الطاعنون في السنة، يلطّفون أحيانا طعنهم بحجّيتها في التشريع بقولهم أنهم يؤمنون بالمتواتر، ولا يؤمنون بالآحاد، والمتواتر في السنة قليل جدا جدا، والباقي كله آحاد... فهم يريدون إبطالها بالكليّة ولكن بخطوات غير صادمة، بل بخطوات تشكيكية ممنهجة .
ثم يرتقون سلّم التشكيك ليقولوا أنهم يؤمنون بالمتواتر العمليّ دون غيره، وكأني بهم يحتاطون ويحترسون أن يقولوها صراحة أنهم "قرآنيون" لا يؤمنون بغير القرآن مصدرا للتشريع...!
وفي الحقيقة لا أرى هؤلاء إلا متقدمين في مدارج سالكي درب التشكيك والطعن ليصلوا إلى مصاف "القرآنيين" يوما قريبا غير بعيد...عندها ليَهْنِهم تشكيكهم وطعنهم وما أسدى لهم من جليل الخدمات !
المتواتر العملي من مثل الصلاة، ذلك أنها بلغتْنا بعمل متواتر، من فعل عدد كبير جدا، نقله عنهم عدد كبير أو أكبر وهكذا وصولا إلينا ...بل لقد قال من قال منهم أن هذا العملي الذي يؤمنون به نقله ألوف بعملهم عن ألوف..
والآلاف لغة جمع قلة (أي من ثلاثة إلى عشرة)، بينما الألوف جمع كثرة (من أحد عشر ألفا إلى ما لا نهاية)
أسأل هؤلاء : هل في القرآن الذي يؤمنون به مصدرا للتشريع ما يأمرهم أن يؤمنوا بالتواتر العملي دون غيره ؟ لا بل بما يأمرهم أن يؤمنوا بالتواتر العملي المنقول عن الألوف ؟!
وإلا فمن أين أتوا بهذه القواعد، وهم يدّعون أن ثقتهم بأوامر القرآن لا ريب فيها ؟
إذن فيجب أن يفعل ألوف الصحابة الفعل ليؤمنوا به، وليتخذوه حكما ... وما عدا ذلك مرفوض، مشكوك فيه، مطعون فيه، منبوذ، متروك..!
القرآن الذي يقول فيه سبحانه وتعالى:"
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)" -الحشر-
وطبعا "ما آتاكم" موجهة لمن عايشه صلى الله عليه وسلم، ولكل من يأتي بعده إلى يوم الساعة. ولا وجود في القرآن كله لهذا التحديد الذي حددوه، بالآلاف أو الألوف، أو السنة العملية دون غيرها.
فهل تراه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بالفعل دون القول، دون التربية ؟ هل كان ينهاهم عن الفعل دون القول ؟
أين التربية إذن في حياته؟ وأين التوجيه، وأين الوعظ؟ وأين التعليم ؟ إن كان فقط جاء ليعلمنا بالعمل دون القول ؟
وعلى هذا فإن أصحاب هذا الرأي الغريب المختَرَع لا بأس عندهم بأن تجتمع المرأة وخالتها والمرأة وعمتها عند زوج واحد !
فهذا تحريم شرّعته السنة ولم يشرّعه القرآن، وهو حديث آحاد، ولا يأخذ به هؤلاء ...
وهكذا يصبح لهم دين جديد، دين تحكمه أهواؤهم، وآراؤهم، وتشكيكاتهم ... فيحلّون ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنّ هذا التحريم لم يصلهم من ألوف عن ألوف !!
ثم لنتطرق إلى نقطة أخرى في هذا السياق...
ما الدليل من القرآن الذي يرونه مصدر التشريع الأوحد، أين فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بُعث نبيا، وما أرسل إليه إلا ليكون مع الجماعة، فلا يحدث أن يختلي بواحد أو اثنين أو ثلاثة، أو حتى تسعة بحسب مفهوم التواتر...؟!
وإن حياته مع هذه الأعداد "الآحادية" لا تساوي شيئا في ميزان التربية والتوجيه، والتعليم للأمة، والتشريع...
هو الزوج صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنّ حياته الزوجية، وخاصة علاقاته بزوجاته التي فتحها لأمته لتتعلم، ليس لها عند هؤلاء وزن، وكيف يكون لها وزن وعلاقته الحميمية بواحدة من زوجاته ستكون "آحادا" لا محالة، ولن يكون مع زوجته غيره في نقل هذه التربية للأمة ...!
فكل ما نقلته عائشة رضي الله عنها عن خاصّ وحميم علاقته به صلى الله عليه وسلم لا يساوي عندهم شيئا ...!
ومَن الناقل؟؟ عائشة رضي الله عنها، تلك التي أنزل رب العزة تبرئتها قرآنا يُتلى...!
هنا أتوقف معهم لأسأل مرة أخرى: إنكم إذن وأنتم تُزبدون وتُرعدون حول عدالة الصحابة، وخوفكم العظيم من أن يكون بينهم من ليس عَدلا، وكان من المنافقين، واندسّ بادعائه الإسلام ليكذب، وينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله...
وأنتم تقفون عند هذه النقطة وتأبون إلا أن تجعلوها قضية القضايا، إنكم لتتناقضون تناقضا بيّنا، وأنتم تتبنون فوقها شبهة الآحاد، فترفضون قبول كل حديث "الآحاد"...
فهذه عائشة رضي الله عنها هي الراوية، ولا غبار على عدالتها التامة، ولكنكم تجدون بالمقابل ما يحول دون قبول روايتها بالحجة الأخرى بحجة "الآحاد" !
فهل عائشة رضي الله عنها من المنافقين؟ ... إنما قضيتكم قضية "الألوف" ...
ولا يساوي عندكم عظيم قدر الصحابي وإن كان ممن نزل فيهم قرآن يُتلى ...
أقول لهم : طبيب النساء عندما تحكي له الزوجة عن حميمياتها
وتفاصيل علاقتها الزوجية ليتبين علتها، لن يصدقها، سيطلب منها شهودا على ما قالت، بدعوى أن روايتها رواية آحاد لا يوثَق بها!!
سيردّ عليّ هؤلاء بقولهم: هذا أمر الدنيا، والتساهل فيه جائز، أما أمر الدين فلا وألف لا .... أو لنقل على رأيهم "وألوف لا"
أقول: وهل تشددكم في أمر الدين يقتضي أن تطالبوا بالشهود مع زوجة النبي صلى الله عليه وسلم على حميمياتها معه لتصدقوا ؟!
ألا يحدث أن يختلي بزوجته، ويجعل معها دوما "ألوفكم" أو ما ناسب تواتركم (عشرة على أقل تقدير) لتأخذوا بما كان بينها وبينه سواء كان عن الحميمي أو غيره...؟!
لقد أفسدتم صورة الدين، لقد قلبتموه رأسا على عقب... لقد صيّرتموه دينا للأهواء لا للعقل والمنطق ..! ولكن هيهات هيهات أن تفلحوا إلا مع أنفسكم أو مع مَن حذا حذوكم ..
وكذلك الأمر مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو يروي حديث آحاد، لن يعتدّوا بتمام وكمال عدالته وروايته رواية آحاد !
لن يأخذوا بما رواه عن أحداث طريق هجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يأخذون وقد كان معه وحده، ولم يصحبهما عشرة ؟! ولن يأخذوا إلا بما جاء في القرآن من قوله له وهما في الغار، وما عدا ذلك فمرفوض مرفوض ! وإن كان الراوي أبا بكر الصديق رضي الله عنه ..!
فلماذا إذن تتعبون أنفسكم وتحمّلون عقولكم المشككة المنساقة خلف الطعون والتشكيكات، تبحثون عن نفاق من نافق وعدالة من كان عدلا، وتلهثون خلفها لهثا، وأنتم لن تقبلوا حديثا من أكثرهم عدالة وورعا وصدقا وتقوى ؟!!
وأمضي مع ادعاءاتهم، ودعاواهم، لأطرق
نقطة أخرى، تخص أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ولأنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره لعدم انشغاله عنه كما كان ينشغل عنه غيره، إذ كان يلازمه، فيكون معه في وحدته، كما في اجتماعه بصحابته، ولأنه أكثر من روى عنه، ولأن أحاديثه آحاد، لذلك كان رضي الله عنه وأرضاه أكثر من طُعِن به وشُكّك به...
لقد كان أحد أهم مواضيع مطاعن المشككين، حتى ألحقوا به ما ألحقوا مما يعفّ اللسان أن يصف به فاسد عقل وذمّة، بَلَه صحابي جليل عَدل، كان من أقرب المقربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر من حفظ عنه ...
هذا ولا ننسى كم سيضربون صفحا عن كل حديث مفسّر للقرآن، سيضربون صفحا عن عدد من الآيات فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجاته مثلا، للصحابة...
سيفسرون القرآن بأهوائهم، لا بالثابت من تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يأخذون بتفسيره وقد روته الآحاد ؟!!!
وأي فوضى هي فوضاهم هذه ! وأي قلب للعقل وللمنطق هو قَلبُهم ؟
ولموضوع الآحاد تتمة إن شاء الله .