المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (الجــــــمعة)  (زيارة 134 مرات)

0 الأعضاء و 3 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ومن بعد سورة الصفّ، وما ميّزها من بيان لخصوصية الجماعة المؤمنة في الأرض، ومن دعوة لما يجعلها الجماعة القائمة على الحقّ وبالحقّ، الحارسة لقِيَمِه، وهو المُستهدَف من أهل الباطل في كل زمان وفي كل مكان ...
سورة الصفّ التي دعت إلى الوحدة والتراصّ في وجه العدوّ المترصّد، لا كعملية تتيسّر وتتسنّى مجرّدةً عن مقدّماتٍ ومؤهّلاتٍ لتحقيقها، وتحقُّقِها، بل من بعد العمل على المستوى الداخليّ... من بعد محاربة مظاهر الاعوجاج في الداخل، بتنقية النفس المؤمنة، وتخليصها من الازدواجية... من بعد حرب تُشنّ على النفس وهي تكيل بمكيالَيْن، بمكيال القول، فهو شيء، وبمكيال الفعل فهو شيء آخر ...
 
دعت إلى حرب في ساحة الأنفس المؤمنة، لتنقيتها وترقيتها، بأن يوافق فعلُها قولَها، وبأن يوافق مظهرُها مخبرَها ... : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)" -الصف-
حربٌ على النفاق ومظاهِرِه المختلفة، وتعليم للمؤمن أنّ النفاق داء ليس لمؤمن أن يجزم ببعده عنه ما لم يتصدَّ لمراودة نفسه، ومراوغاتها، وإعطائها المرض صبغة السلامة، وتلطيف الحقائق بالعناوين المخالفة لحقيقة أمرها... !

فحينما يخالف الفعل منها القول، وتكون القائلة بما لا تفعل، تتعلّل بالظروف، أو بالعصر ومقتضياته، أو بجعل الدين واعتقاداته شيئا، والحياة ومجرياتها شيئا آخر، بالفصل الذي يحقّق الازدواجية في أتمّ صورِها، ونحن نعرف في الأمّة اليوم عنوان الإسلام، وواقع البُعد عنه في مظاهر الحياة المختلفة ...
ازدواجيّة هي سطوة العَلمانيّة العصريّة التي تفصل بين الدين والدولة، بل وتفصل في صورة أجلى بين الدين والحياة ... !
إن سورة الصفّ جاءت محارِبة لمظاهر الدين الجديد الذي يُراد للأرض، دين العَلمانية التي ترفع شعار حريّة العيش بأحكام الأهواء، منكّهة بزعم حريّة الفرد في التديّن، بشرط أن يُحصر الدين في طقوس تعبديّة فرديّة ! والحقيقة أنها الحرب على الدين بالكليّة، تتسربل بكفْل حريّة الفرد بأن يأخذ به أو لا يأخذ  ... بينما هي تحقيق الأهواء حكما وشرعا بدل حكم الخالق المالك سبحانه ... !
فبالحرب على الازدواجية في النفس المؤمنة، تقوم قائمةٌ للجماعة النقيّة المترقّية على الأهواء، التي تقول ما تفعل، ولا تدّعي عنوانا بغير بيان ...

تقوم بأمر الله، وبحكم الله سدّا منيعا، بنيانا مرصوصا في وجه كلّ عدوّ متربّص... لتكون هي الجماعة المطيعة لأمره سبحانه، المحقّقة للخلافة في أرضه  ...
وقد أشارت سورة الصفّ إلى فشل أهل الكتاب في حَمْل الأمانة العُظْمى، وبيّنتْ نكوصهم عن العهود والمواثيق، وعن الدور الذي أنيط بهم بما حَمَلتْ إليهم كتبهم ... فكذّبوا، وافتروا على الله الكذب، وبدّلوا وحرّفوا أمر الله بمختلقات أهوائهم ...وخُتِمت السورة بدعوة المؤمنين إلى أن يكونوا أنصارا لله كما كان الحواريون أنصارا لله، فأيّدهم الله -على قلّتهم- على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين ...

وهي الإشارة والبيان والرسالة للجماعة المؤمنة التي بها أنيطَ حِمل تبليغ الرسالة الخاتمة، وأداء الأمانة العظمى لإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض، وإقرار حُكمِه فيها، لا حكم غيره ...
وهي ذي الأرض من غير حكم الله، وبحكم الأهواء المتباينة، والجماعات الطاغية بالمال والقوّة، تئنّ وتتأوّه وهي تذوق من العذابات الألوان والألوان ... !
هي ذي الأرض حربٌ، وتناحرٌ وتقاتل، و"الإنسانيّة" و "العدل" على رأس ضحايا الصراع المرير فيها من أجل التسلّط والدّوْس على  رقاب العباد... !
من بعد سورة "الصفّ" العظيمة ... نَجِدُنا مع سورة "الجمعة" ...بين حناياها، وفي أطرافها النورانيّة ... نخرج من نور إلى نور ... من أمر علويّ ربانيّ إلى أمر ربانيّ متمِّمٍ مُكَمِّل، مع سلسلة متّصلة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لأنها كلمة الله، ومن الله، ولأنها الطيّبة بوصف الله : " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)" -إبراهيم-

فلنَعُبَّ من أنوار "الجمعة" ... كما عببنا من أنوار الصفّ ... ولنُمعِن النظر في الرابط بينهما ...
"يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)"
في هذا الجزء الذي نحن في رحابه بدءا من "ّالمجادِلة" وصولا إلى "الجمعة"، وكأختَيْها من قبلها "الحشر" و"الصفّ" تُفتَتح السورة بالتسبيح ...
وكلّها سورٌ مدنيّة، فيها تنظيم المجتمع المسلم، وتحديد قوانينه الخاصّة، قوانينه الروحيّة والانتمائية التي تميّزه عن باقي المجتمعات في الأرض ...
فمن "المجادلة" إلى "الصفّ" عرفنا روح الولاء لله ولرسوله التي هي قوام هذه السُّوَر كما هي قوام الجماعة المؤمنة، وأساسها الذي لا يُعلى بُنيانُها بغيره ...  وقد عرفنا هذه الروح المُحْيِية لجسم الجماعة المؤمنة انتقالا بين السور بأشكال مختلفة، ومن نواحٍ لا من ناحية واحدة ...

ففي "المجادلة" هي قوميّة الجماعة المؤمنة، وروح انتمائها: "لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)". 

وفي "الحشر" بيان قوة الجماعة المؤمنة المتصلة بربّها عَبْر جذور ضاربة في أصل الوجود، وضعف الجماعات المحادّة لله ولرسوله، المحادّة لأمر الله وللحق الذي أنزل لعباده، وأنها القائمة على هواء مهما بدا عليها من قوة : "لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْقِلُونَ(14)"

وفي "الممتحنة"  عرفنا إيواء الله لعباده المحتمين بحِماه، المولّين عن أقرب أقربيهم وهم لله عدوّ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ..." وفيها عرفنا ميثاق الولاء: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "  .

لتأتي "الصفّ" مشنِّعة على من يقول ما لا يفعل، ليُفَعَّل ميثاق الولاء عملا في الأرض ... !
وهكذا جاءت ثلاث سور من جملة الأربع مبتدئة بالتسبيح ... تنزيها لله العظيم عن كل نقص وعن كل عيب، سبحانه ذو صفات الكمال، ونعوت الجلال ... الذي يتولاه المؤمنون، ويحتمون بحِماه، ويلجؤون إلى ركنه الشديد، سبحانه المنزَّه عن صفات كمال أكمل العباد ... ! له وحده الكمال، والجلال والعظمة ... !

وهكذا... تُفتتح تعاليم الولاء لله ونصرة دينه، بالتسبيح له سبحانه، وهو الوليّ الذي لا يُخذَل مَن أوى إلى ركنه، ولا يُردّ من لاذ بحِماه، ولا يَذِلّ من نصر دينه وأعزّه .
وقد جاءت هنا بصيغة المضارع "يُسَبِّحُ" للتدليل على أنّه الذي يُسبَّح له بلا انقطاع، وإن غفل عن ذلك الإنسان... ! وإن لم يقدّره حقَّ قدره الكثير من عباده، فإنّ كل ما في السماوات وما في الأرض يسبّح له، لا يفتر ... ! : "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)"-الإسراء-
وإنّ الإنسان لأجْدَرُ من يسبّح ربَّه، وهو الذي كَرّمه بالعقل، وكلّفه بأداء الأمانة العظمى ...

"....الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"
سبحانه الملك، الذي لا يملك على الحقيقة غيرُه، ملك الملوك وما يملكون ... الملك في كونه الذي خلق وأوجد، ملك الدنيا والآخرة ...
سبحانه القدّوس، المنزّه، الطاهر من كل عيب، المنزّه عن النقص والولد والشريك والصاحبة، المنزّه عن كل وصف لا يليق بجلاله وكماله وعظمته، ولو كان هذا النقص كمالًا في حق المخلوقين.

سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب، ولا يكون إلا أمرُه، الذي يعزّ مَن والاه، ويَذِلّ من عاداه...

سبحانه الحكيم الذي أوجد الوجود بحكمة متناهية في أدقّ دقائقه، وأجلّ جلائله، بلا زَلَل ولا خَلَل، ولا عبث، فهو الذي يضع الأشياء كلّها مواضِعَها، ويُنزِلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال.

"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)"

""هُوَ"" سبحانه الذي افتُتحت السورة بأسمائه الحسنى : "الملك" "القدوس" "العزيز" "الحكيم"
سبحانه الذي يفعل بملكه ما يشاء، سبحانه القدّوس، فليس في أمره عيب أو نقص، سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب، سبحانه الحكيم الذي يضع أمره كُلَّه في موضعه بلا زلل ...
هو " الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ"
بعثه في مُلْكِه، وبأمره وهو المَلِك... بعثه بالكمال والتمام وهو القدّوس، بعثه وهو الذي لا يُغلَب ولا يكون إلا أمرُه، ولا يتحقق إلا مُراده، بعثه بالحكمة ولحكمة ...
سبحانه بعث محمدا في "الأمييّن". وهي الصفة التي عُرِفَ العرب بها لأمرَيْن:
أوّلهما: أنهم قوم، كان أغلبهم لا يحسن قراءة ولا كتابة، وكان صلى الله عليه وسلم منهم ... وقد سُمّي الواحد أميّا  لتشبيه حاله بعد تقدّمه في السن، بحال يَومِ ولدته أمّه لا يعرف قراءة ولا كتابة.
وثانيهما: أنّهم قوم لم ينزل فيهم كتاب سماويّ من قبل القرآن، ولم يُبعَث فيهم نبيّ من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وأميل إلى أنّ هذا هو أهمّ سبب في تسميتهم بـ "الأمّيّين".

ومما يجعلني أغلّب السبب الثاني جمْعُ الله تعالى بين الأميّين وأهل الكتاب، في استفهام يعنيهم جميعا:" وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ" -آل عمران: 20 –
وإنه من الله أُرسِل بالرسالة الخاتمة،  ومن الله بُعِث ...وإنه منهم :" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ... "
فَهُم قَوْمُه، ورَحِمُه، وذَوُوه ...يعرفون أصله، ونسبه، كما يعرفون صدقه وأمانته، وشهامته، وحُسن خُلُقه، وعلوّ همّته،  وسموّ أدبه، ووقاره، لا يخفى عليهم من ذلك شيء...وإنّ "منهم" لتحمِل ما تحمل من معاني القرب، والمعاشرة والمعايشة التي تولّد الاحتكاك والاتصال، الكفيل بمعرفة معدن الشخص عن قرب وكثب .
"منهم"...فهو يعرف كل أساليب حياتهم، وسلوكهم، واعتقاداتهم، وتقلّباتهم... ولكنّه لم يكن مثلهم، جانَبَ سلوكَهم، ولم تُقنعه اعتقاداتهم، فنأى عنها، بل ومَقَتَها، فلم يُبْغِض شيئا بُغْضَه لمظاهر الشّرك من عبادة للأوثان والأصنام، واستغاثة بها، وتقرّب لها بالعطايا والنُّذُر، على أنها التي تشفع لهم عند الله تعالى، ومن ذبحٍ على النّصب، واختلاق للخرافات، وتصديقٍ بالأوهام والأباطيل كاستقسامهم بالأزلام، واحتكامهم للكهنة والعرّافين والمنجّمين، وشربهم الخمر، وإتيانهم الفاحشة، وابتذالهم للمرأة، واعتسافهم إياها، وعدِّها مجرّد شهوة عابرة، مع هضم لحقوقها، وإهدار لكرامتها، مع ما كان منهم من استعباد للمستضعفين من الناس... !
كان منهم صلى الله عليه وسلم، ولكنّه لم يكن مثلهم... !كان منهم، فعرف دواخلهم، وعرف ما بلغ بهم الجهل بالله وبالحق... !
ولقد أعدّه الله تعالى من قبل بعثته، فكانت فطرتُه السليمة طافيةً على سطح نفسه، ولم تكن مغمورة، مرتكسة، فكان على خلافهم، وعلى خلاف كلّ طبائعهم...

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بُعِثْتُ مِن خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ، قَرْنًا فَقَرْنًا، حتَّى كُنْتُ مِنَ القَرْنِ الذي كُنْتُ فِيهِ. "-صحيح البخاري-
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللَّهَ خلقَ الخلقَ ، فجعَلَني مِن خَيرِ فِرَقِهِم ، وخَيرِ الفريقَينِ ، ثمَّ خيَّرَ القبائلَ ، فجَعلَني مِن خَيرِ القبيلةِ ، ثمَّ خيَّرَ البيوتَ فجعَلَني مِن خَيرِ بيوتِهِم ، فأَنا خيرُهُم نفسًا ، وخيرُهُم بَيتًا"-سنن الترمذي: حسن-
« آخر تحرير: 2021-03-31, 09:11:20 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ..."

وإنها لهي هي دعوة سيدنا إبراهيم، حينما رفع القواعد من البيت وابنَه إسماعيل عليهما السلام : "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)"-البقرة-
هو الملك سبحانه، فهو الذي أرسل رسوله لعباده الذين هم وكُلُّ ما في السماوات وما في الأرض له عبد ...
هو القدّوس سبحانه الذي أرسله إلى عباده بالكتاب الكامل الشامل المهيمن، المنزَّه عن النقص، ليكون لهم هدى ونورا، ومنهج حياة "...وإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)"-فصّلت-

يتلوه عليهم آناء الليل وأطراف النهار، يقرأه عليهم، ويبلّغهم إيّاه كما أُنزِل عليه حرفا بحرف... ولقد أمره ربُّه أوّل ما أمره أن يقرأ  : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) " -العلق-
وإنّ تبليغهم كلام الله -عبر تلاوته صلى الله عليه وسلم له- رحمة وذكرى : "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)"-العنكبوت-

إنها تلاوة، وإنها قراءة، ولكنها ليست ككل قراءة... ! إنها قراءة تبليغ لكلام الله تعالى وأمره لعباده، قراءة أداء للأمانة العظمى.
هو سبحانه العزيز... الذي لا يُغلَب، والذي يعزّ من اتّبع هُدَاه، ويذلّ من أعرض عنه، هو الذي أرسل رسوله ليعلّمهم الكتاب العزيز الذي يجعلهم في جنب العزيز سبحانه: " وإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ "...
يعلّمهم ما يرقى بأنفسهم ويسمو بها عن سفاسف الأرض، وأخلاط الأهواء، واختلاقات الكاذبين المتألّهين  فيصيروا به أعزّة...  يعلّمهم ما يجعلهم الناجحين وهم الذين لا يرون في الدنيا دار قرار، بل دار امتحان، يهيؤون فيها الإجابة، ويعملون فيها لما ينجيهم يوم اللقاء والجزاء...

هو سبحانه الحكيم... الذي بعث فيهم رسُولَه، يعلمهم الحكمة، والرشاد.
والحكمة غالبا هي السنّة النبوية المطهّرة، بما فيها من حركة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض بهدايات القرآن العظيم وأوامره، وهو كما وصفتْه عائشة رضي الله عنها بقولها: "كان قرآنا يمشي على الأرض"... فمَشْيُه على الأرض بأقواله وأفعاله الحكيمة التي هي من نور القرآن وهُداه، هي الحكمة التي بُعث صلى الله عليه وسلم ليعلّمها للناس ...
الحكمة التي هي حركته صلى الله عليه وسلم قرآنا...فبهُداه يعبد ربّه، وبهُداه هو الموصول به، وبهُداه هو المعلّم، وهو المربّي، بهُداه يحيا مع زوجاته، ويعلّم رجال الأمّة حياتَه معهنّ ليقتفوا أثره، وليتأسّوا به، فهو الأب المعلّم ، وهو القائد المعلّم، وهو المربّي المعلم...وهو الإنسان المعلّم ... !

فأيّ فصل بين القرآن والسنّة، والسنّةُ مَشْيُ القرآن على الأرض ؟ !
وأنّى يستقيم إلغاء السنّة من حُسبان المؤمن، وهي التطبيق العمليّ للقرآن ؟ !
أنّى يستقيم إيمان المؤمن، وهو الذي يدّعي لنفسه إيمانا بالقرآن وحده، ويُنكر بيان مَن بعثه الله وأرسله ليبيّن حركة الإنسان بالقرآن فعلا وقولا ...  ليكون النموذج البشريّ الأكمل لتطبيق القرآن الكريم ...؟ !

وقد ذكر الله أنّ كلا من الكتاب والحكمة مُنزَلان على نبيّه، وهو مصداق الاعتقاد بأنّ ديننا دين الوَحْيَيْن القرآن، والسنّة : "...وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَم..."-النساء: من الآية113-
كما قال صلى الله عليه وسلم : "لا ألفينَّ أحدَكم متَّكئًا على أريكتِهِ يأتيهِ الأمرُ من أمري ممَّا أمرتُ بِهِ أو نَهيتُ عنْهُ فيقولُ: لا أدري ما وجَدنا فيه حرامًا حرَّمناهُ ألا وإنِّي أوتيتُ القُرآنَ ومثلَهُ معهُ"-الألباني: صحيح-
وإنه صلى الله عليه وسلم فوق تلاوته وتعلميه لكلام ربّه، والحكمة، يزكّيهم أي يطهّرهم من أدران الجاهليّة، ويُخلّصهم من رِجسها، ويخرجهم من ظلماتها، ويملؤهم بنور العلم والهداية والرشاد... يخلّيهم من الخرافة والباطل والسَّفَه، ويحلّيهم بالحقّ والنور، ويعطي العقلَ حقَّه وهو هبة الله لعبده... !

فنرْقُبُ كيف جاءت أسماء الله سبحانه : "الملك" "القدوس" "العزيز" "الحكيم"، موائمة كل المواءمة لوظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الملك -------->  تلاوة رسول الملك لرسالته إلى عبده ومملوكه.
العزيز-------> تعليم رسول العزيز كتابَه العزيز لعباده.
الحكيم-------> تعليم رسول الحكيم الحكمة بحركته على الأرض قرآنا كنموذج  بشريّ أعلى للأسوة والاقتداء. 
القدّوس-----> تزكية رسول القدّوس لأنفس العباد بالتربية والهداية والتوجيه.

"وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)"
أما قبل أن يُبعَث فيهم صلى الله عليه وسلم كما تُبعَث بالروح الحياةُ في الجثة الهامدة،  فقد كانوا في ضلال مبين ... والقرآن روح بوصف الله تعالى له : "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)"-الشورى- .   "يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُون"-النحل:02- 

وهنا قُرِنت "في" الظرفية بـ"لام" تسمّى اللام الفارقة ...وهي اللام الفارقة بين "إنْ" (النافية) و"إنْ" (المخففة من "إنّ" الثقيلة).
وقد وقعتُ على تعريف دقيق لدورها في تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور رحمه الله. يقول : ((( واللام في قوله { لفي ضلال مبين } تسمى اللام الفارقة، أي التي تفيد الفرق بين إنْ النافية و { إنْ } المخففة من الثقيلة وما هي إلا اللام التي أصلها أن تقترن بخبر إن إذ الأصل وإنهم لفي ضلال مبين، لكن ذكر اللام مع المخففة واجب غالباً لئلا تلتبس بالنافية، إلا إذا أمن اللبس.)))-التحرير والتنوير-

وطبعا لا ينفي اختصاص هذه الآية بذكر بعثته صلى الله عليه وسلم في الأميّين، أنه المبعوث للناس كافة، رحمة للعالمين: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ... " –الأعراف: من الآية158-    "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)"-سبأ-.   إلا أنّ هذه الآية من "الجمعة" خصّت بداية بعثته في العرب، وأنه منهم، وفيهم بُعث أوّلَ ما بُعِث صلى الله عليه وسلم.

"وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)"
ولما خصّ الله في هذه السورة قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر أوليّة بعثته فيهم، ثنّى سبحانه، بالحديث عن "آخَرِينَ" ... فلنتأمّل ما يزيد في تجلية أمر هؤلاء الآخرين :
 " وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ..."
هم آخرون من الأميّين، وهي هنا "مِن التبعيضية". 
فهم مِنْهُمْ ، ولكنّهم لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، وإنها للإشارة إلى الأجيال المنبثقة عن هؤلاء الأميّين جيلا بعد جيل، كما أنها الإشارة أيضا إلى الأجيال التي تتولّد من اختلاطهم بالأجناس والأعراق الأخرى... وهو الأمر الذي كان نتيجة الفتوحات الإسلامية، وامتداد رقعة هذا الدين إلى أراض مختلفة، مما أدّى إلى التعارف والتزاوج بين العرب وبين غيرهم، ونشوء أجيال مختلطة الأعراق، جَمَعَ الإسلام بينها ... فهو الرَّحِم وهو الجامع، وهو الذي يتزوّج فيه العربيّ بالأعجمية المعتنقة للإسلام، كما تتزوج فيه العربية الأعجميّ المعتنق للإسلام.

إنها الإشارة إلى غيبٍ من الزمان، وغيبٍ من الأحداث، هما في علم الله وحده، غيب تحقّق على امتداد السنوات والقرون عبْر الفتوحات التي اتسعت رقعتها .
كما أنني أراها أيضا تناسب معنى "مِنْهُمْ" بمجاز من القول... ذلك أنّ الذي اعتنق الإسلام من غير العرب، وعاش بينهم، أصبح منهم، وسيدنا إسماعيل عليه السلام أكبر مثال على ذلك، وهو الذي لم يكن عربيّا، ولكنه بحكم ترعرعه في الجراهمة العرب، وكبره بينهم، صار عربيا، حتى سمّيت سلالته "العرب المستعربة".

وقد جاء في الصحيح، بيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر "الآخرين"
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَأُنْزِلَتْ عليه سُورَةُ الجُمُعَةِ: {وَآخَرِينَ منهمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهِمْ} قالَ: قُلتُ: مَن هُمْ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا، وفينَا سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ، وضَعَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدَهُ علَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قالَ: لو كانَ الإيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَنَالَهُ رِجَالٌ - أوْ رَجُلٌ - مِن هَؤُلَاءِ. " - صحيح البخاري-
وفيه بيان أنهم من غير العرب، ولكنهم تلقّفوا الإيمان .

كما جاء عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ في أصلابِ أصلابِ أصلابِ ( أصلابِ ) رجلٍ رجالًا ونساءً من أُمَّتِي يدخلونَ الجنةَ بغيرِ حسابٍ ثم قرأ ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) " -المحدث : الألباني. إسناده صحيح -

فمن خلال الحديثَيْن، وبالجمع بين الأحوال، نستطيع القول أن هؤلاء الآخرين هم كل العرب الذين لم يعاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جاؤوا بعده، وكل من لم يكن من العرب، ولكن جمع بينهم الإسلام، فاختلطوا بهم حتى صاروا منهم. وذلك امتداداً في الزمن إلى يوم القيامة.
وإن هذه الآية لتحمل إعجازا بإعلامها عن غيب لم يكن في عهد نزول القرآن، ولكنه تحقّق بعده، ومتحقّق على مدى الأزمان:"...وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۚ..." –الأنعام: من الآية19-

ولنا أن نتأمل تمام معنى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العالمين، بالجمع بين هذه الآية وسابقتها، فقد جاءت أوليّة بعثته في الأميّين، ثم امتداد دعوته إلى باقي أمم الأرض .

"وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"
ويتكرّر الاسمان الحُسنَيَان مرة أخرى، من بعد مجيئهما في الآية الأولى، سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب، بل الغلبة له ولإنفاذ إرادته في كَوْنِه وخلقه، فهو الذي بُعِث في الأميّين رسولا، ثم امتدّت دعوته في أمم الأرض كافّة ... وهو الحكيم الذي يختصّ برحمته من يشاء، فاختصّ الأميّين بهذه الرحمة العظيمة، ومنهم انطلق شعاع النور إلى الأرض كافة . سبحانه متمّ هذا النور ولو كره الكافرون، ومظهر هذا الدين ولو كره المشركون (كما عرفنا في سورة الصف).

"ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)"
لحكمة منه سبحانه وهو العزيز الحكيم، اختصّ هؤلاء الأميّين برحمة عظيمة، اختصّهم بالرسالة الخاتمة، فأعلى قدرَهم، وأسمى شأنَهم، أن جعل محمدا منهم، وفيهم بعثه، فكان للعالمين رحمة.
بفضل منه سبحانه جعلهم أهل القيادة والرّيادة للأرض كافة، بهذا الكتاب الخاتم المهيمن الشامل لكمالات الهداية، والمتمّ لنعمة الله على عباده، فيه قضى الله أن الإسلام هو الدين عنده، لا غيره، وأنّ من يبتغِ غيره دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وفيه رضي الإسلام لعباده دينا . فالإسلام  قضاؤه سبحانه ورضاه ... !

بطلاقة مشيئته، وكمال إرادته سبحانه يؤتي فضله من يشاء من عباده، فآتاه هؤلاء الأميّين، الذين كانوا من قبله في ضلال مبين، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الباطل إلى الحق، وجعلهم هُداة مهديّين : "... قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" –آل عمران : من الآية73والآية74-
ذلك فضل الله سبحانه، أن جعل النبيّ الأميّ من الأميّين، يتلو عليهم الآيات، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، ليكون معلّمَ البشريّة كلِّها كلَّ خير، ومنقذَها من كل  شرّ ...

ولقد كان اليهود ينتقصون من العرب، وهم يرون أنفسَهم أبناء الله وأحبّاءه، وشعب الله المختار، فكانوا ينعتونهم بالأميّين... ثم إنهم قد شَرِقوا ببَعْث الله نبيّه صلى الله عليه وسلم في العرب، وعرفوا أنّ النبوة قد غادرتهم إلى غير رجعة، وهم الذين جاء وصف محمد صلى الله عليه وسلم في كُتُبهم، وأنه النبي الخاتم، فلا يفوز ولا ينجو إلا مَن آمن به، وصدّقه، واتّبعه، وكل من عاداه من أهل الكتب السابقة، وادّعى أنه باق على اتباع نبيّه وحده هلك ولم يُقبل منه شيء ...

وذلك ما قاله اليهود لمّا دُعوا للإيمان بالقرآن وللتصديق بمحمد: " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) "-البقرة-
فكان اختصاص الله سبحانه برحمته هؤلاء الأميّين، فضلا هو بيده وحده، آتاهم إياه بمشيئته المطلقة، التي لا تعلو عليها مشيئة، وفيها إخزاء لليهود الذين رفعوا رأسا بافتراء الكذب على الله، فقالوا إنهم أبناؤه وأحباؤه، وقالوا إن الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وقالوا إنّ النار لن تمسّهم إلا أياما معدودة .... ! "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)"-القصص-

تِلْكُمْ هي حكمة الله سبحانه، وتِلْكُمْ سعة علمه، والإنسان ليس له من العلم إلا الظاهر، وليس له من اعتداد إلا بالمظاهر ... تلكم هي النفس البشرية حينما تُعرض عن تزكية الله تعالى لها، عن تطهيره لها، مجسّدة في اليهود وهم يتعالون، ويتبجّحون ويرون أنفسهم الأعلى من كل الناس، الأفضل بين الأعراق والأجناس، لأنهم ما أقاموا أمرَ الله كما نزل عليهم، وما قاموا به كما أمِروا، ولا وفوا بعهودهم ومواثيقهم التي أخذها عليهم أنبياؤهم ...  بل حرّفوا، وبدّلوا، وغيّروا، ونبذوا أمر الله وراء ظهورهم، وزعموا أن ما تكتبه أيديهم وما تخطّه أهواؤهم هو كلام الله ... !

فحكموا على ظاهرٍ من أمر العرب، وهم الأميّون الذين لم ينزل فيهم كتاب من قبل، ولم يُبعَث فيهم نبيّ من قبل، وهم أهل الصحراء والحياة البدائيّة، وأهل الوثنيّة والجاهليّة، وأهل القبليّة والعصبيّة ... حكموا أنهم ليسوا للنبوة أهلا، وأنّهم وحدهم أهل النبوّة والرسالات ... !  استكبروا وعَتَوا، وقد جعلوا كُتُب الله التي استُحفظوا عليها قراطيس يُبدونها ويخفون كثيرا : "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) " –الأنعام:91-

أنّى لأمثالهم أن يكونوا أهل حكمة، وأهل نظر ثاقب ...؟ ! أنّى لهم أن يكونوا ربّانيين يرون بعين الله، ويقدّرون الأمور بتعليم الله ! وهم قد أعرضوا عن التعليم والتزكية التي حملتها كُتُبُه سبحانه لعباده ؟ !
أما الله جلّ في عُلاه، فهو سبحانه عظيم الحكمة، واسع العلم، صاحب العزّة والملك والقداسة، والأمر والنّهي ...  والمشيئة المطلقة ... يعلم حقائق الأشياء، يعلم جوهَرَها، كما يعلم مظهرها، ويعلم خافيها، كما يعلم باديها، ويعلم سرّها، ويعلم أيَّ المواضع يضع بها أمرَه، وأيّ العباد أولى أن يقوموا بالخلافة التي لأجلها خلق الإنسان، وأيّهم أحقّ بتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة للأرض قاطبة  ....
لذلك اقتضت حكمته وعزّته، وإحاطة علمه، أن يبعث في الأميّين رسولا منهم أميّا يعلّم الدنيا بأسرها إلى يوم انقضاء الدنيا... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وما عساي أقول في تناغم يحصل من حيث لا أحتسب...؟ ! وهو ليس إلا مِن عظمة هذا القرآن، ومن تدفّق كنوزه على من يَسْبُر غورَه ...ويبحث في ثناياه النورانيّة ... ليس منّي ولا مِن حذاقة فيّ، ولا مِن نجابة ... ! ولكن منه ومِن إعجازه، ومن تمام ترابط آيِهِ العظيمة، وتكاملها فيما بينها، والواحدة منها تُدلي في دَلو التالية ماء هو من مائها ... !

فلننظر إلى هذه التوليفة الشريفة من الآيات، وهي التي فيها ممّا لوَّحَت به سابقتُها......
"مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)"
 
إذن فقد لوَّحَت لنا الآيتان السابقتان بشأن المعنيّين بهذه الآيات، اليهود، الذي حُمِّلوا التوراة، ولكنهم ما حملوها ... فوجدتُني أذكرهم قبل أوان ذكرهم ... لا لشيء إلا لأنّ إشارات القرآن دقيقة حكيمة، تصوّر الهدف تلميحا، لتبلغك إياه تصريحا ...
"مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)"
بنو إسرائيل الذين حُمِّلوا التوراة...حُمّلوا القيام بها، وإقامتها في الأرض، استُحفِظوا على كتاب الله الذي أنزله نورا وهدى : "إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ ..." –المائدة : من الآية44-

أخِذ عليهم الميثاق أن يأخذوا الكتاب بقوة، ولكنهم أخلفوا، ونكصوا على أعقابهم:
"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64)"-البقرة-
حُمِّلوا الأمانة العظمى، أن يبلّغوا أمرَ الله، وألا يكتموه، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم :"وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)" –آل عمران-

لقد حُمِّلوها، ولكنهم لم يحمِلوها .... فما مثلهم ؟
إنهم وقد أوكل إليهم حفظ التوراة، والعمل بها، وعدم كتم ما جاء فيها من حق، وما جاء فيها من ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم (تُرجى العودة إلى سورة الصف حيث تفاصيل حول أخذ الله ميثاق الأنبياء التصديق برسول الله ونصره، وأخذهم الميثاق على ذلك من أقوامهم) .
إنّ مثلهم وهم الذين تولّوا، ونقضوا العهود، وفشلوا في امتحان الخلافة في الأرض، كمثل الحمار يحمل أسفارا، والأسفار جمع "سِفر" وهو الكتاب، وسمّي سِفرا لأنه يُسفِر عما فيه، أي يُجليه ويوضّحه ...
فما تُراه يصنع الحمار بأسفار يحملها ؟ ! أيقدّر قيمة ما يحمل ؟ أيفهم معنى أنه يحمله ؟ أيفْقَه من تلك الأسفار شيئا ؟ ! أيبحث فيها ؟ أو يقوى على الانتفاع بشيء منها وهو الحمار الذي لا يُحسن شيئا؟ !
بل كل ما في الأمر أنه يحملها، بلا فائدة تُرجى منها لنفسه ، وبلا فائدة تُرجى من انتفاعه بها تلحق من حوله ... !
بل يبقى حمارا ... وهو الحيوان الذي لا عقل له به يبحث، وبه ينتفع، ومِن تميّزه به هو يُكلَّف ... !
حُمّلوها، وأمِروا بأخذها بقوة، وهي التي تعلّمهم، وتعطيهم حقيقة التصوّر السليم للكون وللحياة، وللغاية من وجودهم، وتعلّمهم الحكمة، وتزكّيهم، وتجعلهم الموصولين بربّهم أبدا... وأمِروا ألا يكتموا الحقّ الذي جاء فيها، فتولّوا، وأعرضوا، وعصوا، وبدّلوا، وكتموا، وكذّبوا رُسُل الله، وعذّبوهم، وقتلوهم ... وتجرؤوا عليهم، وعلى الله ... فما شأنهم إلا كشأن الحمار الذي حمل أسفارا، وظلّ حمارا، ومات حمارا ... !

"...بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"
بئس هذا مثلا لهم... !
القوم الذين كذّبوا بآيات الله، إذ كذّبوا رُسُله، ونكثوا عهودهم، ونقضوا مواثيقهم مع أنبيائهم، ثم كذّبوا بالقرآن العظيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث في الأميّين، والمبعوث رحمة للعالمين ... وقد أمِروا أن يؤمنوا به، وأن يتّبعوه، وأن يقرّوا به وهم الذين يعرفونه من كُتُبهم كما يعرفون أبناءهم....
وهكذا ... ذهبت النبوّة من بني إسرائيل، وشَرِقوا بذهابها منهم، وحلولها في العرب الأميّين الذين كانوا يفخَرون عليهم، وأنكروا ذكرَ محمد صلى الله عليه وسلم في كُتُبهم، وهم الذين كانوا يستفتحون على كفار العرب بنصرهم للنبي الذي سيُبعَث قريبا، فلما جاءهم بما عرفوا كفروا به !!  : " وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) "-البقرة-

ولو حملوها حقّ الحمل، لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل لكانوا أول مؤمن به... ! ولما كانوا أول كافر به ... ! "وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)"-البقرة-
"وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)"-آل عمران-

وذهبت الخلافة ممّن حُمّلوها فما حملوها... ممّن أمِروا أن يقوموا بها ويقيموها فما قاموا بها وما أقاموها... وهكذا كانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في الأميّين منّة من الله عليهم، وكانت فضلَه الذي يؤتيه من يشاء ... !
ولقد عرفنا في السورة السابقة(الصفّ) الإشارة إلى أهل الكتاب من قوم موسى، وقوم عيسى عليهما السلام، وكيف أعرضوا عن حمل الأمانة، ونكصوا على أعقابهم من بعد ما جاءهم رُسُلهم بالحق، وبنبأ النبيّ الخاتم ليؤمنوا به ولينصروه .لتزيد سورة الجمعة في بيان نكول أهل الكتاب عن حمل الأمانة العظمى، وارتدادهم عن تعريف الناس بربّهم، ودعوتهم لتوحيده، وتعليمهم أمرَه، وتزكيتهم... "...وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) "
وإنه الحديث الصريح عن أهل التوراة، كما أنّه التربية والبيان في آن لأهل القرآن، ألا يكونوا مثلهم، وأنّ حمْلَنا القرآن دونما عمل به، ودون عيش بتعاليمه، ودون استضاءة بهداياته، ودون جعله المنهج الذي يُتَّبَع، والطريق الذي يُسلَك، والمشكاة التي تهدي، هو ما من شأنه أن يجعلنا أيضا كمثل الحمار يحمل أسفارا، ما درى عنها، وما فقه ما فيها، وما انتفع بها ... !
وإنها لعلّة أمّة الإسلام اليوم... !

عنوان بلا بيان... !  عنوان الإسلام، وعنوان أهل القرآن، والحقيقة بَيْنٌ، وجفاء، وسوء تعامل مع الكتاب وحقائقه، وسوء حملٍ له، وعدم أخذ به، واستهانة بدوره، وقصر تقديسه على المسح على ظهر مصحف، أو تقبيله، أو إهدائه، أو الدّندنة بأنه الذي ليس كمثله شيء، وليس بمثل نفاسته نفيس ! وقصْر حفظه على حفظ حروفه مع تضييع حدوده، أو مع عدم امتداد اليد لحمل مشكاته نورا على درب الحياة المعتِم ! أو مع بحث في كلّ كتب المظاهر والفلسفات للاعتداد بما يُزعَم أنها الحِكمة البشريّة -وهي البعيدة عن منبع الهُدى- سلاحا لفهم الحياة، ولتصوّرها وتصوّر الوجود فيها بما تُمليه العقول المستعلية على الوحي الإلهيّ... !

وكُلُّه مع داء الانبهار بمَن أعرضوا عن كتب الله جملةً، وعن أن يدينوا لإله، بل جعلوا الدين للأهواء، وللدنيا، وللشيطان وإملاءاته ... الانبهار الحاصل بمَن ملكوا زمام التقدّم العلميّ، والعيش المُترَف، إلى حدّ موالاتهم من دون الله ... !
على خطى أهل التوراة الذين حُمّلوها فما حملوها، هو كلّ من أعرض عن أداء أمانة القرآن العظيم، وعن العَيْش على نبض الوَحي الإلهيّ، وتحكيم الأهواء مكانَه ... !

وماذا بعدُ يا سورة الجمعة ... ؟ زيديني...فإنّي أفهم يا ربّ ثقل الأمانة، وأعلم أنّ الأثقل منها ألا نحملها .... !!!
"قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)"

إنه التحدّي لأهل التوراة، للذين حُمِّلوها وما حَمَلوها، وهم الذين يزعمون أنهم أولياء لله من دون الناس ... !
أيّ ولاية هذه لله تجعلكم لا تقومون بأمره ؟ !  أي ولاية منكم لله تجعلكم مكذّبين بكتابه ؟ ! أيّ قرب من الله تدّعون، وأنتم الذين أعرضتم عنه، وتجرأتُم فأخفيتم أمرَه، وبدّلتموه بأهوائكم، وبأقاويلكم ثم قلتُم هي من عند الله  وأنتم تعلمون ... !
يا مَن ادّعيتم أنكم لله أولياء، وأنكم له أبناء وأحباء، أيّ ولاية لكم لله وأنتم الذين كذّبتم بما تعرفونه كما تعرفون أبناءكم، من بعد أخذ الميثاق عليكم لتُبينُنّه للناس ولا تكتمونه ...؟ !

أما أولياء وأحباء الله، فإنهم يتمنون لقاءَه لنيل جزائه، ولتمام القرب منه، ولأنهم موقنون بالبعث بعد الموت، وبأن الموت محطة تنقلهم إلى لقاء الوليّ القريب الحبيب، الذي هو عنهم راضٍ، وهو لهم مجازٍ أعظم الجزاء ...
وأنتم من دون الناس لله أولياء كما تزعمون ! فتمنوا ما لا يتمناه أحدٌ من الناس، وليسهُلْ عليكم ما يستعصي على كل الناس من فرط يقينكم بالله، ومن فرط يقينكم بحسن المآل إليه، وبحسن القيام بين يدَيْه... ! تمنّوا الموت للقاء الحبيب يا أحبّاءه.. !

أما حقيقتهم فهي التي تأتي بها الآية الموالية مباشرة :
"وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)"
إنهم -في حقيقة الأمر- يعلمون ما قدّمت أيديهم، ولكنّهم كما وصف حالَهم سبحانه العليم الخبير بـ:"زَعَمْتُمْ"...يعلمون تمام العلم أنهم المبدّلون، المحرّفون، الكاتمون للحق، يعلمون علم اليقين أنهم قد كفروا بمحمد الذي جاء في كتابهم نبؤُه، وأخِذَ الميثاق على آبائهم أن يؤمنوا به وينصروه... عليم سبحانه بظلمهم الذي ظلموا به أنفسهم، وظلموا به الناس من حولهم، وظلموا به دعوة الحق التي استُحفِظوا عليها وما حفظوها، وظلموا الأمانة التي حُمِّلوها وما حملوها : "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)"-المائدة-
وإذا تأملنا في هذه الآية من "الجمعة"، فإن الصفة : "أَوْلِيَاء" ، أي محبّون لله، بينما في آية المائدة، هي : "أَحِبَّاء" أي محبوبون من الله، وبهذا قد جمعوا بين أنهم المحبون  لله المحبوبون منه ... ! وحقيقتهم أنهم الكاذبون الظالمون ... !

فجاء الأمر من الله تعالى لصفِيِّه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم :
" قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)"
قل لهم يا محمد ... قل لهم ما يَكْبِتُهم وما يُخزيهم، وما يكشف كذبهم وزعمهم... إنّ الموت الذي تفرّون منه، ملاقيكم لا محالة، الموت الذي كُتِب على كل نفس، مكتوب عليكم يا من تزعمون حبّكم لله، وأنكم له أولياء، وأبناء وأحباء، وما فِراركم منه إلا من علمكم بما قدّمتْ أيديكم من شرّ ومن سوء ومن ظلم ومن جُرم ... !!
إنه ملاقيكم... ثم تُردّون إلى الله العليم الخبير فينبئكم بما كنتم تعملون، في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ... !
وياللارتباط والاتصال الذي يجعلك تستذكر ! ويجعل المعاني الماضية تعود إليك حيّةً تحملها إليك المعاني الحاضرة التي تتدارس... ! وهكذا هو عمل المشكاة، لا يذهب نور الخطوة الماضية، بل إنّه الذي نقلك للاحقة، وإن اللاحقة لتدين لها، فتذكرها وتستدعيها لأنها من مادّتها، فكما هي من نور، فمن نور هي الأخرى... !

تذكّروا ... أليس هذا ما يصبّ في محور سورة الصفّ : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)" -الصفّ-
أليسوا يزعمون أنهم لله أولياء، بينما هم الظالمون الهالكون ؟ ! فأيّ مقت هو عند الله حالهم ومآلهم ... ! فانظر كيف تفصّل لنا "الجمعة" بمثال حيّ في اليهود عن القائلين بما لا يفعلون، وتَذَكَّرْ كيف كان تحذير المؤمنين من التلبّس به ! وتذكَّر أنه كمثل حال الحمار يحمل أسفارا... !
وإنّه ما من إنسان يتمنى الموت، إلا أنّ المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر بخير، فتمنى لقاء الله، وعكس حاله هي حال مَن مات على كفر .

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ. قالَتْ عائِشَةُ أوْ بَعْضُ أزْواجِهِ: إنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قالَ: ليسَ ذاكِ، ولَكِنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ، فليسَ شيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ، فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ، فليسَ شيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ، كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ" –صحيح البخاري-
فانظر كيف يعيش المؤمن، وهو لا يزعم أنّه المرضيّ عنه، وأنه الفائز، وأنه الذي يضمن حسن مآله، بل إنّه الذي لا يستيقن من حسن مآله إلا حينما يأتيه اليقين ... !

كما أنّ تحدّي الله لليهود هو ما يشبه الدعوة إلى المباهلة، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:" قال أبو جهلٍ لئن رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي عند الكعبةِ لآتِينَّه حتى أطأَ على عنقِه قال: فقال: لو فعل لأخذتْهُ الملائكةُ عَيانًا ولو أنَّ اليهودَ تمنَّوا الموتَ لماتوا ورأوا مقاعدَهم في النَّارِ ولو خرج الذين يُباهلون رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لرجَعوا لا يجدونَ مالًا ولا أهلًا"- المحدث : الألباني ،  المصدر : السلسلة الصحيحة-
وهذه الآية شبيهة بالتي في البقرة، إلا أن التي في البقرة جاءت عن  زعمهم أنّ الآخرة لهم من دون الناس : "قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلأَخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَـٰدِقِينَ (94)وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّـٰلِمينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(95)" -البقرة-

إذن ... ففي هذه السورة جاء التأكيد على أنّ حمل أمانة الدعوة إلى الله، والخلافة في الأرض لم يعودا لليهود، بل قد صارا إلى هؤلاء الأميّين، وكلّ الآخرين الذين لمّا يلحقوا بهم، من كل جنس ومن كل عرق اعتنق الإسلام، وأصبح عنوانَه وبيانَه، لا الذي يحمله اسما من غير عمل ولا تحمّل لمسؤولية تبليغه وإعلاء كلمته، وذلك في اتصال  بينها وبين سورة الصفّ التي جاء فيها ضرب المثال بأتباع موسى، وأتباع عيسى عليهما السلام في النكوص عن دعوة الحق...

"سورة الجمعة" جاء فيها دور أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، في جمع أهل الأرض على كلمة التوحيد، وعلى الهدف الأعظم من الوجود ومن الإيجاد، عبادة الله الواحد الأحد ... وتبليغ الرسالة الخاتمة المهيمنة التي هي طِبّ الأرض من أدوائها ... !
ليأتي الآن دور نداء المؤمنين، حَمَلة الرسالة، للذين هُم أهلٌ لأداء الأمانة، وأهلٌ للخلافة في الأرض، لقيادتها بهذا المنهج العظيم... الذين آمنوا، فصدّقوا بنبيّ الله الذي بُعث في الأميّين حياةً وروحا، يحمل إليهم الروح التي بها تقوم الحياة، وتتحقّق حركتها وِفق مُراد خالقها وبارئها ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) "

لا تمضوا قُدُما مع الآيات وأنتم مولّون عن السابقات، بل إنّ مضيّكم لن يكون صحيحا، واستضاءتكم بالمشكاة لن تكون حقيقيّة، وأنتم لا تستشعرون تجمّع النور إلى النور، القبس منه إلى القبس، لتستبينوا الدّرب حقا ...
تركنا الذين حُمّلوا فما حملوا، والذين هم كالحمار يحمل أسفارا، والذين زعموا أنهم لله أولياء، وهم الظالمون القائلون بما لا يفعلون... لتقابلنا مسؤولية هي على عاتقنا نحن ... لنجد إقرارنا بالإيمان، والتصديق لا يساوي قولا بلا عمل، وبلا تكليف... بل إنها المسؤولية، وإنها الحركة على الأرض، وإنّه التحمّل لما حُمِّلنا ونحن الذين أعلنّا أنّنا المؤمنون ....فما دُمنا قد أعلنّا وقلنا، فليس القول بكافٍ، بل إن العمل يجب أن يكون بقدر القول، وإن البيان يجب أن يكون بقدر الإعلان ...

وإنها الصلاة ... ! إنها الصلة والاتصال بالله... إنها التي لا يجب أن تنقطع، لأنها العهد والميثاق والعقد الذي طرفاه الخالق المنعِم، والمخلوق المنعَم عليه :" وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ..."-المائدة-
إنها التي تحقّق حركة الموجود في الوجود وِفق إرادة الموجِد سبحانه، إنها التي تحقّق أمر الملك سبحانه في مملكته. ولنذكر افتتاح السورة بـ : "المَلِك"
 نداء بشأن الصلاة التي هي صلة العبد بربّه من جهة، وبشأن صلاة الجمعة بصفة أخصّ من جهة أخرى، الصلاة الجامعة ... صلاة يوم خاصّ من أيام الأسبوع، التي تجمع الصفّ المسلم، في صورة رمزيّة لقيامه بنيانا مرصوصا كما عرفنا في سورة الصفّ قبلها ...
صلاة فيها التذكير بضرورة الوحدة، وتوحيد الصفّ، واجتماع المؤمنين على ما يجعلهم لُحمة واحدة... تَوَجُّهُهُم جماعةً للربّ الواحد، خضوعهم جماعةً بين يديه، وامتثالهم جماعةً لأمره ... في تأكيد وتجسيد شكليّ على ما عرفنا في سورة الصفّ من تربية جوهريّة على ارتقاء النفس المؤمنة، وسموّها إلى موافقة قولها لفعلها، بنبذ الازدواجيّة ... فإنها في صلاة الجمعة اجتماع الشكل إلى المضمون...

وإنها لسانحَةٌ لي، وأنا أستحضر انتقاد كثير من غير المسلمين، أو من مسلمي العنوان، الذين يدّعون نظرا بعقل، لمظاهر وشعائر الدين الإسلامي، من مثل تقوّلهم أنّ الطواف بالبيت عبادة لحجر، وعبادة لرمز... ! أقول، إنّ أشكال شعائر الدين، والرموز التي تُتخّذ إنما روحها وَمَدَدُها ومحرّكها ومِحورها، هي قلوب المؤمنين واعتقادهم، هي من ذواتهم، ومن عطاءات الروح الإيمانية فيهم،  لا من الأشياء ... !
فطواف المؤمنين بالبيت، تحقيق شكليّ لاجتماع قلوب المؤمنين على توحيد ربّ البيت، الذي وضعه للناس، فهي الحركة بالجوارح التي سبقها الاعتقاد  القلبيّ الجازم بالربّ الواحد قولا وعملا في الدنيا. وكذلك صلاة الجمعة، هي الشكل الذي يتخذه الصفّ المسلم الموحّد، الذي أمِر أن يكون بنيانا مرصوصا من أنفس بارئة من داء الازدواجية والكيل بمكيالين، مِكيال قول يختلف عن مِكيال عمل. فهي اللبنات المتينة لذلك البنيان القويّ القائم المرصوص ... !

وليس الشكل والاجتماع الشكليّ وحدَه قضيّة التعليم الربانيّ القرآنيّ ... بل لقد سبقت سورة الصفّ سورة الجمعة ... لنتعلّم أنّ البنيان الداخليّ أسبق، وأنه العملية التأسيسيّة لصلاة جامعة للقلوب قبل الأجسام ... لصلاة تُرصّ فيها القلوب إلى القلوب قبل أن تُرصَّ فيها الصفوف إلى الصّفوف... !
فلا غَرْو من جُمُعات تُقام ولا نجد لها أثرا وفعلا في الواقع، ونحن نغفل عن تعاليم "الصفّ"، المؤسسة لتعاليم "الجمعة"... ! وإنها من خصائص هذا القرآن العظيم الذي يشدّ بعضُه بعضا، ويقيم بعضه بعضا، ويؤسس سابقه للاحقه ...
"الصفّ" المتوجّه بقلبه واعتقاده الجازم اللازم إلى وجهة واحدة، وإلى هدف واحد... إلى نصرة الله، ونصرة دينه، بإقامة الحياة الإيمانية الواضحة التي لا غبش فيها، ولا افتراق بين عنوان فيها وبيان ... تأكيدا لذلك عَبْر هذا الاجتماع الإيمانيّ الأسبوعيّ الذي يذكّر، ويؤكّد على وحدة الصفّ، وعلى نقائه، وعلى تلاحم أفراده، وتشكيلهم للنسيج الاجتماعيّ الإيمانيّ النورانيّ الذي لا يفترق ...
يا أيها الذين آمنوا... يا أيها الذين أمضوا العقد الأعظم على الإيمان بالله، والتصديق برسله، وبما يُبعثون به من كتاب... يا أهل الحمل والتحمّل ...

"...إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ..."
وقبل أن نخوض في المُراد من الآية، وجب أن نعرف شيئا عن بداية صلاة الجمعة في الجماعة المؤمنة ...
فلقد جمّع الأنصار الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل نزول سورة الجمعة وهذه الآيات منها ...
قالوا إنّ لليهود يوماً يجتمعون فيه، وللنصارى يوم مثل ذلك، فتعالَوا فلنجتمع حتى نجعل يوماً لنا نذكر الله ونصلي فيه. وقالوا إن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العَروبة(وهو الاسم القديم ليوم الجمعة).
فاجتمعَوا إلى أسعدَ بنِ زُرَارةَ، فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكَّرهم. ويُختَلَف فيمن كان أول من جمّع بهم الجمعة، فيُقال أنه أسعد، ويقال أنه مصعَب بن عُمير .
سبق الأنصار لذلك قبل نزول الأمر الإلهيّ به،  فكانت مشروعية صلاة الجمعة والتجميع فيه إجابةً من الله تعالى لرغبة المسلمين، مثل إجابته رغبة النبي صلى الله عليه وسلم استقبال الكعبة .

وأما أول جمعة جمَّعها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكانت في اليوم الخامس للهجرة من بعد مقدمه المدينة، وحلوله أوّل الأمر بِقُبَاء، ومكوثه بها ثلاثة أيام بنى فيها مسجد قباء، ثم خروجه منها يوم الجمعة نحوَ المدينة، إذ أدركه وقتُ الجُمعة في بطن وادٍ لبني سَالم بنِ عوف، فجمَّع بهم هناك، ثم صلّى الجمعة القابلة في مسجده بالمدينة، وكانت جمعة المسجد النبوي بالمدينة الثانيةَ بالأخبار الصحيحة. كما يُروى أن أوّل جُمعة جُمِّعت في مسجد من مساجد بلاد الإِسلام بعدَ المدينة كانت في مسجد جُؤَاثاء من بلاد البحرين .

أما عن أسماء أيام الأسبوع عند العرب قديما، فقد كانت غير الأسماء المتعارف عليها اليوم : " الأحد :( أوّل ) الإثنين : (أَهْوَن). الثلاثاء : (جُبَّار). الأربعاء : (دُبَّار) الخميس: ( مُؤْنِس أو مؤيِس) الجمعة : (عَرُوبَة). السبت : (شَيَّار) .
وقد جاء في التحرير والتنوير لابن عاشور: (((قال السهيلي معنى العَروبة الراحة فيما بلغني عن بعض أهل العلم اهـ. قلت وذلك مروي عن ثعلب، وهو قبل يوم السبت، وقد كان يوم السبت عيدَ الأسبوع عند اليهود، وهو آخر أيام الأسبوع. وقد فرضت عليهم الراحة فيه عن الشغل بنص التوراة، فكانوا يبتدئون عدد أيام الأسبوع من يوم الأحد وهو الموالي للسبت، وتبعهم العرب في ذلك لأسباب غير معروفة ولذلك سمّى العرب القدماءُ يوم الأحد أولَ. فأيام الأسبوع عند العرب في القديم هي: أوَّلُ، أَهونُ جُبَار، كغُراب وكِتاب، دُبار كذلك، مُؤيِس مهموزاً، عَروبة، شِيار بشين معجمة مكسورة بعدها تحتية مخففة. ثم أحدثوا أسماءَ لهذه الأيام هي الأحد، الإثنين، الثُّلاثاء ـــ بفتح المثلثة الأولى وبضمها ـــ، الإِرْبِعاء ـــ بكسر الهمزة وكسر الموحدة ـــ، الخميس، عَروبة أو الجمعة ـــ في قول بعضهم ـــ السَّبْت. ـــ وأصل السبت القطع، سمي سبتاً عند الإِسرائيليين لأنهم يقطعون فيه العمل، وشاع ذلك الاسم عند العرب ـــ. )))-التحرير والتنوير-

ويقول أيضا : ((( قال السهيلي: قيل أول من سَمى يوم عَروبة الجمعةَ كَعبُ بن لُؤَي جدُّ أبي قُصي. وكان قريش يجتمعون فيه إلى كعب، قال وفي قول بعضهم. لم يُسَمَّ يوم عروبة يوم الجمعة إلا مذ جاء الإِسلام. )))-التحرير والتنوير-
ويوم الجمعة هو اليوم الذي هدى الله إليه العرب ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، بينما اختلف فيه أهل الكتاب من قبل . ولنتأمّل هذا الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَومَ القِيامَةِ، أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهِمْ، فَهذا اليَوْمُ الذي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدانا اللَّهُ . فَغَدًا لِلْيَهُودِ، وبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصارَى فَسَكَتَ. ثُمَّ قالَ: حَقٌّ علَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أنْ يَغْتَسِلَ في كُلِّ سَبْعَةِ أيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فيه رَأْسَهُ وجَسَدَهُ." –صحيح البخاري-

بمعنى أنّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي آخر الأمم التي أوتيت الكتاب(القرآن) من بعد ما أوتيت أممٌ قبلها الكتابَ، ولكنها السابقة يوم القيامة فضلا، وحسابا ودخولا للجنة. وقد اختلف أهل الكتاب في يوم الجمعة من بعد ما عُيِّن لهم، فتَرَكوه وغَلَّبوا القياسَ، فهدى الله المؤمنين إلى يومِ الجُمُعةِ بالوَحْيِ الوارِدِ في تَعظيمِه، أو بالاجتِهادِ المُوافِقِ لِلمُرادِ.
وإن هداية الله لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الجمعة من تمام أفضلية أمته على سائر الأمم .

أما عن شيء من فقه صلاة الجمعة، فأنقل ها هنا عن الطاهر بن عاشور رحمه الله من كتابه :"التحرير والتنوير" : (((وصلاة الجمعة هي صلاة ظُهرِ يوم الجمعة، وليست صلاةً زائدة على الصلوات الخمس فأُسقط من صلاة الظهر ركعتان لأجْل الخطبتين. روي عن عمر بن الخطاب أنه قال وإنما قُصِّرت الجمعة لأجل الخطبة. وأحسب أن ذلك تخفيف على الناس، إذ وجبت عليهم خطبتان مع الصلاة فكانت كل خطبة بمنزلة ركعةٍ وهذا سبب الجلوس بين الخطبتين للإِيماء إلى أنهما قائمتان مقام الركعتين ولذلك كان الجلوس خفيفاً. غير أن الخطبتين لم تعطيَا أحكام الركعتين فلا يضر فوات إحداهما أو فواتهما معاً ولا يجب على المسبوق تعويضهما ولا سجودٌ لنقصهما عند جمهور فقهاء الأمصار، روي عن عطاء ومجاهد وطاووس أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعاً صلاة الظهر. وعن عطاء أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أضاف إليها ثلاث ركعات، وهو أراد إن فاتته الخطبة وركعة من صلاة الجمعة. وجعلت القراءة في الصلاة جهراً مع أن شأن صلوات النهار إسرار القراءة لفائدة إسماع الناس سُوراً من القرآن، كما أسمِعوا الخطبة، فكانت صلاةَ إرشاد لأهل البلد في يوم من كل أسبوع. والإِجماع على أن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر في يوم الجمعة. فمن صلاها لا يصلي معها ظهراً فأما من لم يصلِها لعذر أو لغيره فيجب عليه أن يصلي الظهر.)))

إذن فهو النداء لإقامة هذه الصلاة الجامعة :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)"
فجاء الأمر بشأنها حين سماع ندائها، أن يسعى المؤمنون إلى ذكر الله، وأن يتركوا البيع ... وهذا إيذان من الله تعالى بمدى أهمية هذه الصلاة، وأنها التي يجب أن تُترَك الدنيا لأجلها، فكلّ صلاة يجوز أن تؤخَّر بعد بيع أو شراء أو أي حاجة من حاجات الدنيا، وإن كان الأولى المسارعة إلى كل صلاة، وأداؤها على وقتها، إلا أنه لا يُحرَّم تأخيرها بعد حاجة من حاجات الدنيا، بينما صلاة الجمعة يُحرَّم البيع بحلول وقتها، وسماع ندائها ... بل وجب السعي إليها، سعي عزم على أدائها، وحضور ذكرها، لأنّ الأصل في أَمِّ المساجد للصلاة الجماعية المشي لا الهرولة أو الإسراع .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نُودِيَ بالصَّلاةِ فَأْتُوها وأَنْتُمْ تَمْشُونَ، وعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فاتَكُمْ فأتِمُّوا" –صحيح مسلم-
وإنما عبر سبحانه بالسعي لتضمُّنِه معنى الجدّ والحرص على حضورها، والاستماع لما يتخلّلها من ذكر لله(أي للخطبتَيْن).

"فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) "
هكذا أيها المؤمنون... ليس هناك من انقطاع عن الدنيا في هذا الدين، ولا من انقطاع عنه في غمرة الدنيا، بل هي أزمنةٌ مقدّسة بعينها،  يعلم الله تعالى حاجة الإنسان إليها... أزمنة يكون فيها الانقطاع الكليّ عن الدنيا، لأنّها ساعات يستزيد فيها قلب المؤمن، ويُشحَن، ويُجدَّد إيمانه، ليعود للدنيا وهو المتذكّر الذاكر، وهو الذي لا تُطغيه، ولا تنسيه ربَّه، ولا تصيّره من صنعها، فيصبح وكأنه الذي منها، فإليها مَعادُه ! بل تجعله العبدَ الربانيّ الذي يعود إليها وقلبُه موصول بالله...

يقول في ذلك سيد قطب رحمه الله : (((فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض، ليخلو إلى ربه، ويتجرّد لذكره، ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى، ويملأ قلبه وصدره من ذلك الهواء النقي الخالص العطر ويستروح شذاه! ثم يعود إلى مشاغل العيش مع ذكر الله))) –في ظلال القرآن-
إنها الساعات التي تجعله يعود للدنيا وهي ليست أكبر همّه ولا مبلغ علمه، يعيش ويتحرك، يبيع ويشتري، يطمح، ويتطلّع، ويبني ويشيّد، ويخطّط، ويواكب حاجات المعاش، ولكنّ قلبه موصول بالله، فهو الذي لا يلهث خلفها لهثَ من يكاد نَفَسُه ينقطع وهو لا ينفكّ لاهثا... ! بل يطوّعها لمرضاة الله، ولإعلاء أمره، وحُكمِه في مجرياتها، وفي حركتها... يعيش في الدنيا بمنهج الله، وبقانونه العلويّ، بأحكامه وهداياته، يقرُب ما أحلّه وما يرضيه، وينأى كلّ النأي عما حرّمه وما يُسخطه  ...

دائم الاتصال بربّه ... تزوّده صلاة الجمعة بما يحتاج من زاد ذكر الله وهو يتحرك في الدنيا، فلا يرى نفسه المستغني عن ربّه، وعن هداياته ودلالاته، وتربيته، بل هو الموصول به، المتحرّك فيها وِفق إرادته ووِفق مُراده الذي لأجله خلقه ... تذكّره رؤية إخوانه الساعين إلى الاجتماع والذكر والصلاة، ليتوب إن هو أخطأ، وليعود إن هو ابتعد، وليخشع قلبُه إن كان قد قسا... لعلّ ذلك الاجتماع، وذلك الاستماع منه للموعظة، وذلك السلوك الجامع المشترك بينه وبين من حوله يسكب على قلبه أنوارا كان يفتقدها في غمرة أيام انقطع فيها للدنيا، فأخذت منه كل مأخذ ... ! ليعود إلى الدنيا، وقد تذكّر... وليعود إليها وهو يذكر... !

ولنتأمّل : " فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ " ... انتشروا فيها وأنتم معبَّؤون بذكر الله، وأنتم عابّون من نوره لأنفسكم... فأنتم إذ تنتشرون، تنشُرون نورا، وخيرا وحقا، وصلاحا وإصلاحا... انتشروا في الأرض كما ينتشر النور من المَشاكي المضيئة ... !  انتشروا يا عباد الله، يا من آمنتم بالله، في أرض الله، " وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ "
هكذا هو اعتقاد المؤمن الذي ذكر الله وخلت نفسه من الدنيا في ساعة الجمعة، إحدى أزمنة الله المقدّسة، التي تشفّ لها الروح، فترتوي من مائها، وتقتبس من زيتها المضيئ، فتنتشر نورا هو القبس من ذلك الأصل  ... !
هكذا هو اعتقاد الجماعة المؤمنة التي تراصّت صفوفها واعتدلتْ، وكلّها بحركة جامعة موحّدة تخضع لله، وتتوجّه له وقد نبذت الدنيا وراء ظهرها ... !

حينما كبّرت تكبيرة الإحرام بأصوات مجتمعة، هي الصوت الواحد، الذي يعلن اعتقاد الجماعة بأنّ الله أكبر من الدنيا وما فيها، أكبر من كل شهوات الدنيا، ومن كل زينتها، ومن كل بهرجها ... أكبر من كل كبير متجبّر متكبّر، يرى نفسه بماله وقوّته وسلاحه إلها يُعبَد ولا يُعبَد سواه ، فَرْداً كان أو جماعة في الأرض تُنعت بــ "العُظمى" ... !!!

ها قد انتشرتم يا حَمَلَة النور الربانيّ .... يا حملة النور للأرض المُعتمة... !
ها قد انتشرتم فيها يا حملة الحقّ... ويا أهلا للخلافة فيها، وأنتم لربّها وربّكم ذاكرون ... هو الأكبر في اعتقادكم، وهو الذي يملأ عليكم كِياناتِكم ...
ومن فضله -لا من فضل الدنيا بزينتها- أنتم تبتغون، فهي ملك له وحده... !
للملك سبحانه... ومن فضله تبتغون، لا منها ولا من عطاءاتها... ! هي المملوكة له كما أنت له مملوك ... أنت وهي له عبد ... ! لكنّها تسبّح لا تفتر، بينما تسبّح أنت وتفتر... !
« آخر تحرير: 2020-11-23, 16:17:52 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وأيّ ترابط وأيّ اتصال، وأي علاقة هي وثيقة بين ابتداء السورة باسم الله "الملك"، وبين الانتهاء إلى الابتغاء في الأرض ... الابتغاء في ملك الله من فضل الله ... ! أن ينتشر العبد فيها، ويسعى، ويعيش، ويتحرك، وهو الموقن أنه للملك عبد خاضع، مطيع ... وأنّ كل ما فيه، وكل ما حوله، وكلّ ما هو منه،  ملك له سبحانه الملك القدوس العزيز الحكيم...

"وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
ابقوا ذاكرين ! لا تحُولَنَّ حركتُكم في الدنيا دون أن تذكروا، ودون أن تظلوا ذاكرين، اذكروه كثيرا، هو سبحانه المنعم، المتفضّل على عباده، هو الموجد الخالق، الذي له الأمر كله، له سبحانه نحن ومُلكه، وإليه نحن راجعون ...
أبقوا على ذكركم لله في كل حين... ! ذكر باللسان، وذكر بالجنان، وذكر بالأركان، بالعمل المصدّق للقول، وللخشوع والخضوع والطاعة، والتسليم لأمره كلّه ... اذكروا الله كثيرا، حتى لا تفتنكم زهرة الدنيا المتفتّحة، وحتى لا تغرّكم ثمرتها اليانعة ... !
 اذكروه كثيرا حتى إذا ما طفِق الشيطان يعمل معكم عملَه، وظنّ أنه عليكم قادر أتاه أمرُ أنفسكم الذاكرة، فأحرق مسعاه، وحطّم فيكم مُناه ... ! فإنما هو سيّد على كل غافل سادر في غيّ النسيان ... !

أما أنت فإنك  الذاكر ... ! إنك الذاكر ربّك كثيرا : " إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)"-الأحزاب-
وإنكم بهذا ستفلحون    : "وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"

"وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)"
وها نحن مع نهاية السورة، ومع حادثة وقعت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان الصحابة بين يديه في صلاة جُمُعة، وكان يخطبهم، حتى خرج عدد منهم إلى تجارة، وتركوه قائما يخطب، وقد جاء عنها في الصحيح :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه : "أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، كانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَومَ الجُمُعَةِ، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إلَيْهَا(انصرفوا)، حتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ الَّتي في الجُمُعَةِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً، أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}[الجمعة:11]."- صحيح مسلم-

تلك إذن عير قدمت من الشام بتجارة، والعادة كانت عند العرب أنّ عير التجارة إذا قدِمت البلدة جعل الناس يطبّلون، ويحدثون حولَها ضجّة وصخبا، إيذانا بوصولها، فانصرف إليها مَن انصرف ممّن كان حاضرا الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان انصرافهم  ساعة الخطبة، لا وقت الصلاة، وفي الآية دليل على وجوب حضور خطبة الجمعة، لا الصلاة وحدها. وقيل أن الثابتين حوله كانوا اثني عشر رجلا، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

وترْكُ الخطبة يعني ترك الذّكر، الذي حضّت الآيتان السابقتان عليه، وهي حادثة مثّلت شكلا من أشكال خرق قدسيّة الجُمُعة بإيثار الدنيا على الذكر الذي فيها، وهو ما نزلت لأجله الدعوة الحازمة إلى ترك البيع فور سماع نداء الجمعة ...
وإني أرى قَرْن اللّهو بالتجارة، والعطف بينهما بـ "أو" للإيحاء بأن التجارة وقت الجمعة مساوية للّهو، أكانت تجارة أو كان لهوا، كلاهما عند الله سّيان ... لا يستقيم ترك الذكر لواحد منهما ... ولا حجّة لمؤمن يتذرّع بحاجة في بيع أو شراء، وقد تساوت واللّهو أمام قدسيّة الجمعة، وقدسيّة حضورها ... !

وتأمّل معي ثم تأمّل... !
إنها لمتمثّلة متجسّدة في هذه الآية، وظائف رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بينتْها الآية الثانية من هذه السورة: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) "

فهو صلى الله عليه وسلم :
1-يتلو آيات الله وفيها هذه التصويبات، وفيها هذه التربية، وهذه الحدود، والأحكام والأوامر والنواهي، من مثل ما جاء في هذه الآيات الأخيرة، يقرأها صلى الله عليه وسلم على مَن حوله، يتلوها عليهم تلاوة إلقاء لأمر الله عليهم، تلاوة تبليغ لتجليّات أمر الله على ضوء الحدث الذي كان ...
2-وإنه يزكّيهم صلى الله عليه وسلم بها، وهي تصحح أخطاء وقعوا بها، وتبيّن لهم ما لا يجوز مما يصدر عنهم، وهو ما جاء في الآية الأخيرة التي تخطّئ ترك جماعة لخطبة الجمعة وانصرافهم إلى التجارة، ليتطهّروا من الشَّغَف بالدّنيا، وليكون ذكر الله عندهم أكبر منها بما فيها .
3-وإنه يعلّمهم صلى الله عليه وسلم ضرورة الانصياع لأمره سبحانه من خلال الآيات التي تُلقى عليه ثقيلة وهي أمر الخالق المربّي، فيأتي الأمر من الله حازما : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) "
4-ويعلّمهم الحكمة، وهي حركته صلى الله عليه وسلم في الأرض بهدايات القرآن، فتنزل الآية في السبب الذي يكون هو صلى الله عليه وسلم طرفا فيه، من حيث دوره التبليغيّ، ودوره التربويّ بالقدوة والأسوة، فيكون أول مطبق لأمر الله، وخير مطبّق له،  وهو كما قال عن نفسه أعرفهم بالله، وأتقاهم له. ليسير الأئمة من بعده على هُداه، وعلى ما جاء عنه قولا وفعلا.

"...قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ"
ما عند الله خير من اللّهو ومن التجارة ... التجارة من فضله سبحانه، وكل عطاء من فضله سبحانه، والمؤمن يبتغي الفضل منه لا من سواه، وهو الملك المتصرّف في ملكه . يعلم سبحانه أن الإنسان ذو حاجة جِبِلِيّة لحركة العيش في الأرض، يعلم كما أنّ لجسمه حاجة، لروحه أيضا حاجة يجب أن تُقضى ... منها ما تتركه من أثر في الأنفس تلك الأزمنة المقدّسة الخاصة التي جعلها الله انقطاعا كليّا له، باتّخاذ الدنيا فيها ظهريّا لتأخذ الروح حاجَتَها، ولتتقوّى، ولتحافظ على بقائها...
ما عند الله خير من اللّهو ومن التجارة، وسَبَق "اللّهو" في إشارة إلى بدهيّة أنّ ما عند الله خير منه، ليُتلى بالتجارة، فيُعلَم أن ما عنده سبحانه خير من كل أشياء الدنيا بلهوها وجِدّها سواء بسواء ... !

"...وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ"
خير الرازقين سبحانه، الرزّاق ابتداء، والرزّاق انتهاء، المتفضّل على عباده بالإيجاد، والخلق والرزق والهداية ... هو خير الرازقين سبحانه، ورزقُه واسع سعة رحمته، وسعة عطائه وسعة مُلكِه ...
الصحة والعافية منه رزق، والعلم منه رزق، والمال منه رزق، والصلاح، والإيمان، ونقاء النفس وطهرها وصدقها ...  والزوجة الصالحة، والذريّة الصالحة، والبركة ... وما أدراك ما البركة ... ! ذلك السرّ الذي لا يعرف كنهَه، ولا يذوق طعمه، ولا يفقه دورَه إلا مؤمن، مبتغ من فضل الله، ذاكر لله بلسانه وجنانه وأركانه ... !
الرزق الطيّب، الحلال، المبارَك ... خير من الله وفضل ومنّة ... وهو خير الرازقين... ومن ذا يرزقك كل هذا، والخيرية صفة ملازمة لما تُرزَقه، غير الله ؟ !

فكيف تُعرض عن ذكره ... وذكره سبب لرزقك بكل خير ... ؟ !
وذكره سبب لرزق في الدنيا طيّب، هو للمؤمن وحده، وليس لأحد سواه : "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)" –النحل: 97-
إذن فالجُمعة واختصاصها بالذكر، وتقديس وقتها، وتحريم البيع والشراء فيه، خير للمؤمن في دنياه وفي أُخْراه ... عن أبي جعد الضمري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك ثلاث جُمَع تهاونا بها، طبع الله على قلبه ".-سنن الترمذي: حسن-
وعن عبد الله بن عمر وأبي هريرة  رضي الله عنهما أنَّهُما سَمِعا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ علَى أعْوادِ مِنْبَرِهِ: "لَيَنْتَهينَّ أقْوامٌ عن ودْعِهِمُ الجُمُعاتِ، أوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ علَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكونُنَّ مِنَ الغافِلِينَ." - صحيح مسلم-

وتأمّل صدق الأوّلين وهم يأتمرون ائتمارا كليّا بأوامر الله، فينفذونها حرفيّا،  قال الإِمام ابن كثير: (( كان عراك بن مالك - أحد كبار التابعين - إذا صلى الجمعة، انصرف فوقف على باب المسجد وقال اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتنى، فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين..))

تلكُم هي قداسة يوم الجُمُعة .... وتلكم هي قداسة صلاة الجمعة، وقداسة الذكر في صلاة الجمعة.... تلكُم هي سورة الجمعة ... !
بالتسبيح بُدِئت، للمَلِك القدّوس العزيز الحكيم، وثُنّيت ببعثة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الأمّيين بإرادة من الله العليم الخبير الحكيم، الذي يعلم أين يضع رسالاته، فكانت منّة عليهم عظيمة، وكانت منّة على الأرض عظيمة، فكان الرحمة المهداة للعالمين، بالنور المبين،  وكان أتباعه المشاكي المنتشرة في الأرض نورا ...

وجاء ذكر اليهود، ونكولهم عن حمل الأمانة، وتمثيلهم بالحمار يحمل أسفارا، لتوجيه المؤمنين إلى خطورة حالهم إن فعلوا فعلَهم، فكان حملهم للقرآن حمل عنوان بلا بيان، وبلا قيام بمسؤولية إقامته في الأرض، ونشر نوره فيها ... !
جاء الإعلان الصريح عن ذهاب صفة الخلافة عنهم، من بعد ما كانت الإشارة إلى ذلك في "الصفّ"، وجاء بيانٌ أكبر أنّ أهل القرآن هم حملة الأمانة، وهم المنوط بهم تبليغ رسالة الله، وإعلاء كلمته في الأرض من بعد ما كان في "الصفّ" من تحذير من التلبّس بصفاتهم وهم على نقضهم الميثاق، وعلى نكوصهم على أعقابهم يزعمون أنهم لله أولياء، في أوضح مثال على قول لا يصدّقه العمل، والذي جاءت "الصفّ" تخلّص نفوس المؤمنين من رجسه ودَنَسه ... ليكونوا صفا واحدا كالبنيان المرصوص ... !
جاءت الجمعة للتعريف بخصوصية الجماعة التي تقع على عاتقها مسؤولية جمع أهل الأرض على كلمة التوحيد، وعلى الإيمان الحقّ ...تلكم هي الصلة القويّة بالله، التي تجعل ذكرهم لله أكبر من كل كبير ... أكبر من الدنيا بما فيها... !

جاءت الجمعة لتحذّر من أخطر أشكال القول بلا فعل، أن يدّعي المؤمن إيمانا وتسليما لله، وهو الذي لا يحمل أمر الله إلا كما يحمل الحمار أسفارا ... !

جاءت الجمعة لتحقّق الصفّ القائم بالبناء النفسيّ الداخلي للفرد المؤمن والجماعة المؤمنة في سورة الصفّ، لتحقّقه صفّا يجتمع ليذكر، وليتذكر، وليجدّد البيعة لله ولرسوله، على السمع والطاعة، وعلى التعلّم من النبيّ المعلم، والتزكّي على يد النبيّ المزكّي، وأخذ الحكمة عن النبي الحكيم الذي هو قرآن على الأرض يمشي ... !

جاءت الجمعة لترسّخ أن الفضل كلّه بيد الله، وأنه سبحانه إذا دعاك لساعات تنقطع فيها له بكلّ ذرة فيك، فهو سبحانه الذي يعلم حاجتك لذلك ... وهو الذي من وراء ذلك الانقطاع، سيُجزل لك من عطايا الدنيا والآخرة سواء بسواء ...
جاءت لتؤكّد أنّ للمؤمن رزقا يُؤتاه دون غيره من البشر في الدنيا قبل الآخرة، وهو رزق الله الذي هو خير الرازقين، رزق الخير الذي لا يعرفه إلا مؤمن، ولا يقدّر قيمتَه إلا مؤمن... 

جاءت لتزكّيك أيها المؤمن، ولتعلّمك أن رأس الحكمة ألا يكون في قلبك ما هو أكبر من الله وما هو أحبّ إليك من ذكر الله .... !!   فكُن ذلك المؤمن الذاكر ترَ العجب من رزق الخير بألوان الخير يا أيّها المنتشر في الأرض خيرا ونورا ... !
لقد جاءت "الجمعة" مظهرا من مظاهر شعائر الإسلام، لتكون نِتاج "الصفّ" بتعاليمها التي بنت دواخل الأنفس بناء سليما متينا لا ينقضّ، ولا تهزّه رياح تهبّ من خارجها، وقد أحكمت غلق منافذ أهوائها وتقلّباتها ... ! ليُصدّق قيام صفوفها يوم الجمعة جوهَرَها... !

جاءت "الجمعة" متمّمة لمعنى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " ... ولن تكون لصلاة الجمعة فاعليّتُها ما لم يُؤخذ بمِلاط الصفّ، ولَبِنَات "الصفّ" بناء داخليّا يُهيّئ لمظهر صفوف قائمة ليست بالتي تقوم على هواء، ولا بالتي تقوم على خواء، بل على أساس متين صلب، هو صدق جوهرها، فتقوم فيها القلوب متراصّة قبل تراصّ الأجسام في المساجد ... ! جاءت لتحقق أن مظهر هذه الأمّة مساو لسموّ جوهرها ... فلا ازدواجية في أرضها ولا ضبابيّة في سمائها... !

لقد جاءت "الجمعة" لتجمع بين جلال الجوهر وجمال المظهر ... !
وذلِكُم هو الإسلام في الأرض جلال وجمال ... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب