المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (سورة الحــــشر)  (زيارة 285 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وسورة ثانية من سُوَرِ هذا الجزء الجديد الذي طرقتُه بعد جزئَيْ "النبأ" و"الملك"، المَكِّيَّيْن.  الجزء المدنيّ الذي من خلال أولى سُورِه "المجادِلة" بدأنا بالتعرّف إلى أجواء المدينة ...

بدأنا معها نلمس خصوصيّة القرآن المدنيّ، نلمس التكوين التربويّ والسلوكيّ للمجتمع المسلم الأول ...
كما لامَسْنَا عناصر القرآن المدنيّ، من خطاب ربانيّ لأفراد ذلك المجتمع "يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا"، وتوجيه تربويّ، وتشريع إلهيّ لتنظيم حياته، مُمَثَّلا في حكم الظّهار في الإسلام، وكفّارة الظِّهار، ومن أحوال أهل الكتاب، والمنافقين إزاء هذا المجتمع الذي يَسُوسُه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ويصنعه على عينه، على عين الوَحْيِ الإلَهِيّ المتمثّل في أوامر القرآن ونواهِيه، وفي أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه من غير القرآن، وكلها وحي من الله(قرآناً وسنّةً)، لا اختلاق في شيء منها، والله سبحانه وتعالى يؤكد مرارا على وجوب طاعة الله ورسوله، لكَوْن  أمر رسوله من أمره سبحانه ...

إذن ...فقد خرجنا من أجواء القرآن المكيّ في كلّ من جزء "عمّ" وجزء "تبارك" محمَّلين بمقوّمات العقيدة السليمة، تماما كما خرج المسلمون الأوائل المهاجرون من مكة محمّلين بالأساس المتين، لبناء المجتمع ولبناء الدولة في المدينة ...
نعم... نحن وهُم، وكلّ من يقرأ القرآن في كل زمان، ويتمثّل حركيّته في الحياة، سيستشعر دبيب العقيدة في نفسه نَفَسا ونبْضا وقلبا مُحيِياً للمؤمن، يتحقق له به معنى وجوده... سيستشعر صلابةَ الأرض التي تقف عليها نفسُه، وسيُبصر الدّعاماتِ والأركانَ، ليُعْلِي عليها بُنياناً شامخاً راقياً راسخاً لا يتزعزع، ولا يتزلزل ... !

في سورة المجادِلة عرفنا قضيةً حيويّة أساسية، هي أولويّة من أولويات الحياة الإيمانية، ومن أولويات المؤمن ... إنه الانتماء للجماعة المسلمة، ومعالم هذا الانتماء، ومميّزاته... فكانت القضية المحسومة الحاسمة التي ليس فيها تقليب نظر، ولا إمكانية وجود، بل هي في حياته واجبة الوجود كوجوب وجود الله تعالى في اعتقاده  !

قضية المُوادّة والمُحادّة، ولمَن تكون منه الأُولى ولمن تكون منه الثانية، فكانت قصّةُ خولة تَقدِمَةً لها، مُضيّا من الفرد إلى الجماعة، من الأسرة إلى المجتمع، من اللبنة الأساسية في بناء مجتمع قويّ متين، له مرتكزه ومعتمَدُه، وتوجّهه الذي ما يزيغ عنه مؤمن إلا هلك ...

خولة كانت المرأة الفارّة إلى ربها وهي تفرّ إلى رسوله، لتأتمر بأمره، ولتضبِط ساعات حياتها على عقارب أمر الله وأمر رسوله، ولتنطلق فيها  تحسُبُها بدقّاته ودقائقه... فتمضي راشدة راضية مطمئنة، لا تتخذ من أقرب إنسان لها (زوجها) مرجعا ولا آمرا مُطاعا إلا إذا انضبط معها بأمر الله ... ! كانت خولة تلويحا بدور المرأة العظيم في المجتمع المسلم، دورها في تكييف حياة الأسرة المسلمة بأجواء الوحي، وبنفحاته الإلهيّة، مُعلنةً أنّه النظام المسيِّر، والمنهج المتَّبَع، والطريقة المُثلى لحياة تحقّق السّلام للنفس الإنسانية، والغاية من وجودها في هذه الدنيا وهي المتّصلة بموجدها أبدا...

ومن المرأة المؤمنة التي علمتنا حقيقة المُوادّة ولمَن تكون، وحقيقة الانتماء وكيف يكون، إلى المجتمع المسلم الذي يُؤمَر من الله فيأتمر، ويُؤمَر من نبيّه فيأتمر، لأنه يعي تمام الوعي أنّ أمر نبيّه من أمر ربّه، سواء كان قرآنا منزّلا أو كان توجيها منه من غير قرآن نازل... أوامر تربية وتنظيم، وترقية تحقيقا للحضارة الحقّة التي تحترم إنسانيّة الإنسان أول ما تحترم ...

فكان المجتمع الراقي الذي تربّى على تحسّب عين الله الرقيب، العليم الشهيد الخبير،  وعلى تقواه سبحانه في السرّ وفي العلن، فلازم البرُّ و التقوى سِريَّ أحاديثه(النجوى) : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ  وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"-المجادلة:09-  تدرّجا نحو ملازمتِهِما للمجالس العامة، مجالس العلم ومصالح الأمة ...

كما كان فيها بيان أمر المُحادّين لله ولرسوله من كفرة ومنافقين، وإذلال الله لهم في الدنيا والآخرة، وبيان أنّهم حزب الشيطان، وأنّ الخسران حالهم ومآلهم ... وخُتمت بالقانون الواجب الاتباع من المجتمع المسلم المؤمن بالله واليوم الآخر، المتمثل في مُحَادّته لكُلّ مَنْ حادّ الله ورسولَه وإن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا أو عشيرة ...وأنّ مَن يتمثَلُّهُ هُم حزب الله، وأنّ حزب الله هم المفلحون.
وقد حملت السورة بكل معانيها الجليلة العظيمة اسم "المجادِلة" (اسم الفاعل من جَادَلَ) ... والمُراد به خولة العظيمة التي كانت مدرسة للانتماء، ولموادّة الله ورسوله، وللوقوف عند حدود الله تعالى، ولإقرار ما يجب أن يكون عليه حال المجتمع المسلم والأمة المسلمة إزاء المحادّين لله ورسوله لا مِن الأبعدين كفارا ومنافقين وحسب، بل كائنا مَن كان هذا المُحادّ ... قريبا مَن كان وحبيبا مَن كان ...!

لنطرُقَ اليوم وقد تزوّدنا من مدرسة "المجادِلة"  بابَ سورة "الحشر" ... تلك السورة المدنيّة، التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الرابع للهجرة...

ليُفتَح لنا...  فإذا الافتتاح :

"سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(01)هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ(02)"

لقد جاء في هذه السورة ذكرُ واحد من أحداث المدينة المُنورة إثر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها... وسنمشي مع آياتها الهُوَينى ونحن نستكشف ...

"سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(01)"

كلّ ما في السماوات وما في الأرض يُنَزِّهُه سُبحانه، يُقرّ أنه الكامل الذي لا يعتريه نقص، والعظيم الذي لا يَثلِم عظمتَه عيبٌ، والقويّ الذي لا يطرأ عليه ضعف ... فهو سبحانه المعتَمَد الذي لا يخيب مَن عليه اعتمد، والرّكيزة التي لا يهوي مَن عليها ارتكز ...
هو سبحانه الذي عرفنا في أواخر سورة "المجادِلة" كيف أنه الرُّكن الشديد الذي يلوذ به المؤمنون، وأنه الحصن المنيع الذي به يتحصّنون، وأنّه القوة التي بها يتقوّون، وحالُهم أنهم المُوادّون لمَنْ وادّ الله ورسولَه، المحادّون لمن حادّ الله ورسوله، حتى أسماهم الله سبحانه : "حزب الله" ... وحتى وَصَفَهم سبحانه بأنهم المفلحون : " أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"

نعم ... إنه الله الذي سبّح له ما في السماوات وما في الأرض، حقيقٌ بالإنسان الذي خلقه من نطفة أمشاج وجعله سميعا بصيرا، ومَنَّ عليه بالعقل، وهَدَاهُ السبيلَ أن يسبّحه وينزّهه، وهو يتعرّف إلى كماله وعظمته وجلاله في كلِّ مسارات حياته ...وأن يأمَن في جانبه وهو الله المُنزَّه عن كل نقص وعيب... حقيقٌ به أن يُكرِم عقلَه الذي هو منّةُ الله عليه، فيختار أن يكون من حزب الله، وأن يأوي إلى رُكْنه، ويُعرِضَ عن كل من يُحادُّه سبحانه ويُشاقُّه ...كما عرفتْنا قاعدة الانتماء في سورة المجادلة ...ومن هنا نلمح أول الخيوط الرابطة بين السورتَيْن ...

"وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" ....
سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب، فكيف لا يأمَن مَن أوى إلى رُكْنه ؟؟! كيف لا يأمَن من كان مِن حِزْبِه ...
سبحانه الحكيم الذي يدبّر الأمر بحكمته، فلا يكون في تدبيره خللٌ ولا زلل،  سبحانه الذي أحكم كلّ ما خلق، فَكُلُّهُ مخلوقٌ لحكمة، مسيَّر بحكمة ... ما أوجد خلقَه، وما أوجد الوجود كلّه إلا بحكمة ولحكمة.  وكما قال الإمام ابن كثير:" يضع الأشياء في محالّها بحكمته وعدله "
وبحلقة واصلة بين أواخر "المجادِلة" والآية الأولى من الحشر، ثم بحلقة واصلة بين ما حَوَتْهُ الآية الأولى من معاني العزّة والغلبة والحكمة في الله سبحانه المنزَّه عن كل نقص وعن كل عيب، تبدأ معنا قصة المعنيِّين بهذه الآيات المتواليات من السورة  ... فلنتأمّل ...
"هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ(02) وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ(03) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(04) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(05) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(06)"

والمَعْنِيّون بـ" الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ" هم اليهود على وجه خاص، وبنو النضير منهم على وجه أخصّ. وذلك ما جاء تأكيده في السنة الصحيحة . وفي أحداث السيرة المُطَهَّرة من العام الرابع للهجرة.
وقد جاء من خبرهم في الصحيحَيْن: عن سعيد بن جُبَير أنه سأل عبد الله بن عباس عن أسباب نزول ثلاث سور  :"قُلتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ، قالَ: التَّوْبَةُ هي الفَاضِحَةُ، ما زَالَتْ تَنْزِلُ، ومِنْهُمْ ومِنْهُمْ، حتَّى ظَنُّوا أنَّهَا لَنْ تُبْقِيَ أحَدًا منهمْ إلَّا ذُكِرَ فِيهَا، قالَ: قُلتُ: سُورَةُ الأنْفَالِ، قالَ: نَزَلَتْ في بَدْرٍ، قالَ: قُلتُ: سُورَةُ الحَشْرِ، قالَ: نَزَلَتْ في بَنِي النَّضِيرِ."-صحيح البخاري-

وعلى هذا سمّيت سورة الحشر بسورة بني النضير، كما أنّ هناك عنها من صحيح الأحاديث ما سأضعه لاحقا في مكانه من السورة.
وأقف ها هنا وقفة لا بُدَّ منها، في ظلّ ما عمّ وطمّ من شُبُهَات صارت تُلقى صباح مساء، لتشكيك المسلمين بدينهم، ولإخراجهم منه بالكُليّة، مستدرجين ضِعاف الإيمان، وضِعاف الفهم للدين، وضِعاف النفوس أمام بهارج الغرب وزينته الزائفة المتجلبِبَة بالانعتاق من الأخلاق، والانعتاق من كل رادع عن التفسّخ من دين أو قانون، المتخلّية عن الإنسانية إلى الدَّرَكيّة الحيوانية فيما تبدو لهم أنها المتحلّية بالحرّيات ... !

فيقعون على السُنّةِ وُقوعَ الذُّبابِ المُحَمَّل بالأقذاء، مشكِّكين وطاعنين في حُجّيتها، وفي مصداقية ما تحمل من أخبار، وفي مصداقية وعدالة النّاقلين لها، بدعوى أنها نقلُ الرجال ... وما حقيقة وقوعهم على السُنّة إلا الوقوع على الدين كلّه، لضربه كلّه، والسّادرون في جهلهم  وغفلتهم يظنّون أنّ دعاواهم تنقيةٌ للدّين وتصفية ...!

والسُنّة للقرآن بيان وتفسير، ولما أُجمِل فيه شرح وتفصيل، ولما أطلِق فيه تقييد، فكيف للبيان أن يُفصَل عن المُبَيَّن، كيف تتبيّن لنا معاني القرآن، وتفصيلات أحكامه وتشريعاته إن نحن استغنينا عما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل وقول وتقرير، هو كلّه منه قرآنٌ يمشي على الأرض، هو كلّه منه بيان وتعليم وتزكية، كيف لنا أن نتخلّى عن أعلم البشر بمُراد الله تعالى، وهو المبلّغ عن ربّه تبليغ آيات القرآن وحْيا من الله، وتبليغ بيانات الدين منه وَحْيا من الله سواء بسواء ... !
لا يرومون بذلك إلا أن يطلقوا العَنَان لكلّ مَن هبّ ودبّ ليشرح القرآن ويفسّره بهَوَاه، وبرؤيته وبزاويته الضيّقة، وبما أحبّ أن يأخذ منه، وما أحبّ أن يترك... !  فيختلط حابل بنابل، ولا يصبح للدين كلّه من معنى إلا أن يصير الأهواء المتلاطمة لبحرِ باطلٍ هائج مائج، نصبح منه على قول ونُمسي على آخر، فلا يعود من مستنَد، ولا من مُحتَكَم ... ! وكلّ يشرّع لنفسه، ويفصّل لنفسه ما تشتهي نفسُهُ وتهوى من ألبسةٍ باسم الدّين وباسم القرآن ....!

بالله عليكم ... من أين لنا أن نعرف على وجه التأكيد والتحديد أنّ أهل الكتاب المعنيّين بهذه الآيات هم بنو النضير خاصة دون غيرهم، إن لم يكن لنا من رجوع لهذه النصوص السُنيّة التبيينية... لو لم تكن هي مرتكَزَنا ومستندَنا في التوضيح والتفسير، ومعرفة سبب النزول لقال مَن يشاء بما يشاء، فلك أن تفهم أنهم هُم، أو أنهم قبيلةٌ أخرى من قبائل يهود، بنو قينقاع أو بنو قريظة مثلا، أو أنهم فرقة أخرى من أهل الكتاب غير اليهود أصلا ... !

وهذا ما يحدث حينما نفصل البيان الحركيّ للقرآن عن القرآن ... حينما نفصل عنه حركة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الأرض.. ذلك المجتمع المسلم الأَوّل الذي جُعِل مثالا دعويّا حركيّا للمجتمعات المسلمة في كل زمان وفي كل مكان ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

كان  اليهود يتحرّقون على الإسلام والمسلمين، إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دسٍّ ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة، ويختارون أنواعاً من الحِيَل لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق...

وبعد وقعة بني قينقاع التي أجلى فيها المسلمون هذا الحيّ من يهود خارج المدينة، وبعد قَتْلهم لكعب بن الأشرف الذي سلّط لسانَه سلاحا ماضيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشبّب بنساء المسلمين، خاف اليهود على أنفسهم فاستكانوا والتزموا الهدوء والصمت‏. ‏ولكن ما فتؤوا أن تجرؤوا وكاشفوا بالعداوة والغدر بعد وقعة أُحُد، وانهزام المسلمين فيها، فأخذوا يتّصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سِراً، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين ‏.‏

ثم ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعتَيْ الرَّجِيع وبئر مَعُونة اللَّتَيْن استُشهِد فيهما من حُفّاظ القرآن ومعلّميه الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبائل من العرب لتعليمهم الدين، فانقلبوا عليهم غادِرِين، عندها قام اليهود بمؤامرة تهدف للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ذلك حينما‏ خرج صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير في نفرٍ من أصحابه، وكلّمهم أن يعينوه في ديّة رَجُلَيْن من قبيلة كِلاب كان بينها وبين المسلمين عهد وميثاق، قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي ثأرا لإخوانه المستشهدين بالرجيع -وكان ذلك واجبا على اليهود حسب بنود صحيفة الموادعة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخوله المدينة، كما كانوا أحلافا لقبيلة القتيلَيْن ـ فاستقبلوه، وقالوا ‏:‏ نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك‏.‏ فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه‏.‏ وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كُتب عليهم، فتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا ‏:إنكم لا تجدونه أقرب منه الساعة، استريحوا منه تأمنوا في دياركم، ويُرفع عنكم البلاء، أيُّكُم يأخذ هذه الرَّحَى، ويصعد فيُلقيها على رأسه يشدخه بها ‏؟  فقال أحدهم: أنا، ‏ فقال لهم سَلاَّم بن مِشْكَم‏:‏ لا تفعلوا، فوالله ليُخبَرَنَّ بما هَمَمْتم به، وإنه لنقضٌ للعهد الذي بيننا وبينه‏.‏ ولكنهم أعرضوا عنه، وعزموا على تنفيذ خطتهم‏.‏ ونزل جبريل من عند ربّ العالمين على رسوله صلى الله عليه وسلم يُعْلِمُه بما همّوا به، فنهض صلى الله عليه وسلم مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا ‏:‏ نهضتَ ولم نشعر بك، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود‏.‏

وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث إلى بني النضير يقول لهم ‏:‏ ‏‏"اخْرُجُوا من المدينة ولا تُساكنوني بها، وقد أجّلتُكم عشراً، فمن وجدتُ بعد ذلك بها ضربتُ عُنُقَه‏"‏‏.‏ ولم يجد اليهود مناصّاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهّزون للرحيل، حتى أرسل إليهم المنافقون يَؤُزّونهم على المسلمين، يُمَنّونهم بالنُّصرة والمحالفة والوقوف بصفهم ضدّ رسول الله ومَن معه، وهناك عادت لليهود ثقتُهم، واستقرّ رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حُيَي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ "إنّا لا نخرج من ديارنا، ولئن قاتلتَنا لنقاتلنّك فاصنع ما بدا لك‏".‏ فنهض عندها رسول الله لمناجزة القوم، ولما انتهى إليهم فرض عليهم الحصار‏، فالتجؤوا إلى حصونهم.

وذلك ما كان بين المسلمين وبين بني النضير، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة،  بادرهم جميعا بالمُسالمة والمُوادعة، وعقد بينه وبينهم على ذلك العهود والمواثيق، وكانوا في كلّ مرّة ينقضونها، ويبدؤون بالغدر، كعادتهم عَبْر العصور المتطاولة ...

"هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ(02) "

"هُوَ" ... ضمير عائد على لفظ الجلالة  "الله" ... وقد جاء في الآية السابقة ذكر أسماء له سبحانه بعينها : "الله"    "العزيز"     "الحكيم"
هذه هي الأسماء التي جاء الضمير "هو" هنا حاملا لمعانيها، هو الله، هو العزيز، هو الحكيم ... الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ...

إنه إخراج الجلاء الذي مُني به بنو النضير، وكان حُكْمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم  الفصل فيهم فورَما عرّفه ربُّه بما همّوا به من مكرٍ ظنوا أنهم مُنفِذوه ورسول الله قد دخل ديارَهم بِاِسم المُعاهِد المُوادِع، فادّعوا حفاوة به لمّا استقبلوه، بينما بيّتوا قتلَه غدرا ... !
قرّر صلى الله عليه وسلم ألا يُساكنوه في المدينة بعدها  ... وجاء الإخراج منسوبا إلى الله تعالى رأسا:
"هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ..."  ليبيّن سبحانه أنّ الأمرَ كلَّه بيده، فالنّصر من عنده، والخذلان من عنده ...

تِلْكُم هي الحقيقة، وتلكم هي عقيدة المؤمنين في ربّهم، أنه هو سبحانه النصير، أنه سبحانه الفعّال لما يريد، فلا تغني عُدّة ولا اعتداد إن أراد الله أن يهزم فريقا، كما لا تُخِلُّ قلّةُ عدد أو عُدّة إن أراد أن ينصر فريقا ...
تلكم هي العقيدة التي يرسّخها الله سبحانه في عباده المؤمنين في مواجهاتهم  للكافرين، وعند خروجهم في سبيل الله : "...و مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"-آل عمران: من الآية126-

فلا يقع في قلب مؤمن أنّ النّصرَ ثمرةُ الاجتهاد والقتال، والعدد والعُدّة، بل كلّ ذلك أسباب، هي من الأهميّة ومن الضرورة بمكان، ولكن كثيرا ما لم يوازِ مستواها نصرا تحقّق للمؤمنين، وخذلانا لَحِقَ بالكافرين.

ولا يُسارِعَنّ مُتشدّقٌ بالعقلانية والحسابات الدُّنْيَويّة ليُصيِّرَ كلامي هذا دعوةً لنفْي دور الأسباب ! وقد صرنا نعرف من هذه المسارعات وهذه القفزات التي تُلصِق بك عُنوةً تُهْمة التّواكل والقعود والاعتداد بالإيمان وحده مُجرّداً عن الأخذ بالأسباب، لا لشيء إلا لأنّهم يُلصقون هذا بالإسلام أصلا، فيثورون عليكَ لأنّك بنظرهم ذلك المسلم المتخلّف القاعد الذي يمثّل الإسلام... !

سُرْعان ما صرتَ ترى المتداعين عليك، إذا ما ذكرتَ التوكّل، وإذا ما ذكّرتَ بأن النّصر من عند الله ... وإنّ نفيَ دور الأسباب في حقيقته مخالَفَة لصريح من دعوة الله سبحانه وتعالى عبادَه: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ..." –الأنفال: من الآية60- ومخالف لسِمة من أهم سمات هذا الدين في الأرض التي خلق الله، وخلق الأسباب فيها للأخذ بها حركةً عليها، ولكن ما يميّز اعتقادنا –شاء مَن شاء وأبى من أبى- هو ضرورة الموازنة بين الأخذ بالأسباب والتوكّل على رب الأسباب، فلا نَقَع بشِراك عبادة الأسباب ونحن نراها كل شيء، ولا نقع بالمقابل بشِراك التواكل والقعود ونحن نحسب الإيمان وحده عصا سحريّة تكفينا شرّ كل متربّص  ...
و"بَدْر" التي كانت قريبا من زمن لقاء بني النضير أبرز مثال على نصر من الله مؤزّر، كانت كلّ أسبابه المادية أدنى من أن تُحقّقه لأصحابه .

وبنو النضير كانوا أهل قوة مادية، وسطوة بها في المدينة، وكانوا أهل حصون محصّنة منيعة، لم يكن يخطر ببال أحد منهم ومن غيرهم أن يكون وجودها بالنسبة لهم وعدمُه سواء، وهم اليوم مُخرَجون منها ... مُجلَون، مُطرَدون ...!
كانوا أهل حَلْقة وسلاح وكُراع، ومَنْعة وامتناع، وأموال كثيرة، وعُدّة وعتاد... كانت حصونهم مجهّزة بكل ما يلزمها، وبكل ما يلزمهم من وسائل الحرب والدفاع والمواجهة ... وذلك ما لم يكن للمؤمنين مِعْشَاره، وهُم بَعْدُ دولة فتيّة، وجيش فتيّ ...!

وبهذا كلّه ...نعرف يد الله سبحانه وتعالى في تحقيق هذا الإجلاء، وهذا الإخراج الذي يكاد يكون مستحيلا بميزان الأسباب.
ولذلك عرفنا في سورة "المجادِلة" كيف يزن الله الفريقَيْن، فريق المؤمنين المحادّين لمَن حادّ الله ورسوله، فهُم "حزب الله"، وفريق الكافرين والمنافقين المحادّين لله ورسوله فهُم "حزب الشيطان" ...
فسبّقت بذلك "المجادِلة" لـ "الحشر" حتى نكون على بيّنة من معنى نصر يُؤتاه المؤمنون، ميزانُ الأسباب فيه ليس الميزان الفصل ولا المحدّد للنتيجة ...!

 "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ..."

و"أَوَّلُ الحَشْر"  هو هذا الجلاء الذي أُجلُوه من المدينة.
يُروى أنه لم يكن لأهل هذا الحيّ من يهود جلاءٌ قبله، إذ قد أُجلِي اليهود  من فلسطين مرتين، مرّة في زمن "بختنصر" ملك فارس، ومرة في زمن "طيطس" سلطان الروم، وسَلِم بنو النضير ومَن معهم من الجلاء لأنهم كانوا في بلاد العرب. كما أنه كان إيذانا بأنّ حَشْرَ اليهود  بعده سيتوالى، حتى يتمّ إخراجهم جميعا، وذلك ما تحقّق فعلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه  عملا منه بوصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من آخر ما قال قُبَيْل وفاته: "لا يبقى دينان في جزيرة العرب" .

كما تجدر الإشارة إلى أحوال اليهود عبر التاريخ، وما مُنوا به من تشريد وتطريد من مختلف بلاد العالم، لما عُرِفوا به من خداع ومكر ودسٍّ كان دَيْدَنَهم وسَمْتَهم كلما حلّوا بأرض : "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ  إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ  وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(167)وقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا  مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ  وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)" -الأعراف-

فكان ما لحقهم في العصر الحديث من تطريد من مختلف بلاد أوروبا، حتى طفقوا بأساليبهم الملتوية الخبيثة يتحيّنون لطُردائهم أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض، -على حدّ تعبيرهم- فكانت فلسطين كبش الفداء في الأمّة ...!!   

 "...مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ...."

وهذا ما يزيد في بيان تحقّق هذا الجلاء بأمر من الله سبحانه، فالمسلمون لم يكونوا يظنّون أن يَخرُج اليهودُ من تلك الحصون التي قضوا أعمارهم يُعْلُونها ويُشيِّدونها، كما ظنّ اليهود بالمقابل، -والظنّ هنا بمعنى الاعتقاد والجزم- أنّ حصونهم مانعتُهم من كل خطب، وأنها كافيتُهم كلّ شر.
فالتقى بذلك حالان متبايِنان، فأما حال المؤمنين فاستبعادهم خروج بني النضير يوما ما  من حصونهم العظيمة، وأما حال اليهود فيَقينُهُم بحصونهم المانعة التي ليس لأحد عليها من قدرة...

ليأتي أمر الله تعالى مخالفا لحسابات الفريقَيْن:

"فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ"

أتاهم من حيث لم يتوقعوا، حسبوا أنّ حصونهم مانعتهم، حسبوا ألا قدرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه عليهم، وهم حديثو عهد بالمدينة، وهم لدولة ناشئة جديدة كل الجِدّة، بل وهم المهزومون قريبا في غزوة أُحُد، ثم المفجوعون بعدها في خِيرة صَحْبِهِم في موقعَتَي الرجيع وبئر معونة... ! حسبوا أنهم المتحصّنون الذين لن يصلوا إليهم ...فأتاهم أمر الله، أتاهم ما أراد الله سبحانه لا ما أرادوا ولا ما احتسبوا...!

ولقد أرْسَلَ إليهم رأسُ النِّفاق عبدُ الله بنُ أُبَي بنُ سلول يَحُثُّهم على الثبات وعلى ألا يخرجوا، وأنه ومَن معه من المنافقين ناصِروهم هُم وبنو قريظة من يهود، فزاد ذلك في مناوأتهم للمسلمين، وهم لم يحتسبوا خذلانَ المنافقين لهم ...

من حيث لم يحتسبوا أتاهم الله ...!   وفوق كل هذا : "وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ".
سبحان الله !  أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا...فكان الرُّعْب المقذوف في قلوبهم جُنْديا من جنود الله عليهم...وهكذا جاءت: "قذَفَ"  للتّدليل على إلقائه في قلوبهم بسرعة وبقوة، لقد كان أمرَ الله الذي هو بين الكاف والنون، كُن فيكون... !

فأيّ قوة لهؤلاء الأقوياء؟ ! رجال السلاح والكراع، والمادة والحصون، والجنديّ المُسْلَطُ عليهم أقرب إليهم من كل قريب، ملازمٌ لأنفاسهم، منهم وليس من خارجهم ...! مُلقى في قلوبهم، احتلّها ومَلَك زِمامَ أمرِها فما يستطيعون منه فِكاكا ! لكأنّي بأوصالهم ترتعد، وبأسنانهم تصطكُّ، وبأعينهم تدور في حدقاتها فهُم المُرَوَّعُون الفزِعون من غير ما قتال !

 أيّ قوة لهم أمام قوة الله تعالى العزيز الذي لا يُغلَب ؟ ! وما يعلم جنود ربّك إلا هو ! سبحانه ...سبحانه ... ! ، وما لنا إزاء هذه العزّة وهذه القدرة إلا التسبيح، وهو ما يليق أن تُفتَتَح به هذه السورة وهي تَبْهَتُنا من أوّلها بعظمة الله، وفعله وإرادته ... !
"هو" سبحانه الذي أخرجهم من ديارهم، هو العزيز الذي لا يُغلَب سبحانه، هو الحكيم الذي يعلم متى وكيف ومن أين يكون أمرُه، ولا يكون إلا ما يُريد ....

"...يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ"

بيوتهم، تلك التي كانت خَلْف حصونهم المنيعة، جعلوا يخربونها بأيديهم، فخلعوا أبوابها وشبابيكها، وما قدروا على خلعه ليأخذوه معهم إشفاقا أن يخلّفوه من ورائهم للمسلمين، وبأيدي المؤمنين الذين مكّنهم الله من حصونهم ففتحوها وأخرجوهم من ديارهم وأجلوهم ...وجاءت الصيغة : "يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ" ... وكأن اليهود هم الفاعلون للتخريب من الوجهَين، بأيديهم وباستخدامهم أيدي المؤمنين. وفي ذلك إيماء لما جرّه عليهم اغترارهم، ولما جرّه عليهم اعتدادهم بأنفسهم وقوّتهم، حتى لكأنهم بنَوا وأعْلَوا وشيّدوا بأيديهم ليخرّبوا بأيديهم... ! إشارة إلى أنّ ما لحِقَهم من إذلال إنما ألحقوه بأنفسهم من تماديهم في المكر والخداع والتطاول وحُسبانهم أنّهم هُم الناس لا غيرُهم  !

وتُذيَّل الآية الشريفة بقوله سبحانه : " فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ "
في دعوة من الله تعالى لنا، وللناس جميعا، وللمؤمنين في كل زمان. هكذا دعوة للاعتبار من بدايات السورة، آيتان اثنتان كانتا كافيَتَيْن لاستشعار عظمة أمر الله سبحانه، وما يستطيع أن يُنفِذَه من أمر في كل زمان بين طرفة عين وانتباهتها، وهو القوي العزيز الحكيم الذي لا يتبدّل ولا يتحوّل، ولا تنتفي عنه تلك الصفات ساعة من زمان ...!

دعوة لأن نعتبر، أنّ حزب الله له أن يوجَد في كل زمان، حينما لا يوادّ المؤمنون مَن حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم ... حينما يكون الله ورسُولُهُ الأصل في قلوبنا، وما عداهما فيها لهما تَبَع... تَبع لقضية المُوادّة والمُحادّة، تبع لقضية الانتماء، تبع لتلك القاعدة واجبة الوجود في أنفسنا، وفي المجتمع المسلم، وفي الأمة المسلمة  ...

عندما تتحقّق تلك القاعدة في مجتمعاتنا، انطلاقا من تحقُّقها في الأفراد –كما عرفنا التقدمة لها بقصة خولة الوقّافة عند حدود الله- عندها سنكون أهلا لنصر من عند الله تعالى... ! أهلا لأن يُقذَفَ الرُّعبُ في قلوب أعدائنا جنديّا من جنود الله معنا :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"-محمد : الآية 07-

أما أن نكون على حالنا من التبعيّة، ومن الانبهار بغرب أو بشرق، ومن الاسترضاء لأصحاب المادّة والسلطان في الأرض بأن نُطرئ على الدين ما ليس منه ولا من روحه، لنواكب أهواءَهم، ودعاوى حريّاتهم بالانعتاق من كل ضابط ومن كل أخلاق، فنُعلي صيحات التمييع والتغريب باسم "التجديد في الدين" ليكون دينا خفيفا ظريفا متكيّفا والأهواء على اختلافها... فنبرّر للمُحادّ لله ورسوله، ونتعايش والمُحادّ لله ورسوله باسم التعايش والتسامح والحريّات وتقبّل الآخر، أن نكون على هذا ونطفَقَ نبحث عن أسرار الانهزام والضعف، فذلك لعَمري هو التَّيْه بعينه ...!!

التَّيْه عن الأصل، التّيه عن التربية الربّانية، التّيه عن القواعد التي أصّل بها الله تعالى لوجودنا ولقوّتنا، ولسيادتنا على الأرض لتحقيق العدل والسلام ولإعلاء كلمة الحق ...

تِلْكُم هي : "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار" ... دعوة للاعتبار من أول السورة، وكأنها التي مرّت منها الآيات ذات العدد، لأنّ الآيتَيْن ليستا باللتَيْن جاءتا منقَطِعَتَين مُنبَتَّتَيْن عن جذور... بل قد تفرّعتا عن "المجادِلة"  المقرّة لقاعدة الانتماء والتّخندق في حزب الله ...

فأستحضر هنا آياتٍ من سورة المجادلة، لنرى كم تُلقي موضوعاتها ومعانيها بظلالها على سورة الحشر، ولنرى في كل مرة هذا الجمال في التناسق والاتساق والترابط، وكيف أنّ كل سورة تسبق أختَها كان لِزاما أن تسبقها، وأن كل سورة تلحق أختها، كان لزاما أن تلحقها ... لنعيش دوما في ظلال هذا الترابط الذي لا ينفك قائما في القرآن، ناظما سُوَرَهُ وآياته نَظْمَ الخرزات، يجعل الكلّ واحدا مجتمعة أطرافه، متكاملة أجزاؤُه ...!

عرفنا فيها قول الله سبحانه : "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ"-المجادلة :05-   وقوله سبحانه : "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ " –المجادلة :20-
كُبتوا وأُذِلّوا، أي أهينوا وأُخْزُوا... وها نحن نعرف هذا بين أيدينا  عَبْرَ بني النضير وما لحقهم من أمر الله تعالى من حيث لم يحتسبوا، بقذف الرُّعب في قلوبهم، بتخريبهم حصونهم بأيديهم...

وإنه لَمِن تمام الخزي والإذلال أن يُفسد الإنسان بيده ما عاش يُعليه ليتحصّن به، وهو موقن بمنعته، فإذا هو اليوم بيده وبين يديه خرابٌ يباب ...!!   
« آخر تحرير: 2020-08-30, 09:26:14 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ونمضي مع الآيات ....

"وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا  وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّار(03) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ  وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(04)"

كتب الله عليهم الجلاء، فكان أمرا مقضيا فيهم. لم يكن فيهم قتل، بل أُجلُوا، وقد كانت إرادة الله النافذة فيهم.
نستشفّ منها معنى اسمه "الحكيم" سبحانه الذي جاء في الآية الأولى ... بحكمته كتب عليهم الجلاء، فلم يقتلهم المسلمون، وكانوا على ذلك قادرين وقد خُربت حصونهم وبيوتهم، وظهروا عليهم، وفيه مزيد بيان لمعنى : "لأول الحشر" ... تدليلا على أنه أول إخراج لهم جماعات من جزيرة العرب إلى بلاد أخرى ، وسيتعاقب عليهم منه ما هو آت ... وقد كان ذلك فعلا –كما عرفنا- على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أنهى تواجدهم في جزيرة العرب بالكُليّة بإخراجهم جميعا منها.

وإنّي لأُرَى بهذه الحلقات المتّصلات –والله أعلم- أنّ في هذا الجلاء دون القتل، إبقاء لليهود ليظلّوا عبر العصور أولئك المطرّدين من بلاد إلى بلاد، ما حلّوا بأرض إلا وفَاحَتْ منهم رائحة الغدر والدسائس والمكر، حتى يضِجّ منهم أهلها فيطردوهم شرّ طرد، كما أنّ في بقائهم كذلك ابتلاءات للمؤمنين وامتحانات، تتبيّن بها حقيقة إيمانهم، وحقيقة انتمائهم، وولائهم، فإمّا هم متزلّفون، متمسِّحُون يُحَكِّمون قانون القوّة والمادة –واليهود يُعرفون بها اليوم- فيخنعوا ويخضعوا لهم ويخطِبوا وُدّهم في مُوادّة لهم وهم المحادّون لله ورسوله، وإما مُعادون، لا يخنعون لهم ولا يرضخون وإن يكُن ما يكُن من قوّتهم ومادّتهم وسطوتهم في الأرض، لا يتنازلون عن قاعدة الانتماء والولاء، فلا مُوادّة لهم وهم المُحادّون لله ورسوله، انضِواؤُهُم تحت حزب الله حركةٌ تتجسّد في الثّبات على الحق، واتخاذ أعداء الله أعداء ...

يقينهم في أنّ حزب الله هم المفلحون لا يتزعزع ولا يهُزُّه استقواء العدوّ بالمادة والسلاح والتملّك والسيطرة... يقينُهم أنّ الله مذلٌّ أعداءَه ما أقاموا على دينهم، وما كان اللهُ ورسولُه أحبَّ إليهم من كل حبيب وأقرب إليهم من كل قريب... ! أولئك هم أولو الأبصار المعتبِرون، الذين تقوم للأمة بهم قائمة، والذين يعود لها بهم مجدُها وسُؤدَدُها... !
وهكذا ... فإنّه مما كُتِب عليهم بحكمة من الله وبإرادة نافذة منه سبحانه...

وكما تصرّح الآية فإنه لو لم يكتب عليهم الجلاء، لعذبهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، ليسوا منه بناجين ...

"ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ  وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(04)"

ليس من فراغٍ ما لحِقَهم، ليس من فراغ ما جرى عليهم من الإذلال بالإجلاء، من بعد قذف الرّعب في قلوبهم، ومن بعد تبخّر اعتقادهم في حصونهم المانعة ...
لقد شاقّوا الله ورسوله، كانوا في الشِقّ المُعادي لله ولرسوله، وتأتي بهذا اللفظ : "شاقّوا" وهي معنى "حادّوا" التي جاءت في سورة المُجادلة ...
هذا جزاء المُشاقّين، وهذه عاقبتهم بإزاء مؤمنين لا يرتضون عن الله ورسوله بديلا، ولا يَجِدُون في قلوبهم ما يعلو مكانة الله ورسوله، يحبون في الله، ويبغضون في الله، ويُوادّون مَن وادّ الله ورسوله، ويحادّون من حادّ الله ورسوله ...فهم حزب الله، هُم هُم المؤمنون حقا ... !

ولا يسألنّ أحدٌ كيف لهذا أن يكون تقريرا وقاعدة، ونحن نرى ما نرى، ونعايش ما نعايش من تهافُتِ المُشاقّين لله ورسوله على الأمة، وتداعيهم على قصعتها، ومن قوّة ومنعة فيهم، ومن هوان وذلّ في الأمة ...!

لا يسألَنَّ أحدٌ عن سبب هذا، ولا يَعْجَبَنّ أن تكون هذه الآية قاعدة في المشاقّين لله ورسوله، دون أن يعود إلى حال الأمّة أوّلا، وإلى موقفها أفرادا وجماعات من المُحادّين لله ورسوله، فإن أنت وجدتَ خضوعا وخنوعا واسترضاء، ورضى بكل ما يقضون وبكل ما يُملُون باسم القوة والمادة والتقدم العلمي والتكنولوجي والسيطرة بها في الأرض، ولا تثريب عليهم وهم يحاربون شرع الله، ويعادون أمره... فاعرف أنّ ذاك هو السبب، وأذْهِبْ عن نفسك كل عجب ... ! فالله سبحانه ما أذلّ عدُوّهم وما أعزّهم إلا وقد كانوا المقدّمين من أنفسهم... وسيأتينا خبرُهم قريبا مع الآيات ...

ولكأنّ العقاب الشديد في هذه الآية كامنٌ في هذا الجلاء الذي كُتب عليهم بحكمة من الله ليبقوا مشرَّدين: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ  وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا  مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(168)"-الأعراف-

ولا أحبّ أن أفوّت الإشارة إلى أمر شدّني في الآية ...إنّه قرنُ الله سبحانه لاسمه باسم الرسول في قوله : "شاقّوا اللهَ وَرَسُولَه"، ثم في المقطع الثاني منها جاءت : "وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَاب" لم يتكرر قرن الله برسوله في المشاقة في هذا المقطع منها ...

وأرى في ذلك  بيانا وإشارة، فأما البيان، ففي القرن الأول، أنّ المشاقّة تُعدّ مُشاقّة سواء كانت لله، أو للرسول، لأن مشاقة الرسول من مشاقة الله، ومشاقة الله من مشاقة الرسول، وأما الإشارة، ففي المقطع الثاني، مفادها أن "مشاقة الله" متضمنة مشاقة الرسول بالضرورة، فلم يكن من داع للقرن مرة أخرى، بل عُبِّر عن المُشاقتَيْن بمشاقّة الله .

وتستمرّ معنا تفاصيل الغزوة، وحقٌّ ما كان من ابن عباس إذ أسماها سورة بني النضير، وهي تفصّل فيما كان فيها ...
غزوة كانت وانقضت، ائتمر فيها الصحابة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا على قوم ناقضين للعهود، غدرة، همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن أعلمه ربُّه بمَكْرِهِم، ثم نزلت السورة بعد انقضائها تحمل تفاصيلها وتشريعاتها :

"مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ(05)"

ولكأنّ الآية 03 جاءت مُجمِلةً لما كان من أمر بني النضير وأوْل حالهم إلى الجلاء والخسار والبوار وخراب دُورِهم، ثم تأتي هذه الآية تفصّل ...
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "حَرَّقَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وقَطَعَ، وهي البُوَيْرَةُ فَنَزَلَتْ: {ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً علَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}. "  -صحيح البخاري-

كما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : "أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَحَرَّقَ، وَلَهَا يقولُ حَسَّانُ: وَهَانَ علَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ... حَرِيقٌ بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ وفي ذلكَ نَزَلَتْ: {ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ، أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً علَى أُصُولِهَا} الآيَةَ"

وعن عبد الله بن عباس أنه قال: " في قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ : مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا . قالَ: اللِّينةُ النَّخلةُ، وليُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ قالَ: استنزَلوهم من حصونِهِم،(يعني فعل المسلمين ببني النضير) قالَ: وأُمِرُوا بقطعِ النَّخلِ فحَكَّ في صدروهم . فقالَ المسلِمونَ: قد قطَعنا بعضًا وترَكْنا بعضًا، فلنسألنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ هل لَنا فيما قطَعنا من أجرٍ؟ وَهَل علَينا فيما ترَكْنا من وزرٍ؟ فأنزلَ اللَّهُ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا الآيةَ." –صحيح الترمذي-

وهكذا يتبيّن لنا من هذه النصوص الشّارحة، وهي من صحيح الأحاديث، كيف أنّ الأمر بقطع نخل بني النضير كان من رسول الله صلى  الله عليه وسلم، فائتمر به الصحابة، إذ إنهم لما انتهوا إليهم فرضوا عليهم الحصار‏، فالتجؤوا إلى حصونهم، وأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك وكانت تُسمى "البُويرة" ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعها وتحريقها.

فنادى اليهود: يا محمد! قد كنتَ تنهى عن الفساد وتَعيبُه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟  وكما روى ابن عباس:  "فحَكَّ في صدروهم" أي فوقع في نفوس بعض المسلمين من قولهم ذاك شيء، وقال بعضُهم: بل نقطع لنُغِيظهم بذلك. فقطعوا بعض النخيل، وتركوا بعضها، وعادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبيّنون منه، إن كان لهم أجر على ما قطعوا، أو كان عليهم إثم على ما تركوا منها وهم قد أمِروا بقطعها، وهذا معنى ما حاك في صدورهم . ليس عن أمر القطع وحده، بل عن كلا الأمرَيْن القطع والتّرك.  فأنزلَ اللَّهُ تعالى : "مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله"
فهنا أمِروا من رسول الله بما لم ينزل فيه قرآن، وهم يعلمون أنه أمر الله وإن لم ينزل فيه، قد كفاهم أنه من رسول الله ليُعلَم أنه وحي ...فتنزل الآية بعد مُضيّه تُقِرّ أمرَه صلى الله عليه وسلم، كما تُقِرّ طاعتهم له...

فلننظر كيف ينزل الوحي مصدّقا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد ما كان منه من غير قرآن ...! لننظر إلى هذه الآية، ومثيلاتها في القرآن، وهي تقرّ أمر رسول الله وتنزل بعد أن يُمضيه في أصحابه...
أليس إقرارا من الله تعالى بأن الذي كان منه أمرٌ ويُطاع، وإن لم يكن قرآنا ؟!!  بل جاء التأكيد على أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمر الله في  قوله سبحانه : "فَبِإِذْنِ الله"

لمَن يقول بفصل السُنّة عن القرآن أقول هذا ... وإياهم أسأل، ماذا ترون في مثل هذه الآية المُقِرّة لأمر منه من بعد ما أمضاه ؟! بل وأنه بإذن من الله تعالى !  وأنتم تقولون بالائتمار بأمر القرآن وحده ...أمر منه لم ينزل في قرآن لينفّذوه بل كان منه صلى الله عليه وسلم خالصا، وكانت الغزوة، وكانت أحداثها كلّها، ثم نزلت الآيات، ونزل فيها ما يُقرّ أنه أمر الله تعالى.
إن لم يكن هذا دليلا قاطعا على أنّ أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُطاع حتى من غير القرآن، فماذا هو عندكم ؟؟! وقد جاء في قول عبد الله بن عمر : " حَرَّقَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وقَطَعَ " بيان أن الأمر كان منه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من فعل المؤمنين وحْدَهُم .

أقرّ الله للمؤمنين ما فعلوا بالنخيل، فما قُطع منها بأمر الله كان، وما تُرك منها كذلك لا تثريب عليهم في تركه ...
وقد بينت هذه الآية جواز تخريب ديار العدو، وقطع أشجاره ما دام في ذلك مصلحة يراها المسلمون، لإضعافهم، ولإلجائهم للاستسلام، ولإذلالهم، كما عبّر عن ذلك سبحانه بقوله : "وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِين" .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ثم يأتي في الآية الموالية الحكم من الله سبحانه في شأن ما خلّفه بنو النضير من بعد إجلائهم، وذلك في قوله تعالى :

"وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(06)"

ذلك أنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وهو إخراجهم من المدينة، وقد عرفنا كيف جعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم فحملوا الأبواب والشبابيك، وحمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف، لئلا يستخدمها المسلمون من بعدهم. وكان الحكم أنّ لَهم ما أقلَّتِ الإبلُ منَ الأمتعةِ والأموالِ إلَّا الحَلْقةَ ـ يعني السِّلاحَ ـ  فحملوا النساء والصبيان على ستمائة بعير. وترحّل أكثرهم وأكابرهم كَحُيَيّ بن أخطب وسلاَّم بن أبي الحُقَيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام.

وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح بني النضير، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعاً وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفاً‏.‏ وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يضعها حيث يشاء، ولم يخَمِّسْها لأن الله أفاءها عليه خاصة،  ولم يوجِف المسلمون عليها بِخَيلٍ ولا رِكاب...و"الإيجاف" مِن أوجف يوجف، بمعنى الإسراع في السير، أوجف دابَّتَهُ أي حملها على الإسراع في السَّير . والرِّكاب الإبِل المركوبة.

أي أنّ المؤمنين لم يُغيروا على بني النضير وهم على خيولهم وبعيرهم. لم يقاتلوهم وهُم عليها، بل كان الرُّعب المقذوف في قلوبهم جنديّ الله المُسلَط عليهم الذي أذلّهم حتى نزلوا على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم. لذلك فإن هذا العطاء خاصٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه حيث شاء. 

وعلى هذا كان الفيء، ولم تكن الغنيمة، والفرق بين الاثنَيْن أن الأول ما يصير إلى المسلمين حِلّا من غير قتال، والثاني ما يصير إليهم بقتال، فأما الغنيمة فنزل تقسيمها بالتخميس في سورة الأنفال إثر غزوة بدر، خُمُس لله ورسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، والأخماس الأربعة الأخرى للمُقاتِلة. وأما الفيء فجاء حكمه فيما نحن بصدده من آيات . فاختُصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم به يُنفقه كيف يشاء. 

جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "كَانَتْ أمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ ممَّا أفَاءَ اللَّهُ علَى رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ممَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عليه بخَيْلٍ ولَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَاصَّةً، يُنْفِقُ علَى أهْلِهِ منها نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ ما بَقِيَ في السِّلَاحِ والكُرَاعِ، عُدَّةً في سَبيلِ اللَّهِ. " –صحيح البخاري-

فقسمها صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين الأوّلين خاصة، ليرفع بذلك مُؤنَتَهُم عن الأنصار، إذ كانوا قد قاسموهم أموالهم وديارهم لمّا هاجروا إليهم وآخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه أعطى أبا دُجَانة وسهل بن حُنَيف الأنصاريَّيْن لفقرهما‏.‏ كما كان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكُرَاع عُدّةً في سبيل الله‏.‏

وكما نرى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفيء حلالٌ له بلال، لا يستأثر به لنفسه، بل يصرفه على مَن يرى أنهم أهل حاجة في المسلمين، وعلى السلاح عُدةً في سبيل الله. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعل حتى بالخُمُس الذي أُحِلّ له من الغنيمة .
عن عمرو بنِ عبسةَ قالَ : "صلَّى بنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى بعيرٍ منَ المَغنمِ فلمَّا سلَّمَ أخذَ وبرةً من جنبِ البعيرِ ثمَّ قالَ ولا يحلُّ لي من غنائمِكم مثلُ هذا إلَّا الخمسُ والخمسُ مردودٌ فيكم "-صحيح أبي داود-

إثر صلاته بهم صلى الله عليه وسلم أخذ وبرة من صوف الإبل وشعره، وأخبرهم أنه لا يحلّ له من الغنائم مثل تلك الشعرة، إلا الخُمُس الذي جعله الله له منها، وحتى الخُمُس يَأخُذُ منه نفَقتَه وحاجتَه، والباقي يَصرِفُه في مَصالحِ المسلِمين، ومَصالحِ الدِّين من السِّلاحِ، والخيلِ، والعُدَّةِ، وغيرِ ذلك.

" ...وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"

إنه تسليط الله رسله على من يشاء ... سلّط رسوله، وأيّده وأيّد مَن معه وهم المُوادّون لله ورسوله، أيّدهم بروح منه –كما عرفنا في سورة المجادلة- فكان انهزام بني النضير من حيث لم يحتسبوا، وقد ظنوا أنهم مانعتُهم حصونهم، وقد ظن المؤمنون بالمقابل ألا يخرجوا منها ... !

سبحانه على كل شيء قدير ...وهذا –كما ذكرتُ آنفا- هو نصر الله سبحانه لعباده المحادّين لمَن حادّ الله ورسوله ... لمن استحقوا أن يكونوا أهلا لهذا النصر، وهذا التأييد، بما قدموا من أنفسهم من ولاء ومن انتماء، ومن اعتزاز به ...

ولا تنفكّ "المجادِلة" ملقية بظلالها ....  فقد قال تعالى فيها : " إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي  إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)"
وهذا بيانه في سورة الحشر، في بني النضير وما لحقهم من غير إيجاف بخيل ولا ركاب، ولكنّ الله يسلّط رُسُلَه على من يشاء. وقد كتب سبحانه : "لأغلبنّ أنا ورسلي" ...

وتتوالى تفاصيل عن الفيء في معرض آيات سورتنا :

"مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(07) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(08) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(09) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(10)"

إنّه الآن حديث عن الفيء إجمالا، لا فيء بني النضير خاصة...

وقد قال المفسرون باتصالها بالآية السابقة(الآية06)، وتفصيلها لما أجمل فيها، ولكن مما يَفْصِل في كونها منفصلة عنها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاري : "كَانَتْ أمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ ممَّا أفَاءَ اللَّهُ علَى رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ممَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عليه بخَيْلٍ ولَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَاصَّةً، يُنْفِقُ علَى أهْلِهِ منها نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ ما بَقِيَ في السِّلَاحِ والكُرَاعِ، عُدَّةً في سَبيلِ اللَّهِ. "

أي أنه صلى الله عليه وسلم في فيء بني النضير لم يتقيّد بالفئات التي جاء ذكرها في الآية الجديدة (07) . وعلى هذا فهي في الفَيْء الذي يكون من قرى أخرى، ويكون النصر على أهلها بلا قتال، أي بعقد مصالحة أو باستسلام .

"مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(07)"

إذن ففَيْءُ هذه القرى يُصرَف للرّسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وهي خمسة أوجه يتقيّد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما كان في فَيْء بني النضير الذي صرفه صلى الله عليه وسلم في المهاجرين واثنَين من الأنصار .
وتجدر الإشارة إلى أنّ ذوي القربى الذين ذكرهم الله سبحانه في خُمس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنيمة، وفي الفيء الذي خُصّ به، هم أهله صلى الله عليه وسلم، إذ لم تكن تحلّ لهم الصدقات، فلم يكن لهم في الزكاة نصيب، وأن كان النبي لا يورث، لم يكن يعود لهم من ماله شيء. وكان فيهم الفقراء الذين لا مَوْرِد لهم. فجُعِل لهم من خُمس الغنائم نصيب، كما جُعِل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيب.

"كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ"

و"الدُّولة" بضم الدال: ما يتداوله المتداولون. والتداول: التعاقب في التصرّف في شيء. وخُصّ استعمالها في تداول الأموال.
وهكذا يُقسَم هذا الفيء على هذه الفئات الضعيفة المحتاجة، حتى لا يُقصَر على فئة بعينها تُعطَى في كل مرة وإن كانت ذات كفاف وغنى، فتُزاد على غناها غنى، وتنشأ من ذلك الطبقية في المجتمع، ويذهب منه العدل، ويسطو فيه أهل المال بمالهم، ويبقى المحتاج فيه محتاجا،  لذلك شرع الإسلام أن يُصرف في المحتاجين من فقراء ومساكين ويتامى لسدّ حاجاتهم .

وقد شرع الإسلام العطاءات لأهل الحاجة في المجتمع المسلم في أكثر من سبب ومناسبة...  فزكاة المال وزكاة الفطر فريضتان تُصرفان فيهم، ويُحثّ على التصدّق عليهم بلا قيد لمن يشاء بالقدر الذي يشاء، وتُخرَج لهم كفّارات الذنوب، ويُسنّ التصدّق عليهم من الأضحية، وغيرها من أوجه الإخراج والعطاء حتى يحافَظ على سلامة المجتمع من تغوّل الأغنياء بمالهم، ومن بروز طبقيّة مفرّقة.
وفي الفَيْء يَخرج المقاتِلةُ من دائرة التقسيم، لأنّهم لم يُغفَلوا من المغانم والأنفال، بل كان لهم منها القسم الأكبر، ويُعدّون من الذين أُغنُوا، والدُولة التي حذّرت منها الآية تشملهم أيضا.

كما أن الإسلام، وبهذه الآية تحديدا أبطل ما كان شائعا في الجاهلية، من استئثار قُوّاد الجيوش ورؤساء القبائل بمعظم غنائم الحروب، فكانت منها قِسَمٌ وأنصبة تُعرَف بأسمائها، منها "المِرباع" وهو رُبع الغنيمة، و"الصَّفايا" أي نفيس الغنائم، و"النشيطة" وهو ما يكون منها قبل الحرب، و"الفضول" وهو ما يبقى بعد قسمة الغنائم . حتى قال الشاعر يصف ما يحظى به القائد منها :
لك المِربَاع منها والصفايا ** وحُكْمُك والنَّشيِطةُ والفُضُول.

وقد أبطل الإسلام كل ذلك ، فجعل مصارف الفيء  تعود إلى المسلمين جميعا ، بطريقة عادلة كما رأينا.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ثم تُختم الآية المشرِّعة الكريمة بأمر من الله سبحانه :
"...وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(07)"

وفي سياق الفيء هذا أمر بضرورة الرِّضى بهذه القسمة التي يقوم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم،  كما أنّه مقطعٌ من الآية عامٌّ في كل ما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي، ذلك أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. هذا من وَجْه، ومن وَجْه آخر فإن في  اللفظ واللفظ المقابل إشارة إلى هذا التعميم، فجاءت: "آتاكم" وقابلتها:  "نهاكم" ولم تقابلها: "مَنَعَكُم" التي تحمل بدقّة خصوصية معنى عطاء الفيء أو منعه، مما يبيّن بأن هذا الإيتاء منه يعني الأمر منه على عمومه، أي كل ما يكون منه من أمر يُطاع ويُؤخَذ به، وكل ما يكون منه من نهي يُنتهى عنه ...

وهذه من أهمّ الآيات المبيّنة لوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان الأمر الصّادر منه تبليغا لأمر نزل في القرآن، أو كان أمرا منه خالصا من غير قرآن نازل... ذلك أنّ القضية في الدين والتشريع والتبليغ قضية وحي، وكلٌّ من القرآن والسُنّة القوليّة والفعليّة والتقريريّة منه صلى الله عليه وسلم وحيٌ ... والأمر له صلى الله عليه وسلم بالتبليغ يشمل تبليغ كِلَيْهما، كما أنّ الله تعالى تكفّل بحفظ كِلَيْهما، وذلك في قوله سبحانه : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)" -الحجر-

فحُفِظ القرآن الكريم بتسخير الله لعباده المؤمنين الذين حفظوه في الصدور وفي السطور، ونقلوه إلى الأجيال والعصور بالجمع والتّدقيق والتيقّن من مطابقة ما كُتِب لحفظ الحافظين، فكانت الكتابة توثيقا للحفظ الصدريّ، وكذلك الأمر بالنسبة للسُنّة، جُمعت كتابةً من الصدور وممّا كُتِب منها بمنهج علميّ دقيق في تحرّي الأخبار لم تشهد البشرية مثل دقّته وحذاقة أهله الذين قاموا عليه  أعظم قيام، وسخّروا أعمارهم كلّها لخدمته .

وفي القرآن آيات عديدة تؤكد على أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة الله. والسنة بيان القرآن، لولاها ما عرفنا عدد الصلوات في اليوم والليلة، ولا عدد الرّكعات في كل صلاة، ولا كيفية الصلاة، ولا ما يُقال فيها... ولولاها ما عرفنا القيمة التي تُخرَج للزكاة، ولا متى تُخرَج. ولما عرفنا مناسك الحج، وغيرها من تفاصيل التشريعات.

كما أنّ الإغضاء عنها وإنكارَها يُنكِر تشريعات كثيرة نعرفها منها لم تُحدّد في القرآن، من مثل تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها والمرأة وخالتها، وأنه يُحرم من الرضاع ما يُحرم من النسب. وتحريم أكل كل ذي مخلب وكل ذي ناب، وتحريم أكل الحُمُر الأهلية، وغيرها ....
وعلى هذا فالمتنادون بالاكتفاء بالقرآن، إنما حقيقتهم التنادي بإنكار الدين بالكليّة، حقيقتهم الإيمان ببعض والكفر ببعض، تماما كفعل أهل الكتاب ! يتنادون بالتفسير الهوائيّ للقرآن، وأن يبيّنوا هم مُرادَه، ويستغنوا عن بيان أعرف الناس به وبمُراد الله تعالى من معاني ومرامي تشريعاته وتوجيهاته وتربياته.

وهكذا تُنقض عُرى الدين واحدة إثر أخرى بالحرب التي تُشَنّ على السُنة بدعوى أنها تصفية الدين وتنقيته من كلام الرجال ... ! 
أوليس من نقلوا لنا السنّة هُم أنفُسُهُم من نقلوا لنا القرآن ؟؟ !!
إنهم هكذا يمشون الهُوينى نحو الطعن في القرآن ليجدوا كثيرين جدا من بني الإسلام وقد اكتفوا بالدين عنوانا ورسما، مهيَّئين  لتلقّف تهافتاتهم وتبنّيها... !

وقد صار لهذه الحرب الشرسة على الإسلام، من خلال الطعن في السنّة   دُعاةٌ هُم على أبواب جهنّم، ينفثون سمومهم في أوساط الأمة، يريدون إصابة إيمان الناس في مقتل... ! ومُتّبِعوهم أحد اثنَيْن، إما منبهر بصرعات الغرب وتفلّتاته يريد أن ينعتق من كل تكليف، فهو في مهبّ ريح كلّ مَن يروم أن يفسد عليه دينَه، سريعا ما يجعله قُدْوتَه وداعيتَه المجدّد المستنير، المنفتح، ومرجعه الذي يستمدّ منه أحكامَه وتشريعاته الهوائية الخفيفة التي تجعله يطمئنّ إلى ابتعادٍ منه عن الدين ونبذٍ له مقنّع، لا يَصِمُه في قرارة نفسه ولا بين الناس بالكفر والارتداد، وإما مُتشكّك يقضي وقتَه بين الشكوك والتشكيكات والطعون والتقوّلات، فيتشرّبها  ليزداد بها بُعدا على بُعد،  ولو أنه قضاه باحثا في دينه، وفي أصوله وفروعه، وفي التعرّف إلى حياة مجتمع كان الرسول قائدَه والصحابة أفرادَه، تحقّقت به حركة القرآن على الأرض وفعل القرآن في الأرض، ليكون المثال المُحتذى والأثر المُقتفى عبر العصور والأزمان، لوجد الجواب الشافي والغذاء الكافي لعقله وقلبه على السواء... !

وقد تنبّأ صلى الله عليه وسلم بهؤلاء وبما يتقوّلون في قوله : "يوشِكُ الرَّجلُ متَّكئًا علَى أريكتِهِ يحدَّثُ بحديثٍ من حديثي فيقولُ بينَنا وبينَكُم كتابُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ما وجَدنا فيهِ من حلالٍ استحلَلناهُ وما وجدنا فيهِ من حرامٍ حرَّمناهُ ألَّا وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مثلُ ما حرَّمَ اللَّهُ" –صحيح ابن ماجه-

وإنه فوق الآيات الكثيرة التي فيها الدعوة الواضحة البيّنة لطاعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، آياتٌ كثيرة أخرى فيها إقرار الله تعالى لأمرٍ كان من رسوله صلى الله عليه وسلم، أمضاه فيمَن حوله، وأطاعوه فيه ولم يكن قرآنا نازلا ...تماما كحال الآية السابقة لآيتنا هذه (آية06) والتي أقرّ الله سبحانه فيها أمرَ نبيّه، بل جاء بيان أنه :"فبإذن الله"   وزيدَ عليه بالدعوة هنا إلى الأخذ بما آتاه وإلى الانتهاء عما نهى عنه ...

وإنني في عَرض ما أخطّ من تدبّر في الآيات أقف عندها، وأحاول تبيين ما حوتْ من إقرار وتصديق إلهيَّيْن لأمرٍ يُمضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الوَحْيُ من الوحي وإن لم يكن قرآنا. وحْيُ الله إلى نبيّه ببيان القرآن، من شرح أو تفصيل أو تخصيص  : "...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " –النحل: من الآية44-

وقد ذُيّلت هذه الآية التي حوتْ هذه الدعوة الواضحة لطاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عن نهيه بقوله تعالى:
"... وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"
تقوى الله، اتقاء غضبه وسخطه بالانصياع لأوامره والانتهاء عن نواهيه، وقد قيل : "التقوى أن يجدك الله حيث أمرك، وألا يجدك حيث نهاك".

والدعوة إلى تقوى الله تعالى بعد الدعوة إلى الائتمار بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عن نهيه، مزيد بيان لحقيقة أنّ  طاعته من طاعة الله تعالى، وأن أمرَه من أمر الله تعالى .

وعلى هذا يكون قد اجتمع  في تأييد أنّ أمره من أمر الله سبحانه، وأنه سبحانه يُقرّه منه وإن لم ينزل به قرآنٌ، دلالاتٌ ثلاث هي :
1-   "فبإذن الله" (من الآية 05)
2-   "مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا"(من الآية07)
3- الدعوة إلى تقوى الله وتذكيره بشديد عقابه، مقترنة بالدعوة إلى طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عن نهيه.(من الآية07).

وفيما يلي توضيح تخطيطي :


وهكذا تكون الآية الأخيرة(07) قد بيّنت مصارف الفيْء من باقي القرى عدا بني النضير، ثم تأتي الآيات الثلاث الموالية لتفصّل في مصارفه :

"لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(08)وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(09)وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(10)"

إنه الفيء الذي خَصَّ به الله سبحانه رسولَه صلى الله عليه وسلم، فأعطاه الحقّ في صرفِه حسبما  يرى من حاجة في أمّته، بخلاف الغنائم التي حدّد الله صرف أربعة أخماس منها للمقاتلة، بينما جعل الخُمُس المتبقي خمسة أقسام، لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولقرابته، ولليتامى والمساكين وابن السبيل.

ولنتأمّل أمر الفيء أيضا، وكيف أنّ تخصيص الله نبيّه به لم يكن تخصيص عطاء وتملّك كامل، بل كان تخصيص تصرّف في صرفه، يخوّل له توجيهه لمن يرى فيهم الحاجة له، مع شيء منه يذهب له ولقرابته خاصة ...فيُصرف منه لـ :
1- الفقراء المهاجرين.
2- الأنصار
3- الذين جاؤوا من بعد المهاجرين والأنصار.

 ولم تأتِ الآيات على ذكرٍ لهم مجرّد، بل قد بيّن الله سبحانه فيها خصائصهم وميزاتهم وما خصّهم به من وصف.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

1-"لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"

لفقراء المهاجرين الذين أُخرِجوا، أخرجهم الكفار من ذوي قرابتهم ورحِمِهم، وبني عمومتهم، من ديارهم وأموالهم، جرّدوهم من أملاكهم وديارهم واستولوا عليها، واضطروهم للخروج بلا شيء ... فلكأنّ الواحد منهم ما سعى، وما بنى، وما ملك، وما كان له  من حطام الدنيا من شيء ... !

بينما قد كان  لهم من كل ذلك، ولكنهم تركوه خلفهم، وما أبهوا له، وما استثقلوا أن يخرجوا بلا شيء.... ما استصعبوا ذهابه كلّه عنهم، وخروجهم أصفار الأيدي. كلّ ذلك يصف الله مبتغاهم  منه بقوله سبحانه : " يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ".

لقد بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفسَهم بالقرآن، بنى صروحا للعقيدة شمّاء هي بوزن الجبال الرواسي فيهم، عقيدة في الله تعالى أنه سبحانه العظيم الواحد الأحد، أنه الذي يُبتَغى منه الفضل، وفي سبيله وفي سبيل توحيده وتحقيق العبودية له وحده، خرجوا يبتغون الفضل منه وحده ... خرجوا في سبيل الدعوة، وفي سبيل إعلاء كلمة الحق ... !

خرجوا مصرّين على اعتقادهم، لا يَهُزّ تلك الجبال الرواسي فيهم تجريدٌ من مال، أو إخراج من ديار ...كل ذلك في أعينهم هان، وقد عرفوا للمَلِكِ سبحانه حقّ قدره، وعرفوا أنّ دنيا متفتَّحة الزهرات بآلهة كثيرة هي الموت في صورة حياة... !  وأنما الحياة حقا ونبضا هي بتوحيد الخالق المستحقّ للعبادة وحده ... ! ألا حياةٌ تُباع فأشتري بكل ما أملك، ولا أني ... !

خرجوا وهم العُراة الحُفاة، الفقراء من بعد ما كانوا أهل مال وأعمال، وديار وأراض ... خرجوا من حياة كانت لهم في تلك الديار، هي حياة الإنسان المتقلّب بين أدوار الحياة سعيا واسترزاقا...

هاجروا من مكة إلى المدينة أرسالا من بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالهجرة، فكانت قريش تتتبّعهم، وتنتهج معهم طرقا في صدّهم عن سبيلهم...  ففرّقت بين الرجل وأهله، كما كان ذلك منها مع أبي سلمة بن عبد الأسد وزوجه أم سلمة، حينما تفطّن أصهارُه لخروجهما بابنَيْهما مهاجرَيْن في سبيل الله، ففرّقوا بينه وبين زوجه وابنه، وغضب آل أبي سلمة فائتمروا بينهم أن يأخذوا من أم سلمة ولدَها، فتجاذبوه بينهم حتى خلعوا يدَه.  ولكنّ ذلك لم يفُتّ في عضد أبي سلمة، ولم يفلّ من عزمِه، بل مضى إلى المدينة، وبقيت أم سلمة حبيسة أهلها عاما كاملا، تخرج في كل غداة تبكي حتى تُمسي، حتى مَنَّ الله عليها بمن كلّم القومَ في شأنها، فسرّحوها، واسترجعت ابنَها من عصبته، وهاجرت به تقطع الفيافي والقفار مسافة خمس مئة كيلومتر، بين شواهق الجبال ومهالك الأودية وليس معها أحد إلا الله ، حتى إذا كانت بالتنعيم، لقِيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وقد قيّضه الله لها ليبلّغها مأمنها، فكانت تقول رضي الله عنها : "والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط أكرم من عثمان بن طلحة."

كما كان الكفّار يتصدّون لصاحب المال منهم إذا فطنوا لخروجه ليُجرّدوه من  ماله، مثلما فعلوا بصهيب بن سنان الرومي، قالوا له: أتيْتَنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالُك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالِك ونفسك! والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلتُ لكم مالي، أتُخَلّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ربِح صُهيب، ربح صهيب"، وفيه نزل قول الله تعالى : "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ(207)" -البقرة-.

كما أسروا وحبسوا منهم مَن حبسوا، وهم يرومون فتنتَهم عن دينهم ...
 
هكذا أُخرِج المهاجرون من ديارهم وأموالهم، وهكذا كانوا يرون للحياة معنى في حياة الدين، فكان هواءَهم الذي يتنفّسون، وكان ماءَهُم الذي يشربون، وكان غذاءَهم الذي تقوم به أصلاب وأعوادُ أرواحهم الخفّاقة في دنيا جديدة كل الجِدّة... !

دنيا لا تعرف قريش سِرَّ الحياة فيها، ولا تفهم معنى أنها التي تُبقيهم رغم إرادتها فناءَهم، وتُعليهم رغم إرادتها حطّهم وإرداءَهم... ! 
لم تكن قريش تفهم معنى الاعتقاد في الله الواحد العظيم... ! فقد فاتها أن تسمع أو تعقل، فاتها ما لم يَفُتْهُم إذ لم يستكبروا ولم يُعاندوا، ففتحوا أبواب عقولهم وما أوصدوها... ! وبقيت هي تُدندِن بعنادٍ فارغ وبكبرياء خرقاء : هذا ما ألفينا عليه آباءَنا ...هذا ما ألفينا عليه آباءنا... !

 لم تكن تفهم معنى ابتغائهم الفضل من الله الواحد الأحد الفرد الصمد، وهي على كثرة آلهتها حَيْرى، تتخبّط،  تحسب أنّ أدوات دنيا المادة قادرة على أدوات دنيا الروح المعلّقة بالذي نفخها في عبده مؤمنا مصدّقا، قد بَنَتْه مكّة بقرآنها صرحا شامخا، لبناتُه العقيدة، وأعلتْه طَوْدا أشمّا عظيما راسخا ضاربا بأوتاده في أعماق معنى الوجود والغاية من الوجود... !

"يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..."

هاجروا أرسالا، وقد باعوا الدنيا، وطلّقوها، يبتغون من الله فضلا ورضوانا ... "وعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّي لِتَرْضَى"... بلغوا من القوة أن لم يعودوا يسترضون الكُبراء ليَرضُوا عنهم، وليتركوهم وشأنهم، وليأمنوا جبروتَهم، وسطوتَهم، ويدَ سلطانهم الباطشة ... !  لم يعودوا يُدْهنون صاحب مال وبنين، عُتُلّ زنيم، يقضي بماله كُلَّ مآربه، ويتسلط به على الضعفاء ... !

فخرج بلال الحبشيّ  العبد المملوك، الذي أتعب سيّدَه وجالِده بسياطه اللاذعة ليعود عما اعتنق، وعما اعتقد ... ! ذاك الذي ثبت وهو تحت لذع السياط وثقل الحجر في رمضاء الصحراء القاتلة، يغتذي ويرتوي بـ: "أَحَد ... أَحَد... أَحَد ... أَحَد " ... !

خرج لا يلوي على شيء، وقد قوِي بالتوحيد، ولم يعُد يرى العبودية لغير الأحد ... ! ولم يعد يرنو لغير رضى الواحد الأحد ... !
وخرج عمّار بن ياسر، وقد قتلوا أباه وأمّه، ولكنه الذي تشرّف بوعد رسول الله لهم على صبرهم بالجنة : "صَبرًا آلَ ياسِرٍ؛ فإنَّ مَوعِدَكم الجنَّةُ."... وخرج خبّاب بن الأرت  الذي روى مما أنزلته به سيدتُه أم أنمار ومَن معها : "لقد رأيتُني يوما أخذوني فأوقدوا لي نارا ثم سلقوني بها، ثم وضع رَجُل رِجْله على صدري، فما اتّقيتُ برد الأرض إلا بظهري". ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد برِص، وقد كانوا يوقدون له نارا ما يطفئها إلا وَدَك ظهره،( أي شحم ظهره ).

وخرج أبو بكر وحمزة وعمر وعثمان وعلي، وعبد الرحمان بن عوف، والزبير بن العوام  ...وكانوا سادة في قومهم مُهابين، خرجوا والعبيد والفقراء  منهم إخوةً متحابّين، على اعتقاد واحد، وكلّهم بالعقيدة ذلك الأشمّ الراسخ... ! خرجوا ولا فرق بين غنيّ بينهم وفقير، ولا أبيض ولا أسود ... خرجوا وعمر يقول يصف إعتاق أبي بكر لبلال بقوله : "سيّدنا أعتق سيّدنا" ... !

وتزيد الآية  : "...وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"

حملوا على أكتافهم نصر الرسالة والرسول، فكانوا لها، وزيادة ...
كانت أحبَّ إليهم من ديارهم، وعيالهم، وأموالهم، فما وادّوا مَنْ حادّ الله ورسوله، وإن كانوا آباءهم، أو أبناءهم أو إخوانهم، أو عشيرتهم .... !     

وهي ذي "المجادِلة" في طريقي تُلقي بظلالها من جديد .... !
سبحانك ربي !!   إنني لا أعمَد إليها فآتي بها، بل هي التي تأتيني وأنا في رحاب هذه المعاني، تأتيني بمعانيها، تُصَبُّ صبّا على هذا النموذج الحيّ من رجال حملوا الدين على أكتافهم حملا... فإذا مقدّماتها التي كانت قبل "الحشر" حاملة لصفات هؤلاء الموادّين لله ورسوله، المحادّين لمن حادّ الله ورسوله ... هم أولاء المهاجرون على رأسهم مثالا حيّا أوّلا ...

إنهم هُم هُم... المُخرَجون من ديارهم، والمُجرّدون من أموالهم،  الذين سينقلبون بعد زمن قصير الفُرسان الأشاوس، الذائدين عن حياض الدعوة والدين، المفتدين له بأرواحهم ...هُم هُم أنفسهم، أولئك المُطرَّدُون، المُخرَجون سيحاربون، وسيَغزون، وسيظْفَرون... ! وقد كتب الله الإيمان في قلوبهم بما قدّموا، و أيّدهم بروح منه، فكان الروح التي بها حيُوا... !  ... !

هؤلاء الأفذاذ السابقون الأوّلون، يختم الله سبحانه الآية بوصف جامع لخصالهم الفذّة :  "أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"
ومَن ذا يصفهم بالصادقين ؟ ! إنه الله سبحانه جلَّ في عُلاه، عالم الغيب والشهادة، العليم الخبير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، العليم سبحانه بالنوايا والدواخل ... إنهم الصادقون ... !
طوبَى لهم فطوبى ثم طوبى لهم فطوبى ... !

يُخرَجُون من ديارهم وأموالهم عُراة حُفاة، وهم الميمّمون شطر دار هجرة لم يعرفوها، ولم يألفوها، وليس لهم فيها من قرابة ولا أهل ولا ديار ولا مال،  صَوْب أرضٍ جعلها الله تعالى  مُهاجَرَ نبيّه.

يُخرَجون مؤتمِرين بأمر الله ورسوله ...فكانوا الصادقين، وأيّ شهادة عظيمة هي للمهاجرين من ربّ العزة سبحانه بصدقهم ... !
صدقوا الله فصدقهم الله ... خرجوا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وخرجوا نصرةً لله ورسوله، والصدق منطلقهم، وأصل فعلهم...
وها هنا لي وقفة ثانية هي أختُ وقفة لي أولى، كانت في شأن ما قطع الصحابة من نخيل بني النضير وما تركوا منها، حيث عرفنا إقرار الله تعالى لأمرٍ كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بقطعها لم ينزل فيه قرآن، وكيف كانت طاعة الصحابة لأمره، وكيف يؤكّد الله في تلك الآية على صحّته وأنه وإن لم ينزل فيه قرآن، فإنه بإذن الله كان ... وأردتُ بها الطاعنين في السُنّة والمشكّكين فيها وفي ناقليها، والمتنادين بتركها والاستغناء عنها، وأنّها لا تعني المؤمن في شيء وعنده القرآن .

وهذه الوقفات مني –كما أسلفتُ- ليست لبيان أمرٍ من الله سبحانه للمؤمنين بطاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبيان وجوب اتباعه، وأن طاعته من طاعة الله، فتلك آيات كثيرة في القرآن بَيّنٌ وجليٌّ فيها الأمر من الله بطاعة أمر رسوله، ولكنني أقف مع آياتٍ فيها التدليل الضمنيّ على سَبق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرٍ بين الأوامر يوجِّهه لأصحابه، فيطيعونه وما من آية نزلت به... آيات فيها الدليل على إمضاء أمره فيهم من غير قرآن، والقرآن بعد إمضائه وانقضاء الحدث يأتي بخبره وفيه الإقرار بصحّة ما كان منه صلى الله عليه وسلم، وأنّما هو منه الائتمار بأمر الله، ليس عبر آية قرآنية، بل عبر أمر له من الله هو الوحي مع الوحي، هو الوحي مع القرآن، وما ذلك إلا سُنّته صلى الله عليه وسلم بأفعالها وأقوالها وتقريراتها ...

أقف في عَرض هذه السورة، للمرة الثانية، مع هذه الآية التي تصف المهاجرين وصدقهم ... فيسميهم الله سبحانه : "المهاجرين"
وليس هذا وحده مقام ذكر المهاجرين في القرآن، بل قد ذكرهم الله تعالى في مواضع أخرى منه عديدة،  ولكن السؤال للطاعنين في السنة ولمُنكريها...  أين كان الأمر من الله تعالى للمؤمنين، أو لنبيّه في القرآن الكريم  بالهجرة، وأين كان منه سبحانه الأمر لهم بالهجرة إلى المدينة المنوّرة تحديدا ؟ !

أقول لهم، وطائفة منهم يدّعون أنهم المستمسكون بالقرآن وحده، وأنّ فيه الكفاية، حتى سَمّوا أنفسهم "القرآنيين" ... إنكم لتقرؤون الآيات التي فيها ذكر المهاجرين، وإنكم لتُقِرّون وتفهمون أنهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة تحديدا، لا تُنكِرون ذلك، وليس لكم منه مَهرَب ! فبالله عليكم ...من أين جاءكم الخبر بأنها المدينة ؟ ومِن أين أقررتُم وصدقتُم أنها المدينة، وأنه عندكم من المفروغ منه ؟ !

هاتوا الآية التي جاء فيها الأمر من الله بخروج الصحابة وبخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة تحديدا، إلى يثرب ...
أليس يكفيكم القرآن ...؟ !  فكيف اعتمدتم على غيره وأنتم تُقرّون لهم بالخروج، وبالهجرة، وبأن المدينة مهاجَرُهم ...؟ !
أما نحن معشَرَ القرآنيين على الحقيقة، بطاعتنا لأوامر الله تعالى لنا في القرآن بطاعة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم :" وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا" .  فما من مشكلة في فهمنا أنهم المهاجرون من مكة إلى المدينة، لأننا نستقي خبَرَها وأنها مهاجَرَهم من السُنّة ... تلك التي جاء فيها إذن الله تعالى للمؤمنين بالخروج، وإذن الله تعالى لنبيّه بالخروج ...

قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بيْنَ لَابَتَيْنِ»، وَهُما الحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَن هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذلكَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وَرَجَعَ إلى المَدِينَةِ بَعْضُ مَن كانَ هَاجَرَ إلى أَرْضِ الحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقالَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ، فإنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي»، قالَ أَبُو بَكْرٍ: هلْ تَرْجُو ذلكَ بأَبِي أَنْتَ؟ قالَ: «نَعَمْ». –صحيح البخاري-

هكذا أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة، من بعد ما أراه ربُّه دارها، ولم ينزل عليه في الإذن قرآن ...
وقال صلى الله عليه وسلم أيضا : "المدينةُ قُبَّةُ الإسلامِ ودارُ الإيمانِ وأرضُ الهِجرةِ ومُبوَّأُ الحلالِ والحَرامِ "

ثم كان الإذنُ الخاصّ له بالهجرة بمعيّة صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ونعرف ذلك في الحديث أعلاه، وهو صلى الله عليه وسلم  يلوّح لأبي بكر بانتظاره للإذن الخاص به ... وجاءه الإذن فعلا،  وهاجر وصاحبه إلى المدينة بعد خروج كل أصحابه إليها .
وهكذا وصف الله سبحانه هذه الفئة التي أخرِجت من ديارها وأموالها، تبتغي فضلا من الله ورضوانا، وتنصر الله ورسوله، بالصادقين، وكأنّما "الصدق" وصف عَلَم عليهم ...

خصّصهم الله تعالى بجعلهم أهلا للفيء الذي يفيئه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لمكانتهم التي تنبض بها هذه الكلمات  من جهة، ولحاجتهم الشديدة لهذا العطاء من بعد ما أُخرِجوا من كل ما ملكوا ... فكان هذا فضلا من الفضل الذي خرجوا يبتغونه من الله سبحانه ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ونمضي مع الآيات ...وهذه فئة أخرى، شقيقة للأولى، يخصّها الله أيضا بقسمة من الفيء :

2-"وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(09)" .

إنّ ملامح الأنصار العظماء لَتُسفِر من هذه الأوصاف... الأنصار الذين نصروا الدين، وأعزّوه، ومنعوا الرّسول والرسالة... الأنصار الذين كانوا نسمات طيّبات هبّت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دعوته تبشّره بمعيّة الله له، وبالنصر والعزّة  والمَكنة ...

فكان أول وصف لهم في الآية الشريفة :

"وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ..."

و تبوَّأ المكانَ، وتبوَّأ بالمكان: توطَّنه ونزله وأقام به .
فقد توطنوا الدار والإيمان ... أقاموا بها وكانت مستقرَّهُم، يثرب تلك الأرض الحاضنة للرسالة وللرسول ...
وجاء "الإيمان" هنا معطوفا على "الدّار" وكأنهم قد اتخذوا الإيمان دارا لهم، ومستقرّا مع ديارهم، وأميل إلى كونه تشبيها للإِيمان بالمَنْزل، فكان بمثابة الأرض التي استوطنوها واستقرّوا بها ... فهو مع الأرض مستقرّهم ومستوطنُهم ...

ويحضرني ها هنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف المدينة المنورة: " إنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ إلى المَدِينَةِ كما تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحْرِهَا. " –صحيح البخاري-

أي أنّ الإيمان لَيَلجأ إلى المدينة لجوء الحيّة إلى جحرها كلما داهمها خطر... تدليلا على أنها الأرض الحاضنة للإيمان، وأنها التي نصر أهلها الدينَ ودافعوا عنه، وكانوا عند عهودهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمنعه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ...

لقد بدؤوا ستة لاقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحج من العام الحادي عشر للبعثة، وكان دَيْدَنُه في تلك الأعوام الأخيرة من مقامه بمكة دعوة القبائل العربية في موسم الحج لنصرته ولأن يَأوُوه ويأووا الرسالة، فكانت كل قبيلة بما فيها من سادة ورجال وقوة وسلاح تأبى، وتتلكّأ، وإن هي رضيت منه شيئا جعلت تشترط أن يكون لها من الأمر ومن الحكم ما يكون إن هي آوتْه ونصرتْه...حتى يقضي الله سبحانه اللطيف الخبير، الذي يسري أمرُه، وتسري مشيئته الحكيمة سَرَيَان النسيم الرقيق والهواء اللطيف ينشر الخير من حيث يَعُدّه مَن لا نظر له ولا ثاقب أنه اللاشيء، وأنه الذي لا يأتي منه شيء ... !

يقضي سبحانه أن يلاقي صلى الله عليه وسلم ستّة من رجال يثرب، لا هُم من القادة ولا من السادة، ولا أمرَ لهم في قومهم ولا نَهيَ  باسم ريادة أو قيادة، ولا حكم لهم في سلاح ولا كُراع... فلا يتأخر صلى الله عليه وسلم وهو الواثق بربّه، وهو الذي يبلّغ عنه ويدعو إليه، لا يعنيه في ذلك أكان مدعوُّه سيّدا أو عبدا مملوكا، قبيلة أو رهطا من الناس المتصاحبين ...

فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، فاستمعوا، ووعوا، وأعجبهم ما سمعوا منه، فوعدوه أن يعودوا إلى ديارهم ويُحدّثوا قومَهم بما سمعوا منه، وأن يوافوه العام القابل  .... ويمرّ العام ... ويُوفيّ الواعدون الستة بوعدهم، ويعودون العام القابل، وهم اثنا عشر رجلا، فيبايعوه البيعة الأولى عند العقبة ...بيعة الإيمان .

يروي عُبادة بن الصامت رضي الله عنه : "إنِّي لَمِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَقالَ: بَايَعْنَاهُ علَى أَنْ لا نُشْرِكَ باللَّهِ شيئًا، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وَلَا نَنْتَهِبَ، وَلَا نَعْصِيَ، فَالْجَنَّةُ إنْ فَعَلْنَا ذلكَ، فإنْ غَشِينَا مِن ذلكَ شيئًا كانَ قَضَاءُ ذلكَ إلى اللَّهِ." –صحيح مسلم-

لقد عادوا كما وعدوا... ثم زادوا فبايعوه، وعَدُوه أن يجسّدوا الإيمان فعلا وحركة من أنفسهم، فيُخلّوها من الجاهلية التي جثمت على صدورهم دهورا، وقد كانت المدينة مسرحا للتقاتل والتناحر بين الأوس والخزرج، فأنهكتهم الحروب، وأخذت منهم كل مأخذ ...
وولّوا إلى ديارهم عاما كاملا...

يروي في شأن الأنصار جابر بن عبد الله فيقول:
" مَكث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمكَّةَ سَبْعَ سِنينَ يتتبَّعُ النَّاسَ في منازلِهم بعُكاظٍ ومَجَنَّةَ والمواسمِ بمنًى يقولُ : ( مَن يُؤويني وينصُرُني حتَّى أُبلِّغَ رسالاتِ ربِّي ) ؟ حتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيخرُجُ مِن اليَمنِ أو مِن مِصْرَ فيأتيه قومُه فيقولونَ : احذَرْ غُلامَ قريشٍ لا يفتِنْك، ويمشي بيْنَ رِحالِهم وهم يُشيرونَ إليه بالأصابعِ حتَّى بعَثَنا اللهُ مِن يَثرِبَ فآوَيْناه وصدَّقْناه فيخرُجُ الرَّجُلُ منَّا ويُؤمِنُ به ويُقرِئُه القرآنَ وينقلِبُ إلى أهلِه فيُسلِمونَ بإسلامِه حتَّى لم يَبْقَ دارٌ مِن دُورِ الأنصارِ إلَّا فيها رَهْطٌ مِن المُسلِمينَ يُظهِرونَ الإسلامَ ..." –صحيح ابن حبّان-

وتنمو بذرة الإيمان في الأنصار، ويقوى عودُها ... ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ في مكة ... وإنّ مشيئة الله سبحانه لتعمل عملَها في تلك الأرض التي تبوّأها أهلها مع الإيمان دارا ومستقرّا، لنجد الله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية التي تصف لنا الأنصار :

"وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ..."

" مِن قَبْلِهِمْ "  تبوؤوها من قبل المهاجرين... تهيأت يثرب بالأنصار المبايعين، وبمصعب رضي الله عنهم، لتتنوّر بنور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مهاجرين إليها ... تهيأت بالإيمان من قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ... !

تهيأت دار الإيمان، ومبوّؤه لاحتضان الرسالة والرسول ... !

وها هو العام الحاسم ... عام بعد بيعة العقبة الأولى، يعود الرجال أهل الوفاء بالوعود، أهل الإيمان، وأهل دار الإيمان ...  يعودون بعدد أكبر، وقد أجمعوا أمرَهم على الخطوة الحاسمة، على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أخذه معهم، لتكون المدينة حِماه وحِمى الإسلام ...

يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه :" ثمَّ إنَّا اجتمَعْنا فقُلْنا : حتَّى متى نترُكُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُطرَدُ في جبالِ مكَّةَ ويخافُ . فرحَل إليه منَّا سبعونَ رجُلًا حتَّى قدِموا عليه في المَوسِمِ فواعَدْناه بَيْعةَ العَقبةِ فاجتمَعْنا عندَها مِن رجُلٍ ورجُلَيْنِ حتَّى توافَيْنا فقُلْنا : يا رسولَ اللهِ علامَ نُبايِعُك ؟ قال : ( تُبايِعُوني على السَّمعِ والطَّاعةِ في النَّشاطِ والكسَلِ والنَّفقةِ في العُسرِ واليُسرِ وعلى الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ وأنْ يقولَها لا يُبالي في اللهِ لَومةَ لائمٍ وعلى أنْ تنصُرُوني وتمنَعوني إذا قدِمْتُ عليكم ممَّا تمنَعونَ منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءَكم ولكم الجنَّةُ ) فقُمْنا إليه فبايَعْناه وأخَذ بيدِه أسعدُ بنُ زُرارةَ وهو مِن أصغَرِهم فقال : رُويدًا يا أهلَ يَثرِبَ فإنَّا لم نضرِبْ أكبادَ الإبلِ إلَّا ونحنُ نعلَمُ أنَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنْ إخراجَه اليومَ منازعةُ العرَبِ كافَّةً وقَتْلُ خيارِكم وأنْ تعَضَّكم السُّيوفُ فإمَّا أنْ تصبِروا على ذلك وأجرُكم على اللهِ وإمَّا أنتم تخافونَ مِن أنفسِكم جُبنًا فبيِّنوا ذلك فهو أعذَرُ لكم فقالوا : أمِطْ عنَّا فواللهِ لا ندَعُ هذه البَيْعةَ أبدًا فقُمْنا إليه فبايَعْناه فأخَذ علينا وشرَط أنْ يُعطيَنا على ذلك الجنَّةَ ". –صحيح ابن حبّان-

وهكذا...  كانت بيعة العقبة الثانية ... وكان القرار الحاسم الذي لا رجعة فيه، وقد بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ليعلّمهم دينهم ... فجعل رضي الله عنه، ينتقل بين الرجل والرجل، والقبيلة والقبيلة، داعيا إياهم إلى الله ورسوله، يؤازره في ذلك الأنصار المبايعون لرسول الله،  فكانوا يستجيبون لدعوته، وكان الإيمان ينير دُور الأنصار ... وعددهم يزداد يوما بعد يوم ...وهكذا أزهرت بذرة الإيمان، وهكذا امتدّ نسيم الستة  الأُوَل ليصبح ائتمار سبعين بالمبايعة على أن يمنعوا الرسالة والرسول، غير مبالين في ذلك بهلكة أشرافهم وأموالهم ...

إنهم الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، من قبل المهاجرين ... فتهيأت بهم المدينة لاستقبال القائد العظيم صلى الله عليه وسلم، ولاستقبال صحابته المهاجرين الأشراف رضي الله عنهم جميعا ...

فكان الإذْنُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالخروج إلى المدينة، فخرجوا أرسالا كما عرفنا ...

وهذه أوصافهم تترا في هذه الآية الكريمة :
"...يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"

يحبّون مَن هاجر إليهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الوصف وحْدَهُ منظومة عظيمة تجتمع فيها مشاعر التآخي، والتوادّ والتراحم، والتضحية والتبجيل والتقدير ...
فهم أولاء المهاجرون وهُم مقبلون على مَن يحبّونهم، فلا يستكثرون أن يساكنوهم أرضَهم، ولا أن يشاركوهم أعمالهم... بل لقد أظهر الأنصار من مظاهر هذا الحُبّ ما تقْصُر عنه قصص الحبّ والتضحيات الخيالية التي سطَّرتْ لها في تاريخ المحبّين والمتحابّين معالم ونوادر وأعاجيب ... !

لقد قاسموهم دُورَهُم، وأموالهم، بل وحتى زوجاتهم من بعد ما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فجعل بذلك الأخوّة في الله أعلى من رابطة النّسب والوطن، وسُمِّي لكلّ واحد من المهاجرين أخوه من الأنصار.

وقد تجسّدت هذه المؤاخاة عملا على الأرض، أعطى به المتآخون أمثلة رائعة في المواساة والتآزر، ملأت المجتمع الجديد وميّزته، حتى أن الأنصار كانوا يتنافسون في إيواء المهاجرين واحتضانهم، بل قد كانوا يتقرّعون فيهم بالسُّهْمَان . كما أعلنوا أنهم يَهَبُون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كُلّ فضل من أرض بلدهم، بل قالوا له : "إن شئت فخذ منازلنا"، فقال صلى الله عليه وسلم  خيرا، وخطّ لأصحابه في كل أرض ليست لأحد أو موهوبة من الأنصار.

فهذا سعد بن الربيع وهو أكثر الأنصار مالا، لا يستنكف أن يعرض على أخيه المهاجريّ عبد الرحمان بن عوف دارَه وماله، بل ومَن يختار من زوجَتَيْه  ... ! وقد جاء عن سعد بن الربيع أنه قال لعبد الرحمان بن عوف رضي الله عنهما: " إنِّي أكْثَرُ الأنْصَارِ مَالًا، فأقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ، ولِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أعْجَبَهُما إلَيْكَ فَسَمِّهَا لي أُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا، قالَ: بَارَكَ اللَّهُ لكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ، أيْنَ سُوقُكُمْ؟ فَدَلُّوهُ علَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَما انْقَلَبَ إلَّا ومعهُ فَضْلٌ مِن أقِطٍ وسَمْنٍ، ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ، ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا وبِهِ أثَرُ صُفْرَةٍ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَهْيَمْ، قالَ: تَزَوَّجْتُ..." –صحيح البخاري-

إنه الحبّ الحقيقيّ  الذي لا ينحبس في إطار الكلمات المنمّقات، والتعابير الرنّانة، بل هو المجسَّد فعلا على الأرض ... العطاء، التضحية، الإقبال على الإسلام إقبالا كُليّا من خلال إقبالهم على هؤلاء المسلمين الأوّلين السابقين ... يتنسّمون منهم نفحات السَّبق، ويستلهمون منهم سمات الصّدق، وهم يُكبرون فيهم أنهم أول من صدّق واعتنق الحقّ ...عرفوا أنهم كما وصفهم ربُّهم : "أولئك هم الصادقون"... !

وتزيد الآية على الجمال جمالا :

"...وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ..."

لا يجدون في أنفسهم مما يُؤتَى المهاجرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عرفنا إيتاءَه إيّاهم من فَيْء بني النضير دون الأنصار، إلا مِن أنصارِيَّين فقيرَيْن آتاهُما مع المهاجرين...
لا يحملون في أنفسهم مما يُؤتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأعلم بذي الحاجة فيهم، وهو صلى الله عليه وسلم دائما ما يفكّر برفع مُؤنتهم عن الأنصار، فآتاهم دون الأنصار من فَيْء بني النضير ...

إنه الحبّ منهم لإخوانهم المهاجرين المتحقّق على أرض الواقع رحابةً في الصدور، وحبّا لخيرهم ونفعهم كما تحبّ النفس لنفسها ...بل يزيد الله تعالى في وصفهم بما هو أعلى من هذا :

"... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ"

يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة... !
يا الله... ! أيّ حبّ هذا ؟ !
إنك لتفتقده بين إخوة الرَّحِم، وتجده بين هؤلاء المتحابّين الذين رصّعوا جبين الإسلام بدُرَر أعمالهم وفضائلهم، ووَشّوا تاريخه بصِدق قلوبهم، وعطاءات أنفسهم ... !

ويُروى في الصحيح عن إيثارهم إياهم على أنفسهم، فيما كان منهم في شأن خَراج بلاد البحرين . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " دَعَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الأنْصَارَ لِيَكْتُبَ لهمْ بالبَحْرَيْنِ، فَقالوا: لا واللَّهِ حتَّى تَكْتُبَ لِإِخْوَانِنَا مِن قُرَيْشٍ بمِثْلِهَا، فَقَالَ: ذَاكَ لهمْ ما شَاءَ اللَّهُ علَى ذلكَ، يقولونَ له..." –صحيح البخاري-

" لا واللَّهِ حتَّى تَكْتُبَ لِإِخْوَانِنَا مِن قُرَيْشٍ بمِثْلِهَا"...  لا نأخذها، ولا تطيب بها أنفسنا حتى يأخذ منها المهاجرون ... !
هكذا كانت الأخوّة العظيمة بين المهاجرين والأنصار، عِمادُها الحُبّ، وصفاء النفوس من أكدار الحسد والكُرْه والغيرة والحقد ... كان حُبّا عظيما تجلّى في أعلى درجات العطاء من النفس ...
 
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " أَتَى رَجُلٌ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أصَابَنِي الجَهْدُ، فأرْسَلَ إلى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شيئًا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ألَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هذِه اللَّيْلَةَ، يَرْحَمُهُ اللَّهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ فَقالَ: أنَا يا رَسولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إلى أهْلِهِ، فَقالَ لِامْرَأَتِهِ: ضَيْفُ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا تَدَّخِرِيهِ شيئًا، قالَتْ: واللَّهِ ما عِندِي إلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ، قالَ: فَإِذَا أرَادَ الصِّبْيَةُ العَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ، وتَعَالَيْ فأطْفِئِي السِّرَاجَ ونَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: لقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ - أوْ ضَحِكَ - مِن فُلَانٍ وفُلَانَةَ فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَيُؤْثِرُونَ علَى أنْفُسِهِمْ ولو كانَ بهِمْ خَصَاصَةٌ "-صحيح البخاري-

هكذا كان فعل رجل من الأنصار، وهكذا نزل هذا الوصف من الله فيهم...
وتُختم الآية بتوجيه ربانيّ وبفضيلة كان الأنصار منبعا لها، ومُنطلقا لتعميمها على الناس تزكيةً وترقية :

"...وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"

وقد قال الله سبحانه في الشحّ : " وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ  ". إذ هو صفة ملازمة للإنسان، جُبِل عليها. والفرق بينها وبين البخل -كما أشار إلى ذلك الزمخشري في الكشاف- أنّ البُخل أثر الشُحّ ...

وأولاء الأنصار قد وُقوا شُحّ أنفسهم، أي أنهم قد وُقُوا شرّ أصْلَ البُخل والدّاعي إليه، بلَهْ البخل ذاته !
ولنتأمل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يجتمعُ غبارٌ في سبيلِ اللَّهِ ودُخانُ جَهَنَّمَ في جوفِ عبدٍ ، ولا يجتمعُ الشُّحُّ والإيمانُ في جوفِ عبدٍ " –صحيح النسائي-

فكيف يجتمع شُحٌّ وإيمان في قلوب الأنصار، وهم الذين وصفهم الله تعالى أوَّل ما وصفهم بقوله : "تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم" ... فلكأنّ الإيمان مبوّؤُهم ومُستقَرُّهُم ومقامُ أنفسهم ... فأنّى يكون للشحّ مقامٌ في أنفس قرارُها الإيمان ...

وتُختم الآية الحاملة لخِلال سادتنا الأنصار بوصف لهم جامع :

" وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "...

وصفهم سبحانه بالمفلحين، وقد وصف المهاجرين قبلهم بالصادقين ...
أولئك صدقوا بهِجرانهم ديارهم وأموالهم وكلّ ما ملكُوا من الدنيا في سبيل الله وفي سبيل نصرته ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء وسِعَتْ صدورهم إخوانا لهم، أحبّوهم فأحبّوا لهم ما أحبّوا لأنفسهم، بل وزيادة، بما كان من وصفهم بـ : "وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم وَلَوْ كَانَ بِهِم خَصَاصَة". فكان هوانُ الدنيا في أعينهم، وذهاب استئثارهم بزينتها عُربونَ حبّ خالص لمَن سبقوهم في الإيمان، فآووهم ونصروهم، وبذلوا لهم ما ملكوا، بل وآثروهم فيما أُعطُوا، وما كانوا يرضون حتى يُعطَوا قبلَهم... !
فالتقى الصّادقون والمفلحون لنصرة الله ورسوله ... !

هم باكورة المسلمين على الأرض، وهم صَفْوَتُهُم، السابقون الأوّلون الذين تركوا ما كان عليه آباؤهم، وهجروا اعتقاد أقوامهم، ولم يقيموا عليه، وتحمّلوا أذى أقربيهم وذوي أرحامهم... عذّبوهم ونكّلوا بهم، وطرّدوهم، وشرّدوهم في سبيل دعوة جديدة تقضي أن الرَّحِم الأولى والأَوْلَى بالوصل هي رحِم العقيدة، وأنّ الأخوة إنما هي أخوة الدين، وأن الوشيجة إنما هي وشيجة الإيمان ...
فكانوا الأفذاذ الذين تحمّلوا أعباء تبليغ رسالة نقلت البشرية جمعاء نقلة كليّة من ظلمات قبعت في سراديبها  دهورا متطاولة، وألقَت بأحكام البشر المتقلّبة وأهوائهم، لتُثبّت في الأرض حُكمَ خالقها ومالكها، وخالق الإنسان وجاعله فيها خليفة ... ولقد كانوا ذاك الخليفة، لقد جسّدوا معنى الخلافة التي وكّل الله بها الإنسان ... !

خرجوا من سواد القوم وعموم الناس، والجماعة الحامية، والفصيلة الآوية خرجوا عن عاداتهم وما ألِفوا وما شبّوا عليه، إلى عدد قليل قليل تمكّنت منه العقيدة كل تمكّن، حتى تشرّبوا من قرآن الربّ الموجِد  حقيقة الوجود والغاية من إيجادهم ... فأقبلوا على الأمانة يؤدّون، وعلى الرسالة يحملون ويبلّغون، لا يستكثرون في سبيلها النفس والنفيس ...

فأما الصادقون فهجروا الدنيا وما فيها إلى الله ورسوله، وأما المفلحون، فكذلك هجروا الدنيا وهي بين أيديهم حلالٌ زُلال، واحتضنوا إخوانهم وما استكثروا في حبّهم شيئا مما يملكون، بل كانوا يؤثرونهم على أنفسهم ... وكلٌّ من الفريقَيْن وجد في الآخر رَجْع صدى نفسه ... وجد فيه الوطن والأهل والمال ...بل وجد فيه ما هو أكثر... ! وجد فيه السندَ والمعين على لأواء طريق اختارها وهو موقنٌ أنها جنّة الدنيا وجنّة الآخرة، وأنّ مفهوم الرَّحِم والأخوّة قد تبدّل من يوم ميلادهم الجديد مؤمنين ... !

الصادقون والمفلحون بعضهم أولياء بعض : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ..."-الأنفال: من الآية72-
« آخر تحرير: 2020-09-04, 09:21:01 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

لكأني بنبضهم لا يخفُت، وبأنفاسهم لا تسكت، وبحبّهم العظيم لا ينتهي بانتهاء أعمارهم من الدنيا... بل هو الميثاق المشدود والعهد الممدود ... ! لكأنّي بهم مدرسة الخلود التي يتخرّج فيها خلفاء الأرض عبر العصور على سيرتهم الأولى، يقتفون أثر الصادقين وأثر المفلحين، يوقنون ألا عزّة إلا بعزّ الأوائل السابقين... ولا مجد إلا بمجد الأوائل السابقين... !

لتُطِلّ الآية من قريب وهي تُلوِّحُ لي بأنّ الذي استشعرتُ من امتداد الأخوّة، ومن عطاء الرَّحِم الولادة التي لا تعقِم، هو الكائن وهو الذي سيكون :
"وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(10)"

أجل... لا ريب ... لا بدّ لحياتهم من امتداد في الأرض... !
كان ذكر المهاجرين أولا، ثم الأنصار، فريق هاجر إلى فريق، وفريق احتضن فريقا وآواه ... وكما عرفنا فالآيات جاءت تذكرهم في سياق مَن جعل لهم الله حظا من  فيْء القرى.

ثم ها هو ذكر الخَلَف على آثار السلف، خلفٌ على آثارهم مقتدون ...
ليس اقتداء اتباع أعمى، بل هو اقتداء على بصيرة، لأنّ السابقين كانوا هُداة مهتدين، لم يكونوا ممّن حكّم الهوى ليُخاف من اتباعهم، بل كانوا ممّن هجر أحكام الأهواء، وجاهر بمعاداته لأحكام البشر، ولأهواء البشر، وحكّم حكم العليّ الأعلى سبحانه في الأرض، وائتمر بأمره، وانتهى عن نهيه، كانوا ممّن أطاعوا الله ورسوله، ونصروا الله ورسوله ... وعلى هذا هم القدوة، وعلى هذا هم المدرسة، ونحن التلاميذ لا جدال ولا مِراء ... !

هذه الفئة أيضا معنيّة بالفيء، الفيء الذي يتولى أمرَه إمام المسلمين من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
وقد جاءت أولى صفاتهم في الآية :
" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ..."

جاؤوا وفي قلوبهم محبّة للسّابقين الأولين، الذين كانوا حمَلةَ الرسالة الأُوَل، الذين استجابوا لله وللرسول في ساعات كان فيها المُعرضون عنه هم السواد الأعظم، بينما كانوا هُم قلّة تعدّها الأصابع عدّا ... فكانوا الأفذاذ وكانوا المؤمنين حقا حقا ...
هذه صفة هؤلاء ... يحملون للسابقين من المهاجرين والأنصار محبّة هي من جنس حبّ الأنصار للمهاجرين، وحبّ المهاجرين للأنصار، محبّة هي وَهَج من ذاك الوَهَج الأعلى، وقبس من ذاك النور الأسنى ...

حتى ذكروهم بحبّ فقالوا: "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ..."
رَحِمُ الإيمان، أخوّة الإيمان، وشيجة الإيمان ... عُرى لا تنحلّ، وعِقد منتظم، لا تنفرط حبّاته...
ثم زادوا فقالوا:
"وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"

هؤلاء هم الصادقون في تأسّيهم، وهم الصادقون في عِرفانهم بدور السابقين، وهم المقتفون لآثارهم، إذ هُم المُحبّون، وهم العارفون لهم حقّ قدرهم، وحقّ فضلهم على الأمّة وعلى كل مَن جاء بعدهم ...

أمّا غيرُهم ممَّن يحملون في قلوبهم غِلا للذين آمنوا، ويحملون في قلوبهم انتقاصا من حقّ قدرهم... فلا غرْوَ ليسوا أهل هذه الآية التي تعني كلّ مَن جاء بعد المهاجرين والأنصار على امتداد العصور، فتخُصّهم مع السابقين الأوّلين بالعطاء، وبالثناء، وبالإيمان.
وموجودون هُم، وتُزكِم روائحهم الكريهة أنوفَنا...تكاثرت طفيليّاتُهُم، فهم في مياه عَكِرة لشباب لا يعرف عن دينه إلا العنوان والقشور يصطادون ... فيكيلون للصحابة التُّهَم لا يتوانون، ويَطْعنون في حفظهم للسُّنة النبوية ولنقلهم لها، لا يتردّدون ... !  فهُم على آثار الرّافضة والشّيعة والفِرق المُخلخَلة الفاسدة مُقتدون، من حيث يدرون أو لا يدرون ... !

يتعلّقون بقشّات الطعن والتشكيك والاتّهام بعناوين وعناوين، منهم متكئ على أريكته، يقضِم أظافرَه وهو يَعُدّ الساعات الفارغات، ويُعِدّ طبقا من الكلمات الرنّانات، يعتدّ بنفسه من كلمات قرأها في كتاب من هنا أو كتاب من هناك... ! ينظّر للتجديد المُخرِج من الأصول، المسايِر لعصر المادة ولأهل المادة، المُنتِج لدين الخِفاف الظِّراف، الذين يتجرؤون على النصوص المقدّسة، فيَلوُون أعناقها ليقضوا بها مآرب ومآرب أخرى... !

وبالكلمات يرى نفسَه قد قدّم كما قدّم مَن باع الدنيا بأكملها لأجل دينه، ولنصرة دينه، ولتثبيت أمر ربّه في الأرض وإن كان على نفسه أو على أقرب أقربيه، فيتمطّى وهو يردّد : "ُهم رجال ونحن رجال...لا فرق" !!!
ومنهم مَن يَفجأُك وهو مستشيط منك  غضبا، ينظر إليك شَزَراً، إذا ما أثنيتَ على واحد من السابقين الأولين، العاملين، المُحبّين لله ولرسوله، فيصيح بك : "كفى تقديسا للأشخاص... ! "

يُصيّر تقديسا حُبَّك لهم الذي هو من حبّك للدين، ومن اعترافك بدورهم في تثبيت دعائمه في الأرض، ومن عِرفانك لهم بالجميل العظيم، حبّ لهم  هو نفحة وعطيّة ربانيّة في القلب تجعلك واحدا من الذين تصفهم الآية : " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ.." .
ومنهم من يحفِر ويُشمّر عن ساعد الجِدّ، وهو معتدّ بمِعْوَل الهَدْم وبِمِخيط النّقض، يبحث في جبال عمل العاملين وعلم العالمين عن حَصاةٍ ليرفعها ويُعليها عاليا وهو ينادي بشعاره الأوحد : "عَوار التراث الأصفر...عَوار التّراث الأصفر "... !

ومنهم مُتّبعٌ لكلّ ناعق من نُعّاق المستشرقين والمدلّسين الذين حَشَوا تاريخ الإسلام بما ليس فيه، فيرى في نفسه الجِهبذ الذي تفطّن إلى أنّ السلف كانوا بمَيْل أهل الحكم والسياسة يميلون، وإيّاهم يتملّقون، ليقضوا مآربهم لا مآرب الدين، مُتّخذين من السياسة والتزلّف للساسة فزّاعةً يضربون بها نَقَلَةَ الدّين من السابقين الأولين ... !!

ومنهم ومنهم ... بألوان وأشكال ... ! تعدّدت عناوينهم وحقيقتهم واحدة، حقيقة أنّهم أناس استثقلوا الدين، فما أظهروا استثقالهم له بطعنهم في نصوصه، بل بطعنهم في مَن نقله إلى البشرية ... حقيقتهم غِلّ وحقد في قلوبهم للذين سبقوهم بالإيمان، سوء تقدير لمَن شهد لهم ربُّ البريّة بالصدق والفلاح، وبأنهم أهل الرضى والرضوان... !

ويْكَأنَّ هذه الآية هي الممحّصة، وهي المصفاة التي بها يُماز المؤمن من غير المؤمن ... !
أمُحبٌّ هو لمَن سبقوه بالإيمان، وكان لهم الفضل بعد الله تعالى وبعد نبيّه صلى الله عليه وسلم في بقائه على الأرض، أم هو من المُبغضين المتوشّحين بلَبوس الآخر المُعادي للدّين، فهُم مُحبّو الآخر، الكارِهِ للإسلام، الكائد له، الحاقد عليه عبر العصور، المنبهرون به، خَدَمة أغراضه ... إنّهُم هُو ولكنّهم... بنو الجلِدة الواحدة ... !

وهكذا... وعَوْداً إلى سياق الآيات، في شأن مصارف فَيْء القُرى الذي خصّ به الله سبحانَه نبيّه صلى الله عليه وسلم -بخلاف الغنيمة التي كان له منها الخُمس بين الأخماس- .
فقد بَيَّنَ سُبْحانَه في آية جامعة (آية07) أنه لله ولرسوله وللفقراء والمساكين وذوي القربى وابن السبيل، ثم فصّل في الآيات اللاحقة، أنه للمهاجرين (آية08) وللأنصار(آية 09) ولمن جاؤوا بعدهم ويحملون حبّا وتبجيلا لمن سبقهم بالإيمان من مهاجرين وأنصار(آية 10).

فها نحن بهذا نقطف من هذه الآيات المتتاليات من الثمر نوعَيْن:

1- الفَيْءُ ومصارفُه.
2-  الحبّ المتصل الممدود بين المؤمنين المصنّفين :
     2-أ) أوائل سابقون(المهاجرون والأنصار)
    2-ب)أواخر لاحقون(الذين جاؤوا من بعدهم محبّين مُقِرّين لهم بالسَّبق والفضل،                          سليمةً صدورُهم، ليس فيها حقد ولا غلّ لهم).

وهذه الآية الأخيرة التي بَيْن أيدينا(آية10) وهي المعطوفة على سابقَتَيْها في شأن مصارف فَيْء القُرى، هي التي كانت مُستنَدَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن خلافته، فقسم بها للمسلمين اللاحقين من أراضي الفتوحات...  ذلك حينما توسّعت في عهده، وانتشر القادة والمجاهدون من أنصار ومهاجرين في الأرض ليفتحوها بالإسلام وللإسلام، ليُقِرّوا العدل، وليُعلوا كلمة التوحيد فيها... فكانت بين العُنْوة والمصالحة...

أما العُنْوَة فهي البلاد التي كانت تُفتح بالقتال من بعد إباء أهل البلاد دعوة الإسلام، وأما المصالحة فهي ما كان يُفتَح منها باستسلام أهلها دون قتال ... فكان المسلمون الفاتحون يفرضون الجِزية على مَن اختار البقاء على دينه منهم...
استند عمر على هذه الآية تحديدا (آية10) ليقضي بعدم قسمة أرض سواد العراق المفتوحة في عهده على المقاتلين، وهو ما طلبه منه الصحابة بموجب آية الغنائم التي تقضي بجعل الأخماس الأربعة للمقاتِلة(أي للفاتحين). آثر رضي الله عنه الاستغناء عن خُمُس كامل يعود له باعتباره خليفة المسلمين، على أن يخصّ أناسا بأعينهم -وإن كانوا الفاتحين- بأراضي بلاد بطولها وعرضها تُفتح للإسلام ... !

ولقد شهِد رضي الله عنه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأرض خَيْبَر على المُقاتِلة، كما شهد عدم قسمته أرض مكة، فعرف بفِقهه أنه كإمام للمسلمين مُخَيَّرٌ بين أن يقسم أو أن يترك ...
رأى رضي الله عنه ببُعد نظر، وبحكمة بالغة أن المصلحة تقتضي أن تُترك تلك الأراضي للأجيال اللاحقة من المسلمين، ولا يستأثر بها أفراد بأعينهم. مستندا إلى هذه الآية تحديدا، التي تجعل للأجيال اللاحقة من الأمّة حظا فيما يعود للمسلمين من مغانم وفَيء العدوّ ... فجعلها فيئا، قسم للاحقين منه.

وقد جاء في صحيح البخاري : "قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: لَوْلَا آخِرُ المُسْلِمِينَ، ما فَتَحْتُ قَرْيَةً إلَّا قَسَمْتُهَا بيْنَ أَهْلِهَا، كما قَسَمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَيْبَرَ. " –صحيح البخاري-

وقد ذكر القُرطبيّ أنّ عمر دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه وقال لهم: تثبّتوا الأمر وتدبّروه، ثم اغدُوا عليَّ. فلما غدَوا عليه قال: قد مررتُ بالآيات التي في سورة الحشر وتلا : { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (7) إلى قوله: { أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (8). قال: ما هي لهؤلاء فقط وتلا قوله: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ } إلى قوله: { رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(10) ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإِسلام إلا وقد دخل في ذلك .

كما جاء بإسناد صحيح عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: "قرَأَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60]، حتَّى بلَغَ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، فقالَ: هذِهِ لهؤلاءِ، ثُمَّ قرَأَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، حتَّى بلَغَ: {وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، ثُمَّ قالَ: هذِهِ لهؤلاءِ، ثُمَّ قرَأَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7]، حتَّى بلَغَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، ثُمَّ قالَ: هذِهِ استوعبَتِ المُسلِمينَ عامَّةً، فَلَئِنْ عِشْتُ، فَلَيأتيَنَّ الرَّاعيَ وهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ نصيبُهُ مِنْها لَمْ يَعْرَقْ فيها جَبينُهُ. "

أي أنّه يتحسّب بهذه الآية مَن جاء من أجيال المسلمين اللاحقة، لتأخذ من أرض الإسلام حظّها وهي مرفوعة الرأس، محفوظة ماء الوجه.

وبهذا التوزيع العادل الذي يُعطي الحاضر من الأجيال، كما يتحسّب للغائب الذي سيلحق على مرّ العصور، كان هذا التواصل بين أجيال هذه الأمة، وهذا التوحّد، وهذا النظر البعيد الذي يغرس فيه السلف ليأكل الخلف، والذي يحافظ فيه الحاضر على قسمة الغائب، ولا يستأثر بالدنيا لنفسه، ولمَن حوله فحسب.

أي أمّة على الأرض هذا امتدادها ؟ ! أي أمّة على الأرض حقّقت هذا العدل الحاضر والغائب، هذا العدل الذي يصِل الجيل بالجيل عَبْرَ وشيجة الإيمان، وأخُوّة العقيدة، عَبْر بَلْسَم الحُبّ، والتفكير بالآخَر، ليمتدّ قانون ثبوت الإيمان في قلب المؤمن بحُبّه لأخيه ما يحبّ لنفسه، لا على مستوى الأفراد المتعايشين في حقبة واحدة، بل على مستوى الامتداد، أعصارا تلو أعصار، وأجيالا تلو أجيال... !

يداً تُمَدّ من جيل سابق إلى جيل لاحق، قلبا ينبض حُبّا من جيل سابق إلى جيل لاحق، يفكّر بما ينفعه، ويترك له ما يسدّ حاجته، وما يحفظ له ماء وجهه، ويَقسِم له كما يقسم لنفسه ... ! لتمتدّ إليها يدُ الخلف، ولينبض قلبُ الخلف حُبّا، ولسانُه عِرفانا : " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ "

وهكذا... ومع هذه السلسلة الدُريّة، هذه السلسلة السَنيّة المُمِدَّة خلفا لسلف، الممتدّة خلفا عن سلف، تتجلّى غُرّة الأمم على الأرض، ويتجلّى غُرّة البشر عليها.... !
الأمة القائدة المعلّمة، المَنوط بها إصلاح الأرض، بما تملك من هُدى ربّ السماوات والأرض... بما تُحقّق مِن هَدْي القرآن عليها، وبما ترفع به رأسا فلا تخنع ولا تذِلّ ولا تَذْوي زهرتُها ... !

شاء مَن شاء وأبى مَن أبى هذه هي الأمة القائدة ! وأُولاء هُم القُدوة المُحقِّقة للحضارة الإنسانية في الأرض ... لا تلك الحضارات التي يستأسد فيها أهل المال والأعمال، فتغدو الأرض غابة، القويّ فيها يأكل الضعيف ... بل حضارة تُحقّق المساواة والعدل : "كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ" ... ! حضارة تقسِم للغائب من الأجيال مدّا للخير من أيدي السابقين لأيدي اللاحقين ... ! حضارة يُقرّ فيها الخَلَف بفضل السَّلَف، فلا يَلْعَنُ آخرُهُم أولُهُم ... !

وكان ما كان من حال الأمة اليوم، بما جنتْ عليها أيدي المسلمين المضيّعين لدورِهِم، المنتكسين، المنهزمين نفسيّا،  التّائهين في لُجَج المظاهر والظواهر ... ! البائعين مُوادّة الله ورسولِه بمُوادّة المحادّين لله ورسوله .... ! كائنا ما كان من حال...فإن هذه الحضارة العظيمة عائدة، قائمة، متى ما رفع المسلمون  بدستورهم العظيم رأسا، ومتى ما عادوا لفِقْهِ المُوادّة فأنزلوه منزِلَه، ولفِقْه المُحادّة فأنزلوه منزله، لا يخشون في الحقّ لومة لائم، ولا يخشون أن تصيبَهم الدوائر من نسْج أخيِلة الناظرين لميزان القوّة الماديّة وحدَها ... !

وهكذا تعود معنا "المجادِلة" ... فإذا سلسلة السابقين الأولين الصادقين المُفلحين، مع اللاحقين المُقِرّين بفضلهم، المُقتفين لأثرهم الوضّاء سلسلة حضارية لا تبيد ... ! أبدا لا تبيد ... !

سبحانه القائل فيهم : "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا  ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)" -التوبة-

ولقد تجلّت من هذه الآيات المتتالية(من 07 إلى 10) اللُّحْمَة الواحدة، والأمّة الواحدة، وجامِعُها "موادّة الله ورسوله" و "الحبّ والتآخي في رابطة العقيدة" و "التواصل والامتداد عبر الزمان والمكان" .

وكما جاء في الآيات التي قبلها ذكر حال بني النضير مثالا على المُحادّين لله ورسوله، بيّنا ذلك عنهم في  قوله سبحانه من السورة : " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"، فقد جاءت هذه السلسلة لتبيّن خِلافَهم، الموادّين لله ورسوله، هكذا في تناسق، وفي سَوْق المعنى إلى المعنى المُقابل، وسَوْق الصورة إلى الصورة المُضادّة ....وبأضدادها تُعرَف الأشياء، لتتبيّن لنا أحوال المُحادّين ومدى عداوتهم لله ورسوله بمعرفتنا للمُوادّين ومدى ولائهم لله ورسوله...

فلننــــــــظر :

1- الآيات من 07  إلى 10 تصف الأمّة، بالفئات الثلاث التي تشترك كلها في عدم موادّتها لمَن حادّ الله ورسوله، بل بولائها لله ورسوله، وأنّ بعضهم أولياء بعض (المجادِلة وقضية الانتماء)
2- آيات تحدّد المصدر الموجِّه والآمر (آية07 : ما أفاء الله على رسوله وما أمره به في شأن الفيْء، ثم بيان أنّ ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. الله يأمر رسُولَه، والرسول يأمر المؤمنين، والمِشْكاة واحدة ).
3-   آية 07 : تعميم العدل، والعمل على خلق السَويّة بين فئات المجتمع،  وإبعاد الطبقيّة (في الأمر الإلهيّ بالتوزيع على أهل الحاجة والضعف).
4- آية 08 : فئة المهاجرين، وابتغاؤهم نصرة الله ورسوله موادّة لله ولرسوله.
5-   آية 09 : فئة الأنصار وإيثارهم المهاجرين على أنفسهم، وحبّهم لهم موادّة  لله ولرسوله.
6- آية 10 : الذين جاؤوا من بعدهم، حُبُّهم للمهاجرين والأنصار مُوادّة لله ولرسوله. حبّ اللاحقين للسابقين، وعُمر قد حقّق حبّ السابقين للاحقين.

إنها اللُّحمة الواحدة، والحلقات المترابطة، والسلسلة المعلّق أصلها، بالسماء، الممتدة إلى الأرض، لا تنقطع عُروتُها وهي الوُثقى ...إنه حبل الله الممدود، وإنهم المعتصمون به لا بغيره... !

إنهم لؤلؤات تلك السّلسلة، وإنّ مادّتَها الحُبّ والتآخي، والتلاحم والمُوادّة... ثم إنه الامتداد لكلّ هذا في الزمان ... !

إنها الأمّة على حقيقتها، الضّاربة في الأصالة والعراقة، المستمِدّة حياتها من  الله، الممتدّة في فضاء الزمان والمكان بالله ولله...فهي ذات الأصل المُحيِي، وذات الامتداد الحيّ...  إنّها نبتة الإيمان الموصولة بالله أبدا... فأنّى لها أن تموت ؟ ! وإنه حزب الله... فأنّى له ألا يفلح ؟ !

« آخر تحرير: 2020-08-20, 09:17:52 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

والآن نمضي مع باقي آيات السورة ... من بعد ما عرفنا قصة بني النضير، وما مُنوا به من هزيمة وإخراج من ديارهم، بتسليط الله سبحانه رسوله عليهم، جزاء وِفاقا لمُشاقّتهم الله ورسوله...
عرفنا بهم مثالا حيّا للمُحادّين لله ورسوله، الذين عرّفتنا بهم سورة المجادِلة، ثم في قضية قسمة فيْء بني النضير خاصة، ثم قسمة كل فيْء خصَّ به الله سبحانه نبيّه، وبيّن له أوجُهَ صرفِه...
عرفنا الوجه المُضادّ للمحادّين لله ورسوله ممَثَّلا في الأمة الإسلامية، على رأسها المهاجرون والأنصار، ثم مَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ...

نمضي لنحطّ عند قطاع جديد ... هو ذو صلة واتصال ... بآياته نعود إلى أمر بني النضير من جديد، نموذجاً يصوّر لنا حقيقة الأمر بين فئتَيْن ظاهره التواؤم والتناصر فيما بينهم :

"أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(11)لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ(12)لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَفْقَهُونَ(13)لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْقِلُونَ(14)كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(15)كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(16)فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ(17)"

إنهم المنافقون واليهود ... وكلا الفريقَيْن مرتبط بالآخر، فما وجه الارتباط؟ وما وجه الصلة ؟ ثم ما حقيقة الأمر بينهما بموجب هذا الرابط ؟
ستُميط لنا الآيات اللِّثام عن أمور عِظام ... فلنمشِ الهُوينى ... !
في بداية السورة عرفنا قصّة الغزوة إجمالا، وما حلّ ببني النضير بإخراجهم خزايا مَكبُوتين رغم مَنعتهم وتحصّنهم، وها هنا مزيد تفصيل عن أمرهم...

عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بعث لهم يأمرهم بالخروج، لم يجدوا مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بَيْد أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بعث إليهم أن اثبتوا وتَمَنَّعُوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإنّ معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم، وتنصركم قُرَيْظَة وحُلفاؤكم من غطفان‏.‏ وهناك عادتْ لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حُيَيْ بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ "إنّا لا نخرج من ديارنا، ولئن قاتلتَنا لنُقاتلنّك فاصنعْ ما بدا لك‏".‏ ولكن سُرعان ما تبدّى لبني النضير خذلانُ المنافقين لهم. فنزل في ذلك قوله تعالى :
"أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(11)" .

عشنا مع آيات المؤمنين (من07إلى10) في رحاب الأخوّة الجامعة، أخوّة العقيدة والإيمان، وتنقلنا الآيات الجديدة إلى هؤلاء برابط يحمل الاسم ذاتَه، "الأخوّة"، في قوله سبحانه:  " يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ "
هكذا بنقلة بديعة، لترى نفسك في السّياق ذاتِه، وفي الكلمات ذاتها، وأنك مع الرابط والوشيجة، ومع الإخوة والمتآخين، ولكن شتان بين رابط ورابط، وبين وشيجة ووشيجة، وبين أخوّة وأخوّة ... ! وبين موادّة وموادّة ... !

أولئك خَلَفٌ عبر العصور، رابط الأخوّة قائم لا ينحلّ بينهم وبين مَن سلفَهُم : "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الذِينَ سَبَقُونَا بالإِيمَانِ" ... وهؤلاء منافقون يعِدون إخوانهم الذين كفروا : " أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ..."  متعايشون في العصر ذاته، والأخوّة الرابطة بينهم أخوّة كفر. فهُم في الكفر سواء... هم في الكفر إخوة ... !

مَن نافَقَ ومَن كفر، سواء ... إخوة .... ! ولكن أيّ أخوّة هي ؟ !
إنّه لمِن المفارقات أن تقرأ عن "أخوّة" ، ثم تُفجَأ بما هو آت !

لا يتبادر لمَن يقرأ "إخوانَهم" إلا أنهم المتحابّون، المتناصرون، وإن لم يكن من شيء، التناصر أقلّ ما بينهم ... !
وهذا ما كان منهم، كلمات قالوها لإخوانهم :" لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ..."

"لَئِنْ" اللام فيها هي اللام الموطّئة للقسم، وهي كقولهم "والله إن أخرجتم لنخرجنّ"...كلمات هي الوعد، وهي اليد تشدّ على اليد، وهي الكَتِفُ المُسنِد، وهي المظاهرة، وهي الأخ في حاجة أخيه، يضرّه ما يضرّه، فلا يتركه للكروب والخطوب، بل يُشرِكه فيها. هي الأخوّة ومقتضاها ... !

واسمع ... اسمع ... " وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا " ...
أبدا لا نطيع فيكم أحدا، لن يُميلَنا عنكم أحدٌ، ولن يبدّلنا أحد، ولن يفسد ودّنا مفسد ... أبدا... ! أبدا...  !  بل اسمعْ أيضا واسمَعْ :
"وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ"

إنه إعلان الأخ حمايةَ أخيه، والذَّود عن أخيه، إنه إعلان نُصرة ...إنها الأخوة ومقتضاها ... !
نعم ... !
يُخَيَّل إليك للوهلة الأولى وأنت تسمع كلماتِهم، أنهم الإخوة وقد هبّوا لنصرة إخوتهم، غلى الدَّمُ في عروقهم، وتحرّكت أواصر المحبّة، واللُّحمة الواحدة، وصرخ ذلك الرابط المُوحِّد بينهم... ! اهتزّت به أعماق الأخ رَجْعَ صدى لصوتِه في أعماق أخيه المكروب... !
ياللنُّصرة، ياللعُزوة، ياللأخ في ظهر أخيه ... !

إنها آصرة الكفر الواحد... هي ذي في كلمات... فماذا عنها في دنيا الأفعال ؟ ! لن تنتهي الآية حتى تُجيبَنا ...
هكذا تُذيَّل : "وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" بتقرير من الله تعالى، بشهادة منه سبحانه لا ثانيةَ لها، إنهم لكاذبون ... !
كل ذلك منهم كذب، كل ذلك الإزباد منهم والإرعاد... كلّ تلك الوعود منهم جِناناً تُفتَح لمُحاصَرٍ أو يَخرجُ من المدينة، أو يُقاتَل، كلها كذب في كذب ...
يشهد الله إنهم لكاذبون، بالتأكيد والتشديد ...

وقد نزلت الآية تُخبِر عن حقيقتهم، سابقةً لما كان منهم حقا من إخلاف للوعد، ومن خذلان لبني النضير، جعلهم ينزلون على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خربوا ديارَهم بأيديهم وهم يهمّون بالخروج من حصونهم، ومن المدينة كُلّها ...
ودائما مع جوّ التناسق والاتساق، ومع معرفة الأشياء بمعرفة أضدادها، مع معرفة المؤمنين وعُلُوّ كَعْبِهِم، قياسا إلى الكافرين والمنافقين ودناءة طبعِهم، تأتي هذه الشهادة من الله تعالى بأنّ المنافقين كاذبون، وقد جاءت شهادة منه سبحانه في آية سابقة على صدق المؤمنين ... وهو سبحانه العليم الخبير، يعلم على وجه الدقّة والتحديد والتأكيد صدق الصادق وكذب الكاذب، وإن بدا ما بدا من مظاهر تخدع لتترك عند البشر انطباعا يأتي بحكم مخالف للحقيقة... !

كما صدق أولئك المهاجرون الذين أُخرِجُوا من ديارهم وأموالهم نُصرة لله ورسوله لا يلوُون على شيء من حُطام الدنيا، كذب هؤلاء المنافقون الذين أرعدوا بوعودهم وأزبدوا أنهم الخارجون معهم إن هم أُخرِجوا، والمقاتلون معهم إن هم قوتلوا ... !

أولئك الذين صدقوا موصولون بالله تعالى، وله يعملون، وابتغاء رضوانه، ولإعلاء كلمته في الأرض عقيدةً راسخة لا تتزعزع، يعملون لأعظم ما خُلِق لأجله الإنسان، امتدادا في الزمان والمكان، لتحقيق العبوديّة للواحد الأحد... أما المنافقون فيعملون رئاء الناس، يعملون لأجل الدنيا ولأجل مصالحهم فيها، وقد قال الله تعالى فيهم، وفي اضطرابهم وتزعزعهم وتململهم وتقلّبهم : " فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ..." –المائدة: من الآية52-

قضيّتهم خاوية المعنى، مُفرغة، لا اتصال لهم بالخالق الموجِد، كالسّابح في الهواء بلا قرار، فلا هو مُمسَك ولا هو ممسِك، ليس له أصل، ولا غاية ممتدّة، دنياه هي المبتدأ وهي المنتهى، فانٍ يعمل لفانٍ، ليس له علاقة بالباقي وجهه سبحانه بعد فناء كل مَن عليها وما عليها ... لا مستند له، ولا مثبّت ولا نصير ... ! فأقواله كفيفة، وأفعاله كسيحة ... وشتّان شتّان بين مبصر وكفيف، وقائم وكسيح ... ! وبأضدادها تُعرَف الأشياء ... كذلك بهؤلاء الكاذبين القائمين على هواء، نعرف وزنَ أولئك الصادقين القائمين على قاعدة صلبة متينة عظيمة هي العقيدة في الله سبحانه، الذي له يعملون، وفي سبيله يُضحّون، وفيه يتحابّون ويتوادّون ويتلاحمون ...
ثم ها هو سبحانه يزيد فيؤكّد زيفَهم وكذبَهم  : 
"لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ(12)"

يزيد سبحانه بيانا لتهافت كلماتهم، وكذبهم. إذ قد جاء في الآية السابقة قَسَمُهم وحِلفهم على الكذب، فكانت "لَئِنْ" منهم موطئة لقسمِهم ... أما هنا فإنه قسم الله جلّ في عُلاه ...يُقسم سبحانه على أنهم الكاذبون، فلئن أخرِجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ... بل وزيادة  : " وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ" أي على افتراض أنهم أقبلوا عليهم ناصرين مقاتلين لمَن يقاتلهم، فإنهم ما يلبثون إلا قليلا حتى يُولُّوا الأدبار فارّين ناكصين على أعقابهم، ثم لا يُنصَرون ...

هذه حقيقتهم التي يقرّها الله تعالى، ويُعلِم بها نبيّه من قبل أن تكون، وقد كانت حقا...
وتحضرني "المجادِلة" من جديد كعادتها ... ! وكيف لا ؟ !

كيف لا تحضر محمّلة بمعانيها ومقدّماتها وتعريفاتها التي أراها مجسّدة حركة على الأرض في "الحشر" ... وأنا أرقُب كَبْتَ الله للمحادّين لله ورسوله في إخراج بني النضير من ديارهم، في قذف الرُّعب في قلوبهم، في تخريبهم لبيوتهم بأيديهم، في تسليطه سبحانه لرسوله عليهم ... في ذهاب ظنّهم بحصونهم وأنها مانعتهم أدراج الرياح ... ! في خِذلان إخوانٍ لهم يكفرون كما هم يكفرون، ولكنّهم يُخلفونهم الوعود.. !

تحضرني "المجادِلة" وأنا أرقُب قوما لم يُوادّوا مَن حادّ الله ورسوله، فباعوا الدنيا، واتّخذوها ظهريّا، وخرجوا من ديارهم نصرة لله ورسوله، لم يسترضوا أكابرَ قومهم ليرضوا عنهم، ولم يُدهنوا ليُبقوهم بأرضهم ... بل أظهروا لهم المُحادّة، ولله ورسوله الموادّة ... فإذا هُم هُم حزب الله الذين عرفتُهم في "المجادِلة" ... إذا هم الصادقون، وإذا هم المفلحون  مهاجرين وأنصارا... !

أرقبُ المنافقين فإذا هم -بشهادة الله على سرائرهم وحقائقهم- كاذبون ...
وإذا قوله سبحانه في "المجادِلة" : "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)" -المجادلة-
وإذا قوله عنهم فيها أيضا: " يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ  وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ  أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) " -المجادلة-

وهي ذي الآيات، واللِّثام يُماط أكثر فأكثر مع كل آية :
"لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَفْقَهُونَ(13)"

أنتم أيها المؤمنون أشدّ رهبة في صدورهم من الله، هذه حقيقتهم أمامكم، هذه حقيقة النّفاق أمام الإيمان، حقيقة الكفر أمام الإيمان ...حقيقة الباطل أمام الحق ... ! هذا هو تهاوي الباطل وأهله بإزاء الحقّ وأهله...
وإنها لَتتهاوى صدور الكافرين رهبة، وقلوبهم رُعبا، أمام صدور مؤمنة وقلوب صادقة لله مخلصة، وقد ظنّوا أنها حصون كُفرِهم المانعة !!  كتهاوي حصون بني النضير أمام أمر الله بعباده المؤمنين وقد ظنّوا أنها لهم المانعة ... !

قشّة هم في مهبّ الريح... ! إنهم مَن لا صلة لهم بالله قُبالة الموصولين بالله، قُبالة المستنصرين الله ...قُبالة من ينصرون الله ورسوله... !
أنتم أيها المؤمنون أشدّ رهبة في صدورهم من الله ! يخشونكم ... !  وليت شِعري يا ليتَ قومي يعلمون !

وقد ذكر لنا الله عن حال يهود بني النضير قبل آيات من هذه ما هو مِن جنس هذا الذي في صدور المنافقين: " وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ "، ولا ننسى أنّهم الموصوفون منه سبحانه بـ : "إخوانهم"  فهُم بحكم أخوّة الكفر سواء ... تشابهت قلوبهم... !
في كل زمان هي ذي حقيقة المنافقين، ولكن غُمِّي على الكثيرين من المؤمنين  أن يستمِدّوا قواعد للحياة من دستورهم الأعظم، من قرآنهم ... ! من هذا الذي نزل منهاجا للحياة، لا حُروفا للمدّ والقلقلة في أحسن الأحوال... !

ذلك أنّ الله يمدّنا بحقائق هذه الفئات المتواجدة في كل زمان بعناوين مختلفة، فيحسب رائيهم للوهلة الأولى وهم يرفعون بالعَلمانية رأسا، أو بالتحرّرية أنهم أهل قوة، فيَجبُنُ مؤمن في حضرتهم، ويذلّ آخر في صَوْلَتِهِمْ ... ! يغفل عن قواعد من القرآن لا تتبدّل، جعلها سبحانه للمتبصّرين بنوره، المصدّقين لكلامه، المُحكّمين لأمره في حياتهم... !

للذين يوقنون أنه وحدَه لا غيره المِشكاة على درب الحياة، أنه وحدهُ لا غيره قانونها. وما هذه إلا واحدة من تلك القواعد التي غَطّت لغة القوة والمادة على أعين المسلمين فلم يعودوا يبصرونها، ولم يعودوا يُحسنون قراءتها... !  إنّ أهل الباطل بإزاء أهل الحقّ وأهل الإيمان وأهل العزّة بالإيمان، وبالله ورسوله، ضعفاء، جبناء... يخشونهم .... !!

إي وربّي يخشونكم ... وليت شِعري، يا ليت قومي يعلمون !!!
بل إنكم أيها المؤمنون أشدّ رهبة في صدورهم من الله .... والله أحقّ أن يخشوه ... ! ولكأنّ سائلا سيسأل : وما سبب ذلك فيهم ؟ ! كيف يخشون البشر أكثر من خشيتهم الله ؟ !

فيجيب سبحانه في آخر الآية بالسبب : " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَفْقَهُونَ "
وكيف يفقه مَن لا يُقدّر الله حقّ قدره ؟ ! كيف يَفْقَهُ ويفهم مَن يجد في صدره رهبة من البشر ولا يجدها فيه من ربّ البشر ؟ ! بالمقابل، -وكما عرفنا من جوّ هذه السورة- يتبيّن لنا انعدام الفقه فيهم، بما نجد من فقه عند المهاجرين الذين أخرِجوا من ديارهم وأموالهم، وقد عُذّبوا، وشُرِّدوا، وطُرِّدوا من بلادهم على أيدي أهلهم وذوي أرحامهم، وعلى أيدي كبراء بلادهم ... ولم يكن ذلك داعيا لأن يخشوهم فيُقيموا على إرضائهم أو استرضائهم، فيعودوا عمّا اعتنقوا، ويقولوا ما جهِدوا في إملائه عليهم من تقويلهم لكلمة الكفر وإنطاقهم إياها... !

فكَمْ عَيِيَ أميّة بن خلف مع العبد الحبشيّ بلال ليردّه عن الإسلام، وليُعلي هُبَل، وليُعلي اللاّت والعُزّة، ولينصاع لأمره وهو سيّدُه، دون جدوى ... وبلال مقيم على "أحَد ... أحَد " ليس ذلك إلا من رهبةٍ في صدره من الله تعالى، لا تجعل أمامَه شيئا أكبر منه، وإن كان سيّده ومالك أمرِه، اللّاذع له بسياط العذاب، الواضع للصخرة العظيمة على صدره في رمضاء الصحراء، وهو الممدّد على رمالها الحارقة، المُكتوي بحرّها مع حرّ السّياط... !

وشتّانَ شتّان بين رهبةٍ في الصدر ورهبة... !  شتان بين فِقه ولا فقه ! شتّانَ بين موصول بالله صادق، وبعيد عن الله كاذب ... !
« آخر تحرير: 2020-08-20, 09:29:38 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ولقد أميط اللثام درجةً أخرى، ولقد استنارت من عقولنا عتمات، وما تزال الآيات المميطات ... فلنُقبِل :

"لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْقِلُونَ(14)"

ثم هم أولاء الإخوان مجتمعون، الذين كفروا من أهل الكتاب والمنافقون "جميعا"... أو أنها تعني اجتماع الذين كفروا من أهل الكتاب.
على كلا الوجهَيْن تصحّ، فعلى وَجْهِ اجتماع الفئتَيْن، مع افتراض تناصُرهم، مقاتلتهم للمؤمنين لا تكون إلا وهم في قرى محصّنة أو من وراء جُدُر، ذلك لما عرفنا من رُعب ألقِي في قلوب اليهود، ومن رهبة للمؤمنين في صدور المنافقين، فيجتمع الرُّعْب والرّهبة خلف الحصون ومن وراء الجُدُر... !!  فهو الضعف ظاهره القوّة... !

وعلى وجه أنهم اليهود مجتمعون، فكذلك لا يقاتلون المؤمنين إلا وهم  متترّسون بالحصون والجُدُر، كما كان حالهم دائما في كلّ لقاءات المسلمين بهم، في غزوة بني قينقاع، وفي غزوة بني النضير، وفي غزوة بني قريظة، وفي غزوة خيبر .
ليس ذلك إلا من جعجعاتهم بالكلام،  ومن انعدام طِحْنهم عند اللقاء ... !

كما كان ذلك منهم بعد بَدْر، حينما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قينقاع يدعوهم للإسلام قبل أن يصيبهم مثل ما أصاب قريشا، فقالوا: "يا محمد لا يَغُرَّنَّك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلْقَ مثلنا".
حتى إذا التقت الفئتان، لم يكن لهم من قتال للمؤمنين في كل مرة إلا من وراء جُدُر، ومن خلف حصونهم .

ولقد عُرفوا بذلك عبر العصور، وما "خطّ بَرْليف" عنّا ببعيد، وهو التحصين الترابيّ العظيم الذي أقامته إسرائيل إثر احتلالها لسيناء عام 1967 لتأمين قناة السويس، ومنع عبور القوات المصريّة إليها، والذي تمكّن المصريّون من اجتياحه والإطاحة به في حرب أكتوبر من عام 1973. فكان انتصارا وفتحا عظيما، حتى كان مما كُتِب عن غُنْم المصريين لِمَا كان خلفه من بناءات ومرافق : "ويتساءل رجل الشارع الإسرائيلي الآن هل حقا أصبح المصريون يقيمون حيث كان يقيم الجندي الإسرائيلي، ويأكلون الأطعمة الساخنة ويستمتعون بالماء البارد ويشاهدون الأفلام ويلعبون الكرة الطائرة؟ " ... !

كان شيئا مشابها لإطاحة المسلمين الأوائل باليهود وهم من خلف حصونهم ... ! تحقّق في أيام كنّا فيها أبعدَ بكثير -مما نحن عليه اليوم- عن أكاذيب التعايش والسلام الوهميّ، والمُداهنات المفضوحة ... !

"بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْقِلُونَ"

 هذه حقيقة جديدة تتكشّف لنا من هذه الآيات المُميطات ... بَأْسُهُمْ بينهم شديد، البأس فيما بين اليهود والمنافقين، أو البأس فيما بين اليهود وبعضهم شديد، بينما  يظهر للعَيان أنهم المتفقون : "تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى"
هذا هو حُسبان الأعين وهي ترى الظاهر من الأمر، ولكنّ الحقيقة التي يكشفها ربّ العزّة العليم الخبير سبحانه، هي هذا الاختلاف فيما بينهم، فهم أشتات مفرّقة، مفرّقة قلوبهم، كلٌّ منهم يهيم بهوى له، ليس هناك ما يوحِّدُهم على الحقيقة، ليست لهم من عُروة وثقى يستمسكون بها، تكون مرجعهم، ورابطهم، والأصل الذي من أجله الكلّ على قلب رجل واحد، باعتقاد واحد ومسعى واحد، وهدف واحد ...  على خلاف حال مَن عرفنا من مهاجرين شهد لهم الله بالصدق، ومن أنصار آووا المهاجرين في أرضهم حتى ما استكثروا أن يقاسموهم دُورَهم وأموالهم وأراضيهم، وصفهم سبحانه بأنهم "يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِم" بل ويؤثرونهم على أنفسهم، فهم كالرجل الواحد الذي لا يصح له إيمان إلا وهو يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه... فكيف لا يتوحّد هدفُهم، ولا تتوحّد مساعيهم، والرَّحِم الجامعة بينهم هي رحم العقيدة الواحدة، الصّلة بالله النصير التي لا تنبتّ ولا تنقطع ... ؟ !

وشتّان بين متحابّين متّحدين وبين قائلين ما لا يفعلون، فإذا قلوبهم متفرقة شتى ... ليس لهم من حبل يجمعهم جميعا ... فهُم قُبالة المعتصمين بحبل الله الممدود كلا شيء ... !
ومرة أخرى، وكأنّ سائلا يسأل : وما سرّ هذا بينهم ؟ !
ليأتي الجواب في آخر الآية : " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْقِلُونَ "

وأي عقل عند مَن الشأن في داخله اختلاف وفوضى، وتفرُّق وتشتّت وتشرذم ؟ ! أي تعقّل تجده عند مَن يواجه عدوّا بأشتات مشتّتة، كلٌ منها يضرب في هوى، كلٌّ منها يتعلق بغير ما يتعلق به الآخر ... ؟ !  فليسوا على رأي واحد، ولا على هدف واحد ... والجهد الذي كان حريّا أن يُصرَف في مزيد تلاحم وتوافق، وتخطيط لمواجهة العدوّ، يُصرَف في خلافات وصراعات ... أيّ عقل عند مَن غمروا عقولهم فكانوا عبيدا للهوى وللدنيا، وشاقّوا الله ورسوله، وحاربوا الله ورسوله ؟ !

هم متناحرون فيما بينهم لأنهم أصحاب أهواء متفرقة، يُلقى الرعب في قلوبهم من أصحاب الوحدة والهدف الواحد والوجهة الواحدة، ويجدون في صدورهم منهم رهبة هي أشدّ من رهبتهم الله سبحانه، إنهم لم يعقلوا الاحتكام لأمر الله لا لأوامر الأهواء، وهم بإزاء المحتكمين لأمر واحد  جميعهم، أمر الله ورسوله.

أما المؤمنون على الحقيقة فهم على شاكلة الأوّلين السابقين الذين هاجر منهم مَن هاجر صادقا مبتغيا فضلا من الله ورضوانا، ليحتضنه أنصاريّ محبّ له، مؤثر له على نفسه، ليحتضن هذه الحقيقة من بعدهم على مرّ العصور من أعلن حبّه لهم وهو على آثارهم  مقتدٍ...

هذه أمّة لا تموت ما حقّقت هذا التلاحم والترابط وما استمسكت بحبل الله الممدود، وبعُروته الوُثقى، وما جعلت من تاريخها أصلا وبداية لا تُنكَر ولا تعتبرها ماضيا عفى عليه الزمن، بل تراه شمسا تُضيئ في كل زمان، ولا يذهب دورُها، ولا تبلى، ولا تُوصف بالقديمة ... ! أمّة لا تتنكّر لهذا الأصل الأصيل في معنى الوجود، والغاية من الوجود، وهو الصلة بالرب الخالق المالك الذي منه الخلق والأمر، وإليه الرجوع ...

وعلى هذا فالعاقل المتعقّل مَن كان الله مستندَه، ويقينُه أنه إليه راجع، يفرّ منه إليه، ويعمل ابتغاء فضل منه ورضوان ... ولا يعقل مَن كان مُنْبتّ الأصل، منقطع الصلة بربّه ...؟ !

ثم يزيد الله في بيان أمرهم وباطلهم، وهباءة حالهم بضرب المثال:

"كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(15)كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(16)فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ(17)"

إنّ مثلهم وهم أهل الكفر والنفاق، الإخوان في الكفر بالله، كمثل الذين مِن قبلهم، وقد قيل أن الذين من قبلهم هم  المشركون في لقائهم بالمسلمين في غزوة بدر، الذين ذاقوا وبال ما كانوا عليه من إصرارهم على الكفر، وعلى القتال في سبيل الباطل، وعلى مُشاقّة الله ورسوله، ومحاربة الله ورسوله...والوبال هو الفساد وسوء العاقبة ... فكانت عاقبتهم الانهزام، شر انهزام، وقتل كبرائهم، وعودتهم مخذولين مَكْبوتين على ما كان من تفوقهم في العتاد والعدد، وهذا ما جاء أيضا في سورة المجادِلة السابقة لهذه السورة في قوله سبحانه : "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..." –المجادلة: من الآية 05-

فإذا هذه الآيات المتواليات تعمل عمل الآيات السابقة التي عرفنا (من 07إلى 10) من حيث تجميع الإخوان المتشابهين، فتلك جمعت الإخوان المتحابّين في الله، الموادّين له سبحانه ولرسوله، المحادّين لمَن حادّ الله ورسوله عبر العصور، وهم "حزب الله" -كما جاء في "المجادِلة"-  وأما هذه فتجمع الكافرين من أهل الكتاب والمنافقين، ثم تُلحِق بهم المشركين لتكتمل جماعة المحادّين لله ورسوله، المحاربين لله ورسوله...

ولا ننسى تذييل الآية بقوله سبحانه : " وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " ... وهو قرنٌ بين ما لحقهم في الدنيا من ذَوقهم الوبال والخسار، وما ينتظرهم في الآخرة من عذاب أليم.

وتستمرّ الآيات العظيمات في إماطة اللثام عن حقيقة هؤلاء المتقاسمين أخوّة الكفر، وكما ضرب الله لهم مثلا بإخوان لهم سبقوهم ذاقوا وَبَالَ أمرهم، يضرب مثلا آخر في مزيد توضيح وبيان :

"كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(16)"

سبحان الله ! سبحان الله ! يعجز تعبير البشر كائنا مَن كان، خطيبا كان أو بليغا، فصيحا مفوّها، أو حصيفا ممكّنا، يعجز أمام هذه الآيات المُحْكَمَات، المتواليات، أمام هذا السَّبْك وهذا النَّظْم الفريد المتفرّد الذي ليس إلا من ربّ العالمين !
أجدني مشدوهة، مُعجَبة، مُزجاة البضاعة وأنا أحبّ وصف هذه العظمة في القرآن العظيم، !! فلا أحبّ أن أقول فيه مع كلّ استشعار مني لمنهَجية نَظْمِه وإحكام دلالاته، وتفرّد سَبْكِه، إلا ما جاء في القرآن عن القرآن، إلا ما علّمنا النّفر الرشيد من الجِنّ حينما استمعوا له : "إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَبَا"... !

قرآن عَجَب... وأنا أرى تجميع الآيات السابقات بانسيابيّة وبسلاسة، لكل فئات المؤمنين بدءا من أوّلهم إلى آخرهم وجودا على الأرض، تفصّل معنى "حزب الله" الذي قدّمتْ له سورة المجادِلة، ثم أرى الآيات التي تلتْها تتوالى هي الأخرى لتجميع الفئات المُضادّة، المُحادّة لله ورسوله، فأجدني أتدرّج معها وهي تجمع وتجمع ليكتمل التجميع، حتى إذا هممتُ بتبيُّن أنه "حزب الشيطان" الذي قدّمتْ له أيضا سورة المجادِلة، جاءت هذه الآية المتمّمة لتُبرز الاسمَ إبرازا، ولتُعلنه إعلانا !!  : "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ..."

وحتى إذا جعلتُ من تمام المقابلة بين قِطاعَيْ الآيات(من07إلى10) و(من11إلى15)أن تكتمل في حزب الشيطان كل فئاته كما اكتملت في حزب الله كل فئاته،  شدّني المثال شدّا :

"كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ"

جاء فيها عمل الشيطان مع الإنسان عُموما، ليحصل عندنا أخيرا أنها هي الأخرى قد جمعت كل الفئات الكُفْرِيّة الشيطانية عبر العصور المتوالية والأزمان المتعاقبة !

إن هؤلاء المذكورين من منافقين، وأهل كتاب، ومشركين، مثلهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفُر، عملهم كعمله، نفْثُهم كنَفْثِه، صُدودهم عن سبيل الله، وعن أمر الله، كصدوده، منفوثة فيهم روحُه، مبثوثة فيهم صفاتُه عبيد له مخلصون،  به هُم موصولون، له هُم يعملون، وبوساوسه مُؤتمرون ...! ولكنّ حقيقة اللّعين الملعون، أن ليس له من الأمر شيء، إن هو إلا وسواس خنّاس، مُغوٍ، كذّاب، ليس له من قرار، ولا يثبت على حال ... !

قال للإنسان "اكفر"، فلما كفر وانصاع لأمره، لم يجده له نصيرا، ولم يجِد لعاقبة اتّباعه من فلاح، بل كان الخاسر الهالك ... الذي هو ذاتُه لا يجد له من مهرب من ربّ العالمين ... يتبرّأ من متّبِعه في ذلك اليوم العظيم، يوم الكشف ويوم الحساب، ويوم اليقين:" إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ"...... قائلا وهو الكاذب الهالك : " إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ "

ذلك اليوم الذي لن ينفعَ ربَّهُم فيه شيء، وهو المفتقر، المتطاول كذبا لرحمة من ربّ العالمين ... فما ينفعه قولُه، ولا تبرُّؤُه ... !
وقد قال سبحانه عن قوله عليه لعائن الله لمن اتّبعه : "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي  فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم  مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)" -إبراهيم-

لقد استمسكوا بالهواء، بالخواء، باللاشيء ... ! وأعرضوا عن ربّ العالمين ! لقد تحزّبوا مع الشيطان الكاذب، فكذبوا ككذبه، ووعدوا كوعده، وزيّنوا كتزيينه   ... ! فكان الوعد الكاذب من المنافقين لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب عملا من عمله، هو الكذب لا شيء غير الكذب، وكان أزُّ كلّ فريق منهم للفريق الآخر على المضيّ في مشاقّة الله ورسوله، ومحاربة الله ورسوله، وعلى المضيّ في الكفر والصدّ والصدود،  عملا من عمل الشيطان إذ قال للإنسان اكفُر ... !

ريحٌ خبيثة منتنة ممدودة عبر الأعصار والأزمنة، ولكنّها على امتدادها وكثرة أصحابها والتفاف بعضهم حول بعض، وأزّ بعضهم لبعض، ومحاربتهم لله ورسوله في كل زمان بكل الوسائل، وبشتى الطرائق، بالأموال والتمويل، وبالمَكِنة في الأرض بها، بالجاه والسُّلطان،  بالسلاح المتقدّم، وبالعظمة المزعومة لأصحابها، على كلّ هذا فيهم هُم عبيد للشيطان المعلَّق في الهواء، في الخواء، ربُّهم الذي لا يملك لأمره شيئا، الذي سيتبرّأ منهم جميعا ساعة الحق، وسيُعلن كاذبا أنه يخاف الله ربّ العالمين ... !!

وليس حالنا وهواننا اليوم نحن المسلمين إلا من هزيمة نفسيّة صوّرتْ لنا هؤلاء الأقوياء بالهواء، الأقوياء بهذا اللعين الضعيف، على غير حقيقتهم، فضعف اليقين في أنفسنا، فجبُنَت أنفسنا، وساء ظنُّنا بالله تعالى، فساء حالُنا، جزاء وِفاقا لظنّ منّا مهزوز في الربّ العظيم، ربّ العالمين ... !

وتجدر إشارتي إلى تجسيد سورة "الحشر" بالمثال الواقع،  لشيء مما جاء في سورة المجادِلة أيضا، ذلك في قول الله تعالى : " كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) " -المجادلة-

هذا ما كتبه الله تعالى، هذا ما فرضه سبحانه ولا تبديل له، ولا تحويل، أنه سبحانه الغالب ورسله. فكان هذا النصر، وهذا الفتح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا في هذا المقام وحده، بل في مقامات ومقامات، نصر الحق على الباطل، ونصر حزب الله على حزب الشيطان، وذلك كائن في كل زمان حتى من بعد الرّسول صلى الله عليه وسلم ما أقامت الأمّة على عناصر قوامتها.

فلو أننا على ضعف مقدّراتنا، ونقص عُدّتنا كنا الأعزاء بديننا، الواثقين في ربّنا، المتوحّدين المتحابّين فيه، وكان يقينا عندنا تهافُت تحالفاتهم، وهوائية متعلّقاتهم، وكنّا على خُطى الأوّلين السابقين صادقين عاملين، جاهدين، ليجتمع فينا اليقين الداخليّ الذي لا يتزعزع في قوّتنا بالله وضعفهم بالشيطان، بالعمل والسّعي ورفع الرأس بالإسلام فخرا وعزّا وسُؤددا، لو كان ذلك منّا لما كانت هذه حالُنا ... !

وتأتي الآية الموالية تبيّن مآل الشيطان والإنسان المطيع لأمره :
"فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ(17)"
هذا ربُّكُم الذي عبدتُم، والذي أطعتُم، والذي كنتم له العبيد المخلصين ... هو ذا ربُّكم وقد أعلنها كذبا أمام ربّ العالمين الواحد الذي لا شريك له في المُلك ولا في الأمر سبحانه، أنه يخاف الله ربّ العالمين !!

لن ينفعه إعلانه، ولا تبرُّؤُه ... هو ذا في النار، وهو ذا كلّ من كان من حزبه في النار، مترافِقين متصاحبين كما كانوا في الدنيا ... في نار ليتَها تأتي على مَن يدخلها فيموت، بل هي التي تُصليه، وهو يذوق عذابَها الأليم ألوانا في كل حين ... عياذا بالله منها، ومن تقلّب للقلب عن الهُدى، وعن عبادة ربّ العالمين سبحانه .عياذا بالله من ظلم الإنسان لنفسه بالكفر ... !
« آخر تحرير: 2020-09-04, 10:25:16 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وهكذا تنتهي آيات حزب الشيطان المُحادّ لله ورسوله،  التي تلت آيات حزب الله المُوادّ لله ورسوله في هذه السورة العظيمة العظيمة...

 لنجدنا مع قطاع آخر من الآيات هو نداء للمؤمنين، وهو خصيصة من خصائص السُّوَر المدنيّة ... نداء للمؤمنين يأتي في خواتيم السورة، فيه دعوة للاعتبار وللنظر في حقيقة كل حِزب، وفي مآل كل حِزب :

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)"

دعوة للمؤمنين من بعد كل ما فات من بيان لحال ومآل المتصلين بالله، ولحال ومآل المنقطعين عنه سبحانه .... دعوة فيها التذكرة والتأكيد على التقوى وعلى حراسة العمل، والنظر فيه، والاستدراك والترقيع من قبل حلول يوم الفصل، اليوم العظيم ... دعوة لاستغلال ساعات الدنيا ما دامت هناك فرصة من قبل ضياعها، ومن قبل فوات الأوان ... !

فرغم كل ما مضى من تميّز الفئة المؤمنة وتلاحُمِها، وائتمارها بأمر الله ورسوله، وابتغائها فضله سبحانه ورضوانه، إلا أنّ الله يُردِف بتذكرة حتى يُجَنّب المؤمنين الوقوع بشِراك الغرور والاغترار، مع تذكير بضرورة العمل، لأنه لا يكفي المؤمن أن يكون مؤمنا بالعنوان وانتهى، وإنما يقتضي إيمانُه عملا، والفئات التي ذكرها الله تعالى لم تكن لتبوء بتلك المكانة، وبذلك الوزن عند الله إلا من عملها الذي عرفنا... المهاجرون الصادقون، والأنصار المفلحون، ومتّبعوهم بإحسان ... تذكير بالعمل وضرورته، وبالتقوى، لئلا يحصل الاغترار.

فالتقوى هي رأس العمل ليُقبَل، وهي الدافع للنظر فيه، وللاستدراك بتصحيحه وتخليصه من شوائب الرياء والسُّمعة، والمسارعة فيه والمكاثرة منه خالصا لله ... لذلك جاء ذكر التقوى مرّتين.
جاءت سابقة لـ:  "وَلتَنْظُرْ" نظر مراقبة ومحاسبة مادامت النفس في دائرة الفرصة : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ..." قبل أن تُحاسَب بين يدي الله، والمعيار التقوى لترك الفاسد من العمل، والإقبال على الصالح منه : "وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) "

"خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"... الخبير سبحانه، بمعنى علمه بالخبايا والخفايا والبواطن، خبير بحقيقة القلوب، فبعد الدعوة إلى التقوى، يبيّن أنه وحدَه الذي يعلم حقائق القلوب، وما تخفي الصدور. خبير بالنيّة أًصلا قبل إمضاء العمل، فيدعو هنا فيما يدعو سبحانه إلى مراجعتها، والبحث والنظر فيها .

وقد جاء في الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : "كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في صَدْرِ النَّهَارِ، قالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ(أي لباسهم رثّة مقطّعة)، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِن مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ(أي تغيّر وجهه وظهر عليه الحُزن) لِما رَأَى بهِمْ مِنَ الفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فأمَرَ بلَالًا فأذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخِرِ الآيَةِ: {إنَّ اللَّهَ كانَ علَيْكُم رَقِيبًا} [النساء:1] وَالآيَةَ الَّتي في الحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ}[الحشر:18] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ، مِن دِرْهَمِهِ، مِن ثَوْبِهِ، مِن صَاعِ بُرِّهِ، مِن صَاعِ تَمْرِهِ، حتَّى قالَ، ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ قالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ(من البِشر والسرور اللذَيْن صارا على وجهه)، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ. " - صحيح مسلم-

فكانت دعوته صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، وحثّهم على العطاء والتصدّق، وهو يذكّرهم فيما يذكّرهم بهذه الآية تحديدا، لما في التصدّق من فضل عظيم يُخبّأ لصاحبه عند الله سبحانه يوم "غد"
وحتى التعبير عن يوم الحساب بـ :"غد" تدليل قويّ على هوان الدنيا، وعلى سرعتها، وعلى قصرها مهما طالت، وقد قال سبحانه فيه : "إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً(06) وَنَرَاهُ قَرِيباً(07)" -المعارج-  فهو "غد"، كانقلابك بين يوم ويوم يتلوه ... !

وكعادة القرآن العظيم في مواضع كثيرة منه، وهو يكشف حقائق الكافرين بأصنافهم، كشفا فيه التحذير للمؤمنين من مغبّة انتهاج سُبُلِهم، والاغترار بمظاهرهم، فيتوجّه للمؤمنين ينهاهم أن يكونوا مثلهم :
" وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)"

إن هؤلاء الذين نسوا الله، هم حزب الشيطان الذي جاء بيان أمرِه فيما سبق من آيات، بما فيه من منافقين وكفرة من أهل الكتاب، ومشركين، وكلّ من ائتمر بأمر الشيطان إذ قال له اكفر .
وتحضر "المجادِلة" من جديد، وإنّ لها لظلالا وظلالا على هذه السورة التالية لها، لا تنفكّ تُلقَى بين حين وحين ونحن في عَرَض هذه الآيات من فرط سَوْق مقدماتها لتفاصيل نعرفها في عَرَض سورة الحشر ...
ألم يقل سبحانه فيها عنهم : " اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) "-المجادلة-

لتأتي هذه الآية الجديدة من سورة الحشر، تحذّر المؤمنين من أن يكونوا مثل الذين نسوا الله، هم الذين بينت لنا آية سورة المجادِلة أنهم حزب الشيطان، وأنهم نسوا الله من استحواذ الشيطان عليهم، استحواذ يصل حَدَّ الائتمار بأمره ...استحواذ صيّرهم في دائرة الخاسرين ...

وتزيد الآية هنا :"نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ"
نسوا الله تعالى، وأعرضوا عن أمره، فأنساهم أنفسهم،  أنساهم أن يلتفتوا إليها بنظر أو بعقل، وقد عرفنا وصفه سبحانه لهم بأنهم لا يعقلون، وبأنهم لا يفقهون، أنساهم أنفسهم بأن حُرِمتْ أنوار الهداية، لأنها التي أعرضت عن الذكر، أعرضت عن هذا الكتاب الذي يذكّرها إذا نسيَتْ، ويقوّمها إذا اعوجّت، ويرويها إذا ظمئِت، ويأخذ بيدها إن هي تاهت في غمرات الدّنيا ... !

ولنتأمّل ... الآية التي سبقتها تحديدا، ألم تكن فيها تذكرة للمؤمنين ؟ !
بلى ... هي التذكرة بأن تنظر النفس ما قدّمت لغد، أن تعيد النظر في عملها، وفي زادِها لسفرها القريب إلى "غَدْ" ... فأنّى لحزب الشيطان أن يتذكّر وهو الذي أعرض عن التذكرة، وأعرض عن الذّكر، أعرض عن هذا الكتاب الهادي ...المنقذ من الضلال، المُرشد من التّيه ... !

والظاهر من أمر الدنيا إن أنتَ رقبتَ الكافرين، أنهم الذين يُولُون أنفسَهم أكبر اهتمام، فهم الباحثون عن السعادة أبدا، الساعون لحياة الرّفاه والتّرف، الموغِلون بالعلوم والتكنولوجيا لتسهيل سُبُل الحياة، وسُبُل اغتنام ساعتها في العبّ من زينتها، والغرق في شهواتها وملذّاتها... !

نعم هم الباحثون عن الراحة الظاهرية في الدنيا، ولكنّهم الفارّون من كل ما يُضيء عتمات أرواحهم، أو بالأحرى هم التائهون عن راحة الروح، وعن حياة الروح، وعن ماء الروح ... هُم الضالون عن معنى الروح، وهم يحرمونها سرّ حياتها... فأرواحهم في نَصَب، وهُم معها في عِداء وعلى مُجافاة، لا تتصالح أنفسُهم إلا مع ما يزيدها تَيْها، ويزيدها ضياعا، فهُم المُسلَكُون عذابا صَعَدا... ! 
عذاب الروح التي يُخَيَّل لصاحبها أنه يورِدُ نفسَه موارد السعادة، بينما هو يُورِدها المهالك ... ! هم النّبتة المنقطعة عن ماء حياتها، فأنّى لها أن ترتوي ؟ ! هم التائهون عن حياة أرواحهم فأنّى لهم أن يحيوا ؟ !

هم الذين يحيون للدنيا ولا شيء غير الدنيا، فهي حدودهم وهي المبتدأ والمنتهى، فأنّى لهُم أن يستزيدوا للسفر القريب ؟ !  "فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ".

النفس التي لا تنسى نفسها، هي التي تذكر "غَدْ"، وتُعِدّ لغَدْ، وتنظر فيما قدّمت لغَدْ، هي الموصولة دنياها بآخرتها،  أما الغارقة في لُجّ الدنيا فعلى ما يبدو من أبجديات الظاهر وأبجديات الدنيا أنها التي لا يهمّها إلا نفسُها فإنما هي الناسية نفسَها ... !   تِلكُم هي حقيقتها، نسيت "غَدْ" فما عملت له... استمسكت بالفاني، وأعرضت عن ربّها وعن جزاء منه هو الباقي... !

ويذيّل سبحانه الآية بوصفه إياهم بـ : "أولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون" أي الذين خرجوا عن أصلهم، عن أصل الوجود، وعن أصل الغاية من الوجود ... خرجوا عن أمر ربّهم فيهم، -وكما ذكرتُ آنفا- هُم المعلّقون في هواء وخواء، فلا أصل لهم ولا امتداد، ما هُم إلا كقصر من رَمْل سُرعان ما تأتي عليه موجة فتصيّره هباء ... ! لا أصل ولا مَنبَت... !
هم حزب الآمِرِ فيهم، المستحْوِذِ عليهم، الذي سيؤول أمرُه مع الآيِلين لله ربّ العالمين، ذاك الذي سيتبرأ منهم، وسيدّعي أنه يخشى الله ربّ العالمين ... ! فلا تكونوا مثلهم... !

وقد جاء بإسناد جيد عن نُعَيم بن نمحة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه خطب في الناس مرة فقال قولا عظيما :
" أما تعلمون أنّكم تغدون وتروحون لأجلٍ معلومٍ ، فمن استطاع أن يقضيَ الأجلَ وهو في عملِ اللهِ عزَّ وجلَّ فليفعلْ ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزَّ وجلَّ ، إنَّ قومًا جعلوا آجالَهم لغيرهم ، فنهاكم اللهُ أن تكونوا أمثالهم : {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أين مَن تعرفون من إخوانِكم ؟ قدِموا على ما قدِموا في أيام سلَفِهم ، وخلَوْا بالشَّقوةِ والسعادةِ ، أين الجبارون الأولونَ الذين بنوا المدائنَ وحصَّنوها بالحوائطِ ؟ قد صاروا تحت الصَّخرِ والآبارِ ، هذا كتابُ اللهِ لا تَفْنى عجائبُه ، فاستَضيئوا منه ليوم الظُّلمةِ ، واستنصِحوا كتابَه وتبيانَه ، إنَّ اللهَ أثنى على زكريا وأهلَ بيتِه فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } . لا خيرَ في قولٍ لا يرادُ به وجهُ اللهِ ولا خيرَ في مالٍ لا يُنفَقُ في سبيلِ اللهِ ، ولا خيرَ فيمن يغلِبُ جهلُه حِلمَه ، ولا خيرَ فيمن يخافُ في الله لومةَ لائمٍ " –تفسير القرآن لابن كثير-

ولقد طرقتْ بنا هذه الآيات باب الآخرة ... لقد امتدّت بنا من المِهاد إلى المنتهى... إلى نقطة الوصول... إلى نقطة الرجوع إلى الله، والمُثُول بين يَدَيه، الذي منه الخلق والأمر، وإليه الرجوع ...من الدعوة إلى النظر فيما نقدّم لغَدْ.... نقدّمه هنا في دنيا المؤمن الموصولة بالآخرة، التي هي دار العمل لها ...لنجدَنا هناك ... لنجدَنا مع أبجديات الآخرة، ومع عناصرها، مع مآلات الإنسان فيها ...

وتلوحُ بهذا ملامح "الحشر" ... ! الحشر ليوم القيامة، حشر الناس جميعا ليوم الحساب... يلوح لنا الحَشر مع تسمية السورة، فإذا كلّ ما فيها بكل عناصره متوائم، متلائم، أول حشر اليهود بقصة بني النضير، ليتعاقب عليهم الحشر وتطريدهم على مدى الزمان، وحشر الخَلق للقاء خالقهم، والسورة تجمع الحِزبَيْن، حزب الله وحزب الشيطان، تصنيفَيْن للبشر على حقيقة تصنيفهم في الأرض ...

"لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)"

هي ذي خُلاصة كلّ ما عرفنا ... فريقان في الدنيا كان الناس، حزب الله وحزب الشيطان ... وهما كذلك في "غَدْ" فريقان، أصحاب الجنة وأصحاب النار...
هو ذا مآل الإنسان، إما إلى جنة وإما إلى نار، وفي هذه السورة العظيمة التي جمعت فئات الناس، بالتسلسل الذي عرفنا، وبالانتقال والسَّوْق الذي عايشْنا درجة إثر درجة، وآية إثر آية ... حتى إذا نحن مع الناس بأصنافهم في الدنيا ... لنجِدنا الآن معهم بأصنافهم ومآلاتهم في الآخرة ... باتساق بديع دقيق،  وبسَوق رشيق ... !

نجِدُنا من قصة غزوة إلى كل هذه الشموليّة، والإحاطة والربط بين البداية والنهاية، بين الحال وبين المآل، بين الدنيا وبين الآخرة ...
هكذا هو حال القرآن العظيم، سورة من صفحات قليلة نعيش معها كل هذه المعاني.... !
نمخُر عُباب بحر ممدود يأخذنا من قصّة غزوة إلى فضاءات ورَحَبات، ومع كلّ إبحار لك، أنت مع قصة جديدة، أنت مع قصتك، مع قصة وجودك وإيجادك... !

أنتَ تستكشف وتعرف، وتفهم... تفهم معنى الحياة، وتتبيّن لك حركة الوجود مع نعمة الإيجاد ... فتلامِس الإنسانية كما لا تُلامسها من اجتماعات وقرارات وهيئات كونيّة تُقِرّ للإنسانية قوانينا وبنودا ... ! تُلامِس معنى أنّ كل هذا لم يكن ليكون باطلا، وهباء، وبلا غاية، وبلا موجِد عظيم، كامل قويّ قادر مقتدر، حكيم عليم عزيز، كلّ الأمر منه، وكل الأمر إليه آيِل  ... !

"لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)"
لا يستوي في الدنيا مَن كان من حزب الله، ومن كان من حزب الشيطان...لا يستوي مَن كان موصولا بربّه، مُقرّا بعبوديته له وحده، مع مَن أعرض عنه، وأقرّ بعبوديته لهَواه، لكِبْرِه ولعناده، وهو يُقرّ الهباء والهواء قانونا، فيقول بلا شيئية الحياة، وبلا غائيّتها، وبأنها من لا شيء إلى لا شيء ... !

"أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ"
وَيْكَأنّه سبحانه لم يخلقنا إلا لنكون من الفائزين ... !
كيف لا، وهذا القرآن وفيه التذكرة، وفيه التربية، وفيه الترقية، وفيه التزكية ... هذا الذي لا يُرَدّ فيه مذنب يَطرُق باب الرّحمان، ولا يخيب فيه عبد انطرح ببابه، ولا يشقى فيه مَن عمِلتْ فيه الذكرى، فأزهرتْ نفسُه بعد قفار، وارتوت بعد ظمأ، وانتشلها من غرق، وداواها من سَقَم ... !

ويحضرني ها هنا قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى." –صحيح البخاري-
لتأتي الآية الموالية تحمل سبب الفوز بالجِنان، تحدّث عن عظمة القرآن العظيم ... هذا الذي من ذَكَرَه قد ذكر نفسَه ونفعها، وأنجاها، ومن أعرض عنه فقد نسيها وظلمها وأهلكها ... !

"لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)"

هذا القرآن الذي فيه التذكرة، الذي هو منجاة الإنسان، والذي هو مِشْكاته على درب الحياة، هذا الذي فيه بيانُ حال المؤمن وحال الكافر، ومآل المؤمن ومآل الكافر... هذا الذي يحمل الدعوة إلى ضرورة اتصال العبد بخالقه، وأنّها العلاقة الوجوديّة الضرورية التي تجعل الإنسان على سويّة من أمره، وأنه من دونها هباءة ذاهبة في الهواء لا يقرّ لها قرار... !

فيه وحدانية الله، وفيه نفي الشركاء عنه سبحانه في الخلق وفي الأمر كلّه، هذا الذي فيه عظمته وطلاقة قدرته، وفيه حاجة الإنسان الدائمة له سبحانه، وأنه الذي لا غنى له عنه، ومن نسيه أنساه الله نفسَه ... !
هذا الذي فيه الغاية من إيجاد الإنسان، الذي إن هو استمسك بالله وبعروته الوثقى ما ضلّ وما خاب، وإن هو أعرض عنه فقد أردى نفسَه المهاوي والمهالك، وجعلها قشّة هباء في الهواء لا تُمسِك ولا تُمسَك ... !

"لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ..."

ما أشدّ مناسبة كلمات القرآن لكل زمان ! وأنا تتمثّل لي الجماعات من الناس والجماعات، والصيحات من فاسد الاعتقادات والصيحات، التي يصنعها البشر صناعةً لأنفسهم، من يصنعها دينا جديدا على مقاسات أهوائه، وغيره يصنعها بألوان وألوان ..... فمِن زُمرَتهم القائلون بالربوبية مذهبا، وهم فريق يؤمن بوجود خالق، ولكنهم لا يؤمنون باتصاله بعباده عبر الرسالات والكتب والرسل، بل أنه الربّ الذي خلق  ثم ترك ... !

في معرِض هذه الآية تحديدا ومع تركيبها البديع الدقيق حضرني هذا الصنف من الناس، ومن العقائد الفاسدة المُهلِكة .. ذلك والآية تذكر القرآن ووزنَه، وأنّ ما فيه سببٌ لخشية الله تعالى، لو أنزِل على جبل -مع عظيم قوّته وتمام رسوخه- لخشع، بل لتصدّع من خشية الله "... لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ "

لو أنزِل بما يحمل من عظمة الله تعالى العزيز الحكيم الذي ينصر عبادَه المؤمنين الصادقين، فيسلّط رسُلَه على أعدائهم، ويقذف في قلوبهم الرّعب، وتجتاح صدورَهم الرهبة، وتذهب ريح عددهم وعُدّتهم وقوّتهم و مادّتهم، لو أنزِل هذا القرآن الذي يحمل عزّة الله سبحانه، وفِعْلَه لما يريد، وتحقّق إرادته في أرضه على جبل لرأيتَه خاشعا، متصدّعا خشيةً ورهبة من هذه العظمة ومن هذه القدرة... من هذا الإله العظيم... !

هو سبحانه أحقّ أن يُرهَب، وهو أحق أن يُخشى ... ومن لم يعرف من نفسه خشية له، ومن لم يجد في صدره رهبة منه فأولئك الذين لا يفقهون، وأولئك الذين لا يعقلون... !

وما خشية الله تعالى إلا بابٌ من أهم أبواب طاعته والإذعان لأمره، فهو الربّ الذي يُخشَع له ويُخشى، فيُعبَد، يُطاع أمرُه ويُنتهى عن نهيه، هو الربّ الآمر في عباده والناهي، الهادي والمربّي سبحانه، هو الذي أنزل لمَن خلق قانونا يُتَّبَع، وليس لغيرِه أن يَسُنّ للأنفس القوانين وهو العليم بكل حالها، قانون لا يقارَن أصلا بقوانين يتشدّق بها مَن تفلسف ومَن تحذلَقَ، على اختلاف أهوائهم ومداركهم ومشاربهم، ومن حسِب أنه قد وجد ما يسيّر البشرَ، وما يحقّق لحركتهم الكمال والتمام.

سبحانه خلق الإنسان ولم يتركْه بلا هُدى : " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ " –المؤمنون: 115 - 
"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ" –الأنعام:91-

لذلك أشارت الآية إلى عظمة القرآن وثقل ما فيه، وأنه الحامل على تولّد الخشية من الله الخالق المعبود وحدَه سبحانه  : " طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3) تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ  لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ (8) " -طه-

وتُذيَّل الآية بقوله سبحانه:
"...وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"

وقد مضى مَثَلان في الآيات السابقة، أوّلهما ضُرِب للمنافقين وكَفَرة أهل الكتاب بالمشركين الذين ذاقوا وبال أمرهم، وثانيهما بالشيطان إذ قال للإنسان اكفُرْ ...

وكلّها يضربها الله للناس ليتفكّروا، والتفكّر شيء غير التعقّل، إذ يُعَرَّف العقل على أنه إدراك ووعي ومعارف وخبرات مخزونة، بينما التَّفَكُّر تَأَمُّل وتَدَبُّر، وربط بين العلاقات والأسباب، ثم استنتاج ووصول إلى فهم أعلى  من مجرد المعرفة.
لذلك تُضرَب الأمثال بما يعقِله الإنسان من مشاهدات ومِن معارف مخزَّنة، حثّاً له على التفكّر، مستدِلّا على فهم العِبرة المُرادة والحكمة المستَهدَفة ...

لعلنا نتفكر من خلال ضرب هذه الأمثلة في هذه السورة العظيمة فنفهم الحقائق التي كشفتها لنا من حال المتآخين في الكفر، الذين لا تقوم لهم قائمة لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة، الذين لحقتْهم الهزائم من المؤمنين ساعة كانوا على يقين من دينهم، ومن معيّة الله لهم وهُم أهل إعلاء كلمته وحُكمِه...  ساعة كانوا أشدّاء على الكفار، رحماء بينهم، فلا يوادّون مَن حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، ساعة كانوا حزب الله حقا، فصدقوا الله، فصدقهم الله، وكانت الدنيا بكل بُهْرجها لا تساوي عندهم شيئا إلا أن يعلنوا فيها وَلاءَهُم لله ولرسوله، ونَصْرَهم لله ولرسوله...

حينما كان اللاحق منهم يدعو للسابق، ويُقِرّ له بالجميل، وبسَبْقه للإسلام ولنصرته، وبأنّه الأثر المُقتَفَى، لا لأنّه المُقدَّس على رأي الدّاعين لمُراجعة القديم -وإن كان شمساً لا تحول ولا تزول ولا تتبدّل، و هي القديمة الجديدة أبدا-  بل لأنه الذي تعلّق بالله، ونصر الدين كما يجب أن يكون النصر، ولأنه الذي شهد له الله في قرآنه أنه الذي حقّق العبودية كأحسن ما يحقّقها عبدٌ ... وأنه الذي حقق الاستخلاف كأحسن ما يحقّقه إنسان ...

إلا أننا نحن المسلمين اليوم لا نتخذها قواعدَ مسلّما بها، غمّى علينا حالُنا وضعفنا وهوانُنا، فصار المنقطع عن الله بأعيننا قويّا من قوّته بمادّته ووسائله ... !
هكذا هو التفكّر فيمَن كان قبل بني النضير، وفي الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، أولئك ذاقوا وبال أمرهم في الدنيا بما مُنوا به من هزيمة، والشيطان إذ أهلك الإنسان واعدا ومزيّنا كذبا وبهتانا، حتى إذا حانت ساعة الفصل تبرّأ منه  ... فهو ومَن اتّبعه في النار ...
هلاك في الدنيا وهلاك في الآخرة ... هذا ما يتحقّق من نصر الله لعباده المؤمنين عندما يكون المؤمنون على خطى حزب الله من المُوادّة لله ورسوله، والمُحادّة لأعداء الله ورسوله، ومن الاعتزاز بالدين، ومن ابتغاء الفضل والرضى من الله وحده، لا من سواه ... عندما يتحقّق التوجه الخالص له سبحانه، عندها تتحقّق في الأرض هذه القاعدة لا ريب ... !
« آخر تحرير: 2020-09-11, 10:51:50 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ونأتي على ختام السورة العظيمة بهذه الآيات الثلاث، وفيها أسماء من أسماء الله سبحانه، وصفات من صفاته، من بعد ما قدّمت الآيات السابقة لعظيم سلطانه وجلال قدره، ولطلاقة قدرته، ولتصرّفه في خلقه، ولعَدْلِه، ولفصله في قرآنه بين الحق والباطل، ولبيانه لحال المؤمن والكافر ولمآل كلّ منهما  ... من بعد ما قدّمتْ للفرق بين الموصول بالله، والمنقطع عن الله ... وقدّمت الآية السابقة تحديدا (21) لعظمة القرآن، ولعظمة مُنزِلِه سبحانه ...

"هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)"

"هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ"

سبحانه الذي يتصدّع الجبل خاشعا من خشيته، الأحقّ أن يُخشى، والذي تجب له العبادة وحدَه. سبحانه الذي لا إله إلا هو، وحدَه تذِلّ له الرّقاب، وتخضع له الأصلاب ...المحيط علما بكل ما نشهد وبكلّ ما يغيب عنا،  يُدركُ الأبصار، ولا تُدركِه الأبصار... "...عَالِمِ الْغَيْبِ  لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ "-سبأ: من الآية03-

"هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ"

قال تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء"-الأعراف: من الآية156- .

وقال النبي  صلى الله عليه وسلم : "جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وتِسْعِينَ جُزْءًا، وأَنْزَلَ في الأرْضِ جُزْءًا واحِدًا، فَمِنْ ذلكَ الجُزْءِ يَتَراحَمُ الخَلْقُ، حتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حافِرَها عن ولَدِها، خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَهُ."-صحيح البخاري-

والرحمن معناه الكثرة، يشمل كل الخلائق من دون استثناء، ويشمل المؤمن والكافر.
والرحيم رحمةً خاصة بالمؤمنين : "وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً".
وبالنظر إلى موضوع السورة، ومحاورها، يأتي الرحمان، للتدليل على شموليّة رحمته سبحانه، وهو يرحم الكفرة والعُصاة من عباده، وهو الذي تسبق رحمتُه عذابَه، فهو سبحانه ما كبَت بني النضير وما أذلّهم إلا وقد سبقتْ إليهم رحمتُه.

رحمهم حينما قدِم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مسالما، موادعا، لم يبادرهم بحرب، بل ترك لهم أملاكَهم وحصونهم وأراضيهم، وتركهم على ما هم عليه، ولم يُغصِبْهم على اتباعه، بل دعاهم إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادَلَهُم بالتي هي أحسن.

رحمهم بالإمهال والنبيّ بين ظهرانيهم، وهم الذين يعرفون أوصافه من كتابهم، يسمعون منه، ويعاينون سلوكَه ورحمته وعَدْلَه... !
سبقت منه إليهم الرحمة بأن كانوا ممّن عاصروه صلى الله عليه وسلم دون أسلافهم الذين ماتوا على الكفر والتحريف والتبديل ... ولكنّهم أصرّوا على الكفر وعلى المناوأة، وبدؤوا بالخيانة والغدر والدسّ والتآمر.

رحم  سبحانه المنافقين، وهو لا يوصد باب التوبة في وجه أحد، رحمهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا ينقلب على رئيسهم عبد الله بن أبَي بن سلول رغم ما عرف منه من آيات النفاق، لئلا يُقال محمد يقتل أصحابَه ...بهذا وبكثير غيره تسبق رحمتُه عذابَه سبحانه... !

وقد جاءت "الرحيم" من رحمته بعباده المؤمنين الموادّين له ولرسوله، المُحادّين لمَن حادّه وحادّ رسوله، الرحيم الذي تولاهم، ونصرهم على عدوّهم، وشفى صدورهم، وآتاهم من فضله، وربّاهم، وهذّب سلوكَهم، وزكّاهم، وطهّرهم، وغفر ذنبهم، وستر عيبَهم، وأرشدهم، وحبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم، وكرَّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان،  وجعل نبيَّه بهم رؤوفا رحيما، وأعلى ذكرَهم، وشهد لهم بالصدق والفلاح، ووعدهم بالفوز والنجاة يوم الجزاء الأعظم...
وانظر إلى سور الكتاب وهي المستَهَلّة كلّها باسم الله الرحمان الرحيم !

"هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)"

الملك الذي له مُلْك السماوات والأرض، ملك الدنيا والآخرة سبحانه .

فإن طار ملوك الدنيا بقطعة منها مَلَكُوها، فتجبّروا وظلموا وعتوا، فهو سبحانه مَلِكُها، وملك يوم الدّين، يومَ لا تسمع للملوك رِكزا ! وكُلُّهم آتيه فيه عبدا ... ! يوم يقول فيه سائق الكَفَرة إلى حَتْفِهم، سيّدهم وربّهم المعبود :  "إني أخاف الله رب العالمين " !!
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَطْوِي اللَّهُ عزَّ وجلَّ السَّمَواتِ يَومَ القِيامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بيَدِهِ اليُمْنَى، ثُمَّ يقولُ: أنا المَلِكُ، أيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أيْنَ المُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الأرَضِينَ بشِمالِهِ، ثُمَّ يقولُ: أنا المَلِكُ أيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟"-صحيح مسلم-

القدّوس سبحانه الجامع لكلّ أوصاف الكمال والجمال والجلال، المُنزَّه عن كل عيب ونقص، وعن كل وصف وعن كل خيال. وقد جاء في الأثر: (كل ما خطر ببالك فهو هالك، والله غير ذلك). وهو الاسم الذي يناسب كل المناسبة ابتداء السورة بالتسبيح وانتهاءَها به.

السّلام سبحانه...

فليس حديث غزوة أو حرب، أو جهاد في سبيل الله، بالذي يُعطي عن الدين صورة الحروب والقتال، كما يسارع لذلك مُدّعو السلام المزعوم، وهم من تحت طاولاتهم يُثيرون نَقْع أشدّ الحروب شراسة، لا يستكثرون إبادة البشر كلّهم ظلما وعُدوانا واعتداء، في سبيل  نهب ثروات الشعوب، واغتصاب أراضيهم... !

وليس حال الغرب اليوم وهو المعتدّ بالقوة والمال عنا ببعيد، واليهود من ورائه آمِرون ناهون، وهُم يصِمون الإسلام بالإرهاب والاغتصاب، والحروب والقتال، بينما هُم أولاء باسم السلام وباسم إنقاذ العرب والمسلمين من حُكم الطُّغاة المستبدّين، وباسم محاربة الإرهاب ينتهبون بلاد الإسلام قطعة إثر قطعة ... ويستضعفون كل شعوب الأرض، لقضاء مآربهم، لا تأخذهم في سبيلها رحمة ولا شفقة ... ! وبنو الإسلام –يا حسرة- أوّلُ من فتح لهم الأبواب ! لأنّهم الذين انبهروا بالمادّة إله، فنبذوا دينَهم وراء ظهورهم، وكبّروا وهللوا وسبّحوا باسم أرباب المال والسطوة !!

هُم المقنّعون بوجه الحمام، المتستّرون بجلد الحَمَل الوديع، وسُمُّهُم الناقع الزُّعاف من خلف القناع، ومن خلف الجلد يُنفَث، ودمويَّتُهُم في سبيل مصالحهم سموها ماء مُحيِيا للشعوب المسكينة، فردّدت مِن خلفهم الببغاوات المسكينة : "صدق المخلّص العظيم... صدق المخلِّصً العظيم" !!

هو سبحانه السلام، وقَطْع دابر الذين كفروا حقيقتُه سلام... لأنه إعلاء للحق، وإبطال للباطل، إعلاء لكلمة الخالق العظيم الرحيم العدل سبحانه، وتسفيل لكلمة الكفر وألوهيّة الهوى وانتفاش الباطل وأهله. "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" –الأنعام:45-

الْمُؤْمِنُ . يقول القرطبي : "المؤمن أي المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب"
هو الذي يأمَن خلقه في كنفه سبحانه، ويأمَنون من أن يظلمهم، السلام والأمان في رحابه ...  الطمأنينة وراحة البال والسكينة في جَنابه... !

الْمُهَيْمِنُ سبحانه، الذي بيده الحفظ والعطاء كلّه، والرقابة والشهادة على عباده، بلا ظلم ولا نقص ...

الْعَزِيزُ  الذي لا يُغلَب سبحانه ...

يقول الشيخ النابلسي: "هو الذي لا يعجزه شيء، الشديد في انتقامه من أعدائه، والذي عزّ كل شيء فقهره وغلبه، والمنيع الذي لا ينال ولا يغالب، ذلت لعزته الصعاب، ولانت لقوته الشدائد الصلاب، وهب العِزّة لرسوله وللمؤمنين، فمن أراد العزة فليطلبها بطاعة الله، والتمسك بكتابه وسنة نبيه"
وقد بدأت السورة بـ"العزيز"، وهي ذي تُختَم به، سبحانه الذي  يَغلِب ولا يُغلَب، الذي أعزّ عباده المؤمنين، فهُم حِزبُه، وأذلّ الكافرين ومَن معهم فهم حزب الشيطان...

الْجَبَّارُ سبحانه الذي يجبر القلوب الحزينة، ويداوي النفوس الكسيرة، ويجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر، ويعوضه على مصابه أعظم الأجر. وفي السورة، عرفنا كيف جبر كسر المهاجرين، وآسى حُزنَهم وقد أُخرِجوا من ديارهم وأموالهم، فعوّضهم بالأنصار إخوانا، وبدارهم دارا ومُقاما ...

الْمُتَكَبِّرُ فليست الكبرياء رداء لغيره سبحانه، وقد جاء في الجواهر: "المتكبر بربوبيته فلا شيء مثله، المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم، وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وعَدَم الانقياد " ...

وليس كختام الآية ما نختم به هذه الأسماء  العظيمة : "سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ"

لنبلغ الآية الأخيرة :
"هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)"

هو الله الخالق، البارئ، المصوّر وكلها أسماء لخلقه سبحانه، الموجِد من عدم، له الأسماء الحُسنى، خير الأسماء وأحسنها، وخير الصفات وأعظمها ...

وكما بدأت السورة تنتهي : "...يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"
وجاءت العزيز ثلاث مرات، وهو الذي يُعِزّ أهله، وجُندُه، ويُذِلّ أعداءه ومُشاقّيه ومُحادّيه ... سبحانه العزيز الحكيم ...
فأيّ أحلام هي لمَن أعرض عن ربّه العظيم الذي له الأسماء الحُسنى والصفات العُلى، وتولّى، وجعل إلهَه هَواه، وبخس عقلَه حقَّه، وهو يحسب أنّه يُحسن صنعا .... ؟! 

وتتزيّن له الدنيا وتتفتح له زهراتها، ويُزيّن له اللعين المخذول الكاذب،  فيستجيب له مطيعا مُذعنا لأمره وهو الخاسئ الضعيف، فيركَنُ إلى هوائه وهباءته ويحسب أنّه يحسن صنعا ...!

يملك، ويقدر، ويعلو، فيتسلّط ويتجبّر، ويرى نفسَه الذي استغنى عن خالقه، فيُعلنها حربا على الله وعلى رسوله، ويحسب أنه يُحسن صنعا.. !

ويُملي له ربُّه ويُملي، وهو الذي لا يفطِن ولا يستيقظ من حلمه القاتم الأسود، فيحسب أنه الإله المعبود في الأرض بماله وسلطانه وبخَدمَته المطيعين المتزلّفين المتملّقين.... ويحسب أنه يُحسن صنعا ... !

ويغفل عن العظيم القدير العليم الخبير، العليّ المتكبّر سبحانه ... !

وإنه هو وربُّه المُطاع،  خاسران خاسئان خائبان، يوم لا ينفعهما حسرة ولا ندامة ولا تبرّؤ ... !
وها قد أقرّت "الحشر" قوانينَها... وتالله هي الحقّ وهي الواقعة، نصر من الله مبين لعباده المؤمنين الصادقين المُحادّين لكل من حادّ الله ورسوله، وخِذلانٌ وكَبْتٌ وإذلال للكافرين المُشاقّين لله ورسوله...غَلَبة هي لله ولدينه، ولرسوله، متحقّقة لا ريب ... وهي التي كتبها الله سبحانه ولا رادّ لما كتب... "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي" ... ونورُه المُتَمُّ ولو كرِهَ الكافرون...!

ولكن.... !!

ما أقامت الأمّة أمرَ الله، وما كانت ذلك الحبل الموصول بالله، من بدايته إلى منتهاه ... عبر الزمان مَدّا مدّا،  سلسلةً لؤلؤيّة لا تنقطع،  حبّاتُها المؤمنون الذين هُم من رحِم الإيمان الولاد إخوانٌ فيه، يحبُّ أولُهم آخرَهم، ويحبّ آخرُهم أوّلَهم... مُحادّون لمَن حادّ الله ورسوله وإن ملكوا الأرض كلّها بسُلطانهم !!
وسبحان الذي يُسبح له ما في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم ...
« آخر تحرير: 2020-08-20, 11:06:28 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب