعرفه، جعل الإنسان سميعا بصيرا، وهداه السبيل، وأرسل الرُّسُل الهُداة، وأنزل الكتب الهادية ... ولكن الكافر اشترى الباطل بالحق، الضلالة بالهدى، فكان أهل تجارة خاسرة، لم تربح في الآخرة، أبلغ نفسَه تلك المهالك، فغبنها... !  وُهِبَها بكل تلك الأدوات الحيّة لتحيا، ولكنّه أماتها في نفسه، واختار العمى، واختار أن يغبن الفطرة فيه، كان يظنّ أن بَيْعَه رابح، فإذا الثمن الحقيقي خاسر، فغُبِن... !  والإحساس بالغبن إحساس بالحسرة على خسارة التجارة ، حسرة تعتصر صاحبها !
لذلك أرى أنّ الإنسان ونفسه، كلّ منهما قد تعامل بتجارة مع الآخر، فالنفس التي بين جنبيه وُهبها بكل تلك المكونات المربحة، بينما هو غبنها، فأبلغتْه مهلكه .-عياذا بالله-  وأستحضر هنا قوله سبحانه : ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) ﴾ [النور].  إنها أطرافهم ! جنباتهم ... إنها تشهد عليهم ... ! انظروا إلى التغابن، فهو يغبنها، وهي تغبنه... !!

* المؤمنون يغبنون الكافرين في ذلك اليوم: ولكنّ هذا الوجه -عندي- لا يُقبل هكذا على عواهنه، بل من حيث مقامهم الآمن، وفوزهم العظيم يوم القيامة، هم سببٌ لاعتمال حسرة قاتلة في صدور الكافرين، ولو كان للموت عملها في ذلك اليوم لقتلتهم تلك الحسرة !  ولكنها عذابٌ عظيم فوق ما ينتظرهم من عذابات !!  وأقتبس لقولي بهذا من قول الله تعالى : ﴿  فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(35)هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36) ﴾ [المطففين].

فهذا أراه من غبن المؤمنين للكافرين، إحساس بالغبن يملأ على الكافرين قلوبهم جزاء وفاقا لضحكهم من المؤمنين في الدنيا،  فالكافر قد تاجر في الدنيا تلك التجارة الخاسرة التي حسبها رابحة، وهو مع كل فعل كان يأتيه كان يبيع الهدى بالضلال، فهذا اليوم ثمن تجارته ... ! اليوم يجد ثمنها نارا وحسرة من ضحك المؤمنين منه وهم الفائزون فوزا عظيما، فهي تقطّعه إربا فوق ما تفعل النار فيه ! 
وقد جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال : { لا يَدْخُلُ أحَدٌ الجَنَّةَ إلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لو أساءَ، لِيَزْدادَ شُكْرًا، ولا يَدْخُلُ النَّارَ أحَدٌ إلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ لو أحْسَنَ، لِيَكونَ عليه حَسْرَةً} –صحيح البخاري-

* سمعت لأحد المشايخ تسجيلا  فيه قول له في "التغابن" :  يشرحه من مقام الذين يؤخذ من حسناتهم ليُقتصّ منهم، مؤمن يظلم في الدنيا،  فيُقتصّ منه للمظلوم بالأخذ من حسناته... وأرى أن هذا الوجه أيضا من أوجه التغابن... فانظروا إلى هذا البيع يومها، وإلى تلك الخسارة العظيمة التي يُمنى بها، وإلى ذلك الثمن !!  إذ يأخذ منه المقتَصُّ له أثمن سلعة بلا مقابل ! يأخذ منه سلعة نجاته، وإنه كلما أُخِذ له منها كلما ازداد من الهلاك قربا... ! فاستحضرت ما جاء عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ، قال: { أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ} -صحيح مسلم.-

* كما تذكرت في معنى "التغابن"  قول الله تعالى : ﴿ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) ﴾ [ص].   كل هذه الحسرة من الإحساس بالغبن على بيع خاسر كان منهم في الدنيا، إذ باعوا الهدى، فكانوا يسخرون من أهله، فهم أولاء يُغبَنون في تجارة ظنوها رابحة ... ! فإذا الثمن حسرة وندامة وهلاك. تخاصم في قلب النار وفي قلب عذابها ... حسرة هي العذاب المقيم يقطّع مع العذاب المقيم –عياذا بالله- !

* وفي قول الله تعالى : ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) ﴾ [الفرقان].  هذا أيضا من نتائج بيعه الخاسر ... كانوا أخلاء، فإذا هم اليوم أعداء : ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) ﴾[الزخرف].
فلنتأمل كيف يتبرأ الأخلاء بعضهم من بعض... ! أين ذلك الحب، وذلك الودّ، أين تلك الصحبة وذلك القرب في الدنيا ؟؟ !   إن هذا ثمن ذلك الحب، وتلك الخلّة ... ! إن بعضهم  اليوم ليغبن بعضا، بتبرُّؤ بعضهم من بعض !

* وفي ذات السياق أيضا قول الله تعالى : ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) ﴾ [البقرة].
لننظر إلى غبن بعضهم بعضا، وكل منهم يتبرأ من الآخر... !! لننظر إلى حقيقة ما صار إليه قدر كل واحد منهما عند الآخر... !

* وهذا المقام أيضا : ﴿...يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) ﴾ [المعارج].
أين ذلك الحب ؟؟ أين تلك المكانة، بل أين ما كان من الواحد منهم وهو يتخذ محبوبه معبودا؟ !  الأولاد، الأزواج... ! أين  ؟ !  وقد كانوا يرضونهم ولا يرضون الله ...   !أمّا الآن !  إنه الغبن، إنه التغابن، كل منهم يغبن الآخر ... يودّ لو أرداه الجحيم مكانه !!  ذلك ما يعطيه من ثمن لقاء حبّه الذي كانت تتداوله الألسُن وتتناقله الأجيال قصة من قصص الحب العالمية، وأيقونة من أيقونات الرومانسيّة  ! ما دلّ متّبَع منهم تابعه إلا على ضلال، فها هم اليوم يبيع بعضهم بعضا بأسوء الأثمان، بالهلاك، والتباب والتبار !   بالنار تأكله إربا إربا... ! وليته يموت فيها ... ! بل إنه الخالد فيها حيا يُعذّب ... !!

* ولننظر إلى هذا المقام أيضا: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) ﴾ [إبراهيم].
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾  توازي هنا : ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ هذا قول الضعفاء الأتباع لمتَّبَعيهم: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ... ما من مَهْرب، أين وَلاؤهم  وطاعتهم العمياء لهم ؟؟ وأين سعادة المُطاع بتلك الطاعة، ذهب كل شيء، غُبِنوا في تجارتهم التي تاجروا في الدنيا، هذا ثمنها ... !   فالتابع والمتَّبَع غابن مغبون !!

* وهذا المقام من العدوّّ الذي اتخذوه من دون الله وليّا : ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)﴾ [إبراهيم] .

اتبعوه، واتخذوه وليّا ... فهذا تبرُّؤُه ، وهذا قوله يوم يجمع الله الخلق ليوم الجمع، يوم التغابن ...
* وهذا المقام من الشركاء  الذين اتُّخذوا من دون الله : ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) ﴾ [القصص].
الشركاء الذين اتخذوا من دون الله، هم أولاء يعلنون تبرُّؤهم من عابديهم، هي ذي آلهتهم التي كانوا يعبدون، ويقدّمون لها آيات الطاعة والولاء، هي ذي تتبرأ منهم، هم أولاء يُغبَنون، وقدعبدوها من دون الله، فباعوا الهدى بالضلال وحسبوا أن بيعهم رابح ... !

* وهذا قول إبراهيم -عليه السلام- بالحق عن تغابن يوم التغابن : ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) ﴾ [العنكبوت].
وفي هذا مزيد بيان لغبن بعضهم بعضا، و كلّ منهم  يعلن كفره بالآخر، ويلعن الآخر... ! وإنه للتغابن !
كل هذه أراها مقامات  تغابن ... "يوم التغابن"  يوم يكثر فيه من هذا، من هذه الحسرة التي يُمنى بها الكافرون، بعضهم من بعض، ومن شركائهم الذين اتخذوا من دون الله،  ومن المؤمنين... !

بهذه المواقف الكائنة والمتحقّقة يوم التغابن، والتي ذكرها القرآن، أرى وضوحا في معنى التغابن، والغبن الذي يوقعه الناس بعضهم على بعض، سواء في ذلك غبن الإنسان نفسَه بتجارته الخاسرة التي تاجرها في الدنيا، وقد باع الهدى بالضلال، ليلقى ثمنها يوم التغابن،  وليكون ونفسه يومها المتغابنَيْن ... أو غبن المؤمن للكافر بما يلقيه مقامه الآمن، وفوزه العظيم في نفس الكافر من حسرة لا حدّ لها ولا وصف،  أو غبن كافر لكافر كان يعدّه تابعا مطيعا، أو متَّبَعا مطاعا، أو غبن الشيطان -وليّ الكافرين- لأوليائه، أو غبن الشريك لمن اتخذه، وغبن عابده له، بما يُعلنانه من كفر الواحد منهما بالآخر وبتلاعنهما،  أو الغبن الحاصل على الظالم ممن ظلم وقد غدا المُفلس المأخوذ من حسناته... !!  كلٌّ يتبرأ من كلّ... كلّ محبّ يدفع بمحبوبه فداء !  كلّ قريب يودّ لو أن قريبه كان له الفداء ... ! 
وهكذا رُوِي غليلي... ! واشتفيت، وذهب اللبس عنّي، وقد وقعت مني هذه المقامات القرآنية في التغابن وقع القَراح من الصادي !

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(5)
فهمٌ هو للمؤمن وحدَه، سبيل للهدى في قلبه يُُلقى !


وبعد هذا البيان،  يليق بنا أن نكمل الآية   :
﴿...وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ﴾

وإن في هذا تفصيلا ليوم التغابن، لحال المؤمنين والكافرين فيه ...
الذي آمن وعمل صالحا يكفّر الله عنه سيئاته،  لأنه قد حاز المفتاح الذي يعطيه الفرصة، كان مؤمنا، وكان عاملا للصالحات، ولكن كانت له سيئات، كحال كل إنسان، لا بدّ هو مسيء، لا بدّ هو مخطئ،  زالّ ... ليس من سماته الكمال، ولكنه كان مؤمنا، علم أن له ربّا عليما، يحيط بكل ما يعمل، فكان يذنب، ويستغفر ويؤوب ويتوب، فأجزأ عنه إيمانه، وكان له شفيعا يوم التغابن، وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ فيما روى عن ربه عَزَّ وَجَلَّ: {قالَ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ، فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قالَ عبدُ الأعْلَى: لا أَدْرِي أَقالَ في الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: اعْمَلْ ما شِئْتَ.} –صحيح مسلم-

رأس الأمر كلّه إيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزل، -كما جاء في آية سابقة- ...من جاء وهذه سلعته يوم القيامة، فباب المغفرة والعفو والصفح والرحمة مفتوح له، لا يوصد دونه، وهو بيد الله كلّه لمن آمن بالله ... !

وقد جاء عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: { يُصاحُ برجلٍ من أمَّتي يومَ القيامةِ على رءوسِ الخلائقِ ، فيُنشَرُ لَهُ تسعةٌ وَتِسْعونَ سجلًّا ، كلُّ سجلٍّ مدَّ البصرِ ، ثمَّ يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ : هل تُنكرُ من هذا شيئًا ؟ فيقولُ : لا ، يا ربِّ ، فيقولُ : أظلمَتْكَ كَتَبَتي الحافظونَ ؟ ثمَّ يقولُ : ألَكَ عن ذلكَ حسنةٌ ؟ فيهابُ الرَّجلُ ، فيقولُ : لا ، فيقولُ : بلَى ، إنَّ لَكَ عندَنا حسَناتٍ ، وإنَّهُ لا ظُلمَ عليكَ اليومَ ، فتُخرَجُ لَهُ بطاقةٌ فيها : أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ ، قالَ : فَيقولُ : يا ربِّ ما هذِهِ البطاقةُ ، معَ هذِهِ السِّجلَّاتِ ؟ فيقولُ : إنَّكَ لا تُظلَمُ ، فتوضَعُ السِّجلَّاتُ في كفَّةٍ ، والبطاقةُ في كفَّةٍ ، فَطاشتِ السِّجلَّاتُ ، وثقُلتِ البطاقةُ .} –صحيح ابن ماجه-

وعلى هذا يكفّر الله عن صاحب الإيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزل سيئاته ويدخله: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) ﴾

أمــــــــــــا:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ﴾
هؤلاء لا باب يُفتَح بوجوههم يوم التغابن وقد كفروا بالله، كفروا بالذي بيده وحده المغفرة والعفو والرحمة ... فمن ذا سيغفر لهم ؟ ! ومن ذا سيرحمهم من دونه وقد كفروا به ؟ ! إن الأمر له وحده، والحكم له وحده، والفصل بيده وحده سبحانه، وهو الذي أنذر عباده عذابه، وهداهم سبيل النجاة، فمن يكفر ويعرض، فقد ظلم نفسه، ولا يظلم ربك أحدا ... !

لن تنفعهم صالحاتٌ عملوها في الدنيا وهم كفّار، لن تنفعهم جمعيات خيرية بوزن العالمية كانوا يسيّرونها  ويقُومون عليها، تغدق على المساكين والفقراء والمستضعفين !  لن تنفعهم جوائز السلام العالمية، ولا بطاقة سفير النوايا الحسنة ! ولا أضواء إعلام تنشر صور أياديهم المعطاءة عبر كلّ ما ينشُر ! ولا ما يُتنادى به من الإنسانية والأعمال الخيّرة مع كفر بالله الخالق بالحق، الباعث بالحق، الذي خلق عبده وأودعه ما يُحسن به الاختيار، فظلم نفسه واختار لها الضلال على الهدى، باع الهدى بالضلال ... ! ألا نجاةٌ -يوم التغابن- تُباع فيشتري !  إنه ما من نجاة ... ما من نجاة !!

إنهم بخلاف مَن آمن، وعرف ربّه وقد جاء يوم القيامة بالسيئات، إنّه الذي أقبل على ربّ عظيم في يوم عظيم وقد عرفه في الدنيا، وآمن به وبرسوله وبالنور الذي أنزل ... وإن جاء بالسيئات .. !

هم أولاء وقد غبنوا أنفسهم (كما بينتُ أعلاه)، وجبال أعمالهم الصالحة يوم التغابن تذهب هباء منثورا : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) ﴾ [الفرقان].

ظلمتَ نفسك في الدنيا وقد وُهِبْتَها بقدرة على السمع والإبصار، بعقل وقلب، وبفطرة سليمة، وقد هُديت السبيل برسول هادٍ، وكتاب فيه الهدى !  ظلمتها بالكفر والضلال،  فها أنت اليوم وقد غمرتَ كل مقدّراتها التي وُهِبْتَها بها، بتجارتك الخاسرة، تُسلّم نفسَك ثمن غُبْنك لها  !

وإنه لَـــــيومُ التغابن ... !
ثم لننظر مجددا في ذلك الرابط الحيويّ الذي يتنفّس وينطق ويتحرك في رحاب سورتنا، فلا تكاد تلتفت إلى آية بين الآيات حتى تسمع له صوتا وترى له حركة ... !

السورة من بداياتها، جعلت تُبينُ عن الحقّ الذي هو أمر الله في خلقه للسماوات والأرض، ما خلقَهُما سبحانه لاعباً -حاشاه- بل لغاية، خلقهما لأجل ابتلاء الإنسان ولامتحانه في هذه الحياة الدنيا،  كما خلقه هو بالحق ولم يتركه سدى، بل أودعه القدرة على الاختيار، وعلى تبيّن الحق من الباطل، والتفريق بين الهدى والضلال، ووهبه عقلا ليُعمله، فإذا هو والهدى يتناسمان ويتناغمان، لأن العقل هبة من الله، ولأن الهدى هدى الله... ! 

مالكٌ لما خلق، فهو بكل ما في السماوات والأرض عليم، وبكل ما يبديه الإنسان وما يخفيه عليم، يحصي على عباده أعمالهم، ليبعثهم ويجازيهم بالحق على ما قدّموا، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأنزل نورا بالحق، وبالحق نزل، هاديا للحق، فمن آمن وأسلم لربه نفسَه فقد أفلح وفاز فوزا عظيما، ومن كفر فقد خاب وخسر خسرانا مبينا ... ! ما خلق سبحانه إلا ليبتلي، وما ابتلى إلا ليجازي يوم الجزاء ... 

ليأتي بعد كل ذلك البيان ذكر يوم التغابن، اليوم الذي آن أوانه... أوان الفصل بالحق والحكم بالحق، وإحقاق الحق ! اليوم الذي يُسفِر فيه غُبن الكافر نفسَه التي أودعها الله أمانة بين جنبيه، مزوَّدةً بكل أدوات الهداية والاختيار السديد ... فإذا هو الخاسر، المخزيّ، الصاغر، الذليل، الذي تأكله الحسرات مع النيران ! مغبون، غبن نفسه ! مغبون، غبنه خليله الذي اتخذه وقد أضله السبيل، غبنه حبيبه الذي باع لأجله الهدى واشترى الضلال ... !

انظر إلى التغابن حينما لا يحتضن العباد ذلك الحق! 
تلك النفس... أعطاها الله حقها موفّى، وهداها النَّجْدَين، وعلمها كيف تتزكى وتترقّى، يظلمها صاحبها وهو يحسب أنه يحسن صنعا ! فإذا هو يوم القيامة غابنها ! وكأنه -بما قدم- أدخلها هو النار !! ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) ﴾ [الإسراء].  غبنها ولم يوفّها ما تستحق وقد كانت بين جنبيه مزوّدة بكل أدوات الصلاح، كانت بين جنبيه مخلوقة بالحق ... !

وبعــــــــد ؟ !   ما تُراها تحمل الآيات المقبلة ...  ؟
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) ﴾
رُوي أنّ هذه الآية نزلت في قول الكفار: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب، فأنزلها الله تعالى ردا عليهم ... وسواء أكان لنزولها من سبب أو لم يكن، فإنّ لها محلا من الآيات السابقة وما حملت ...

كنا مع  يوم التغابن، ومع حال الكافرين فيه، وحال المؤمنين، لتعود بنا هذه الآية إلى الدنيا، إلى حيث يوم التجارة، فإما تجارة رابحة هي في الدنيا لأهل الجنة، وإما تجارة خاسرة هي فيها لأهل النار ... ! إنها دار الابتلاء... يعلم المؤمن المستمسك بربّه هذا عنها،  تَبَصّر -وقد آمن بربّه وبرسوله وبالنور الذي أنزل- أنّ الدنيا دار ابتلاء، دار امتحان، وأن الابتلاء فيها بالشرّ كما بالخير، ما كان الإنسان في سعة وخير ونعمة، إلا وهو يعلم أنه في ابتلاء، أيشكر ويثبت ويعطي، أم يتبطر ويستكبر ويمنع، ويغرق في لجّ النعمة وينسى المنعم ؟ ! وما كان في ضيق وشدّة وكرب ومصيبة إلا وهو يعلم أنه في ابتلاء أيصبر ويحتسب ويرضى، ويأمل في رحمة الله ولا ييأس، أم يجزع ويضطرب ويتململ ويضيق ذرعا، وييأس من رَوْح الله ... !

هكذا هو حال المؤمن صاحب الفوز العظيم يوم التغابن، شاكرٌ عند النعمة والسراء، صابر عند المصيبة والضراء ... تلكم هي تجارته مع الله، ذلكم هو الهدى الذي يملأ قلبه:
﴿ ...وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) ﴾
إذن فهي بُنُودُ تلك التجارة الرابحة، التي يفوز صاحبها يوم التغابن . إيمانه، فهمُهُ لتلك البنود، يقتضي موافقته عليها، تلكم هي البنود التي تنجيه من الغبن يوم التغابن ! مبتلى بالمصائب في الدنيا، مجازى على صبره عليها في الآخرة ... وأرى –والله أعلم- أنه قد جيء هنا على ذكر الابتلاء بالشرّ (المصيبة) تحديدا،  لموافقة هذا الشق من الابتلاء لأحوال العسرة في المسلمين في كل زمان، الابتلاء الذي عليه الجزاء يوم التغابن .تجارة مع الله رأسها إيمان المؤمن بالله ورسوله، ومقتضيات هذا الإيمان تمكّن هذا التصوّر للحياة الدنيا من نفسه، أنها دار للابتلاء...

والمؤمن وحدَه هو الإنسان الذي يفقه هذه المعادلة، ويتفهّم سرّ هذه التقلبات في الحياة الدنيا، وهو المهيَّأ -بتربية الله له وبهدايات كتابه ونهج نبيّه- لمواجهتها،  بينما غيره متقلّب متململ، لا يستقيم له حال :﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) ﴾ [هود]. 

الذين يؤمنون بالله ورسوله والنور الذي أنزل، النور الذي يضيئ للإنسان عتمة الحياة، فيبصّره بالغاية من وجوده أصلا، وبالحكمة من الابتلاء : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) ﴾ [فاطر].

تجارة لن تبور ... تجارة تنجيه من عذاب أليم، عذاب يوم التغابن، تنجيه من الغبن يومها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) ﴾ [الصف].

فما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ... والمؤمن ليس بالذي يبحث عن السعادة الظاهرية الوهمية التي يراها أصحابها السلامة المطلقة من الكدر والمصائب والأحزان والضيق والشدّة، بل هو الذي يفقه تقلّبات الحياة، ويعدّ لها من نفسه عدّته من الصبر والاحتساب، والرضى، والأمل في رحمة الله وتفريجه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ﴾ [البقرة].

ومن يتاجر مع الله بالإيمان به وبرسوله وبالنور الذي أنزل، يهدِ الله قلبه:﴿ ...وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) ﴾. يهدي قلبه بتشرّبه لأطراف هذه المعادلة المكوّنة لـمادة الحياة الدنيا، أبجديات الابتلاء، بخيره وشرّه ! فيرضى وهو المصاب، لأنه يعلم أنه ما أصابه من مصيبة إلا بإذن الله ومشيئته، ومن إرادته سبحانه ابتلاء عبده في هذه الحياة الدنيا، ومن فقهه لقضية أن الشرّ والخير لا يتمحّضان في مظهرهما، بل قد يكون جوهرهما خلاف ما يظهر.

عن عُبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال:{ إنَّ رجلًا أتى النبيَّ ﷺ فقال: يا نبيَّ اللهِ، أيُّ العملِ أفضلُ؟ قال: الإِيمانُ باللهِ، وتصديقٌ به، وجهادٌ في سبيلِه، قال: أريدُ أهونَ من هذا يا رسولَ اللهِ، قال: السَّماحةُ والصبرُ، قال: أريدُ أهونَ من ذلك يا رسولَ اللهِ، قال: لا تتَّهمِ اللهَ -تبارك وتعالى- في شيءٍ قضى لك به } -جامع المسانيد والسنن: إسناده صحيح-

وعن صهيب بن سنان الرومي -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: {عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له.} –صحيح مسلم-
وإننا مع هذه الآيات، نلمس روح التربية الربانية للمؤمن، التي لا تغادر حياته في كل حركته، إذ لا يصح القول بأن المرء بحكم إيمانه، وانتمائه إلى الجماعة المؤمنة، واحتكامه لأمر الله فيه، لم يعد من داع لتجديد الدعوة له بالإيمان، بل إنّ القرآن علّمنا في سُوَره المختلفة أن التربية الإيمانية للجماعة المؤمنة لازمة ملازمة...فتكوينٌ على العقيدة في السُّوَر المكية، تلاه تنظيم رباني للمجتمع المسلم الناشئ بالمدينة، بإرساء قواعد الدولة المسلمة فيها،  تلازمهما الدعوة الدائمة للإيمان، ولتجديده، ولتوثيق عُراه في النفوس... !

وكما ذكرت مع بدايات السورة، أميل إلى القول بمدنيّتها، رغم بروز الجوّ المكي في آياتها العقدية، ذلك أنّ المرحلة المدنية تحتاج هي الأخرى إلى التذكير بتلك القواعد التصورية الإيمانية، لترسيخها في نفوس المؤمنين ... نحتاج نحن أيضا في كل مرحلة من مراحلنا إلى توثيق هذه العُرى في أنفسنا، فهي ليست قصرا على مرحلة دون أخرى ... ! بل إنّ مرحلة الدولة، ومرحلة المجتمع المسلم بحاجة –في خضمّ العملية التنظيمية -  إلى استنهاض الجانب العقديّ فيها، لإذكاء شعلته في النفوس، ولتقوية الإيمان، ولزيادة إقبال المؤمن على ربه، وحتى لا يأخذه البناء والإعلاء عن النظر في الأساس بين الحين والحين، عن التفقّد والرعاية ...رعاية نبتة العقيدة في النفوس، وتعهّدها بالسُّقيا ... !

كما أنّ القضية الحيوية المشتركة بين السُّوَر السابقة في هذا الجزء(الولاء والبراء) تحتاج إلى تعهّد الإيمان في النفوس، إلى تقويته لتقوى هي بدورها، وليكون الولاء لله ورسوله، والبراء من أعداء الله ورسوله عقيدة مع العقيدة، لا يجد فيها صاحبها ثقلا على نفسه، ولا يسيغها على مضض، بل هي عنده العقيدة والقاعدة لحياته ولحركته فيها .
نعم... للجماعة المؤمنة في ذلك الزمان الأول، وللجماعات المؤمنة في كل زمان ...

﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) ﴾
قبلها بقليل، جاءت الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزل: ﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) ﴾، جاءت سابقة للحديث عن يوم التغابن، جاءت تذكيرا بالسبيل المنجّي من يوم التغابن، الإيمان بالله ورسوله وكتابه، لتأتي الآن الدعوة إلى طاعة الله ورسوله، فعُقِبت الدعوة إلى الإيمان بالدعوة إلى الطاعة، لأنها من مقتضياته، فليس المحكّ في إيمان يُعلَن، وتصديق مجرّد عن طاعة وائتمار بأمر الله، وأمر رسوله ﷺ. بل إن الطاعة هي التي تحقّق هذا الإيمان حركةً في الأرض، هذه الطاعة هي التي تحقّق الائتمار والانتهاء، فتحقق العمل بمقتضى الأوامر والنواهي،  وهي المنجاة الفعلية .

 عن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- قال: {قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ: إنَّكَ سَتَأْتي قَوْمًا أهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إلى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ علَى فُقَرَائِهِمْ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.} –صحيح البخاري-

وأمْرُ رسول الله ﷺ من أمر الله تعالى، هو المبلّغ للوحَيَيْن، للقرآن، ولسنّته المطهرة التي هي –في أمر التشريع والتزكية وحيثيات الدين- وحيٌ من الله تعالى بلفظ نبيّه ﷺ. ولا طاعة لله على الحقيقة من غير طاعة لرسول الله ﷺ : ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) ﴾ [النساء] .   لا طاعة لله على الحقيقة، ولا تحقيق لطاعة الله سبحانه، برفع دعوى إنكار السنة، أو التشكيك بها والطّعن في نقَلَتها (يُرجى العودة إلى قبس"المنافقون" : 3-حول شبهة : السُنّة غير موثوق بها ما دام بين الصحابة منافقون !).

﴿ ...فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) ﴾
فإن توليتم عن أمر الله، وعن أمر رسوله ﷺ، فإنما على رسول الله ﷺ البلاغ المبين للقرآن، ولما صدر عنه أيضا وحيا، من بيان بالسنّة وتشريع... السنّة بيان القرآن، ورسول الله ﷺ كان قرآنا يمشي على الأرض –كما وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها-، حركة حياته كانت على نبض القرآن، كانت بيانا له، كما كانت السُنّة تستقلّ بالتشريع لأمور لم يأتِ بها القرآن، وما ذلك إلا وحي من الوحي، من  مثل تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، والذي لم يجئ في القرآن: عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال :{ نَهَى رسولُ اللَّهِ ﷺ أن يُجمَعَ بينَ المرأةِ وعمَّتِها والمرأةِ وخالتِها } –صحيح النسائي-.    ومن مثل تحريم أكل الحُمُر الوحشية : عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ أرسل مناديه في جيش خيبر ينادي :{ إنَّ اللَّهَ ورَسولَه يَنْهَيَانِكُمْ عن لُحُومِ الحُمُرِ} –صحيح البخاري-

كما  فصّلت السنة ما أُجمِل من القرآن،  في أحكام الطهارة والحج والذبائح والصيد، وما يؤكل مما لا يؤكل، والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان، والبيوع وأحكامها، والجنايات والقصاص وغيره، وذلك قول الله تعالى : ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[النحل: 44]... فكانت من السنّة صفة الصلاة وعدد ركعاتها، وكان منها مقدار الزكاة، وكثير من تفصيلات الدين وتنظيم شؤون المجتمع المسلم على نبض الوحي قرآنا وسنّة !

عن المقداد بن معد يكرب أن رسول الله ﷺ قال: {ألا إنِّي أوتيتُ القرآنَ ومثلَهُ معَهُ ، ألا يوشِكُ رجلٌ شبعانٌ علَى أريكتِهِ يقولُ : عليكم بِهَذا القرآنِ ، فما وجدتُمْ فيهِ من حلالٍ فأحلُّوا ، وما وجدتُمْ فيهِ من حرامٍ فحرِّموهُ ، وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللَّهِ  ﷺ  كما حرَّمَ اللَّهُ ...}-تخريج مشكاة المصابيح: صحيح-
هو ﷺ المبلّغ عن ربّه أمرَ ربّه من قرآن أو من سنة، سواء بسواء، وَحْياً من عند الله تعالى، فمن تولى عن أمره ﷺ ، فقد تولى عن أمر الله تعالى، وما عليه ﷺ إلا البلاغ المبين، وهنا، معنى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ : مع قوله تعالى من سورة المائدة : ﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ  وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) ﴾ [المائدة] . هو أنّ رسول الله ﷺ ليس مكلّفا بإحصاء الأعمال على الناس، ولا بمحاسبتهم، بل ما عليه هو البلاغ، البلاغ المبين لأمر الله تعالى، سواء كان ذلك من القرآن أو من صحيح السنة، بخلاف ما ذهب إليه أنصار التشكيك بنقلة السنّة والطعن بحجيّتها، من أنّها تعني أنه المبلغ الذي لا يتعدى إلى التشريع، فهم لا يرون للسنة حجية ولا يد تشريع، بل ينكرون حتى ما هو دون التشريع فيها... !

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) ﴾
إنها العقيدة في الله تعالى، سبحانه الذي يسبّح له ما في السماوات وما في الأرض، الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحانه الذي خلق البشر، فمنهم كافر ينكر الخالق وقد خلقه، ومنهم مؤمن موحّد يعبده لا يشرك به شيئا، سبحانه البصير بكل ما يعمل عباده، سبحانه الذي خلق السماوات والأرض بالحق، خلقهما لابتلاء الإنسان، ولمجازاته على بلائه، فالمحسن بإحسان، والمسيء بسوء، سبحانه الذي صوّر الإنسان فجعله في أحسن تقويم، وإليه المصير، سبحانه المحيط علما بما في السماوات وما في الأرض، المحيط علما بما يخفي الإنسان وما يعلن، العليم بذات الصدور، سبحانه الغنيّ عن عباده،  الحميد، سبحانه الباعث بالحق كما خلق بالحق، جامع الناس ليوم التغابن ... ! سبحانه هادي عباده سواء السبيل، ببَعْثِه للرسل هداة مهديين، وبإنزاله للنور في كتاب مبين، سبحانه الذي جعل الدنيا دار ابتلاء، وعلّم عباده أنها القاعدة التي تتلبّس بها الحياة الدنيا، وأنها التي لا يشذّ عنها إنسان، وأنه يزيد  الصابر على المصيبة هدى، ويبشره بعظيم الجزاء، سبحانه الذي جعل سموّ الإنسان ورقيّه ونجاته في الإيمان به وبرسوله وبكتابه، وفي طاعة أمره وأمر رسوله، سبحانه لا إله إلا هو الوكيل ... وعليه وحده يتوكل المؤمنون...هكذا قاعدة في النفس لا تتزعزع، وعقيدة في القلب لا تنحلّ ... !

لنتأمـــــــل... 
إنها كلّها تصوّرات إيمانية ترسّخ لعقيدة هي أساس حركة المؤمن في حياته ! آيات السورة التي مرت كلها ترسّخ لهذه العقيدة في الله سبحانه، وفي علاقة المؤمن بربّه، وفي مسؤوليته كعبد مكلّف تنجيه طاعة ربّه من عذاب أليم، ذكّر الله بطَوْله الكافرين من عباده، وكيف أن عذابا أشد وأكبر طائلهم يوم التغابن ... !
« آخر تحرير: 2021-10-01, 11:59:40 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(6)
مكيّّة ومدنيّّة اجتمعتا... فعقيدةٌ تغذّي عقيدة  !

وننتقل الآن إلى نداء مباشر للمؤمنين، من بعد ما مرّ من ترسيخ عقديّ في الآيات السابقة:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾

توجيه وتذكير رباني، ودعوة للمؤمنين وتحذير... !
ألا تذكر وقعا من هذا الوقع قد مرّ بنا قبل الآن ؟ !
تذكّر ... اقتبس ... لقد استضأنا به لدربنا قريبا ... !
أجل... إنه من قبس "المنافقون" !

من أواخرها،  ذلك النداء للمؤمنين، ألّا تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) ﴾ [المنافقون].

ولقد أعقِبت هذه الدعوة إلى ألا تنسي المؤمنَ ربَّه شواغلُ الدّنيا، وهذه التربية الربانية في سورة "المنافقون" بسورة "التغابن" إيغالا في التذكير بالآخرة، وإمعانا في التحذير من يوم التغابن، وتفصيلا في ذكر الله تعالى، ذكر الله مفتتحا بتنزيهه سبحانه عن كل نقص وعن كل عيب، والشهادة بأنه الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، جاءت سورة التغابن فيها ذكر الله تعالى، جاء فيها تذكير بالتصوّر الإيماني العقديّ الأساسيّ في الله تعالى، حتى لا تأخذَ المؤمنين وهم يشتدّ عود دولتهم، وتقوى شوكتُهم، والنصر يحالفهم المرة تلو المرة، وأرض الله تفتح على أيديهم للإسلام، ويدخل الناس في دين الله أفواجا، وجانبهم يُهاب أكثر فأكثر مع تقدّم سنوات الهجرة، حتى لا تأخذهم الدنيا بزهرتها، وحتى لا يغترّوا، وحتى يذكروا أنّ الدنيا مهما تفتحت فهي إلى زوال، وأن المفلح مَن عمل ليوم التغابن ، فلم تكن الدنيا أكبر همّه ولا مبلغ علمه، مَن ذَكَرَ فيها الله كثيرا ولم تُلهِه بشواغلها وزينتها عن ذكره سبحانه، حتى لا يغبن نفسه، فتنقلب عليه خصيما وغابنا  يوم التغابن !

جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه-  أن رجلاً سأله عن هذه الآية فقال: « هؤلاء رجال من أهل مكّة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي ﷺ فمنعهم من ذلك أزواجهم وأولادُهم، حتى قدموا على رسول الله ﷺ بأزواجهم وأولادهم متأخرين، وقد سبقهم الناس بالفقه في الدين»  فهَمُّوا أن يعاقبوهم لتسبّبهم في تأخّرهم عن خيرٍ ناله من سبقهم إليه، فأنزل الله هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) ﴾.

قضية الولاء والبراء التي عايشنا في أجواء السُّوَر السابقة تُسفر في سورتنا أكثر ونحن نبلغ هذه الآية... !
نستذكر آيات من سورة "الممتحنة" ومن سورة "المجادلة"، جاء فيها أنه لا مُوادّة لمن حادّ الله ورسوله وإن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا  : ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)﴾[المجادلة] .

جاءت ببيان أنه لا تنفع يوم القيامة أرحام ولا أولاد، بل ينفع الولاء لله والمحادّة لأعدائه: ﴿ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) ﴾[الممتحنة].
كما جاءت فيها الدعوة إلى التأسّي بإبراهيم -عليه السلام- والذين معه إذ تبرؤوا من قومهم الكفرة موادةً وولاء لله تعالى، ومحادة لأعدائه  : ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤاْ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) ﴾[الممتحنة] .

وهكذا تلتحم هذه السّورة ذات الطابع المكيّ العقديّ، بالسُّوَر السابقة في معالجة قضية الانتماء للجماعة المؤمنة، والولاء والبراء، من جهة الترسيخ العقديّ في النفوس، بتعهّد العُقدة لتبقى على حالها من الانعقاد في القلوب، بل لتزداد انعقادا، ومن جهة الولاء الخالص لله تعالى، وأنه الأعلى في قلب المؤمن من أقرب الناس وشيجةً ورابطة، وليكون أحبّ إليه من ولده وزوجه ...

وهنا جاء التحذيـــــــر !   
تحذير الله العليم بما في السماوات وما في الأرض، العليم بالسر والعلانية، العليم بذات الصدور، تحذير لعباده المؤمنين من أحوالٍ في أقرب الناس إليهم، يعلمها هو سبحانه، ولا يعلمونها هم، بحكم أبوّة أو أمومة كليلة هي عن المعايب والمساوئ في فلذة الكبد،  تُعمِل معه القلب، فيُغَمّى عليها خطر يُحدق بدينها، خطر يتزيّن بأشرطة الزينة، ويغلَّف في علب الزينة... ! زينة الحياة الدنيا ... !!

﴿ ...إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ... ﴾.
منهم عدوّ لكم يأخذكم السعي الدؤوب لإرضائهم عن إرضاء الله تعالى، لا يُبالي من يتفانى في إرضائهم –أزواجا كانوا أو أولادا-  أحَلَالا أتى أم حراماً !   لا يبالي في سبيل تلبية طلبات زوجته الشدّاقة الحدّاقة أجاءها بما يناسب قدراته المادية، أم سلك لأجله ما لا يجب على المؤمن سلوكه ... ! المهم أن تقارع به جارتها أو صاحبتها، أو قريبتها ! لا يجوز في عُرف تفاخرها ونهَمِها أن تبدو واحدةٌ منهنّ خيرا منها ! وإن كان الثمن أن يأتي به الزوج دون أن يُسأَل : من أين لك ؟؟ ودون أن يُساءَلَ وهو الذي لا تبلغ ماديّاته معشاره !! لا ضير ! الأهم من كل ذلك أن ترضى تلك الشدّاقة... ! 

لا ضير !  الأهم أن يرضى ذلك الولد اللَّحوح الذي يريد أن يفاخر بأشيائه كما يفاخر زميله ابنُ المليونير، لا يُعلَّم كيف يرضى بما يطيق والده وما عليه يقدر، بل دندنة الأم وشنشنتها أنّ الحظّ البائس هو الذي جعل أولادها على غير ما عليه أولاد الناس ! وأنّ الرجال اليوم يتقافزون ويتسابقون أيهم يفوز بالأكثر من المال، لهم من الشطارة والفطنة ما يجعل نساءهم وأولادَهم أولي حظّ ورفاه وترف في هذا الزمن المبهرج، بينما أنت يا حظّي ونصيبي البائس فطنتَ أن تتزوج وتنجب، ولم تفطن لتقافز المتقافزين وتواثب المتواثبين على الخير الكثير الكثير ... !! 

وبالمقابل تجده ذاك الذي يرى في كلماتها خنجرا يضرب رجولته، فيبيت يتجافى جنبه عن مضجعه وهو يفكّر أن يعدّل من نفسه ومن طريقة تفكيره البائسة التي لم تعد تُجدي !  وأن يكون له حظّ في شطحات الفطنين !! فإنّ اكتفاءه براتب عمله وبمستواه البسيط حائل دون العيش الرغيد في هذا العصر الصعب  الذي يعلّم ركوب الصعب، بل ركوب كلّ ما يُركَب وإن كان حراما ! إنه ولده، وخاب وخسِئ إن هو عجز عن جعله كعِلْية أترابه وعِلْية أقرانه ... ! وإنها زوجُه ولا كانت رجولته إن هي بدت دون واحدة ممن تعرف !!
إي وربّي ... ! إنها اللغة التي انتشرت، وإنها المجاراة، والتقليد والتفاخر والتكاثر، الذي أخذ في هذا العصر من الناس كل مأخذ ... فأنساهم ذكر الله !  أنساهم أن يفرّقوا بين حلال وحرام، سَهُل عليهم أن يفتوا لأنفسهم، فإذا الرشوة اليوم  هديّة !! وإذا سبيل المال الحرام اليوم فطنة ونباهة !  وإذا المكتفي بحلال بسيط يجعله متكففا هو النائم مع النائمين !! وإذا المرأة القنوعة الصابرة المحتسبة اليوم ضعيفة رأي، لا ترقى لأن تخالط ذوات الديار التي يُشار إليها بالبنان، ولا ذوات الذهب والمال والحاجيات الملبّاة بكل سبيل ... !

أجل إنها وربّي للعداوة ... ! وإنهم للأعداء ! وأي عداوة وأي عدوّ !
إن من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم ...  أجل إن من أقرب الناس إليكم لعدوّا لكم ! ما دمتم تؤثرون طاعتهم على طاعة الله، ما دمتم تؤثرون رضاهم، وتغضّون الطرف عن رضى الله !! ما دمتم لا تُكبِرون في سبيل رضاهم عنكم أن تغضبوا ربّكم عليكم ... !!
ولننظــــــــــــــــــر ... !
لقد جاءت هذه الآية بعد الأمر بطاعة الله ورسوله، حتى يتحقق أن تكون الطاعة له سبحانه رأسا، طاعته في أقرب الناس وأحبّ الناس، لا يجب أن يكون في قلب المؤمن من هو أعلى منه سبحانه، ولا ما هو أهم من إرضائه، أن يجعلوا أمرَه فيهم الأمر الذي لا جدال فيه، ولا قياس، أن يصدّقوا كل ما يكون من عند الله، ويوقنوا أنه الذي يحبّ لهم ما لا يحبّه لهم أقرب وأحبّ الناس إليهم، ويوقنوا أنه سبحانه هو الذي يعلم، وأنهم لا يعلمون، فينتبهوا، ويحذَروا، وإلا عبدوا أزواجهم وأولادهم من دون الله  ... !  فأطيعوه واحذروا أن يأخذكم حبيب قريب عن أن يكون إرضاؤه أعلى ما في قلوبكم.

وقد جاءت هنا : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ... ﴾
" فَاحْذَرُوهُمْ "  إشارة إلى وجوب الاحتراس والحذر في النفس من أن يكون إرضاؤهم على حساب ما يرضي الله،  لا على سبيل الترصّد لكل ما يصدر عنهم، وعدِّ أبسط الهفوات والزلّات منهم خطرا، بل على سبيل حراسة مكانة إرضاء الله من النفس، لتبقى هي العليا التي لا يُعلى عليها ...
﴿ ... وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ  ﴾.
وهنا تتمّة للمعاملة المتوازنة، التي يربّي بها الله عبده المؤمن، حتى لا يقع في الظلم من جهة، وحتى لا يتنصّل من التربية والتوجيه والقيادة في أهل بيته، بدعوى أنهم الأعداء من جهة أخرى ! فلا يعدّ المؤمنون أولادهم وأزواجهم أعداء هكذا على الإطلاق، ودونما حيثيات داعية ! 

فهو العفو والصفح، ولا يكون عفو ولا صفح إلا من بعد التنبّه والحذر، ومن بعد التربية والتوجيه،  فمن لا يحذر، ولا يحترس، ولا يحرس مكانة إرضاء الله في نفسه، لن يرى في عبادته لزوجه وأولاده من دون الله شيئا ... !
وأحب هنا أن أضع قولا لابن عاشور -رحمه الله-  في الفرق بين العفو والصفح والمغفرة: « والعفو ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها. ولو مع توبيخ. والصفح الإِعراض عن المذنب، أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ. والغفر ستر الذنب وعدم إشاعته. » -التحرير والتنوير-

وانظر معي إلى : ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وهي من المكانة في هذا المقام، بحيث تعمل في النفس أعمالا لا عملا واحدا:
* فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : يغفر ذنبك، ويرحمك يا مَن أنت تصفح وتعفو، تذكيرا لك بأنك صاحب ذنب، فلا ترَى نفسك المنزَّه وأنت ترى ذنب غيرك ... !

* فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : تذكير لك أنه سبحانه في عليائه وكبريائه، وفي جلاله وعظمته يغفر ويرحم، فكيف لا تعفو أنت وكيف لا تصفح !

* فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : تذكير لك أنّه سبحانه يغفر لولدك ولزوجك، ويرحم، ويقبل التوبة عنهم، فكيف تتيبّس أنت ؟ !
وهكذا –وكما أسلفت-  يستبين تناسق هذه السورة مع سابقاتها، وهي تعالج قضية الولاء والبراء، في هذه الآية تحديدا، من بعد سلسلة من الآيات التي قدّمت عن الله تعالى وعن العقيدة فيه، وفي رسوله ﷺ، وفي الأَوْل إلى يوم ينجو فيه أهل طاعته وولائه سبحانه، ويتغابن فيه أهل معصيته ومحادّته، أهل عبادة الزوج والولد من دون الله، أهل إرضاء كلّ خليل وكل قريب على حساب طاعة الله  ... !

وفي هذا يحضرني أكثر ما يودّه المجرم يوم التغابن : ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ  يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) ﴾ [المعارج] . فأي تغابن هو بين أهل مودّة الدنيا؟ !  بل عبادة بعضهم بعضا من دون الله !!  (وقد ذكرت هذه النقطة أعلاه ضمن مقامات التغابن التي عددتها).

﴿إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) ﴾
وهذا بيان ... بيان من بعد الأمر بالحذر والاحتراس، وحراسة مكانة إرضاء الله من النفوس، بيان  لحقيقة أمر الأولاد والأموال... إنهم الفتنة، الامتحان والابتلاء، إنهم موطن امتحان العبد في هذه الدنيا، أيجعلهم طريقا موصلا إلى الله، أم يجعلهم طريقا مبعدا عنه ... ! إنه البيان لحقيقة ما يحبّ الإنسان من زينةٍ في هذه الدنيا، بل لما يُزَيَّن له من حبّ، بالتعبير الأدق، الذي هو تعبير القرآن العظيم في قوله سبحانه : ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) ﴾ [آل عمران] .

﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ إنه الخير الذي أنبأ به الله تعالى في آية "آل عمران" : ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) ﴾[الكهف].
لن ينفع مال ولا بنون يوم القيامة، وقد عفس الإنسان ورفس، لا يبالي إن كان ما فعل سويّا أو غير سويّ !  ولقد دعا سيدنا إبراهيم –عليه السلام- بالمآل الحسن يوم البعث،  وهو يعلم هذه الحقيقة، حقيقة المال والبنين: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾ [الشعراء].

ولقد استشهد رسول الله ﷺ بهذه الآية، وهو يَعرِض له عارض، فعن بريدة بن حصيب –رضي الله عنه- قال: {كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ يخطبُنا إذ جاءَ الحسنُ والحُسَيْنُ عليهما قميصانِ أحمرانِ يمشيانِ ويعثُرانِ ، فنزلَ رسولُ اللَّهِ ﷺ منَ المنبرِ فحملَهُما ووضعَهُما بينَ يديهِ ، ثمَّ قالَ : صدقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ. نظرتُ إلى هذينِ الصَّبيَّينِ يمشيانِ ويعثُرانِ فلم أصبِر حتَّى قطعتُ حديثي ورفعتُهُما} .-صحيح الترمذي-

ولقد بلغ بالصحابة فهم المعاني وتشرّبها، أن كانوا يقولون عن أنفسهم حقّا، وهم ينتبهون لفعل الدنيا فيها، وذلك لَعَمْري هو "الحذر " الذي دعا الله عبادَه له !  ذكر ابن عطية أن عمر قال لحذيفة: «كيف أصبحتَ ؟ فقال:  أصبحتُ أحب الفتنة وأكره الحق. فقال عمر: ما هذا؟ !  فقال: أحبّ ولدي وأكره الموت. »

وعلى هذا الذي بيّن سبحانه لعباده، وبعد كلّ هذا البسط لحقائق الأمور، ولأولويّة العقيدة في قلب المؤمن، ولضرورة احتراسه من تزعزعها، وحراسته لمكانتها، والحرص على دوام انعقادها، بتعهّدها، وسقياها، والاستزادة من دواعي توثيقها وتقويتها ...
بعد كل هذا البيان، الذي يصبّ هو الآخر في القضية المشتركة بين سور هذا الجزء، قضية خصوصية الانتماء للجماعة المؤمنة، والولاء والبراء، كواحدة من أهم خصائص هذا الانتماء، بيان أجلى حقيقة أنه لا ولاء لمَن يُبْعِد عن الله وعن طاعة الله، وإن كان أقرب المقربين وأحب الأحبة ! بل وجب الحذر من هذا القرب وهذا الحبّ، حتى لا يشغل المكان الأعلى في القلب، وحتى لا يُعلى على حبّ الله، وحبّ إرضائه، وطاعته والولاء له ... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(7)
إيمانٌ، فطاعةٌ، فتقـــــــوى، فقرضٌٌ...فنجاة   !

بعد كل هذا نخلص إلى ما ينجي، وإلى ما يحقّق سوية المؤمن في الدنيا، وإلى ما يجعله خالصا، مخلصا، نقية عبادته، بيّنة، واضحة، ليس فيها شرك بالله بأي شكل من أشكال الشرك الخفيّ المستخفي الذي يتسلل إلى النفس بمسميات مختلفة، من أهمّها القرابة والرحم ، الزوجة والولد ... !

إنها المنجية، إنه الترياق، إنه الدواء، إنه الحلّ !!  إنه ما يحجز عنك ظلمات يوم التغابن :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾
تقوى الله، طاعته حيث يأمر، والانتهاء حيث ينهى، الائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه، وتلك ترجمة الطاعة التي سبقت الدعوة إليها في آية سابقة من سورتنا: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) ﴾

ولنتـــــــأمّل ...
لقد جاءت الأوامر تدريجية، ينبثق الواحد منها عن سابقه  :

1- ﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) ﴾

2- ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) ﴾

3- ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) ﴾

"فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ "  ثمّّ    "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ"     ثمّّ   "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا"
فالإيمان مقتضاه الطاعة، والطاعة مقتضاها التقوى...
كما  نلاحظ اقتران الرسول ﷺ بالله تعالى في شأن الإيمان والطاعة والتقوى، تأكيدا على أن الإيمان لا يصحّ، ما لم يكن إيمان بالرسول ﷺ مع إيمان بالله تعالى، لأنه المبلّغ عن ربّه أمر بّه، وأنّ الطاعة لا تصحّ ولا تكتمل ما لم تكن طاعة للرسول ﷺ مع طاعة الله، إذ أنّ طاعته من طاعة الله تعالى، لأن أمرَه يصدر عن أمر الله، سواء كان ذلك في القرآن، أو عبرَ السنّة النبوية وهي وحي من الوحي...وبناء على ذلك فإن التقوى لا تتحقق على أصولها إلا بالائتمار بأمر الرسول  ﷺ والانتهاء عن نهيه في ما هو من القرآن وفيما هو من غير القرآن.

لذلك فإنّ عطف : ﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾  على: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ يصبّ في هذا المعنى، في السمع لرسول الله ﷺ وطاعة أمره، الذي هو سمع وطاعة لأمر الله تعالى.
وقد جاء عن قوله تعالى : ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ... ﴾ أنها ناسخة لقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)﴾ [آل عمران]. للتخفيف والتيسير، ولكن، لا يستوجب معناها أن تكون ناسخة، بل إنّها وحدها قائمة بمعناها الخاص، كما تقوم آية آل عمران بمعناها الخاص، فالتقوى ما استطاع المؤمن لا تنفي أن تكون حقّ التقوى، وهو يبذل ما وسِعَه ليتقي، ولئلا يضيّع أو يفرّط ...والله لا يكلّف نفسا إلا وسعها .

عن أيي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: { دَعُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ} –صحيح البخاري-
وعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال:{ بايَعْتُ النبيَّ ﷺ علَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي: فِيما اسْتَطَعْتُ والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ} -صحيح البخاري-

ونكمل مع المنجيات...  ومن الآية ذاتها :
﴿...وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾
الدعوة إلى الإنفاق، وياللإنفاق ! ويالِدَوْره العظيم في إثقال ميزان الحسنات، وفي إطفاء غضب الله، وفي النجاة يوم التغابن !!
تذكّر معي ضوءا من قبس "الحاقّة"...

في قوله تعالى : ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) ﴾ [الحاقة].
إنه أمر العليّ العظيم سبحانه يوم الحق، يوم التغابن، أن يؤخذ عبده فيُغَلّ، وأن يُصلّى الجحيم، وإنه سبحانه يعدّد أسباب أمره:  ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) ﴾ ... !!!  لم يكن يحبّ أن يعطي مسكينا مما أعطاه الله، إنه قد أحلّ عليه غضبا من الله تعالى فوق غضبه من كفره وفوق كفره، أنه كان مِسّيكاً لا ينفق ... !!
أنفقوا خيرا لأنفسكم، ومن يوقَ شحّ نفسه، فأولئك هم المفلحون، والشحّ أصل البخل في النفس، هو المنبع، فمن وقِي الشحّ من نفسه، فقد أغلق المنبع، فأفلح !

روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ أنه قال : { لا يجتمعُ غبارٌ في سبيلِ اللَّهِ ودُخانُ جَهَنَّمَ في جوفِ عبدٍ ، ولا يجتمعُ الشُّحُّ والإيمانُ في جوفِ عبدٍ } –صحيح النسائي-
ثمّ إن للدعوة إلى الإنفاق علاقةً وطيدة بما سبق وأن عرفنا من أنّ المال والولد فتنة.
فأن يُروّض الإنسان نفسَه على الإنفاق، هو أن يخلّصها من ربقة العبودية للمال، والمال هو الذي يُنفَق على الأولاد، وغالبا ما يُطلَب، ويُستمات في ابتغائه لأجل تلبية مطالبهم، ولأجل إبلاغهم مبالغ التّرف والرّفاه، فترويض النفس على الإنفاق، يلعب دور التذكير بأنّ جزاء الإنفاق منه خير وأبقى، وأنّه الذي يجب أن يكون حلالا طيّبا، وأنّ أولى ما يُطلَب به، الآخرة لا الدنيا ... !
﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾
وهذا تفصيل لــ : ﴿...وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ  ﴾

يُراد منك القرض الحَسَن، الحلال الطيّب، هذا ما يجب أن يتذكّره المؤمن، فيتحسّب، ويحترس وهو يبتغي حلالا طيبا، ليُقبل منه، وليحسبه الله له قرضا، يضاعفه له شكرا وحسنات، ساعة أحوج ما يكون إلى استرداد ذلك القرض، إلى تلك الأضعاف التي يضاعفها الله له، ويخبئها له لليوم الذي هي فيه منجاته، يوم التغابن ... !
وإن القرض لله يصوّر لك صورة من يعطي الله تعالى مالاً ! وإنك لتلمس بهذه الصورة معنى "الإحسان" في معاملة العبد ربّه، فكأنك تُقرض من ترى، وقد أجاب في شأنه النبي ﷺ جبريل حينما سأله : أخبرني عن الإِحسان، فقال النبي ﷺ: { الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يَراك} –صحيح البخاري-
﴿ يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ(17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾
فهي المضاعفة بحسنات تُزاد وتُزاد، وهي المغفرة التي تمحو السيئات، وهي فوق هذا وذاك الشكر من الله الشكور الحليم سبحانه، الذي يشكر لعباده إحسانهم، وما شُكْره لهم إلا من حلمه بهم... ! وقد أعجبني في " شَكُورٌ حَلِيمٌ " قول لابن عاشور -رحمه الله-  : «ولا نعمة على الله فيما يفعله عباده من الصالحات. فإنما نفعها لأنفسهم، ولكن الله تفضّل بذلك حثاً على صلاحهم، فرتب لهم الثواب بالنعيم على تزكية أنفسهم، وتلطف لهم فسمى ذلك الثواب شكراً وجعل نفسه شاكراً. وقد أومأ إلى هذا المقصد اتباع صفة { شكور } بصفة { حَليم } تنبيهاً على أن ذلك من حِلمه بعباده دون حق لهم عليه سبحانه» -التحرير والتنوير-

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾
ولقد عرفنا في هذه السورة عن علم الله تعالى المحيط بكل  دقيقة وجليلة، بصيغ مختلفة : ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) ﴾، وهو عالم الغيب والشهادة، يعلم ما يبلغ بصرَك، وما لا يبلغه مما غاب عنه، ومما غاب عن كل بصر من شأن الغيوب سبحانه ...

وفي هذه السورة تحديدا، تأتي صفة علمه المطلق سبحانه بهذا التكرار، وهذه الصيغ المختلفة،  تأكيدا على أنه الذي خلق عن عِلم، ويبعث عن علم، ويحاسب عن علم، فهو الذي لن يظلم يوم التغابن أحدا: ﴿ ... وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا  وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) ﴾، ولن يغبن أحدا حقّه، بل إنه سبحانه الذي سبقت رحمتُه عذابَه، ولا يعذّب سبحانه إلا وقد بعث رسلا هُداة، وكتبا هادية، مع ما خلق في الإنسان من فطرة سليمة تُسيغ الحق، وعقل يهتدي إليه ... !

﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾
"الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "سبحانه، كانت لازمة مقترنة بالتسبيح في كل من "الحشر" و"الصف" و"الجمعة"، في افتتاح السور الثلاث، بينما جاءت هنا مختتمة للسورة، متفرقة عن التسبيح الذي افتُتِحت به، فاجتمعت : ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾    مع:  ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ .

* لَهُ الْمُلْكُ* سبحانه ، فهو الملك، ملك يوم الدنيا وملك يوم الدين، ملك يوم الأولى وملك يوم الآخرة يوم التغابن.   * الذي لَهُ الْحَمْدُ*  على آلائه، وإنعامه بالخلق بالحق وبالتسخير، وبالعقل وبالهدى،  وبالتكليف بالحق، وبالرحمة وبالمغفرة وبالبعث بالحق.  * وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* ، على أن يهدي الناس أجمعين فلا يكفر به أحد، وعلى إهلاك كل من كفر، ولكنه -على قدرته المطلقة- يمهل، ويرزق، ويعطي، ولكنه لا يهمل، بل يبتلي ليجازي كلّا بما قدّم، فكما كانت قدرته على الخلق من عدم، فهو على البعث قدير، بل هو عليه أهون... !  * عَالِمُ الْغَيْبِ* سبحانه، فهو الذي يحيط علما بكل ما يغيب عنك فيما هو مشاهَد لغيرك، وبكل ما يغيب عنك وعن غيرك مما لا يُشاهَد ولا يُبصَر إلا في أوانه الذي يريد سبحانه، أوانه الذي هو غيب في علمه وحده... !

* وَعالم الشَّهَادَةِ* عالمها سبحانه كلّها، فلا يغيب عنه طرف منها، بينما أنت أيها الإنسان بكل ما سخّره لك ربّك من أدوات المعرفة والعلم والاكتشاف، وتصغير العالم بدقائق التكنولوجيا، يغيب عنك مما هو مشاهَد ويغيب عنك ويغيب ... !  *العََزِيزُُ* سبحانه الذي لا يُغلَب، فالعزّة في جنبه وحده، به يعزّ عبدُه ومن دونه يخزى ويذلّ في الدنيا وفي الآخرة، في يوم الدنيا وفي يوم التغابن ... 
*الحََكِِيمُُ* سبحانه، خلق بحكمة ولحكمة، وابتلى بحكمة ولحكمة، ويبعث بحكمة ولحكمة ... !
وهكذا تنتهي هذه السورة العظيمة... !
هكذا استضأنا بها قبسا من هذا النور الذي أنزل الله تعالى –كما جاء فيها عنه- ...
هكذا بهذا الغوص الجميل، وبهذه التأملات العميقة، أجدني وقد رُوِي غليل عقلي عن "التغابن" وعن الرهبة التي يحمل معناها ... ! بهذا الترابط الشديد بين آياتها، وبارتباطها المحقَّق مع السُّور السابقة في قضيّتها المشتركة، قضية الولاء والبراء، وببديع تركيبها، وهي ذات السَّمْت المكيّ العقدي، وذات النزول المدني ... !
إنها لسورة عظيمة عظيمة ... !
وإن أنوارَها لمشرقة مبهرة !  وهي واعظة، مربّية، مذكّرة، موثّقة للعقيدة في القلوب، محرّكة للنظر في العقول !  تبصّرك وهي تخوّفك مغبّة التغابن، وتنقذك وهي تزوّدك بما ينجيك من غُبن يوم التغابن ... تلقي بظلال الجلال بصفات مَلِك يوم التجارة ومَلِك يوم السَّداد !  ملك يوم التجارة وملك يوم تغابن مَن تاجر التجارة البائرة الخاسرة !  يوم الضحك والاستبشار والحساب اليسير، والانقلاب إلى الأهل بالفرح والسرور، بالوجه المبيضّ والقلب المطمئن لمن تاجر التجارة الرابحة مع الله تعالى ... !  يوم توفية الحساب بالعدل وبالحق، يوم توفية الأثمان بلا ظلم ولا نقصان، يوم تغابن أهل بيع الهدى بالضلال ... !
 وهي ذي في ختامها تقرّ أنّه سبحانه -بتلك الصفات العُلا له وحده، التي اجتمعت في آياتها، وبصفاته العلا كلّها- يضاعف لمن يؤمن ويطِيع ويتّقِي ويعمل صالحا، وينفق مما رُزِق، ولا يُفتَن بمال ولا بولد... !

وتلكم سلعة المؤمن المُنجية يوم القيامة، وتلكم تجارته التي تاجرها مع الله سبحانه في الدنيا، يؤمن ويطيع، ويتقي، ويعمل صالحا، ويقرض الله،  فيُضاعَف له يوم التغابن، أولئك الذين كانوا يرجون تجارة لن تبور، بعكس المتغابنين أصحاب التجارة البائرة، الذين كفروا، وعصوا، وعتوا، وأمسكوا، وشحّوا، وألهتْهم أموالهم وأولادهم، فعشقوا المال وعبدوه، وأرضوا الولد والصاحبة والأخلاء، ولكنهم يوم التغابن يبيعون كلّ من عاشوا في الدنيا يعبدونهم، يبيعونهم بأسوء وأشنع الأثمان، يودّون لو كانوا لهم الفداء من عذاب النار، لو أنهم يُلقَون فيها مكانهم ... !

وذلكم يوم التــــــــغابن... !!!
أولئك الذين أرضوا شهواتهم، وقضوا نزواتهم، ولبوا رغباتهم ورغبات أولادهم وأزواجهم وأخدانهم وأتباعهم، ومتَّبَعيهم، وأرضوا رؤساءهم ، وكبراءَهم على حساب إرضاء الله ... !
فاللهمّ أجرنا، واجعل العقيدة في قلوبنا رباطا لا ينحلّ، وعلّمنا تقديرك حقّ قدرك، ولا تجعل في قلوبنا أعلى من حبّك وحبّ إرضائك، واجعلنا من أهل التجارة الرابحة، لنكون يوم تغابن المتغابنين من النّاجين الفرحين المستبشرين ... ! واجعل ولاءنا كلّه لك ولدينك ولرسولك ...
ويا ما أعظم نورك يا قبس التغابن... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب