المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (المرســلات)  (زيارة 1048 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ونصل بفضل الله تعالى إلى ختام جزء المُلك... هذا الجزء المبارك ... الذي بُدئ بسورة "تبارك" ... سورة الملك العظيمة...ويُختَم بسورتنا هذه "المرسلات" ... هذا الجزء العامر الحافل، الذي ربّانا وشحذ هِمَمنا على درب الحياة إلى الحياة الأخرى ...

لا تخلو سورةٌ من سُوَرِهِ من ذكر اليوم الآخر... وذكرُهُ في كلّ سورة جديد، يأخذ من طابع السورة وسَمْتِها، فيتنوّع ذكرُه وهو الواحد، ونأخذ جديدا عنه في كلّ مرة، ومع كل سورة ...
فبينما تُعنى "الحاقّة" بذكر مآلات الناس يوم القيامة بين أصحاب يمين وأصحاب شمال، تُعنى "المعارج" بما يمهّد للإنسان في الدنيا أن يصير إلى فريق بين الفريقَيْن، فيفصّل أكثر ما يفصّل في شأن معراج الرقيّ الإيمانيّ الذي مبتدؤُه المداومة على الصلاة، ومنتهاه المحافظة عليها صلةً بين العبد وخالقه المربّي...فبين المبتدأ والمنتهى درجات هي الحياة بنفحات الوِصال والإيمان روحا للحياة ومعنى...

وفي سورة القيامة خطفات بإيقاعات تهزّ النفوس، بآيات تستشعر من قِصَرِها عجلة الدنيا، وسرعة انقضائها، وسرعة حلول يوم الامتثال بين يدَي الله ... يوم القيامة ...وقدرة الله على الإحياء وبعث الروح، سرّ الحياة التي هي لله وحده لا لسواه،  بينما هُم يتمارون في جمع العظام، ويرونها مُحالا من المُحال !

وغيرها من الأجواء التي تختلف بين سورة وأخرى، وهي تحدّث عن اليوم الآخر، وتُرسّخ الاعتقاد به، مع ما في السور من شدّ لوثاق العقيدة في القلوب بترسيخ التصوّرات الإيمانية المختلفة، من مثل الإعلان القويّ في سورة الجنّ، من الجنّ والإنس سواء بسواء أنهم عبادٌ لله سبحانه، وأنه العليم المحيط علما بكل شيء، فلا يعلم الغيبَ إلا هو، ولا يقدر، ولا يقدّر إلا هو، ولا يُعاذ، ولا يُلاذ بغيره، ولا يُمتنَع ولا يُستجار بغيره، في تربية عقديّة متينة على الاستمساك بحبل الله وحده، وإلقاء كلّ الحبال الواهية التي صنعها الإنسان بأوهامه وخيالاته واختلاقاته، كاختلاقه للجنّ قوة ليست له، وسطوة على الإنس ليست له ...

وتتخلّل السورَ العظيمة في هذا الجزء العظيم المبارك، سورة عن المزمّل وأخرى عن المدّثّر، وهو هو صلى الله عليه وسلم، سورٌ تعطينا صورة عن تماهيه صلى الله عليه وسلم مع الرسالة العظيمة التي أوكِل له تبليغها، فزادٌ له في المزمّل على درب مهمّته العظيمة الجليلة، قياما بين يدي الله أناء الليل، وفي المدثّر قياما بالرسالة،  فقام صلى الله عليه وسلم من يومها، لم يفتُر حتى بلغه أجلُه ...
وهكذا ... أجواءٌ عظيمة عايشناها، ولامَسْنا حيويّتها وضرورتها لاعتقاد المؤمن  وسيرورة حياته، ومستقبل مآلاته...
والغالب أن كلّ سورِ هذا الجزء مكيّة ... ولَشَدّ ما نحتاج في زماننا إلى أن نكون مكيّين قبل أن نتمدّن ...! ما أحوجنا إلى توثيق عُرى العقيدة في قلوبنا والتثبّت من إيثاقها، وشدّ أسرِها فينا ...!

فإنّنا نتحرك في الدّنيا، ونضرب في الأرض، ونعيش، ونعايش، ويغلب علينا العَيْش للعَيش، للحياة للدنيا وكأنّها الأولى والآخرة ...! الحياة لمستقبل هو فيها، وكأنه ليس بعدها مِن شيء ...!
غلب على القلوب حُبّ الدنيا...واللّهث خلفَ الدنيا، دون حساب لخروج منها، ورحيل عنها، دون حساب لزاد الرّحيل...!
وليْتَ شعري...! المسلمون اليوم فيها تُبَّعٌ لا يسمعون إلا دعاء ونداء ...!! ضيّعنا الأمانة، وما بلّغنا الرسالة ... رسالة هي ميراث الأنبياء والرُّسُل ... هي ميراث محمد صلى الله عليه وسلم لأمّته التي علّم أفرادَها أنّ كلا منهم مسؤول وأنّ كلا مسؤول عن رعيّته، وأمرهم أن يبلّغوا عنه ولو آية ...!

ما أحوَجَنا أن نكون مكيّين ... !! ما أحوَجنا أن نبدأ بهذه السُّوَر تربية لنا على درب الحياة، مشكاةً لنا على درب الحياة ... حتى نعيش الدنيا ونحن نرنو للآخرة ... ونحن لا نَقْصُر أنظارَنا على الدّنيا عبادةً لها من دون الله، أن نكون مكيّين لا بذلك الفهم المُشوَّه الذي صور إحكام العقيدة في القلوب برمي الدنيا، وإهدائها لغير المسلمين على طبق من ذهب، والإهداء يُردَف بقولة:  "كلوا واشربوا هنيئا مريئا" حتى صرنا تحت نَيِرِهم مستعبدين، مستضعفين، بمنطق القوّة التي آلت إليهم، فيما آل الضعف إلينا ...!
لن أسترسل فالخَطب جَلَل...! ونحن ننسب تقاعسا منا وقعودا للقرآن وللدين...! وفي القرآن وآيِه العظيمة كفاية تربية وبيان لما يكون عليه حال المؤمن في دنياه ... العَيش به وبمُراداته أسمى مايبلغه إنسان، وإعلاء كلمة الله وأمرِه وحكمِه غاية ما يحقّقه على وجه الأرض ... 

"المُرسلات" .. آخر سورة في هذا الجزء العظيم ...مكيّة هي غالبا، قال في نزولها  عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "بيْنَما نَحْنُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَارٍ بمِنًى، إذْ نَزَلَ عليه: والمُرْسَلَاتِ وإنَّه لَيَتْلُوهَا، وإنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِن فِيهِ، وإنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بهَا..."-صحيح البخاري-

لم يكن أحدهم يسعد بشيء في الدنيا كسعادته بنزول القرآن رطبا، نديّا، غضّا، هديّة من السماء إلى الأرض، وهداية من ربّ السموات والأرض إلى أهل الأرض ...
وإنّ الواحدَ منهم وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومُعايشُ عصرِه، وحيُّ زمانِه، لَموفور حظ، وحَسَن طالع ...كيف لا وهو ينعم بالرسالة وبالرسول معا، بالقرآن ينزل نديّا جديدا، يُصبح ويُمسي وهو يسأل أيُّ آيٍ من القرآن قد نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم ... وهو يصلّي خلفَ رسول الله، ورسول الله يقرأ بهم في ركعة مما عرفوا قبل يومِ صلاتهم ذاك، ويُلحِق جديدا من السورة نزل عليه حديثا ... فيكون أول عهدهم بالجديد منها صلاةً كانت خلف رسول الله ...!

أو ربّما كان أول عهدهم بالآيات الجديدة، أو بالسورة الجديدة وهم أصحابه في سفر، أو أصحابُه في جلسة بين الجلسات...أو ربما ذهب إليه أحدُهُم في حاجة له عنده، فينزِل عليه الوحيُ في شأنه... من مثل ما كان من أمر خولة بنت حكيم رضي الله عنها، وهلال بن أميّة وقد كان ذهابُهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفتِيَيْن سببا في نزول آيات في حُكمَين من أحكام الأسرة في الإسلام ...
كانوا يعرفون أنّ الوحي حاضرُه، من تفصّد جبينه عرقاً، ومن شدّة يمرّ بها صلى الله عليه وسلم، فإذا سُرِّيَ عنه عرفوا أنّ جبريل قد تركه بعدما أنزل عليه ما أنزَلَ ...
أيّ حياة، وأيّ حظوة، وأيّ لون هو لدُنياهم السعيدة بالرسالة وبالرّسول معاً !!!

وإلى المرسَلات ...

سورة الإنسان قبلَها حدّثت عن مراحل الإنسان مُذ لم يكن شيئا مذكورا، إلى مآله ورجوعه بين يَدَي ربّ العالمين، بل إلى دار قراره، فعرفنا أَوْلَ الشاكرين الأبرار إلى جِنان ونعيم، وأوْل الكافرين إلى عذاب أليم ... وسورة المرسلات فيها قَرع شديد، وتقريع للمكذّبين بيوم الحساب، للمكذّبين بمآل للإنسان، وحياة جديدة بعد حياته الدنيا، وذلكُم هو الرابط بين السورتَيْن ...

في سورة الإنسان عرفنا الاختيار والإرادة الحرّة في الإنسان منّةً من الله، ومشيئةً منه سبحانه أن تكون له : "إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" ... وقد يسّر الله له كُلّ سبل الهداية والوصول إلى الحق ليكون من أهل النعيم والخير العظيم في الآخرة، إلا أنّ اختيارَه الكفر على الإيمان، من بعد كلّ أسباب وممهّدات الاختيار السليم فيه، من فطرة وعقل وهداية بالرُّسُل والكُتُب، له به عند الله سوء عاقبة، وسوء مُنْقلَب ...
وهذا ما يُفَصَّل في سورة المرسلات، من فعل الإنسان بنفسه فِعْلَ العدوّ بعدوّه اللّدود... !

كما أنّ رابطا آخر بين "الإنسان" و"المرسلات" أذكُرُه لاحقا، من بعد مرورنا بالآيات الأولى ...
"وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)"

هذا قَسَمٌ من قَسَمِ الله تعالى في قرآنه العظيم، ولا يُقسِم سبحانه إلا بعظيم ... أقسم بالعاديات، وبأحوالٍ لها عند إغارتها على العدوّ، وأقسم بالنازعات، الملائكة تنزِع أرواح الناس، وأقسم بالسماء وبالشمس وبالليل، وبالضحى ... وبغيرها،  وكلّه خلقٌ عظيم من خلق الله تعالى ...
وجاء القَسَم هنا بكلمات معطوف بعضُها على بعض، أولاها "المرسلات" وهي مبتدأ القسم، كما هي عنوان السورة ...
فما المُرسلات ؟ وما العاصفات؟ وما الناشرات ؟ وما الفارقات ؟ وما الملقيات؟

لم يكن من خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى هذه الأشياء المُقسَم بها من الله تعالى، ولكن أُثِر عن أبي هريرة، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، أنهما قالا فيها، فأما أبو هريرة فقال أنها الملائكة، وأما عبد الله بن مسعود فقال أنها الريح، وبقولهما قال كثير.
منهم مَن قال بالملائكة ومنهم من قال بالريح، ومنهم مَن جمع بين الاثنَين، فقِسمٌ من القَسَم بالملائكة، وقسم منه بالريح ... وهكذا بقيت أقوال العلماء تتراوح بين هذا وذاك ...
وإنّ لي في بداية القسم مَيْلاً لقول على الآخر، ذلك أنّه يتواءم في أحواله وموضوعَ السورة، والمقسَم عليه...
"وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا(01) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) " ...
عُرفا بمعنى متتابعة، جيئ بتشبيهها في تتابعها بعُرف الفرس، وهو شعر عُنُقه المتتابع، يقال: جاؤوا عُرفا، أي متتابعين. فما تُراها تكون هذه الأشياء المُرسَلة من الله تعالى عُرفا ؟

قيل أنّها الرياح المرسلة متتابعة تلقّح السّحاب، وتُقلُّه من مكان إلى مكان، وتلقّح النباتات، فهي التي سخّرها الله تعالى لأعمال في الطبيعة تساعد على استمرار الحياة ... هي على درجة عظيمة من الأهمية، والفاعلية ...وهي حينما تقوى، ويشتدّ هبوبها تُنعَت بالعاصفة، فهي "العَاصِفاتِ عَصْفاً"، كحال الريح التي أرسلها الله تعالى جُندا من جُنده على الأقوام الكافرين فأهلكتهم شرّ إهلاك : " وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ"-الحاقة:06-

وبعضهم – كما أسلفت- قال أنها الملائكة المُرسَلة من الله بأمرٍ منه إلى الأرض، من مثل جبريل عليه السلام مُرسَلا بالوَحي إلى الرُّسُل والأنبياء ومن مثل الملائكة الذين يرسلهم الله إلى بعض أنبيائه بتعليم أو خبر أو نصر كما في قوله تعالى عن زكرياء: " فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ"-آل عمران:39- كما يرسلهم بالعذاب، كالذين أرسلوا إلى قوم لوط عليه السلام...وكذلك قيل في العاصفات، أنها الملائكة تعصف بأجنحتها عند إرسالها بأمر الله... وهكذا ...
أما ما أميل إليه فهو القول الأول، الرياح ... وأستند في ذلك  إلى شيء مما استنبطتُه من آيات القرآن الكريم ...ويبقى العلم لله تعالى .
ذلك أنّ الله تعالى يقول : "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ  حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ  كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"-الأعراف:57-

هذا إرسال الله سبحانه للرياح في مهمّة من مهامّها المسخَّرة لها، تبشّر بالمطر الذي يسقي الأرض... فتُقِلّ السّحابَ، فيُساق إلى بلد ميت ليُحيَى من بعد موته ... هي هنا سببٌ رئيس في نزول المطر، والمطر إحياءٌ للأرض من بعد موتها، وهذا ما يتواءم وجواب القسم : " إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)"وهو موضوع السورة، يوم البعث الذي يكذّب به الكافرون ... والسورة تتكرّر فيها آية هي من أهمّ سِماتها، تحمل الوعيد للمكذّبين " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ" ...

وعلى هذا فسبحانه يُقسم على أنّ الوعد بالبعث واقع، يومٌ يَبعث فيه سبحانه الحياة في الأموات من جديد، والقَسَم بالرياح وهي التي تُرسَل بُشْرا، لتُقِلّ السحاب الذي يُحيي مَوات الأرض ... نلمَسُ بهذا تطابقا في معنى الإحياء، يجعلني أميل إلى أنّ عمل المقسَم به من جنس ما يُقسَم عليه...

"وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)"
وكذلك في الناشرات والفارقات، هي الرياح التي تنشر السحاب في السّماء إذ تُقِلُّه، وتفرّقُه بأمر الله بين الأمكنة، وهي عندي أقوى من أن تكون صفات للملائكة، التي قالوا أنها تنشر شرائع الله في الأرض، وتفرّق بين أهل العذاب وأهل النعيم، فتنزل بالعذاب على أهله، كما تنزل بالبشريات والرحمات على  أهلها، وتأتي بما يفرّق بين حقّ وباطل.

أما : "فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)" فهي واضحة، وبيّنٌ كل البيان أنها في شأن الملائكة التي تُلقي بالذكر للرُّسُل، إعذارا من الله تعالى، وإقامة للحجة، وهو القائل سبحانه: " رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ  وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" . وإنذارا منه وتخويفا لعباده من عاقبة الكفر والتكذيب .

"إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)"
"إنّما" هنا هي "إنّ" و"ما"، وليست أداة القصر "إنّما". وهذا هو جواب القسَم، يوم البعث، يوم الحساب والجزاء الذي يكذّب به الكافرون، وقد جاء التأكيد بـ "إنّ" وباللام في: "لواقع". 
« آخر تحرير: 2020-03-10, 18:32:47 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15)"

يبدأ الله سبحانه بذكر شيء من تقلّبات وأهوال ذلك اليوم، وذهاب النواميس والقوانين التي يقوم عليها الكون في الدنيا...
"فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)"
تلك النجوم، زينة السماء، وهِداية المسافر، وجُندُ الله: " وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ".   

يذهب نورُها، فتُطمَس، وما نورها إلا من أثر ضوء الشمس، وإنّ الشمسَ بكَلّها وكَلْكَلِها في ذلك اليوم تُكَوَّرُ، فيذهب انبساط ضوئها وانتشارُه، فكيف للنجوم أن تنير وقد ذهب مصدر نورِها ...!

والسماء يومَها تُفرَج ... وقد عرفناها في سور أخرى تنشقّ، وتنفطر، أمّا الجبال فتُقتلع من أصلها، وتذهب هباء...!
" وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15)"
ومن بعد وصف حال النجوم والسماء والجبال في ذلك اليوم، يأتي الله سبحانه على ذكر الرُّسُل، وأنّ ذلك اليوم هو موعد جَمْعِهم، هو ذاك الموعد الذي حدّده الله تعالى للفصل بينهم وبين أقوامهم :"يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ  قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا  إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ"-المائدة:109-  وقد قال سبحانه أيضا عن جمعهم في ذلك اليوم بمدعوّيهم : " فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ "-الأعراف:06-

ونتأمّل في سورة المُرسَلات ذكر الرُّسُل، مع ذكر المرسلات أعلاه، والتي قلت بغلبة معنى الرياح لها عندي، وهذه الآية تحديدا مما يعضّد ما ذهبتُ إليه ...

فإنه سبحانه وتعالى لما وصف الرياح بقوله: "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ  حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ  كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا  كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ(58)" –الأعراف-
أردفها مباشرة بحديث متسلسل عن الرُّسُل مفتتحا بسيدنا نوح عليه السلام أوّل رُسُل الله : "لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" .  ويتوالى بعده قَصَصُ الرُّسُل صلوات الله وسلامه عليهم، يستغرق الجزء الأكبر من السورة ...

المعنى أنّ الرياح ودورها في نشر رحمة الله تعالى، وتسبّبها في نزول المطر مُحييا لموات الأرض، تُعقَب مباشرة بالحديث عن الرُّسُل وهي السبب في تبليغ هُدى الله للناس ... كِلاهُما، الرياح والرُّسُل مُرسَلات من الله برحمته لعباده، بالهُدى المُحيي للقلوب كما بالماء للأرض... وهكذا يتعضّد أن تكون المُرسَلات هي الرياح لا غيرُها... ! والله تعالى أعلى وأعلم.

"لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15)"

لأيّ يوم أجِّلت الرُّسُل، استفهام للتهويل، ولتعظيم يوم يفصل فيه الله سبحانه بين العباد، يفصل فيه بين المُرسَلين والمُرسَل إليهم ...
وأستحضر هنا أواخر سورة الإنسان، لنجدنا في تلازم وترابط  دائم بين السورة والسورة، وهذا الرابط الآخر الذي أسلفتُ أنني ذاكرتُه ...
في أواخرها جاء الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه سبحانه نزّل عليه القرآن تنزيلا، وجاء حضٌّ له على الاستزادة بالصبر والذكر بُكرةً وأصيلا،ومن الليل ... وعرفنا انسيابا مع سياقات السورة كيف أنه صلى الله عليه وسلم خاتمة السلسلة النبوية الدُريّة للإنسانية، الواصلة بين السماء والأرض، وعلى هذا يستقيم أيّما استقامة أن تأتي المُرسلات عنوانا وموضوعا تتمّة لمعنى إرسال الله هُداه ورحمته لعباده ...

وتأتي بهذا التقريع والوعيد المُزلزل للمكذبين بما بُعِث به رُسُل الله : "وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ"

ثم يأتي إنذار وتذكير للمشركين من عاقبة الأمم السابقة التي كذّبت رُسُلَها، فتتابعوا عبر الأزمنة مكذّبين، فكان الأولون، والآخِرون :
"أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)"

وعلى هذا تتبيّن مواءمَةَ ذكر المرسلين عموما، للتذكير بالدعوة الواحدة التي جاؤوا بها جميعا، وللحال الواحدة التي كان عليها المكذبون في كل زمان وفي كل مكان، وأنّ المآلَ كذلك واحدٌ...
والإهلاك هنا يشمل ما أنزل الله بكافري الأمَم من مثل عاد وثمود وقوم لوط، وأصحاب الأيكة قوم شعيب ... كما يشمل الموت التي أهلكتهم جميعا، فهُم بها مأخوذون ليوم عظيم بين يدَي رب العالمين، وكذلك ستأخذ الآخِرين...!

"كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ" ... كذلك يفعل الله تعالى بالمجرمين من الذين بُعِث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نذيرا...
"وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ"... وعيد لازم يتكرّر تقريعا وإنذارا، وتخويفا من عذاب يومٍ عظيم، نجا من عذاباته، ووُقِيَ شرّه مَن اتّبع الهُدى، وتعرّض لنفحاته، فأخرجه من ظلمات الشرك والكفر والضلال إلى نور الحق والإيمان واليقين...

أيّ تكذيب هو منهم، وبمَ هم يكذّبون ؟! بوعد الله ؟ بوعيده ؟؟ بيوم يفصل فيه بين عباده ؟ بين الذين أرسِل إليهم وبين المُرسَلين ؟؟
فتكذيبهم بهذا الوعد، وبهذا الوعيد، وبالبعث جملة وتفصيلا، على أيّ أساس قد بنوَه وأعلوه ؟؟
أعَلَى أساس من البرهان والدليل والحجّة الساطعة القائمة التي لا يقف بوجهها حِجاج ولا لِجاج ؟؟ !
أعَلَى أساس من عقل ونظر واستدلال وعلم قد أوتوه لا يقارَع بسلطان، قد كذّبوا بالبعث، وبيوم يعود فيه الأموات للحياة من جديد ليُحاسَبوا على ما قدّموا في دُنياهم  ؟؟

لقد تدرّجنا عَبْر سُوَر هذا الجزء المبارك، ونقلنا الله الهُوَيْنى إلى الأسباب خلف إعراضهم وتعنّتهم، بل ومُضيّهم في اللّجاج مدّعين به الحِجاج ...
فأنتَ إذا سمعتَ لقولهم، وهم يكذّبون، قلتَ قومٌ مُغرِقون في البحث والتمحيص والتثبّت، وهم  : " بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً " –المدّثّر:52-
حتى إذا عرفتَ حقيقتهم التي يُظهرها الله تعالى : " كَلَّا  بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ " –المدّثّر:53-   عرفتَ أنّما دافعهم للإعراض هو عدم خوفهم اليوم الآخر، أي عدم إيمانهم به بالأحرى ... فإذا تساءلتَ بعدُ، واسترسلتَ تبحث عن العلّة، وعن حجّتهم في إعراضهم وتكذيبهم، فقلتَ : فما سرّ عدم إيمانهم به ؟ أخبرك الله تعالى في قوله : " أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ "
إنّهم يجعلون من استعصاء هذا التصوّر على أخيِلتِهم، وهم لا يحسنون تقدير الله تعالى ذي القدرة المطلقة، فيقيسونها إلى  قدرات البشر ... يجعلون من ذلك حجّتهم، أن كيف للعظام أن يجمعها جامعٌ بعد ذهابها في التراب، واندثارها، وتآكُلها ...؟
عندها يبيّن الله تعالى عظيم قدرته في إعادة أدقّ مكونات الإنسان، بقوله : " بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ " –القيامة:04-

فأيّ حجّة واهية هذه التي يبنون عليها إعراضهم عن الهُدى، وتكذيبهم بالوعد والوعيد في يوم عظيم مجموع له الناس ببعث جديد ؟!
إنك عندها قد تزيد فتسأل من جديد : فما سرّ إصرارهم، وتحجّجهم بالقشّات الواهية ؟! فيجيبك الله، وهو يزيد في بيان سرّ عنادهم بالهوى واللّجاج الفارغ، فيقول سبحانه : " بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ " –القيامة:05-
إنّما مُراده أن يَفْجُر ويغرق في فجوره، واتباعه لأهوائه، وإشباعه لشهواته من غير احتسابٍ منه لمَن له سلطة محاسبته، وعقابه ... يريد أن يتحرّر من وازع الخوف من رقيب وحسيب ...!

ثم يزيد الله فيُعطي حالة إصرارهم، وعنادهم اسمَها الصريح الصحيح، فيقول سبحانه : " كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ(20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)"-القيامة-  ومرّة أخرى أيضا: " إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا " -الإنسان-
إذَن فالخلاصة الجامعة أنّ تلكُم هي حقيقتهم ...!

لذلك يتوعّدُهم الله سبحانه، وهُم إذ يلاجّون مُدّعين المحاجّة والعقلانية، يقعون في دَرَك السفسطة والهبائيّة، لأنّ عقولهم في ذلك مُتَّخَذَة ظِهريّا، بينما أهواؤُهم سيّدة أمرِهم، بل إلهُهُم المعبود ...
« آخر تحرير: 2020-03-10, 18:34:13 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ولننظر في هذه الآيات المواليات، والله سبحانه بعد إذ تَوَعَّدَهُم : " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " ... يستجيش العقول فيهم، أنْ يا أصحابها بأيِّ ميزان تزنون؟ وبأيّ منظار تنظرون، فتكذّبون. كيف تحكمون ؟!

"أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28)"

بأيّ عقل تكذّبون بوعد الله أن يبعث عباده، وأن يحاسبهم، وأن يكون لكلّ منهم جزاءٌ بما قدّم ؟ بأيّ عقل تستبعدون جمع العظام من جديد، وهو الذي جعل فيكم الروح سِرّا ليس لأحد غيره، فأنتم بشر منتشرون...! أيّ عقل لكم تستبعدون به أن تُنشَر عظامكم، وهو الذي بدأ خلقَكم من ماء مهين ؟!

فبدأ سبحانه مخاطبةَ العقول بقضية خلق الأنفس، الخلق الأول، لأنّ تكذيبهم هو بالخلق الثاني :
"أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24)"
عظامكَ أنتَ كيف لا يجمعها سبحانه، وأصلُك أيها الإنسان ماء مهين ضعيف حقير، لا يجعل منه بشراً غيرُه سبحانه !
أفإنسانٌ من ماء أهونُ عليه، أم جمع عظامٍ لإنسان كان ؟!   : "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ  قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ  وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)"-يس-

ونتتبّع ذكر أصل خلق الإنسان عَبْرَ سُوَر هذا الجزء، إذ قال سبحانه في سورة القيامة: " أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ(37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ(38)"
ثمّ فصّل عن النطفة في سورة الإنسان فقال: " إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا"
ثمّ يفصّل هنا في وجهتها ومكان قرارها، ووقته المعلوم: " أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) "

فهو سبحانه الذي جعل لهذا الماء قرارا يستقرّ فيه إلى حين، إلى الموعد المحدّد لانتهاء مكوثه فيه... مؤقّتٌ هو بقاؤُه فيه، هو سبحانه الخالق، المقدِّر، المقيت ...فكما جعل سبحانه لبقائه برحِم الأم وقتا مقدَّرا، كذلك جعل لبقائه في الدنيا وقتا مقدَّرا، وكذلك جعل ليوم القيامة وقتا مقَدَّرا... وقد عرفناه في سورتنا هذه في قوله سبحانه: " وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ"...
"فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ"... في مكان حصين، محفوظ فيه إلى حين...ولَعَمري إني لأخاله أعظم حصن، وأقوى حصن في الوجود ! ذاك الذي يحفظ الإنسان وهو بعدُ ماء بلا شكل ولا هيئة، ثم وهو ينمو ويكبر ويتكوّن طورا إثرَ طَور...! هو سبحانه الذي هدى ذلك الماء المهين ليتخذ له ذلك القرار المكين إلى وقت معلوم ... بقَدر ...

"فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ".... سبحانه هو أهل الثناء، وهو سبحانه لا يُحصي أحدٌ ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وهو ذا ثناء من ثناء الله على نفسه: " فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ "... قُدرة عظيمة، مُطلقة، لا تحدّها حُدود، جعلت من الماء المهين إنسانا مذكورا، مُكرَّما ...!

أما من كذّب ببَعْثه سُبحانه لمَن خلق، وخَلقُه عظيم لا يقدر عليه غير الخلّاق القدير العليم، وبعثُه أهونُ عليه من خلقه من ماء مهين، فليس له من الله إلا الوعيد الرهيب المُزلزِل : " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24)"
فأيّ نظر لك أيها المكذّب ؟؟ أيّ استدلال ؟ أيّ فكر ؟ وأي تقدير؟؟ وأيّ نظر ؟؟ إنه ليس إلا كفكر وكتقدير وكنظر من فكّر وقدّر، فقُتِل كيف قدّر، ثم قُتِل كيف قدّر ...!

يا عالِم الأحياء، ويا عالم الفيزياء، ويا عالم الفَلَك، ويا كلّ عالِم يُنكِر الله ويدعو للإلحاد وأنّ الحياة صدفة وهباء، فموت فلا شيء ... !  أنتَ أيها الحيّ، المتعلّم علما بين العلوم، المعلّم علما بين العلوم... وتعلم، بل أنت أكثر من يعلم أنك الماء المهين، في قرار مكين، إلى قدر معلوم ... ثمّ تقول بالصدفة... فيالِصُدفِيّة القدرة والعلم والحكمة والتقدير في الصدفة !!!

ثم هذا خطاب عقليّ آخر من الله سبحانه للإنسان، كما خاطبَه عن خلق نفسِه التي بين جَنبَيْه، هذا الآن عن الأرض التي تحمله :

" أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28)"

"كفاتا" بمعنى أنها جامعة، إذ الكِفات هو الشيء الذي يُجمَع فيه، كما أنّ:  كَفَتَ الشيءُ : تقلَّب ظهرًا لبطن،  وبطنًا لظهر ...وهذه هي الأرض، وظهرها يحمل الأحياء، وبطنها يحمل الأموات ...
هذا هو الإنسان الذي خلق الله على الأرض، بين حيّ وميت، وكلّ حيّ على ظهرها مؤمنا كان أو كافرا يعلم أنّه يوما ما صائرٌ إلى بطنها...
وإنكَ لترى بهذه الكلمة ظهرَهَا ينقلب إلى بطنها بما عليه من أحياء ...
فما تُراه الرابط بين هذا والبعث ؟ إنّ العاقل ليتساءل، لمَ سَرَتْ هذه السنة في البشر على اختلاف طرائقهم ومعتقداتهم، ومللهم، آمن الإنسان بالله أو لم يؤمن، وحّده أو أشرك به، كلُّهم يُدفَن، ويُوارَى التراب ... فكيف لا يتخلّف البشر عن هذه السنة ؟! وما هذه الأرض التي تضمّ أمواتَها منذ أن بدأ الإنسان إلى يوم انقضاء الدنيا ... تضمّهم، وتتحمّلهم، وهم الجثث التي تَريحُ، وتتبدّل وتتحلّل، ولا يتأثّر ظهر الأرض بالعدد الهائل للجثث المتحلّلة، بل يبقى صالحا للحياة ...  !

ثمّ كرّة أخرى، ما هذه السنّة الماضية في البشر ؟! لِمَ تجمع الأرض، وهي التي يتقلّب ظهرها لبطنها ... وتعمل "كِفاتا" عملَها التامّ وأنت ترى مشهَدَ تقلّب البطن للظهر، ذلك هو خروج مَن في القبور، ذلك هو يوم البعث،  ذلك يوم الحشر ... ذلك يوم الفصل ...!
"كفاتا" وهي بمعنى ظهرا لبطن وبطنا لظهر، تعمل جزءا من عملها في الدنيا إذ ينقلب الظهر للبطن، وجزءا متمّما في الآخرة يومَ ينقلب البطن للظهر ...

إنّ الذي خلق الموت والحياة سبحانه، وجعل في البشر سنّة الدّفن إذ بعث غرابا يبحث في الأرض ليعلّم قابيل كيف يواري سوءة أخيه، هو سبحانه الذي جعلها سنّة في البشر يحفظ بها الإنسانُ أخاه الإنسان، سبحانه الذي لا يؤُدُه حفظ السماوات والأرض، هو الذي يتولّى حفظَ كلّ ميت وهو في باطن الأرض إلى يوم يُبعَثون... هو سبحانه الذي ما جعل هذا إلا ليتمّ وعدَه بخلق جديد : " وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ  بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)" -السجدة-  . 

"وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28)"

هذه الأرض الكِفاتُ، المتقلّبة بطنا إلى ظهر، هي نفسُها الثابتة بالجبال الرّواسي...هذه الثابتة الي تُقلّك وتقوم عليها حياتك، المُذلَّلة لكَ لتتقلّب عليها، ولتمشي في مناكبها، مَن ذا خلق لها المثبّتات ...؟!
وهو سبحانه الذي يسقي الإنسان ماء عذبا يُحييه ... الذي ذلّل لك الصعبَ، وسخّره لك، وأحياك بفضله ومنِّه، ولولا فضلُه لما كنتَ الحيّ الذي يتحرك ويتشدّق ويتمطّى مكذّبا .... ! أليس ذلك بقادر على أن يُحيي الموتى ؟

وهكذا... يتناسبُ هذا الخطاب العقليّ للإنسان في خلقِه وخلق ما حوله، بنفسٍ بين جنبَيه تحيا وتتحرّك وهي التي كانت من ماء مهين في قرار مكين إلى قدر معلوم، وبأرض تُقِلّه، وتضمُّه فهو فيها مستودعٌ إلى وقت معلوم أيضا، وهي المنقلِبُ بطنها إلى ظهرها في وقت عند الله معلوم، وهو سبحانه الذي ذلّلها لمعاشه، وأسقاه ماء مُحييا...  فيتناسب هذا الخطاب كلّ التناسب وقضيّة البعث، موضوع تكذيب المكذّبين ...

"وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28)"  .... ويْلٌ لمَن كذّب بالبعث بعد الموت...الذي له كلّ هذا الأمر، ومنه كل هذا المنّ والفضل،  أليس بقادر على أن يُحيِي الموتى ؟؟

فما جزاء مَن يُكذّب، مُعلنا جحوده، ونُكرانَه النِّعم وهو فيها متقلّب من رأسه إلى أخمص قدمَيه ...؟!
يا أيها الذي أرسِلتْ له الهِدايات، ولم يُترَك سُدى ... !
يا أيّها الذي خاطَبَ الهُدى عقلَه، وخاطبَ المرسَلون عقلَه ... يا مَن أرسِل له الهُدى ماء مُحيِيا لروحِه لئلا تعجُف وتيبَس...!
يا مَن أرسِل إليه المُرسَلون بحياة الروح في الدنيا، وببعث حياتها الفائزة في الآخرة ... لمَ قتلتَ الروح فيك ؟؟ بتعجرُفِك وبعنادك، وباستكبارك، وبهواكَ، وبحبّك للعاجلة واتخاذك للآخرة ظِهريّا ...  ببخسك عقلَك حقَّه، وأنت الذي خُلقتَ بعقل لتنظر، وتفكّر وتستدلّ، وتقيس، فتُقدّر...  فإذا أنت بئسَ المُقدّر ...!

يا مَن تُكذِّبُ أن تُبعَث للحساب، فتختلق، وتكذب أكبر الكَذِب، وأنت تُنكر الله جملة وتفصيلا لئلا تُفكّر ببعث وحساب ... فساقك كذبُك الأكبر إلى الفجور الأكبر، وأنت في لُجّه تغرق، وتغرق، وتغرق ....!  حتى إذا حان يوم الفصل، يومٌ أقِّتتْ له الرُّسُل ... ماذا عساك تصنع ؟؟؟!!

إنك ستسمع الويل صوتا، كما ستذوقه عذابا :

"انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34)"

إنّ الخِطاب العقليّ المُكرِّم للإنسان، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم للناس كافّة كان ليكفيَهم ويلات يوم عظيم...
ويلاتٌ وعذابات لا تُقاس، ولا توصَف بوصف ... ولقد ألقِي الذّكرُ إليهم، ولقد أنذِروا، ولقد أعذِروا ... ولقد خوطِبت عقولهم، وأقيمت الحجّة عليهم، ولقد عُرِّفوا مقامَ ربّهم الخالق المنعِم المقدّر سبحانه ...

ولكن ....!

لمّا لم يستمسكوا بخطاب لعقولهم ساعةَ ما تزال أبواب التوبة مفتوحة، وما يزال باب العمل مفتوحا ليعودوا فينجوا، ويفوزوا يوم الفصل ... لمّا أضاعوا تلك الفرصة العظيمة ... لمّا أوصدوا باب عقولهم دون الحق، وباب أرواحهم الظّمأى دون الماء المُحيِي، هم أولاء يسمعون ... ويا هولَ ما يسمعون ... ! ويا شرَّ ما يسمعون...!  :

"انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34)"

انطلقوا... فعل الانطلاق، فيه السرعة...إنه الاندفاع بسرعة... ولكن إلى أين  ؟! إلى حيث لا يذهب الإنسانُ أبدا بقَدَمَيْه ... إلى حيث لا يخطئ عاقلٌ فيفعلها بنفسه، فكيف أن يسارع إلى فعلها ؟!!
أسرعوا إلى حتفكم... إلى قراركم، وبئس القرار...!

انطلقوا بأمر من الجبّار العظيم القهّار سبحانه، ولن يكون منكم إلا الطاعة لأمره يومَها ... ليس لكم من وَزَر، ولا مفرّ ... إنكم لن تملكوا لأنفسكم نصيرا من أنفسكم ولا مِن غيركم، ولا ممّن كانوا لكُم تَبَعا، ومحبّين ومنبهرين بخطابات ضلالاتكم، وبعماياتكم التي توشّونها بالعلم، أو بالتحرّر، أو بالعلمانية ... كيفما كنتم تُوَشُّون .... أيّا كان عنوان بطولاتكم في الناس باسم التفتّح والانفتاح والتفتيح ...! باسم الخروج من ربقة الرجعيّة والتخلّف كما كنتم تصفون الدين، وطاعة الديّان ...!
إلى أين ؟؟!... "إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ" ... فما ذاك ؟؟

اسمعْ... اسمعْ يا مَن تظنّ أن تُفعَل بك فاقرة ... يا مَن عرفتَ مصيرَك ... اسمعْ ...

"انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ(30) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)"

ويالِغرابة الكلمة وهي بين هذه الكلمات ...! إلى "ظلّ"  ... فَفَوْق الأمرِ الشديد الحاسم بالانطلاق، إنه التهكّم ... انطلقوا إلى ظلّ، حيث يُستظلُّ من الحرّ، من اللهيب، حيث يستروح الإنسان ويجد الهواء المُنعِش  ...!
إنه ذو ثلاث قِطع متفرّعة عنه من كثرة تصاعُده، إنه الدُّخان المتفرّع شُعبا من علوّه، من عظمة نارِه ...وكأنّه الظلّ... وإنّه لَظِلّ... ولكنه ظلّ جهنّم ...!! إنّه لا يُظلّل ... !!
"لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ" ... إنه المقدّمة، إنه الاستقبال الحفيّ من جهنّم لأهلها ... إنّه نفَسُها وما يُلقي به غيظُها الذي تكاد منه تميّزُ !!

لا يغني من اللهب، واللّهب هو ما يعلو من النار إذا اضطرمت، أما هذا فدُخانُها الذي لا يمنع لهبها، ولا يدفعُه ... !
"إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34)"
الشَّرَر هو ما تطاير من لهبها، فاللهب هو الأكبر، ثم الشّرر، ثم الدخان، وقد ابتُدِئ بظلّ دُخانها، ثم هو ذا شَرُرها المتطاير من لهبها ...
إنه الذي نسميه في دنيانا مستصغَر النار... إنه عيّنةٌ مصغّرة من النار، فكيف هو هذا الشَّرَر الذي نعرفه صغيرا صغيرا، فهو من خفّته يتطاير ؟! إنّ جهنم ترمي بالشرر الواحد منها بحجم القصر !! بحجم البناء المشيد المرتفع الكبير.... الواحد من شَرَرِها هذا عِظمُه !

وها هو الله سبحانه يقرّب الآن هيأتَه للإنسان، من بعد ما وصف حجمَه: "كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ"
والجِمالات جمع جَمَل، فهي الإبل الصُّفْر في هيأتها ، ولك أن تتخيّل مجموعة من الإبل وهي تتطاير، تلك المجموعة هي الشّرر الواحد من النار... ذاك مستصغرُها ...! فكيف بها هي ؟؟!! أجارنا الله منها ومن شَرَرِها، ومن ظلّها...
"وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ" ... لمَن كذّب بيوم الحساب، بوعيد الله بالنار، ويلٌ له يومئذ... وأيّ ويل !! وهو يرى بأمّ عينِه ما كان قد أُنذِر..!!
« آخر تحرير: 2020-03-10, 18:35:22 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

لقد جعلتنا تلك النّقلة في السياق، في قلب تلك اللحظات الشديدة العظيمة، أجارنا الله منها ولا جعلنا من أهلها ... ونحن نسمع أمرَ الله تعالى للمكذبين من عباده، نسمع خطابَه لهم بالأمر الحاسم الذي لا مردّ له منهم .... أمر غضبه وسخطه ... ثمّ هُم أولاء يُهمَلون ... ويلتفت الله عنهم، ليحدّثنا عنهم ...

"هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (37)"

إنّهم من انصياعهم يومَها، ومن شُحّ النصير -وقد اتخذوا النصير سبحانه ظهريا، واتخذوه عدوّا- لا ينطقون ... هذا يوم لا ينطقون فيه... وحتى اسم الإشارة جاء للقريب، فلم يكن : "ذاك يوم" بل "هذا يوم" ... لتحقّق وعيد الله تعالى، فهو القريب القريب : " إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (06)وَنَرَاهُ قَرِيبًا (07)"-المعارج-

"وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ" ... لا يؤذَن لهم، ولا يُقبل منهم اعتذار...وهذا لا يتعارض وما جاء في سور أخرى من نطق الكافرين يوم القيامة، ذلك أنّها محطات، ومواقف، وتختلف فيها الأحوال...
"وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ" ...  اللازمة المكرّرة ... وأيّ حال هُم فيه، ودُخان الجحيم ظلٌّ حارق يُؤذِن بهول عظيم عظيم ! وعِظم الشرر المتطاير يقتل خوفا وفزعا، وليتَ الموت يُقبِل فيُريح ...  حتى الاعتذار لا إذن لهم فيه ... ! بل هم إلى جحيم ذات عذاب أليم مُقيم ...!! أجارنا الله، ولا جعلنا الله من أهل الويل ...!

"هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ  جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (40) "

يعود سبحانه إلى الخطاب، من بعد ما كان من التفات في الآيتَيْن السابقتين تلويحا باستحقاقهم الإعراض عنهم..
تبكيت لهم، وعذابٌ فوق العذاب هو هذا الخطاب ... هذا يوم الفصل، جمعناكم والأولين، كما جاء في بداية السورة استفهام تقرير عن إهلاك الأولين متبوعين بالآخرين.  يوم يفصل فيه سبحانه بالحق، وبالعدل بين ظالم ومظلوم، بين الرُّسُل والمرسَل إليهم، بين حق وباطل ...

يومَ يأخذ كلٌّ ما يستحقه بما قدّم، إنْ خيرا فخير، وإن شرّا فشر ...
فيا أهل الكيد بالرّسول وبالرسالة، كيدوا اليوم إن كنتم قادرين ... وأيّ قوة، وأي عظمة وأي قهر هو لله الملِك الجبّار القهّار ... فكيدوا اليوم كما كنتم تكيدون لأهل الدعوة، كيدوا اليوم للإسلام كما كان دَيْدنُكم في الدنيا ... !

"وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ".... الويل اليوم لمَن كذّب ببعث وبحساب، وبجزاء وبعقاب ... الويل اليوم لمَن عاش حياتَه يكيد للدّين، فهو العلمانيّ الذي تثور ثائراته، وتتقلّب سِحنتُه كلّما جيئ على ذكر الدين والتديّن والمتديّنين، أو هو الملحِد المتشدّق بتحرّره من العبودية لربّ خالق، وهو العبد لهوى ماحق... أو هو واحِدٌ من المطيعين لأصحاب السلطان، فهو إمامه المُفتي بمُشتهاه، وبما يُغطّي على دَنَايَاه...! اللاوي لعُنق الدين عساه يُسعد وليَّ نِعمتِه حتى وإن ذبّح وقتّل وشرّد وأفسد ونهب وسلب وأسكتَ صوت الحقّ وأعدم المُحقّين ...!

أما الآن ...فهذا عذابٌ لهم على عذاب على عذاب ....! إنهم يُسمَعون مآلَ المتّقين، إنهم يُعذَّبون بالحسرة تقطّع أحشاءهم، وتفتّت أكبادَهم إربا مع النار التي تقطّعهم  ...!

"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45)"

إنهم في ظلال على حقيقتها، ظلال ظليلة، يا مَن تستظلّون بظل ذي ثلاث شُعَب لا ظليل ولا يغني من اللهب ...! إنهم في عيون، منها يرتوون ويستلذّون، وبها ينتعشون ... زنجبيلا وكافورا وتسنيما ... وفواكه مما يشتهون ويستطيبون ويحبّون ... وفوقَ اللذّة لذّة أعظم وهم يُحتفى بهم ويسمعون ربّهم وليَّ نعمتهم، وهو يحتفي بهم : " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)"

جزاء المُحسنين الذين أحسنوا ابتغاء مرضاة الله، وابتغاء وجهه الكريم، أحسنوا وهم يخافون يوما عبوسا قمطريرا، وهم يخافون يوما كان شرّه مستطيرا ... فوقاهم الله شرّه... شرَّه الذي عرفناه لصيقا وملازما لكلّ أحوال المكذّبين ... ! 
"وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45)" .... وأيّ ويل ...وأيّ ويل !! فيما يتنعّم المتقون، ويشربون، ويستظلون، ويأكلون، ويُخدَمون، ويُحتفَى بهم ...!أي ويل ...!!

"كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)"

يا مَن رضيتم بالحياة الدنيا، وأحببتم العاجلة، وكذّبتم بيوم ثقيل ثقيل...! يا مَن أحببتم الدنيا حتى ظننتم أنكم منها لا تُخرَجون ...كلوا، وتمتعوا قليلا ...إنّ حظّها من البقاء قليل، قليل ... إنكم مجرمون ...! مجرمون يا مَن تأكلون من رزق الله، وتتمتعون بما خلق الله، ثم تكذّبون به، وبيوم فيه الفصل...  كلوا وتمتعوا كالأنعام  : "....وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ" –محمد: من الآية12-
أمّا يوم الفصل فإنّكم .... : " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ".

يأكلون في الدنيا، ويتمتّعون، وكلّه من رزق الله، كله من فضله ومن عطاء ربوبيّته، ومن تسخيره للإنسان الذي خلقه وكرّمه، أما إذا قيل لهم اركعوا لربّكم الذي تأكلون من رزقه، وتتمتعون من فضله، وتتحركون كل حركة على الأرض بعطائه ومن فيض نعمائه، أعرضوا، ونأووا ...!

بل إنّ المشركين كانوا إذا ما سئلوا مَن يرزق، ومن يخلق، أجابوا  أنه "الله"، فإذا قيل لهم أطيعوه، واتقوه أعرضوا : " قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ  فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ  فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ"-يونس:31-

فويل لمن رتع في فضل الله ورزقه ونعمه، وأعرض عن عبادته : " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ". 
"فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)"
فبأيّ حديث بعد القرآن يؤمنون ؟!
ليس من حديث أعلى ولا أصدق ولا أهدى من القرآن، ولن يكون بعده كتاب... فهو الكتاب المهمين، الشامل، الهادي...هو المنقذ من الضلال، المجتثّ من العمايات...الهادي سبيل الرشاد، الروح للروح في الدنيا، وسعادة الروح في الآخرة ... هو السموّ، والرقيّ والإنسانية بمعناها الحقّ ...!

فبأي حديث بعده يؤمنون ؟!   هو الذي جاء فيه النبأ الحقّ، والقصص الحق، وهو الذي أطللنا منه على اليوم العظيم، وهو الذي دلّنا على سُبل الخلاص فيه والنجاة، وأنذرنا سبل الضياع فيه والهلاك ...!

وهكذا تنتهي المُرسَلات، وهي اللؤلؤة الخاتمة لعِقد جزء المُلك... الجزء الذي كانت سورة "الملك" مفتتحَه، فكانت بداياتها عن خلقه سبحانه الموت والحياة ليبلو عباده أيّهم أحسنُ عملا ... وهذه المرسلات، وهي عن يوم الجزاء على ذاك الابتلاء ... سورة مُلك الله المطلق لكلّ شيء، وسورة المرسلات، وما فيها عن تباب وهلاك المكذّبين بيوم عظيم ... وبين سورة الملك وسورة المرسلات كما بين الحياة الدنيا والابتلاء فيها، ويوم الفصل والجزاء : "لمَن المُلك اليوم لله الواحد القهّار"

انتهى جزء الملك ذي السّور المكيّة، التي تؤسّس للعقيدة في النفوس في كل زمان ... نحتاجها لتوثيق العقيدة في قلوبنا... نحتاجها وهي إذ نزلت تخاطب مؤمنين جُدُد ما تزال براثن الوثنيّة والجاهلية العمياء تملأ عليهم أنفسَهم، نزلت تُعرّفُهم بربّهم، وبأمره، وحُكمِه في الأرض وفيهم، وبمُراده من خلق الإنسان، وبالغاية التي لأجلها خلقه ...

أعطتْهم التصوّر الوجوديّ الصحيح لئلا يبقوا نَهْبَ التصوّرات المُختَلقَة، وليعلموا أنّهم لم يُخلَقوا ليُترَكو سُدى ...
فعلّمتهم معنى الحياة، ومعنى الممات، ومعنى البعث بعد الممات  ... ومعنى الرجوع إلى الله، ومعنى العقاب والجزاء ... علّمتهم عدلَ الله، ورحمتَه، كما علّمتْهم غضبه وعذابَه ...

وكذلك حالنا... وكذلك حاجتُنا... أن تتوثّق هذه العلوم وهذه التصوّرات في قلوبنا، وأن تتمكّن من نفوسنا تمكّنا يستحيل معه اهتزاز أو زعزعة، أو تلاعب متلاعب من باب شبهة في العقول، أو شهوة في القلوب ...
نحتاج أن نعقِد العقيدة في قلوبنا، أن نعقدها قبل أن نبحث عن مدنيّة لأنفسنا لا تصحّ ولا تُعلى ولا تُبنى، إلا والمكيّة فينا هي الأساس ...
يحتاج شبابُنا مكيّة تقيهم شرور هذا الزمان الذي أصبحوا فيه مُهدَّدين وهُم لا يعرفون عن دينهم إلا العناوين، فإذا ما نبشَ نابش بمِعْوَل هدم مسموم سرعان ما انقضّ جِدار العناوين المُقام في نفوسهم، المقام من قشّ تهُدُّهُ أسهل شبهة تُلقى من مشكّك مُغرِض ...!

فاللهم ارزقنا اليقين، ووثّق العقيدة في قلوبنا، واجعلها فيها رواسي شامخات تُسقى منها أرواحنا ماء فُراتا...
« آخر تحرير: 2020-03-10, 18:37:56 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب