المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي(سورة المزمّل)  (زيارة 592 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

لقاءٌ لنا جديد مع سورة جديدة... وفي كلّ مرّة تَرِفّ الروحُ وهي تتنسّم هواءها من آيات الله، تهدأ وتطمئنّ وهي في رِحابه .... تَطْعَمُ وترتوي وتسعَدُ وهي تتفيَّؤ ظِلال كتابِهِ الوارفة، التي تقيها  قَيْظ  الدّنيا ولَفْح البلايا وهاجِرَة النّفس المتقلّبة...

فتقف عند "المُلْك" تطمئنّ لمليك عظيم على كل شيء قدير، خلق ليبتلي... فالأقرب إلى رِحابه مَن كان أحسنَ عملا... سخّر وذلّل ومهّد، وهدى، ونصر ورزق ... فكيف لا يتجاوزُ الابتلاءَ مَن ملأ معنى "المَلِك الرّحمان" كيانَه ...؟!

ثم تجدُك عند "القلم" لتُسطّر في رَوْعِك أنّ الإنسان أخلاق، وأنّ الأمَم أخلاق، وأنّ الحضارة أخلاق ... وأنّ مالا وولدا بسُلطان الهوى والعلوّ على الناس، والفساد والإفساد، مُقارعةٌ للمَلِك سبحانه فيما ليس إلا له وَحْدَه ! فإن أنتَ داهنتَ ظالما فاسداً مفسداً لماله وعزوته، فقد أُفرِغَتْ نفسُك من معنى "الملِك" وقد فزِعتَ للظالم المُتألِّه تنشد مادة ودنيا ! فيما حُرِمْتَ رحمة ملِك لا يملك معه أحد ... !
فلا تُطع المتألّه وتعصِ الإله الواحِد ! واقتفِ أثَرَ ذي الخُلُق العظيم فذاك سبيلُك إلى الله العظيم... !

ثم ها أنتَ عند "الحاقة" تُحِقُّ يوم الخلود والبقاء، وتُبطِل عبادة الدنيا، وعبادة عُبَّاد الدُّنيا ... وأنتَ المُخيَّر المختار فإما "يمينٌ" فاقرؤوا كتابيه ! وإما "شِمالٌ" فيا ليتني لم أوتَ كتابيه ....!! فهي الحاقة، والكتاب حقّ اليقين ... ! فليس إلا أن تسبح باسم ربك العظيم... !

ثم هي "المعارج"... فيا أيّها المخلوق هلوعا ... اقرأ وارتقِ ... !
ارتقِ  حتى تسمو روحُك على السَّفاسف والهُراء والهباء، وعلى الابتلاء، ولتَعُبَّ من أنوار القُرب ... فأنت المُديم على صلاتك ابتداء، المحافظ عليها انتهاء ... صلةً وقُربا حتى تبلغ الحاقّة ! فإذا أنتَ الذي استحقّ العُلا والمعارج و"الجنّات" لا الجنّة الواحدة  كما علا وعرُج في الدنيا، فارتقى على هلعِه صبورا شكورا ... !

ثم أنت عند سيّدنا "نوح"...  حيث الصبر الجميل وحيث أنّ نبتة الإيمان باقية ما بقيت الأرض، وأنها التي لأجلها خُلقْتَ، وحيث المغفرة سلاحك الذي تغلب به نفسا بين جنباتك قد تغترّ حتى بعُروجها عبْر مراقي القُرب ! وحيث دعوة نوح لك بالمغفرة وعلى الظالمين بالتّبار ... !

ثم تبلغ "الجنّ"...  وفيها تصحيح المفاهيم المغلوطة التي كُرِّس لها في العقل المسلم، رغم أنه العقل الذي يُفترض به أن يصحّحها لمَن يتخذها فِكرا واعتقادا !  إلا أنّ تراكمات الانتكاس والارتكاس، والهزيمة النفسيّة التي عملت في المسلم بسِياطها اللاذعة، جعلته يعود القهقرى وهو يُولّي روحَ هويّته الدُّبُر، بدءا من نفسه أولا، وتَثْنيةً بما انجرّ عن هزيمته، من أخذٍ بالخُرافة والوهم في سُباتٍ لعقله عميق، جعله ينسب للدّين الكسلَ والخُمولَ والقعودَ والأخيِلة والتمنّي ... !   

سورة الجنّ كانت بيانا لصفاء ونقاء الوحي من كلّ مكدّر ومن كل خلط، وأنّه الذي حُفِظ ابتداء وحُفِظ انتهاء. فلأجله تُرُصّد في السماء لكلّ مسترق، وانتهى بحلول زمان نزوله زمانٌ كانت الجنّ فيه تقعد من السماء مقاعد للسمع، فكان ذلك بيانا يقينا لكذب كلّ مُدّعٍ من الجنّ أو من الإنس -سواء بسواء- أنه يعلم الغيب، وأنّه يأتي بالخبر من أخباره فُيُلقيه، ليُصدّقه أهل الاعتقادات الباطلة بقدرة في الجنّ خارقة، أو بقدرة في بعض الإنس ممّن يدّعون قراءة طالع أو استكشاف غيب أو مستقبل ... !

حُفِظ الوحي ابتداء بحفظ السماء، ثم حُفِظ ورسولُ الله من ملائكته يبلّغُه رسولَه من الإنس، فجعل من بين يدي الرسول ومِنْ خلفه رصدا يَحول دون عبث عابث من جنّ أو من شيطان: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(28)" -الجن-

جاءت الجنّ تحدّد أنّ الله وحده العِياذ والمَلاذ، والنصير والمُجير...
ونجِدُنا بعد هذا البيان، وهذا الاعتقاد الصافي النقيّ المُبرَّئِ من أدنى ريب أو شكّ في نقاء مصدره ووِحدته، وأنه كلام الله الذي نزل وبلغ الناس لا ينقص حرفا ولا يزيد حرفا ... نجدنا بين يدَي سورة جديدة تُعنى بمبلّغ الوَحي، رسول الله إلى خَلْقِه صلى الله عليه وسلم... تُعنى بمرحلة بلوغ الوَحي عبادَ الله، بدءا بالمُرسَل إليه والموحَى إليه، المصطفى من بينهم صلى الله عليه وسلم ...

سورة تتمّم مسار الحفظ الربانيّ لكتابه، إذ عرفنا في سورة الجنّ مراحل حفظه وصولا به إلى الرّسول، وفي سورة المزمّل تكملة، وقد بلغ الوحيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهي المرحلة الأرضيّة للوَحي، لنجدها مرتبطة كل الارتباط بسورة الجنّ، رغم أنها التي تلتْ سورة المزمّل نزولا، بينما سبقتْها ترتيبا في المصحف...
ولترتيب المصحف التوقيفيّ من عند الله كبير حكمة، كما كان لترتيب نزوله موافقة وملاءمة للبذرة الأولى من التصحيح العَقَدِيّ للبشرية، وإعادتها إلى جادّة التوحيد والتسليم لربّ الكون ومَلِيكِه، ومُدبّر أمرِه سبحانه ...إعادتها إلى "الطريقة" واستقامتها عليها، (كما جاء في سورة الجنّ) ...
نلمس الترابط بين السورة والسورة والتناسق التامّ، في صورة العِقد المنتظم الذي لا تسبق الحبّةُ فيه الحبّة، ولا تتخلّف فيه الواحدة عن أختها، فهو الذي لا ينفرط ... !
إنه "المزمّل" محمد... صلوات ربي وسلامه عليه، خاتم الأنبياء والمرسلين، المخاطَب بهذه السورة على وجه الخصوص...
هذه السورة التي كانت من أولى السُّوَر نزولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأرجح أنها كانت الرابعة بعد العلق، والمدثر والقلم .

كانت من أولى قطرات الوَحْي نزولا على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعدُ نديّ كل النّداوة، حديثُ عهدٍ بربّه . جاءت خِطابا له وهو في حالة بالغة الصعوبة والحَرَج، في نقلة له من حال إلى حال، ليجد نفسَه المختارَ من ربّ السماوات والأرض لتَحَمُّل أعباء الرّسالة العظيمة والأمانة الجليلة، التي عُرِضت عليها وعلى الجبال فأبَيْن أن يحمِلْنها، الرسالة المصلحة لما أُفْسِد، المصحّحة لما غشّى المجتمعات من ظلامية وضبابية، وضلالات وسَدْر في الأهواء، والاعتقادات الهبائيّة العبثيّة المختَلَقة الباطلة، التي ما جعل الله لها من سلطان ... !

الرّسالة التي جاءت تُعيد البشريّة إلى ربّها من بعد ما تاهتْ عنه، وضلّت سبيلها إليه ! والرسول الذي بُعِث رحمةً للعالمين، لينتشل الناس من مخاضة الضّياع، ويرفعها إلى مقام التكريم الذي عليه خُلِق البشر، وبه خُصُّوا دون كل مخلوقات الله . جاء يبيّن ما اقترفه مَدْعُوّو الرُّسُل السابقين من إجرام بحقّ كُتُب الله، بالتحريف، والتبديل، وافتراء الكذب على الله، ورَمْي رُسُله بأبشع التُّهَم وأشنع الصفات...
بُعِث صلى الله عليه وسلم ليضطلع بمسؤوليةٍ، هي الأثقل على وجه الأرض مُذ عرف الإنسان الأرض، ليقوم بدورٍ هو الأعظم على الإطلاق، وليؤدّي مهمّة هي الأصعب على الإطلاق ... !

فكان صلى الله عليه وسلم -ثلاثة أعوام قبل بعثته- يتحنّث في غار حِراء، شهرا من كل عام، كان ينعزل في الغار متأمّلا في الكون، وفي الخَلق، وفي وجوده ووجود مَن حوله، وما حوله، كأنّما يبحث عن شيء يدفعه إليه عُلوّ مقام إنسانيّته قبل بِعْثَتِه نبيّا... وقد كان قبلها يُلقَّبُ بالصّادق الأمين...
إنسانيّة سامقة جعلتْ فِطرتَه قريبة في نفسه، طافية على سطحها، لم تكن تلك الفِطرة المطموسة المردومة، التي غطّاها رُكام الهوى وسَقَطُ القَوْلِ وسَفْسافُ العمل ... لم تكن تلك التي غارت في غيابات النّفس، حتى لم يعُد يُسمَع لها فيها من رِكز ... ! ولقد كان الإعداد مع الفِطرة السليمة، وكان الاصطفاء ... !

بحث "محمّد" عن سرّ الوجود وغاية الوجود وما وراء الوجود...
تساءل، فانزوى وانعزل، يولّي وجهَهُ شطر الحقيقة الكُبرى، حتّى كان يومُ الجواب الربانيّ على تساؤلاته !!  يوم انكشاف السرّ الأعظم الكامِن خلف الوجود والإيجاد، يومَ أذِن الله لكلامِه ووَحْيِه أن ينزل، وأذِنَ لخبر السماء أن يُبَلَّغَ أهلَ الأرض...
 
من بعد ما حُرِست السماء لأجله، فنزل تَحُفُّهُ الملائكة حرسا ورَصَدا حتى بلغ المتعبّد المتحنّث، الذي أدبر عن اعتقادات قومِه كلّها، وتولّى وُجهة ساقتْه إليها فِطرتُه وصِناعتُه على عين ربّه...
وجهةٌ ظلّ ينشدها ويستسقي رِيَّها، حتّى نزلت على قلبه برداً وسلاماً تشفي غليله، وتُذهِب من نفسه السؤال المتململ، الذي ما انفكّ يبثّ في قرارتها أنّ وراء الوجود حقيقة عُظمى موجِدة مُدبّرة!   لا بُدّ أن يبلُغَها هذا الذي لم تُقنعه أحوال قومِه، وعبادتهم لما يصنعون بأيديهم، ولم يجعله انغماسُهُم جميعا في تفاصيلها ذاك المُنساق المتّبِع بحُكم الموروث والموجود، والمُصطلَح عليه والمُتَوَاصَى بِهِ... !

كلّ ذلك كان مع عقله المتّزن ونفسه الشّفيفة، مظهرا لا يُخضِعُه ولا يُقنِعُه... !
ونزل الوحي المحفوظ المحروس، على العبد المتأمّل المتحنّث المنعزل عن باطل قومِه ... !  نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفهم ما حلّ به، فهو يُؤمَر أن يقرأ، فيجيب الآمِرَ: ما أنا بقارئ...  يعيدها عليه ثلاثا، فيجيبه ثلاثا: ما أنا بقارئ... بصدقٍ لا يتحوّل عنه وإن تملّكه الخوف، وإن أحاط الفَرَقُ بكل نقطة من نفسه الشفيفة... !

وفي كل مرّة كان يغُطّه حتى يبلغ منه الجَهد، لعِلْمه بحاجته صلى الله عليه وسلم لتلك الضمّة، التي تُلَمْلم عليه نفسَه من هول ما حلّ به ... ويُردِف المَلَك أن : "اقرأ باسم ربك الذي خلق " ........

وهكذا صلى الله عليه وسلم كانت معه البداية !  فهرع إلى زوجه خديجة يبثّها رعدتَه وحَيْرتَه، يبحث عندها عن المأوى والملاذ ! فكانت رضي الله عنها نِعمَ المأوى ونِعْم الملاذ، وهي التي دعتْه أوّل ما دعته إلى الثبات، ثم الثبات، وذكّرتْه بأيديه على مَن حولَه، وبخيريّته وبصالح عمله، وطيب سيرتِه، وأنّ مثله لا يخذله الله ولا يُخزيه أبدا ... وأسرعت به إلى ورقة ابن عمّها، وعندَه كان أوّل الخبر أنّ الذي به هو الناموس الذي نزّل اللهُ على موسى ... !

وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ثِقل ما حلّ به، ورغم ارتعاد فرائصِه، عاد يتشوّف لذلك النور الذي استشعره في نفسه، ولذلك القول العظيم الذي ذاق مِن حلاوته أوائلَ العلق !  فكان الحنين يأخذه إلى ذلك الغار الذي فيه حياة الروح  ... ! لعلّ ذلك المَلَك الذي غطّه وهو يُقرئه خبر السماء يعود من جديد ! لعلّه يسمع صوته، ويسمع منه كلاما من جنس ما أسمعه عن ربّه الذي خلق الإنسان من علق، ربّه الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم ... !

وفَتَرَ الوَحْيُ عن العبد المتأمّل المُتشوِّف المشتاق... وكلّما طال الغياب زاد الحنين، وفاضت النفس الشفيفة الرّفيفة حزنا على غياب تلك الأنوار ...
حتى هو ذا جبريل من جديد يتبدّى لمحمد الحزين على فِراق الروح ! جالسٌ على كرسيّ بين السماء والأرض تملأ أجنحته أرجاء السماء، فكان أينما نظر فيها رآه ... ففرِق منه، وانقلب إلى أهله وهو يقول: "زمّلوني زمّلوني" ...
وفي هذا رُوِي نزول سورة المزمّل، وكذا فيه رُوِي نزول سورة المدثّر ...

وإنّ كِلْتا السورَتَين من حديثِ حديثِ السماء إلى الأرض ... فالعلق، ثم المدثر ثم القلم ثم المزمّل .... لم يبعد نزول الواحدة منها عن الأخرى ...
كما رُوِي أنها نزلت فيما قالته قريش عنه صلى الله عليه وسلم، إثر اجتماع لأعيانها وكبرائها في دار النّدوة، حينما رموه بالجنون، وبالسحر، وبالشعر...  فتزمّل رسول الله صلى الله عليه وسلم حُزنا من أقوالهم...

وأيّاً ما كان سبب نزولها فهي التي كانت من بدايات الوَحي ...
« آخر تحرير: 2020-12-02, 10:12:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

فلنشنّف الآذان ومعها القلوب ....

"يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا (2)نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا(4)"

مع أواخر سورة الجنّ عرفنا قوله سبحانه : " عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(28)"

عرفنا حِفظ الله لكتابه وهو يُنْزَلُ على نبيّه، ليبلغه كما هو، وليُبلِّغَه كما نزل، لنجدنا بعدها مباشرة، مع نداء الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم، وأمرَه له مع بدايات نزول الوَحْي، في إتمامٍ لمراحل إبلاغ القرآن الكريم، بدءا من حفظ السماء في زمن نزوله (كما عرفنا في سورة الجنّ) ثم بحفظه وهو ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم محفوفا بالرّصَد والحرَس...
ثم ها نحن بين يدَي نزوله نديّا على رسول الله ... ! ها هو أول الغيث لقلوب البشر...ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم وربُّهُ يُعلّمُه، ويبيّن له ما يكون له زادا وعُدّة على الطريق الصّعب الذي اختير له، والمسؤوليّة العُظمى التي ألقِيت عليه...

إنه سبحانه ينادي صَفِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فيصِفُه بـ: "المزمّل"، والمزمّل هو المتلفّف في ثيابه...
إنه التلطّف الإلهيّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، الذي تلفّف في ثيابه مِن وَقْع ما حلّ به، وقد نزل به ما لم ينزل ببشر !
هو البشر الذي حُمِّل ما لم يُحمَّلْه بشر ... لحم ودمٌ وعظام هو جِسْمُه الشريف، أثقلها ما نزل عليه، حتى تهاوتْ وتشعّثَت فتزمّلت عساها تُلَمْلَمُ ... !

نفسٌ شفيفة وقلبٌ رقيق، وروحٌ متشوّفة لأصلها وسِرِّها، ومشاعرٌ ووجدانٌ أثقلها كلّها ما نزل على قلبه فتزمّل ! تزمّل وهو المُثقَل المُحمَّل، يبحث لكيانه عمّا يجمعه عليه ... !

واللّغة بدورِها تؤيّد هَرَعَهُ صلى الله عليه وسلم للتزمّل من وطأة ما ألقِي عليه. وفي "التزمّل" معنيان لُغويّان يتظافران في وصف الداعي لتزمّله، إذ "الزِّمْل" في اللغة هو الحِمْل، وزمَلَ الحِمْلَ حَمَله، كما أنّ "التزمّل" هو التلفّف في الثياب، فيجوز أن نجمع بين الاثنَيْن، ونحن نفهم أنّه صلى الله عليه وسلم تلفّف في ثيابه من ثقل ما أُلقِي عليه ... وفي قادم الآيات مزيدُ تأكيد لهذا المعنى ...

يأمره سبحانه بقوله: " قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا (2)نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا(4)"
يأمره بقيام الليل في بدايات نزول الوَحي...
أن يقوم لله متعبّدا، متّصلا به سبحانه... أن يستزيد في هَدْأَة الليل لما ينتظره من عظيم المسؤوليّة في صناعة الإنسان في كلّ مكان، لا في مكّة وحدَها، ولا في الجزيرة العربية وحدَها ...

إنها الاستزادة للأرض قاطبة... لكُلّ الناس في كلّ زمان هم كائنون، وفي كل مكان هم حالّون ... ليُعيدنا هذا المعنى إلى سورة الجنّ التي جاء فيها إعلان الجنّ إيمانهم بالقرآن، وتوحيدهم الله، كأحسن ما يؤمن مؤمن وما يوحِّدُ مُوَحِّد، في إعلان لشمول الرسالة الخاتِمة لكل العوالِم، لا لقومٍ دون قوم، ولا لجنس دون جنس.... لا للإنس وحدَهم، بل للجنّ والإنس سواء...  للعالَم المُشاهَد، وللعالم المَغيب ... جاءت تُدلّل على بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة وهداية للعالمين ...

وبهذا نستشعر شيئا من ثقل هذه المسؤولية العظيمة الجليلة، الممتدة في المكان كما في الزّمان...  رسالة للعالَمين، رسالة خاتِمة، ونبيٌّ خاتِم، فلا رسالة بعدها، ولا كتاب بعد القرآن، ولا نبيّ بعد محمد... !
للاستزادة لكلّ هذا، أمَرَهُ ربُّه سبحانه بالقيام... !

أمرَه أن يأخذ بحظٍّ وافِرٍ من اللّيل ليَعُبّ من أنوار ربّه... أن يقوم اللّيل ليقوم بما حُمِّل، وليُقيم الدّينَ في الأرض ... ليصنع الإنسان، وليُعيده إلى الجادّة من بعد ما ضلّ طريقَه، وتاهَ عن "الطريقة"، ليعيد للرّوح كلمةَ سِرّها فتُفتَح مغاليقَها، وتتفتّح بَتَلاتُ زهرتِها، وتتنفّس الصُّعَداء، ولتتألّق، ولتذهب عنها سَكْرَة التّيه... !

في جُنَح اللّيل، وفي سكونه، والسماء مُسدِلةٌ على الأرض ستارَها تُهدهِدها لتَسْكُن وترتاح...  وبينما الناس نِيام، ليأخذوا من الراحة ما يُذهِب عنهم عناء يوم مضى، وما يستقبلون به حركة يوم آت ... في ذلك الوقت الشفيف الرّفيف ، الساكن الهادئ ...  قُم أنتَ يا محمّد لربّك متعبّدا، داعيا... !

قُم في ظُلمته لتستزيد لنور الأرض ! قُم لتَعُبّ من أنوارٍ هي في دُجى الليل تسري إلى القلوب المتّصلة، الحيّة بذكر ربّها ....
"قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا (2)نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا(4)"
قُمْ أكثَرَ اللّيل، قُم نصفَه أو انقُص من نصفه قليلا، أو زِد على النصف ...
قُمْ من بين ثيابك التي تلفّفتَ بها، تحاول لملمة أشتاتَ نفسِك من ثِقَل ما ألقِيَ إليك ...! قُمْ فالأمر جَلَل... !
لم يعد لك أن تتزمّل ... حِملُك ثقيل، ثقيل...! وليس عندَ مَن ألقاه إليك إلا الحقّ والحقيقة ...
إنّه سبحانه الرحيم الودود، وهو صلى الله عليه وسلم حبيبُه وصفيّه، يتلطّف معه مناديا إياه بالمزمّل، ولكنّه لا يُخفّف عليه بكلمات تَبعُد عن حقيقة ما ينتظره من عمل شاقّ ! كعادة مَن يرأف بحال المُثقَل التَّعِب فيُهوِّنُ عليه، ويُعطيه من الكلمات ما قد يبتعد به عن حقيقة الثّقَل والمسؤولية ، إلى وَهْم الراحة والطمأنينة ... !

"أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا" ...
أو زِد على نصف الليل وأنت قائم بين يدَيْ ربّك، ورتِّل القرآن ترتيلا...
فإذا كانت الصلاة عمادَ الدين، فإنّ القرآن عِمادُ الصلاة ... عِماد الصّلة بالله تعالى ... والشيء المرتّل هو المنظّم بعضُهُ خلف بَعض، يُقال ثَغْرٌ مرتَّل أي مُفلَج الأسنان ...

هكذا أُمِر صلى الله عليه وسلم، أن يقرأ قراءة منظّمة متأنّية، متمهّلة تلمَسُ بها كلمات القرآن شِغافَ القلوب... !  تُشبَع الحروف، ويُعطي الصوت للكلمات حقّها وهو يُخرجُها ... فتكون أكثر وَقْعا في القلب، وأدعى لأن تُفهَم وتُتَدبَّر ....
وليست الغاية هي القراءة العَدَّادِيّة، التي تخال صاحبَها عدّاد حروف وكلمات، يُسارع ليُلحِق الكلمات بعضها ببعض، والصفحات بعضها ببعض، لا لشيء إلا ليقول قد قرأت، قد ختمت، قد أنهيت ... وقد أعدتُ القراءة مرة ومرات !! هكذا قراءةَ عَدد، لا قراءة مَدَد، تَمُدُّ صاحبَها بحياة الرّوح، وتُمكِّنُه من الغوص في أعماق بحرٍ بعيد القرار، لا تنتهي دُرَرُه ولا تنقضي عجائبُه وروائعُه ...

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :" لا تنثروه نثر الرمَل، ولا تهذوه هذَّ الشِّعر وقفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب".
فرتّل يا محمّد القرآنَ ترتيلا، تمهّل وأنت تقرأه...
تمهُّلٌ مع هَدأة الليل وسُكونِه، واختلائِك بربّك، وبُعدِك عن الناس، بل عن أقرب المقرّبين إليكَ...  اختلاؤكَ به وقد تجافى جنبُكَ عن مضجعِك، تُؤْثِر لقاءَه والتنعّم في رحائب أنوارِه وجمالات قُرْبِه، على النّوم والدّعَة والراحة ! وأنت ترتّل القرآن ترتيلا... فلا حُسْنَ يعلو على حُسْن القرآن مرتّلا في صَفْو الليل الهادئ، وسكون العتمة المتناهي ...

"إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا(05)إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلا(06)"

لأجل هذا القول الثقيل الذي أثقلك يا محمّد ... الذي جعلك تتزمّل باحثا عن نفسِك بين شتاتِها، تجمعُها عليكَ من شعثِها ... هذا الذي عُدتَ يرجُفُ به فؤادُك إلى ملجئك في الناس خديجة : "زمّلوني زمّلوني" ...
هذا الذي هو حِملٌ ثقيل ثقيل ...! ثقيلة مسؤوليّة تبليغه، ثقيلة مسؤولية إحياء النفوس به، مسؤوليّة إحياء الأرض قاطبة به ....
تمهّل يا محمّد .... تمهّل ... فهو الثقيل الثقيل، وما من كلمات تجعلك تستخفّه، وتُهوّن عليك ما أحسست من ثقل .... إنه الحقّ سبحانه فلا ينبئك إلا بحقّ ... لا يكون حُبُّه لك سببا لرأفة بنفسك المثقَلة حدَّ أن يصوِّرَ لك الثقيل خفيفا، والكبير صغيرا، والعظيم هيِّنا... !
إنه الكبير... إنه العظيم ... وإنه الثقيل، الثقيلة مسؤوليّة تبليغه أيّما ثِقل ... أيّما ثقل !!
بل لنتأمّل ....
لقد أنبأه الله تعالى بأنّه "ســــ " يُلقي عليه قولا ثقيلا ...لاحقا... إنها ليست السورة الأولى نزولا، ولا الآية الأولى نزولا ... لقد نزلت قبلها آيات، وسُوَر عُدّت ثلاثا .... فإن كان الذي نزل عليك يا محمّد، جعلك تشعر بثقل خِفْتَ منه على نفسِك الشَّعَث والذهاب، فإنه سينزل عليك بَعْدُ قولٌ ثقيل...! مازال ينتظرك الثقيل !!
"إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا "

ثقيل هو القرآن... لا ثِقَلَ فهم، فلقد وصفه الله باليسير : "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" -القمر:17-  .. بل ثِقل وزن وقيمة، ثقل دَوْرِه، وعظيم أمره ونبئه وهدايته، وحَمْلِه للهُدى والرّشاد ...  ولقد عرفنا من نفر الجنّ وصفَهم له أوّل مرة إذ قالوا : " إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا " ... ثمّ ثنّوا واصفين إياه : " يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ "  ثم وصفوه مرة أخرى بقولهم : "وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ "

فهو" العجب"، وهو الذي"يهدي إلى الرشد"، وهو" الهدى "، وليس ذلك بهيّن، بل هو رأس الأمر في وجود الإنسان على الأرض، وحركته عليها .... هِدايته إلى ربّه، وتعريفه سبب إيجاده، والغاية من إيجاده، ومِنّة موجِدِه سبحانه عليه، وتعريفه بمآلِه بين يديه وأَوْلِ أمره إليه، ومُجازاة كلّ بما عمل ...

عن عائشة رضي الله عنها قالت : "ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، في اليوم الشديد البرد فيُفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا" -صحيح الترمذي-
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "سألتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقلتُ يا رسولَ اللهِ هل تُحسُّ بالوحيِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : نعم أسمعُ صَلاصلَ، ثمَّ أسكتُ عندَ ذلكَ، فما من مرةٍ يوحَى إليَّ إلا ظننتُ أنَّ نفسي تَفيضُ"-مسند الإمام أحمد-
وحدّث زيد بن ثابت رضي الله عنه عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوحِي إليه وهو معه فقال: " فأنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى علَى رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وَفَخِذُهُ علَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حتَّى خِفْتُ أنَّ تَرُضَّ فَخِذِي" -صحيح البخاري-

وفي هذا السياق، وبهذا الاتّساق بين الآيات، نفهم اشتراك التلفّف في الثياب والحِمل الثقيل في معنى "المزمّل" الذي كان وصفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه به ربُّه...
ولأنّه سبحانه مازال سيُلقي عليه قولا ثقيلا، فقد أمرَه بقيام الليل...
هذا هو التِّرياق، وهذا هو الزّاد، وهذا ما سيشحذ همّة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدّرب الذي اختاره له ربُّه ....
أن يظلّ موصولا بربّه، فهو في النهار داعٍ، معلّم، قائم بأمر الرسالة، لا يفتُر، وهو بالليل قائم بين يدي ربّه، يتزوّد لكَدح نهاره، الذي هو لربّه ولتبليغ رسالة ربِّه، ولأداء الأمانة التي ألقِيت على عاتقه الشريف ... قائم هو باللّيل، وقائم هو بالنهار صلى الله عليه وسلم ... وفي هذا جاءت المدثّر التي سبقت المزمّل نزولا تأمره بالقيام للدعوة : " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (01)قُمْ فَأَنذِرْ (02)"

"إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلا(6)"

وفي هذا تعليل للأمر باتخاذ الليل خاصة للقيام تعبّدا وصلاة وقراءةً للقرآن، إذ أنّ ناشئة الليل، هي العبادة الناشئة في جوف الليل، وكأنّها تنشأ بخروجها في غمرة السكون والهدوء المخيّم على الأرض، فالعامّ والسائد أنّ الكُلَّ إلى النوم يَخْلُد بالخِلقة التي خُلِق عليها الإنسان، وبمَيل الفِطرة، الذي جعله الله رحمة وسكينة ليرتاح الإنسان وليتزوّد لكدح جديد...

 في تلك الأجواء، يُكسَر المَيْل الطبيعيّ، ويستيقظ المأمور بالقيام ليلاً ليتعبّد، ليدعو وليتّصل، ليحيا بينما الناس ذاهبون في الموت الصغرى... !
ناشئة هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا، هذا الوقت للصلاة والتعبّد، هو أشدّها وقعا وأثرا في النفس، لخُلُوِّ بال الإنسان من انشغالات النهار، وحركة الحياة، وحتى ممّن حولَه من أقرب أقربيه ...
وهي أقوم قيلا، يكون فهم القَول في هذا الوقت أقربَ للذّهن، ويكون القلب أكثر حضورا، والروح أندى، وهي التي تستسقي ربَّها أنوارَها وحياتَها،  في قلب هدأة وسكونٍ وصمتٍ مُطبِق ...! وكيف لا يكون ذلك والليل على الدنيا وحركتها غَشْيٌ ولباس وسَكَن  ... !
« آخر تحرير: 2020-12-02, 10:16:32 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ولقد فُرِض قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه أول الأمر بنزول هذه الآيات، ثم خفّف الله عنهم فأصبح نافلة .

عن سعد بن هشام رضي الله عنه، عن عائشة رضي الله عنها وهي تجيبه عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَلَسْتَ تَقْرَأُ يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ؟ قُلتُ: بَلَى، قالَتْ: فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ في أَوَّلِ هذِه السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا في السَّمَاءِ، حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ في آخِرِ هذِه السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَة" -صحيح مسلم-

ولكنّ الأمر بالقيام وجوبا بقي خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها، وقد جاء في ذلك قوله سبحانه : "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا" -الإسراء:79- .  أي زيادة لك خاصّة، فكانت عائشة رضي الله عنها إذا سألته عن سبب قيامه حتى تتفطّرَ رجلاه، أجابها صلى الله عليه وسلم قائلا : "يا عَائِشَةُ أَفلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا" -صحيح مسلم-

وهكذا ... كان صلى الله عليه وسلم، كلّما أمره ربُّه ائتمَر، وأدّى على التمام والزيادة والكمال ....
فكان قيامُ الليل القوّة التي كان يَجدُها صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يدعو ويربّي ويعلّم، ويوجّه، ويؤدّب، ويصنع الأنفسَ، ويُخرجها من ظلمات الجهل إلى نور العلم والحقّ، ويزيح عن البصائر غشاوة الاتّباع الأعمى لكلّ ناعق، ليُشِعّ فيها الانصياع لأمر الخالق الهادي الملِك سبحانه، واتّباع رسوله إلى عباده .

"إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)"

وهذا نهار محمد صلى الله عليه وسلم...يخبره سبحانه أنّ له فيه سبحا طويلا، أي له فيه تقلّبا وانشغالا بأمور الدنيا، وبأمور الناس ...
لقد كان صلى الله عليه وسلم يقضي نهارَه داعيا لربّه، معلّما للناس، مُجاهدا، ثابتا رغم تصدّي الكافرين لدعوته، وصُدودهم عنها، وترصّدهم وكَيْدهم له ولمَن تبعه، ورَمْيه بالجنون والشعر والسحر... !
كان دَيْدَنُه الدّعوة، والعمل دائبا على تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ...

ويعود بنا هذا إلى آخر ما جاء في سورة الجنّ : "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)"
لقد كان صلى الله عليه وسلم يتزوّج النساء، وكان له منهنّ الوَلَد، وكان يأكل ويشرب، ولكنّه كان في كل ذلك يتزوّد ليبلّغ رسالات ربّه، فهو القائم نهارا، القائم ليلا ...

"وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا "

تربية ربّانيّة، وإعداد ربّانيّ له صلى الله عليه وسلم، على درب الدعوة، ذلك الدرب الشاقّ المُضني، الذي ينوء بالعُصَب أولي القوّة، والذي لم يكن له إلا محمد صلى الله عليه وسلم، إمام أنبياء الله ورُسُله، وسيّد وَلَد آدم ...
يربّيه سبحانه أن يكون له ذاكرا: "وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ"

فمِن بعد أن أمره بالقيام ليلا، هو ذا يوجّهه للذّكر نهارا، ليجتمع عليه يومٌ هو فيه مع الله بِطرفَيْه... بِلَيْلِه ونهارِه ... فهو بذلك منقطع لربّه، متّصل به على الدوام، لا تشغله الحياة ولا حركتها، ولا حركة الناس مِن حوله عنه سبحانه ...
ويؤكّد سبحانه هذا المعنى بقوله : " وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا "

إذ أنّ التبتّل هو الانقطاع، الانقطاع عن الدنيا إلى الله سبحانه ...
وهنا وجبتْ مني وقفة أبيّن فيها ما استسهل كثيرون فَهْمَهُ، على نحو ليس هو المُرادَ من قول الله تعالى : " وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا "، وأسقَطوا ذلك الفهمَ على الحياة، فأصبحت الدنيا وكأنّما خُلِقَت لنجافيها مجافاةً، فلا نهوض لنا فيها، ولا دَوْرَ ولا أثر... بل ويُؤخَذُ هذا الوجود الهامشيّ فيها على أنّه الدّين، وأنّه من الدين، وأنه ما يقتضيه الدين... !

التبتّل الذي دعا الله إليه عبدَه وصَفِيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم، لا يعني الانقطاع الكليّ عن شؤون الدنيا، وعن الحياة، ولو كان ذلك لما جاءت: " إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا " . ولو كان ذلك هو الفهم الصحيح لما تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عرفناه يردّ على مَن جاءه يقول باعتزال النساء فلا يتزوج أبدا، وبالصوم فلا يفِطر، وبقيام الليل أبدا، بأنه أخشاهم لله وأتقاهم، ولكنّه يصوم ويُفطِر ويتزوج النساء، ويقوم وينام. فكان يدعوهم للتأسّي به صلى الله عليه وسلم وقد بُعِث، وللمؤمنين فيه أسوة.

بل المعنى أن يعيش المؤمن ويقضي مآربَه، ولا ينقطع إلا عمّا يُغضب الله...
ذلك ما يُجانبه كل المجانبة... أما شؤون الحياة، فيقضيها، ويعمل ويتحرّك ويتعلم ويعلّم، ويكتشف ويخترع، ويُعلي، ويُواكب العلوم وهو ذاكر لربّه، فلا يتألّه بعقله في الأرض إذا ما علِم وإذا ما اكتشف، حتى يعبد المادّة والملموس والمحسوس...
... موقنٌ هو أنّ العليم سبحانه هو الذي علّمه، فلا يُنكر أنّ للكون خالقا، ولا ينكر أنّ غيوبا تتلفّف عنّا في عالَم أوانُه لأعيننا له كتابٌ موقوت، الإيمان بها أهمّ علامات المؤمن...
فَهْمٌ خطير طغى على الأمّة في قضيّة العبادة، فتصوّر مَن تصوّر أنّما العبادة الحقّة، والتقوى وسامق درجات الوَرَع أن ننقطع عن الدنيا، وأن نتركها لغيرنا هنيئا مريئا،  فَهُم أربابُها وأسيادُها، والمنعَّمون بها، ولنا نحن نعيم الآخرة وهو خير وأبقى ... ! وما هذا الفهمُ منا للتبتّل إلا المِشْجبَ الذي نعلّق عليه تقصيرنا وقعودنا وتكاسلنا، وجُنوحَنا إلى الدَّعة والراحة ... !

فكثيرٌ ممّن يُطلِق لِحيتَه لتكون له سِمة من سمات التعبّد والتبتّل لله، فلا يغادر المسجدَ إلا إلى مسجدٍ غيره ...معتكفٌ هو أبدا...! ولعلّك لو تقصيتَ أمرَه، لوجدتَه قد غادر مقاعد الدّراسة وطلب العلم، بدعوى أنّ العلمَ الشرعيّ وحدَه الذي يُطلَب، أما علوم الدنيا فالغربُ أهلُها، لأنهم أهل الدنيا وناسُها، أما نحن فأهل الآخرة وناسُها ... !!

حالٌ عرفناها في الأمّة، كان من أهمّ أسبابها، دعاةٌ وعلماء أخذوا التبتّل على أنه الانقطاع عن الدنيا وعن العمل فيها، وعن أن يصنع المسلمون لأنفسهم مكانا، وجانِبا مُهابا، في عالَمٍ القويُّ العامل فيه يأكل الضعيفَ القاعِدَ... !
ولكنّا لا نَفْطِن لخطورة هذه الحال إلا حينما تُستَباح أراضينا من أقوياء عملوا، واخترعوا وتترّسوا بسلاحٍ صنعتْه أيديهم، وهم من قبلُ أغنياء بغذاء زرعتْه أيديهم عن فُتاتٍ يُلقي به إليهم غيرُهم ليُغيثَهم ... !
عندما تُداسُ رقابنا بنِعالهم ... عندما تُستَباح أوطانُنا وتغدو كعكة تُسيل لُعابَهم، فيتصارعون على تقاسُمِها... عندها نفطنُ أن التبتُّل كما فُهِم لم يكن هو التبتّل الذي أراد الله  ... !

بعيدون نحن بذلك كلّ البُعد، عن التأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن فَهم مُراد القرآن العظيم، فقد كان أول ما فكّر به صلى الله عليه وسلم وقرّر العمل عليه عند دخوله المدينة المنوّرة، أن يكون للمسلمين سوقٌ، وأن يكون لهم مورِد ماء، وقد كان اليهود فيها أصحاب تجارة ونفوذ ماليّ، فتشوّف بنظره البعيد إلى وُجوب الاستقلال الغذائيّ عنهم كمُنطَلَق، إذ أنهم هُم أصحاب الحقّ وهم الذين سيضطلعون بمهمّة نشره في الأرض وإعلاء كلمته، وإذهاب الباطل وتسفيل كلمته. وبذلك سيصبحون سادة قراراتهم، وأهلا لتبليغ رسالة الحقّ، فلا يضطرّهم جوع أو ظمأ لأن يخضعوا لأهل الباطل... !

واسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرد عثمان...
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "رَدَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، ولو أذِنَ له لَاخْتَصَيْنَا"-صحيح البخاري-

وإنّ البطولة ليست في الانقطاع عن الدنيا إلى التعبّد، بل البطولة في خوض غِمار الدنيا والقلب ذاكر لله، فهو المتحسّب في كل خطوة تُخطَى، يُراعي عينَ ربّه، فلا يكذب، ولا يخدع، ولا يتملّق، ولا يُداهِن وهو يتعامل، وهو يعمل، وهو يتعلّم ... وهو يبيع ويشتري، وهو يتحرّك حركةَ الحياة ... في ذلك تكمُن البطولة، ويتبيّن معنى سَبح النهار الطويل، وذكرُ الله والتبتّل إليه ... !

قلبٌ معلَّقٌ بالله، موصول به، فهو في الحياة تراه صاحب وظيفة أو في مقعد دراسة، أو في مقام مسؤولية كيفما كانت، وقلبُه موصول، يتحرّى الرَّشَد، ويتحرّى مرضاة ربّه وهو حيث وجَدْتَه ... !عابدٌ هو في صومَعة لا تدْرِكُها الأبصار، بل يُدرِكُها عالم السرّ وأخفى ... !

وإن كنّا نوقِن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أعرف عباد الله بالله، وهو أتقاهم وأخشاهم له ، وهو صاحب المسؤولية والرسالة الخاتِمة العظيمة التي لم تُنَط ببشر قبله، ولن تُناطَ ببشر بعده- لا يكون ائتمارُه بأمر الله إلا على قدرِ عظيمِ معرفتِه به سبحانه، وعظيم خشيته له... فكان يقوم الليل حتى تَرِمَ قدماه، وكان يقضي نهارَه داعيا لله، مجاهدا في سبيل تبليغ الرسالة.
إلا أنّ هذا الذي يُؤمَر به صلى الله عليه وسلم، ينسحب على كلّ من يحمل على عاتقه مسؤولية الدّعوة إلى الله . كما ينسحب على المؤمنين كافّة على اعتبار أنّ كل مؤمن راعٍ ومسؤول عن رعيّته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإنّ ما يفرّق بين مؤمن وغير مؤمن، أنّ المؤمن يعيش اعتقاده بربّه الواحد حياةً وحركة في الحياة، فلا يفصل الدين عن الحياة ثم يتمطّى بمقولة العلمانيّين الشهيرة : "الدين لله والوطن للجميع" !!  وذلك بفصل الدين عن شؤون السياسة في علمانية مصغّرة كما يسمّونها، ثم تدرّجا إلى فصله عن الحياة كلها ... !

"رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)"
إنّ الذي يأمره صلى الله عليه وسلم أن ينقطع إليه في كلّ حركات الحياة، هو ربّ المشرق والمغرب، والمشرق مكان شروق الشمس، والمغرب مكان غُروبها، كما أنّهما الزمان أيضا، فالشروق علامة بداية النهار، والغروب علامة بداية الليل.
ربّ المكان والزمان سبحانه، خالقُهُما ! وخالقُ الإنسان في محيطهما، فهو لا يُعرَف له وجود، ولا حركة إلا في إطارهما ... أما هو سبحانه فهو الذي لا يحويه مكان، ولا يحدّه زمان، هو الذي كان سُبْحانه ولا مكان ولا زمان... !
ربُّ المشرق والمغرب، الربّ الخالق المالك سبحانه، لا إله إلا هو، الإله الذي يُعبَد ولا يُعبَد سِواه ...
ولقد كان العرب يقرّون بربوبيته، ولكنّهم لم يكونوا يتخذونه إلها معبودا، لم يكونوا يأتمرون بأمره وينتهون عن نهيه، بل كانوا يختلقون العبادات، فيَرضَون بالتذلّل لصنم من حجر، ولِوَثن من خشب يعكفون عليه، ويأبون التذلّل لخالق كل شيء ومالك كلّ شيء ! ويدّعون اتّخاذ الصنم قُربى وزُلفى إلى الله، على اعتبارهم له رمزَ الرّجل الصالح الذي كان فيهم، ويأبون التقرّب إلى الله بطاعة رسوله بدعوى أنه بشر مثلُهم، وكأنّ الصالح فيهم لم يكن بشرا ...!! وذلك خَلْط الإنسان وخَبْطُه حينما يترك نفسَه نَهْبا للشيطان، ويزْوي عقلَه حتى يهوي إلى دركات الهباء ... !

وليست أصنامُ وأوثانُ العرب وحدَها، التي كانت شِركا بالله وكُفرا، بل إنّ الإنسان في كل زمان إذا ما أعرض عن أمر ربّه وقع في شِراك السَّفَهِ واللاعقل ...
وبين بني الإسلام اليوم مَن لا يعرفون من القرآن إلا اسمَه، أو حرفَه، فإذا عرضَتْ له الشُّبُهات، ألْفَيْتَه متخبّطاً وقد تلجلج فِكرُه وترجرج، وشكّ واضطرب، وليتَه كان شكَّ السَّؤول الباحث الذي يتشوّف للحق، بل هو الذي كان القرآن بين يدَيْه فما عرف منه إلا حروفَه... !
فانظر... انظر في هذه الحال، واحذرْ ! فإنّ القرآن كنزٌ لا يُدرَك إلا بمعايشته، لا يُدرَك بقراءة الحروف وتهجيتها، وبتقديس لفظيّ، وبتقبيل للمصحف، ومسح التراب من عليه ... ! بل إنه الذي يُعاش، ويُتحرّك به، الذي يبثّ الحياة فينا، وما أهملنا معايشته عشنا بلا معنى لوجودنا ... !

ربّ المشرق والمغرب، ربّ الليل والنهار، ربّ الزمان والمكان، فكيف يُعبَد غيرُه ؟! هكذا يخاطِب القرآنُ العقلَ، وهو يَعلَم قُدرتَه على العمل والاستدلال والنّظر ... فيدعوه لينظر ويستدلّ ويستنتج ... 
وكيف لا ينقطع الإنسان إليه في حركات حياته كلّها، وهو الذي يَعُدّ عليه حركاتِه وسكناتِه، ويحيط بما لديه ويحصي كل شيء عددا ... وكالعادة تعود بنا آيات السورة إلى آيات السورة التي سبقتها : "لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا" -الجنّ:28-

ونتأمّل كيف تسُوقُنا المعاني في الآية الواحدة إلى ما يتمّمها، في منهجيّة خطابيّة تحرّك العقلَ حركة الفِكر والنظر والاستنتاج ...
إنه الربّ الإله الواحد... فاتخذه وكيلا ... ومن يكون لك وكيلا ومعتمَدا وتُفوّض له كلّ أمرك غيرُه وهو الربّ والإله ؟!

إنه سبحانه يُعِدّ نبيَّه لحمل القول الثقيل والمسؤولية الجسيمة، فيأمره أن يقوم الليل بين يَديه، وأن ينقطع في سائر أوقات اليوم إليه، انقطاع مَن هو في حركة الدنيا ومع حركة الناس وقلبُه موصول بربّه ...فكما ألقى عليه سبحانه قولا ثقيلا، يوجّهه لأن يُلقي هو حِملَه على الله ! فلا يخاف ولا يجزع، وقد علّمتنا الجنّ أنّ من يؤمن بربّه فلا يخاف بخسا ولا رهقا !

وفي تدرّج وترابط نعرفه بين الآيات، وفي تخلّص حَسَن من شأن إلى شأن، يأخذنا هذا الأمر لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن يفوّض أمرَه كلّه إليه وأن يُلقي بما يُثقِله من هموم الدعوة إلى ربّه، إلى بيان أصل هذه الهموم في قوله سبحانه :

"وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)"
اصبِر على ما يقولونه فيك وفيما بُعِثتَ به...
وإننا في هذا الجزء المبارك العامِر الفيّاض، عرفنا توجيهَه له إلى الصبر في قوله سبحانه : "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ" –القلم:48-   وفي قوله بعدها: "فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا" -المعارج:05-    وفي قوله ها هنا : "وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا"

وقبل أن يأمرَه بالصبر، جهّزه بالعُدّة اللازمة، جهّزَه باليقين، وهو يوجهه للقيام ليلا ونهارا بين يَدَيه سبحانه لا يغفل عنه، ولا ينشغل عن أمرِه في كل حال يكون فيها، وعلّمه أنّ مَكْرَهُم وكلّ ما يُلقون به من أشواك على طريق دعوته إلى ربّه، ومآلَهم، وما ينتظرهم،  له وحدَه، فهو الذي لا يغفل ولا تخفى عليه من شأنهم خافية ...وهو ناصرُه وكافيهم شرَّه ...

الصّبر قد سُبِق بالصلة التي لا تنقطع... بالصلاة ...هكذا على أنها الصلة الدائمة -كما عرفنا ظلالها في سورة المعارج- إذ هي المبتدأ وهي المنتهى في معراج الرقيّ الروحي، وهي الأساس وهي السقف الحافظ ...لا ركعات موقوتات بوقت ينتهي جوّها ما أن يُسلّم العبدُ يُمنة ويُسرة !
وقد كان الصبر الجميل مِرقاةً، رُقّي إليها صلى الله عليه وسلم من بعد أمره بالصبر المجرّد، ليُزاد إليه ها هنا الهجر الجميل : "وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا"
اهجُرْهم هجرا لا يُتبَع منك بأذى، لا من قول ولا من فعل...

فتتمثّل لك بهذا الأمر صورة العبد المنيب المطيع، الربانيّ العامر قلبُه بربّه، المشحون يقينا، الواثق في علم الله وفي تدبيره، الثابت، الجَلْد الذي يقوده يقينُه بربّه إلى الصبر على أذى المُؤذين، المتجرّئين عليه بكل صنوف التدبير والكَيْد والمَكر، وهو يعلم غلبة تدبير الله وكيْده ومَكره سبحانه... !
« آخر تحرير: 2020-12-02, 10:21:09 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون


"وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا"
تكذيبُهم به وبما بُعِث به... رضاهم بالحجارة المُخلِّدة لبشرٍ صالحين كانوا بينهم، تُقرّبهم إلى الله زُلفى، باعتقادات مُختَلَقة وافتراءات من صنع أخيِلتهم، وتكذيبُهم بمَن بُعِث بأمر ربّه مبلّغا لكمالات أوامِره، التي لا يعتريها هوى بشر متقلّب، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ...ويزعمون أنّهم الذين لا يصدّقون الإيحاء إلى رجل منهم ! بينما يتقرّبون إلى الله بحَجَرٍ رمزٍ لرجل منهم !!
وبين بشر وبشر فاصل بين الحقّ والباطِل ... !

لقد أمره أن يُلقِي بكلّ أمره إليه سبحانه، فيتوكّل عليه وهو العليم الخبير، يعلم حال المكذّبين أصحاب النّعيم والتّرف والمال الكثير ...يعلم عُتُوَّهم وشدّة صدودهم، وتآمُرَهم على الدعوة والداعي، ويعلم كَيْدَهم له، ومكْرَهُم، ويعلم تمالؤَهم عليه وهم كُبراء القوم، ويعلم شَوْكتهم فيهم، ويعلم تأثير كلمتهم عليهم ... كل هذا يعلمه سبحانه، فيأمره صلى الله عليه وسلم أن يذَرَ أمرَهم إليه ...

أنت يا محمّد عليك البلاغ، والاعتداد بعُدّة روحيّة يُزوّدك بها ربّكَ، فأنت القائم بين يديه ليلا، والقائم داعيا إليه نهارا ... أنتَ المنقطع إلى ربّك فلا يفتُر قلبُك عن ذكره، ولا تأتمر بغير أمرِه !
أنتَ المزّمّل الحامل زِملا ثقيلا، المتوكّل على ربّك ... ثمّ ذَرْ أمرَ هؤلاء المكذّبين الصّادّين العُتاة إلى ربّك، هو من سيتولاهم عنك ... أنت استزِد لتبلّغ على درب الدعوة، وتوكّل على ربك وهو الذي سيحمل عنك أمرَهم ...
"وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا"... إنه سبحانه يُمْهِلهم وأنت تراهم أصحاب قوّة وسلطان ومَكر، والناس من تحتهم يأتمرون بأمرِهم ... مهّلهم قليلا ... ! قليلا... !

وليسوا في هذا وَحْدَهُم... بل كلّ مستكبر عاتٍ يظنّ بنفسه الإله، يقضي بماله وبقوّته فيمَن هُم دونَه، فيزيدوه بتأليهه، اغترارا وتجبّرا في الأرض ! وهم اليوم رُتَّعٌ فيها، يرون أنفسَهم مُلّاكَها وأصحاب الأمر والنّهي، يمدّهم الله في غيّهم مدّا، فتجد سلطانَهم يكبر ويكبر، وتجد المتملّقين إليهم أذلّة تحت أقدامهم... !

وذلك حال مسلمين لا يعرفون من الإسلام إلا العنوان، عبيدٌ هُم للأقوياء رغم ظلمهم وجبروتهم ... وكأنّهم فتنةٌ من الله للمسلمين، أينصاعون ويذلّون ويستسلمون؟ أم يفهمون معنى إمهاله سبحانه للمكذّبين ومَدَّه لهم ؟ ! فلا تغرّهم فيهم قوّة ولا سلطان، وربُّ العِزّة يملأ عليهم أنفسَهم ...

"إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا(13)"
إنّهم المُمهَلون في الدنيا، حتى إذا أخذهم الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر، أعدّ لهم أنكالا أي قيودا ثقيلة شديدة تشلّ حركتَهم...
أولئك الذين دأبوا في الدنيا على الحركة بالمَكر، والكيْد والتنكيل بأهل الحق وبدُعاة الحق ...فهي ذي القيود الثقيلة المُشِلّة لهم عن أدنى حركة لا يستطيعون منها فِكاكا ... !

وجحيما مُحرِقة مُصْلِية، لا يتخلّصون من نارها طرفة عين، لا تقتلهم فيستريحون، بل هم المتقلّبون في نارِها أبدا ... !
وطعاما ذا غُصّة ينشِبُ بالحلق فلا يمرّ ! هو الضريع والغسلين والزقوم... طعام هو زيادة في الحَرق والصَّلْي والإلهاب...! أجارنا الله .
عذابات مروّعة، أعدّها الله للمكذّبين أولي النَّعْمة ...يُمهَلون في النّعمَة ويُغرَقون فيها، ويراهم الرائي فيحسبهم على خير كبير، بينما ما ينتظرهم مروّع مُفزِعٌ لا يصف هولَه لسانٌ ...! ومن هوله يذكر سبحانه الأنكال والجحيم والطعام، ثم يزيد فيذكر العذاب الأليم وحدَه ! ولك أن تتخيّل عذابا عظيما قد صوّرتْه لك الأنكال والجحيم والطعام يُزاد عليه : "وَعَذَاباً أَلِيماً"  ... !

كلّ هذا ينتظرهم في هذا اليوم :
"يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا (14)"

الأرض التي حملتهم وتحمّلت كُفرَهُم، وباطِلهم وعتوَّهم وظلمَهم فيها ! الأرض التي تحمّلتْهم، وكان ثباتها تحت أرجُلهم من إمهال الله لهم، ليَمُدّ لهم في طُغيانهم عليها ... والجبال الراسية الثابتة التي تحمي الأرض أن تميدَ بمَن عليها... يومها ترجف كلّها ... ! يوم يضطرب الثابت والمثبّت سواء بسواء... !

يا مَن حسبتُم أنفسَكم آلهة حاكمة بأمرِها، فظلمتُم وتجبّرتُم، وأذللْتُم الناسَ لكم وِطاء !
يا مَن لن تخرقوا الأرض ولن تبلغوا الجبال طولا ...
يا كُلَّ الجبابرة في كل زمان وفي كل مكان ... !
يا مَن تنكرون الإله الواحِد الذي يُملي لكم في الطغيان ويُمِدّكم بالقوّة لتطغو... !
إنّ الأرض والجبالَ يومَها مضطربة متململة، فإذا طلبتَ أيها الكافر الظالم الأرضَ لتتجبّر عليها وتطغى ... فيومَها ضعُفَ الطالب والمطلوب ... !
يومَها تُهَدّ الجبال، فإذا هي كثيب من الرمال المُجمَّعة حبة إلى حبّة، كثيب مَهيلٌ، كالشيء الذي يصبُّه صابّ وينثره نثرا بعد اجتماعه ... !

هانت الجبال، حتى جعلها ربُّها كالشيء المُهالُ المُفتَّتِ من ضعفه وهوانه ...!
هذه الجبال العظيمة... فكيف بكَ أنتَ أيها الإنسان ؟؟!!!
إنّك وأنتَ في الدّنيا لستَ أقوى ما أوجِد فيها، ولكنّ الكونَ المسخَّر لك كلّه إمهالٌ من إمهال الله تعالى لك حتى يراك وما تفعل ...! فإذا انتهت الدنيا صار أقوى وأصلبُ وأشدُّ ما عليها كثيبا مهيلا ... ! فأين أنتَ أيّها الظالم منه يومَها ؟؟!!

وينتقل بنا السّياق نقلة، فيها تغيير الوجهة المُخاطبة، في تخلّص حَسَن لا يكاد يُشعِرك بالانتقال ... فهو ذا سبحانه في مخاطبة للكفّار، في استئناف يطرُق موضوعا جديدا، من بعد ما كنّا مع صيغة الغيبة، في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم ومصيرهم يومَ القيامة :
"إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)"

إنه سبحانه يُذكّرهم ويذكّرنا بحال أقوام سبقوهم، وبأمر رُسُل كانوا قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم، جاؤوا بالبينات والهدى... في تذكير دائم بالامتداد في حبل الرسالة، وبوِحدة ما جاء به الرُّسُل، وبأنه الربّ الواحد، والإله الواحد الذي أرسَل الرُّسُل جميعا منذ بدأَ الخَلقَ، إلى خاتمهم صلى الله عليه وسلم .
وفي بيان لهذا الامتداد جاء الحديث عن الرسالة والرُّسُل في أواخر سورة الجنّ بصيغة الجمع: "إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)"-الجنّ-

إنّ محمدا فيكم ليس بِدْعا من الرُّسل ! إنه امتداد لإخوته الذين سبقوه في الرسالة... أُرْسِل شاهدا عليكم، شاهدا على تكذيبكم لما جاء به، وهو بذلك من تمام عدله سبحانه يقيم الحجّة على البشر: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا"-الإسراء: من الآية15-  "رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" -النساء:165-

ولقد أشبَهَ المشركون فرعونَ وقومَه، لمّا كذّبوا موسى وهارون بدعوى أنهما بشران : "فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ"-المؤمنون:47-   وقد قال أهل مكة : "وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" -الزخرف:31-
كما حكى الله عنهم أنهم قالوا : "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا  لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا" -الفرقان : 21-

"فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا"

وهكذا هي الإيماءة لكفار قريش ولكل كافر في كلّ زمان...
أنّ الله قادرٌ على إهلاكهم كما أهلك مَن قبلهم لمّا عصوا الرُّسُل !! وفرعون من القوة بمكان عظيم، ومن الجنود والعَتَاد بمكان عظيم، حتى رأى نفسه الإله الذي تَجِب له الطاعة، وكانت رعيّتُه تراه كذلك...  فالذي أهلك فرعون وجنده، وكأن قوتَه لم تكن، أليس بقادر على إهلاك مَن هم دونَه ؟!

سبحانه ألحقَ بقريش من ألوان العذاب، فهُزِموا شرّ هزيمة أمام المسلمين في لقاءات كثيرة، وأصابهم القحط، وذلّوا ونصر الله جندَه، حتى دخلوا مكّة فاتحين أعزّة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولكنّه سبحانه لم يُنزل بهم عذاب استئصال كُرْمَى لنبيّه، وقد قال سبحانه : "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ  وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" -الأنفال:33-

كما أنّ الرسالة الخاتِمة تقتضي ألا يُستأصَل المدعُوّون إليها، لأنه لا نبيّ بعد محمد، ولا كتاب بعد القرآن، فيبقى القرآن في الأرض سليما من يد كل محرّف وكلّ مبدّل عابث، امتحانا للناس إلى يوم الساعة أيُّهم يُقيمه ويُقدّر طِبَّه، فيداوي الأرضَ بدوائه ... !
ولكنّ يوما عظيما، أهوالُ الدنيا كلّها لا تساوي أهوالَه، ذلك اليوم الذي فيه القضاء بين الناس، وفيه جزاء كلٍّ بما قدّم ...
"فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ  كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ  فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا (19)"

فيا أيها الظّلمة المترصّدون لهذا الدين ولإمام الدّعاة إليه "محمد"، ولكل داعية له في كل زمان، إن أنتم نجوتُم في الدنيا من الإهلاك، فأين تفرّون من يومٍ هولُه يجعل الوِلدان شيبا ؟!
ألم يقل سبحانه لنبيّه : "فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا(05) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا(06) وَنَرَاهُ قَرِيبًا(07)" -المعارج-   وها هنا يقول له : "وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا"...  هذا الإمهال القليل هو الذي يراه الكافرون بعيدا.
يُتبِعُها سبحانه مباشرة بذكر ما ينتظرهم من عقاب وعذاب أليم في ذلك اليوم.
كيف تتقون ذلك اليوم إن أنتم مِتُّم على كفركم، كيف تَحْتَمون منه وتنجون منه ؟! ....لا مفرّ...لا مفرّ ... !

"السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ  كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا"
ومن قبلُ في سَوق ما ينتظرهم من عذابات، جاء ذكرُ رجفة الأرض والجبال، وها هنا يأتي ذكرُ حال السماء، فلا تعود تلك المتماسكة القائمة بغير عَمَد ... وعْدُهُ سبحانه بكل هذه الأحوال والانقلابات اللاحقة بالكون مفعولٌ لا محالة ! وذلك محكّ الإيمان والابتلاء، الإيمان بالغيب الذي بمجيئ يومِه وَعَدَ الله ... !

"إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ  فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا(19) "
إنّ ما جاء مما ينتظر الكافرين من عذابات، وما جاء من تذكير بأهوال وانقلابات اليوم الآخر تذكرة نافعة... ناقوس يدقّ في غمرة الدنيا وشَغْلِها للقلوب، وامتلاء النفوس بها، وسيطرة شهواتها وملذاتها على الناس... !

تذكرة للمؤمن حتى لا يعدّ نفسَه الذي قد تقرّرت نجاتُه وانتهى !  وهو ما يزال في دار الابتلاء، وما تزال عجلة الابتلاءات  فيها تدور وتدور، ولا تنفكّ حالّةً بالعبد في صورة خير ونعمة، كما في صورة شرّ ونِقمة، مادام في دار الدنيا، وعلى هذا فإنّ التذكرة منبّهٌ وموقظٌ من الغرق، في لُجّ النعمة حَدَّ نسيان المُنعِم سبحانه، وحدّ حُسبانها النعيم المقيم، وحُسبانَ صاحبها نفسَه خيرا من كلّ نفس ... !

في هذه السّورة التي نزلت فيها العُدّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على درب الدّعوة، العُدّة لتبليغه القرآن، هي ذي التذكرة فيها تنزل، وقد جاءت وفيها وَصف القرآن ذاتُه ودَيْدَنُ فِعله في النفوس "التذكرة". القرآن كلّه تذكرة، وقد قال فيه سبحانه  : "وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48)"-الحاقة-   "طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ " -طه-...  "كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)" -المدثر-

وبعد بيان أنّ ما جاء من زواجر وقوارع في الآيات السابقة إنما هي تذكرة، يتبيّن لكلّ ذي عقل أنّ عليه سلوك طريق الإيمان للنجاة:
" فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبيلا"
واتخاذ السبيل إلى الله هو المنجاة، فمن شاء اتخذَ إليه بعد ما كان من تذكرة...
أما من لم يشأ فقد اختار الهلاك، اختار أن تحلّ به تلك العذابات التي ذُكِرت في الآيات... وفي قوله سبحانه " فَمَن شَاءَ " حضٌّ وحثٌّ على النجاة، مع ما فيه من بيان التخيير في الإنسان، وأنّه هو الذي يحدّد طريقَه بخير ووصول إلى الله ، وهي التي يرتضيها الله، أو بشرّ وبُعدٍ عنه سبحانه، وهي التي لا يرضاها لعبده ... وتمامُ بيان تحذير الله عبادَه منها، ما يجيئ من إنذار وتخويف وذِكر لأهوالها يقرع القلوب وترجُفُ منه الأفئدة ليخاف الإنسان العاقل ويرتدع ... !
« آخر تحرير: 2020-12-02, 10:26:16 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون


ولك أن تنظر، كيف انسابت الآيات بعضها من روح بعض، وبعضها يسوق إلى بعض، في رحلة هي الطريق، هي الطريق المقطوع، وهي الخطوات التي يأخذ أوّلها إلى آخرها، ويأخذ سابقها إلى تاليها ...

ومع الخطوات، كنا نستوقف النفس، لتنظر وهي إذ تقطع الطريق بالآيات، تقطع درب الحياة، دربٌ لا تستطيع أن تستبين فيه خيرا من شرّ، ولا حقّا من باطل، ولا صاحبا من عدوّ إلا وهي تستنير بالقرآن مشكاة ... ! بالروح الذي أنزل الله للروح ... فهو وهي من أمر ربّي... فهو ليس إلا منه، كما أنها ليست إلا منه ... !
وتتصل الآيات بعضُها ببعض ولا تنفكّ، ويتّصل المعنى ويُفتَح إلى اللاحق بابٌ من السابق فنجدُنا بعد ما عرفنا بين يَدَي قوله تعالى :
"إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ  وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَعَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ  فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ  عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ  وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ  وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ  فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ  وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا  وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا  وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)"

سبق وأن عرفنا من عائشة رضي الله عنها : "أنّ  اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ في أَوَّلِ هذِه السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا في السَّمَاءِ، حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ في آخِرِ هذِه السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ" -صحيح مسلم-

وعلى هذا، نرى في هذه الآية الأخيرة من السورة عودة إلى أمر قيام الليل، لتنتهي بما بدأتْ به، فلكأنّها السورة التي تؤكّد على دور القيام للاستزادة من فيوضات الإيمان، ولِلْعَبّ من نورانيات الاتّصال بالله الذي له الليل والنهار، له ساعات المعاش وساعات السُّكون، له ما سكَن وما تحرّك، وله مكان الحركة والسكون ... !
لقد نزلت أمرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام فرضا، فاتّبعه عليه أصحابُه، حتى نزلت هذه الآية الأخيرة تَذْكُرُهم وتذكر تأسّيهم به، واتّباعَهم لفِعله وائتمارِه بأمر ربّه صلى الله عليه وسلم.
قام صلى الله عليه وسلم عاما كاملا، وكان الصحابة كذلك يفعلون، فتارة كان صلى الله عليه وسلم يقوم أدنى من ثُلُثَي الليل، وتارة كان يقوم نصفَه، وأخرى كان يقوم ثلُثَه. وهذه المقادير كلُّها ائتمار بما جاء في أول السورة، النصف أو ما ينقص منه أو ما يزيد عليه : "نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(03) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ..."

فكانوا يقومون أدنى من ثلُثَي الليل، وهو ما يزيد عن النصف. وقد ذُكِرَت أولا لأنه صلى الله عليه وسلم بحكم تمام ائتماره بأمر الله كان يؤدّي الأوفى، فجاءت "أدنى من ثلثي الليل" وهي الزيادة عن النصف، وجاءت بعدها "نصفَه" كما جاء الأمر بنصفه في البداية، وجاءت "ثلُثَه" وهو الأقلّ من النصف كما جاء أيضا في البداية ...
كما جاء التشريف بمعيّة تلك الطائفة: " وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ". 
كان القيام فرضا على الجميع ابتداء، فمنهم مَن كان يقومه في بيته، ومنهم مَن كان يقومه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فـ "طائفة" لا تعني أنّ بعض الصحابة فقط مَن كان يقومه، بل تعني المعيّة.
 
"وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَعَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ  فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ "
سبحانه هو الذي يقدّر الليل والنهار، واختلاف طولهما بين فصل وفصل، علم أنه لا قدرة لكم على إحصاء مقداره على الوجه الدقيق، فتاب عليكم أي خفّف عنكم، فلم يعد القيام فرضا، بل صار نافلة يُثاب من أدّاها، ولا يُؤثَم من تركها . ولكنّها بقيت فرضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاءت الدعوة إلى قراءة ما تيسّر من القرآن في قيام الليل، ولم يأتِ ذكرُ الصلاة، ذلك أن القرآن عِمادُ الصلاة، ولا تصحّ صلاة بلا قراءة قرآن فيها، فيُفهَم على أنّها الصلاة، كما يُفهَم على أنّها قراءة القرآن خارج الصلاة، وكلاهما من عمل القيام . فكلٌّ وما يتيسّر له ...
"عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ  وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ  وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ  فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"
يذكر سبحانه في هذا المقطع دواعي التخفيف والتيسير :
1-) " عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ"  : داعي تقلّب الحال البشريّ من الصحّة إلى المرض ومن القوّة إلى الضعف.
2-) "وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ" : داعي العمل والحركة في الدنيا والعيش فيها. من تجارة واسترزاق لسدّ حاجات الإنسان من مأكل ومشرب ومسكن وشؤون الحياة المختلفة .
3-) "وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" : داعي الدفاع عن الدين وعن الأرض والأهل. ونشر دين الله في الأرض(الجهاد).

هي علل التيسير والتخفيف، جعل سبحانه القيام فرضا ابتداء، فعرف الناسُ من أنفسهم ظروفا تحول دون أن يقوموا جانبا كبيرا من الليل، والله حينما فرض عليهم تركهم ليعلموا، بينما عِلمُه سبحانه بذلك كائنٌ من قبل أن يفرضه عليهم، ولكنّه يَفرض امتحانا لمدى طاعتهم أمره وأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم، ثم يخفّف لتُعلَم الرحمةُ واليسرُ في هذا الدين، وهم يلمسون دواعي التّخفيف لمسا ،ويلمسون مراعاته ومواءمته للطوارئ والحاجات البشرية...

سبحان الله... ! إنك وأنت تتأمّل هذه الحكمة الإلهية العظيمة في تدبير الأمور، وفي تقدير عمل عقل الإنسان الذي يُدرِك ويفهم ويَعي، ويقتنع بالتجربة، تُبهِرُك مدى مواءمة هذا التشريع الإلهيّ الحكيم للنفس البشرية، ومدى الفُسحة التي يتركها لعقل الإنسان ليقتنع وهو يجرّب.
وإذا تأملنا وجدنا أن الحاجة البشرية في الإنسان ذُكِرت أولا، الحاجة للشفاء من مرض وللراحة من تعب، ثم الحاجة للعيش والحركة في الحياة، ليأتي ذكر الجهاد في سبيل الله وفي سبيل الدين آخر الأمر ... !
جاءت الحاجة البشرية، وضرورة الحركة في الحياة، مقَدَّمَة، زيادةً في  بيان وتوضيح ما سبق وأنْ وقفتُ عنده، من فهم مغلوط ساد في مجتمعاتنا الإسلامية لقوله سبحانه :"وَتَبَتَّل اِلَيْهِ تَبْتِيلا"
ذلك الفهم الذي جعل من حركة الحياة والعيش، والعمل والعلم والتعلّم، شيئا لا يُقَرُّ عند المسلمين، وكأنّ الدنيا خُلِقت لغيرهم ! حتى كان ذلك عاملا من عوامل ضعفنا وسيطرة الآخر علينا ... ! إذ ملك هو زِمام الأمرِ بامتلاك زِمام العلم ووسائله وكشوفاته، وقبع المسلمون خلف قضبان الهزيمة النفسية من جهة، والانقطاع عن الدنيا من جهة أخرى !
وهذه تلويحات القرآن تارة، وبياناته الساطعة تارة أخرى، تؤكّد براءة هذا الدين العظيم من هذا التقاعس والتكاسل والقعود المغلَّف بغلاف الدين زوراً وبهتاناً .

"فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ "...  تُكرّرَ للمرة الثانية في هذه الآية المخفِّفة، للتأكيد على التخفيف، فجاءت مرة بعد ذكر عجز الإنسان عن إحصاء الليل وتقديره على الوجه الدقيق، وجاءت هذه المرة بعد بيان دواعي التخفيف.
وإنّ قراءة اليسير من القرآن، مع ترتيل يسمح بالتدبّر والتشرّب لمعانيه، وفهم آليّة عمله في النفس ليُربّيها ويُرْبيها ويزكّيها، خيرٌ من قراءة يلهث صاحبها خلف النهاية ليبلغَها ! وهو يَعُدَّ بلوغه إياها منتهى الغايات ... !

ليست البطولة في سباقات لا تنتهي، السُّرعة فيها سيّدة ورائدة، بل البُطولة في رَويّة وتأنٍّ يخلّفان فهما وتأثرا وعملا ... !
ولنا عِبرة فيمَن يزعم أنه يسقي أرضَه فيغمُرُها ماء، غير منتبِهٍ إلى صلادتها التي تحول دون نفاذ الماء إليها مهما أغدق وأكثر، فإذا هي المغمورة، تبدو لرائيها المتشبّعة التي لا تفتقر للسُّقيا، بينما هي التي يملؤ ماؤُها عينَ الرائي، ولا يعرف إلى أعماقها سبيلا... !
وفيمَن يحرُثُ أرضَه ويهيئها ثم لا ينفكّ متعهّدا لها بين حين وحين بماء، رذاذا يرذُّه ...فتراها في كلّ مرة تتشرّبُه، وهي المُتندِّية التي سريعا ما تُسفِر عن خضار يكسوها .... وشتّان بين مُسارع إلى غمرها، ومتعهّد لها بالرّذاذ... !

وبعد هذا التخفيف، وهذا البيان للرحمة المُهداة عبْرَ آيِ الله في تكليفه لعباده، يأمُرُ سبحانه المؤمنين بعدم التفريط فيما فُرِض عليهم، وقد خفّف عليهم ما علم سبحانه أنه مُثقِلُهم :
"وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا  ..."
وهكذا وقد خُفِّف عن المؤمنين قيام الليل، فأصبح نافلة بعد أن كان فريضة، يحضّ الله على إقامة صلاة الفريضة، وعلى إيتاء الزكاة المفروضة، ويقرن الزكاة بما هو زيادة ونافلة في باب الإنفاق : " وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا  "  في بيان لأهميّة النافلة في الطاعة، وأهميّة رفعها لمقام صاحبها، وتقريبه من ربّه، بل وحبّ ربّه له ...

وقد جاء تأكيد هذا المعنى في الحديث القدسيّ :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "...وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ..." -صحيح البخاري-

ثم يأتي تأكيد مقام الزيادة والتنفّل في الطاعة بقوله تعالى :
"وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا  وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20) "
كلّما ازداد العبد من الخير، كلما جمع لنفسه عند ربّه خيرا، هو واجدُه عنده سبحانه يوم يلقاه،  بجزاء خيرٍ مضاعَفٍ أضعافا : "وأعظمَ أجرا" .
وهذا الدين العظيم السامق، يُرقّي العبدَ ويرقى به، ويحبّ له الخيرَ العظيم، وقد عرفنا في سورة المعارج كيف يرتقي بالروح، حتى يفوز الإنسان بالعُروج إلى ربّه في يوم عظيم مجموع له الناس...يومٌ يُخزى فيه الظالم لنفسه بالكفر والتكذيب والاستعلاء على الحقّ، كما عرفنا في الآيات السابقة ...

وقد بقِي قيام الليل واجبا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعرفنا ما فيه من عظيم استزادته به لما يَعرض له من شدائد ومصاعب ومشاقّ في طريق الدعوة، وعلى ذلك بقي فضلُه ودورُه فاعلا في ترقية نفس المؤمن، وتزكيتها، وتصفيتها وتقويتها على ما تُلاقي من ابتلاءات الدنيا...

وفي فضل قيام الليل جاء في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رؤيا  . قال:" ...فَرَأَيْتُ في النَّوْمِ كَأنَّ مَلَكَيْنِ أخَذَانِي، فَذَهَبَا بي إلى النَّارِ، فَإِذَا هي مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ وإذَا لَهَا قَرْنَانِ وإذَا فِيهَا أُنَاسٌ قدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أقُولُ: أعُوذُ باللَّهِ مِنَ النَّارِ، قالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا علَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عبدُ اللَّهِ، لو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَكانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا" -صحيح البخاري-
وفي الحديث بيان ساطع لدور قيام الليل في رفع مقام صاحبه.

كما جاء الأمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بالقيام وجوبا في صيغة بديعة تصفُه بالنافلة، وهو النافلة من حيث التكليف على سائر المؤمنين، كما أنه النافلة من حيث معنى الزيادة في الخير له هو صلى الله عليه وسلم: "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا" -الإسراء: 79-

لتُعطي بهذا المعنى المزدوج عظمة دورِ القيام في إعلاء مقام العبد، فهو صلى الله عليه وسلم -وهو الأعلى مقاما بين المؤمنين وبين كلّ عباد الله تعالى- يجعله له قُربى ومرقاة، إذ هو الذي يبعثه به ربُّه مقاما محمودا، وهو مقام الشفاعة يوم القيامة، التي يُؤتاها صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء والرُّسُل ...

إنّك وأنت تفهم التخفيف الذي جاء في نهاية السورة، لينتقل الأمر بالقيام من الفرض إلى النافلة، تستشعر رغمَ ذلك عظيم فضل القيام، ذلك وأنت ترى بقاءه فرضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعظيم دورِه في تقوية نفسه، ووَصلِها بالله تعالى، ثمّ وأنت ترقُبُ قَرْنَه سبحانه للفريضة بالنافلة، فتفهَمَ أنها الزيادة المرجوّة للعبد تدرّ عليه عظيم الأجر والثواب والتقريب من ربّ العزّة، والسموّ بالنفس الإنسانية ...

"وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"
الاستغفار دوما هو استدراك العبدِ على تقصيره في كلّ ما أمِر، هو المَنْجاة، وعرفنا من قبلُ في سورة نوح كثرة وروده، مع تعداد أفضاله، بل وعرفنا أنّه المنجاة حتى من اغترار النّفس بالطاعة والتديّن ...
وهكذا هو المزمّل صلوات ربي وسلامه عليه، قائم بالليل قائم بالنهار، لا يفتُر...! دائم الاتصال بربّه، يستمدّ منه القوّة على وعثاء الطريق العظيم الذي اختاره له، وختم به رسالاته إلى أهل الأرض ... ليبقى المزّمّل قائما بحفظ القرآن ما بقيت الدنيا، وبسنّته الشريفة المطهّرة المُشبَعة حِكمة ونورا ... !

هكذا هي مسيرة حفظ هذا الوحي الذي عرفنا في سورة الجنّ حفظ السماء لأجله، ثم حَفَّهُ بالحرس والرّصَد وهو ينزل على الرسول، لنعرف مع "المزّمّل" تتمة المسيرة، ومحمد قد بُعِث ليقوم فقام حتى أقيم على الأرض ... !
أقام به رِجالا صنعهم على عينه، قاموا به من بعد ذهابه عن الدنيا ... !
وما يزال كتاب ربّنا محفوظا إلى يوم الساعة بحفظ الله له ...فلا حرمنا الله نورَه وهَدْيَه حتى ساعة الرحيل للقاء ربنا العظيم... !

والحمد لله على سورة المزمّل، وعلى بعث المزمّل العظيم فينا، الذي أدّى الأمانة وبلّغ الرسالة... وكان لنا هاديا...
ولا تنسَ ...ونحن مع كتابنا هذا، ومنهجنا فيه، الذي هو عن منهجنا مع كتاب ربّ العالمين : "
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا "
« آخر تحرير: 2020-12-02, 10:32:07 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب