المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي(آل عمران)  (زيارة 8619 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
اللهم آمين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
إذن فحتى الآن قد عرفنا بدْء الله تعالى بالطبطبة الحانية، تلاها ما بعدها من مُكاشفة حينما :

1- أمرهم ألا يهنوا وألا يحزنوا وأنهم الأعلون ما داموا على الإيمان وما أقاموا عليه.
2-ثم عدّد لهم حسنات هزيمة أُحُد في تهيئة نفسية لاستقبال العتاب وبيان الأخطاء، وفي تأميل مستمر وإشارة عامّة لما يأتي من بعدُ أن الهزيمة ليست نهاية العالم، بل هي مرحلة التعلّم من الأخطاء والاعتبار بها.
3-ثم كانت المواجهة المباشرة لهم بأخطائهم :

3-أ) التذكير بأن ثمن الجنة صبر على الابتلاء.
3-ب) بيان ابتلائهم بمقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إعدادا لهم للثبات من بعده، وتعليما لعموم الأمة الثبات على الدين مع غياب الداعية.
3-ج) التذكير بصبر المؤمنين السابقين مع رسلهم، ودعوتهم للاقتداء بهم، وقد كانوا من المحسنين وقد كانوا صابرين ثابتين، يسألون المغفرة والثبات قبل سؤالهم النصر في تعليم عميق لعلوّ شأن ثبات النفوس المؤمنة قبل أي شأن، وإن كان النصر ذاته .
3-د) التحذير من مَيل المؤمنين للكافرين حينما يرونهم منتصرين، ومن أن يطيعوهم ذلّة بين أيديهم،  في تعليم ثان أن الهزيمة تقع، ولكنّ ثبات النفوس وعدم انهزامها هو الزاد لقيام جديد، وأنّ العزّة بالله وثقة المؤمن بربّه رأس أمرِه .
3-هـ) البدء بعرض أحوال أحد في مقدّمة جامعة شاملة فيها تقديم الله للمؤمنين بصدقه وعده لهم بالنصر حينما كانوا على ثبات، ثم انقلاب الحال حينما فشلوا وتنازعوا وعصوا .
3-و) تفصيل لما أجمِل في مقدّمة عرض أحوال أحُد ...

وقد بلغنا :" إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(153) "

والآن :

10- ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(155)

إذن فلقد كان الغمّ الذي أُثيبوا به من الله عزّ وجلّ إثابة، لما فيه من خير جعلهم ينتهون ويفيقون، ويقدّرون التقدير السليم أنّ ما أغمّوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعصيتهم له لَهو أكبر من كل ما فاتهم  ومن كل ما أصابهم ... هكذا ليغدو الحزن على معصية منهم لأمره أكبر الحزن، وحتى يعلموا خطورة معصيته ... فكان هذا الغمّ مثوبة بحق ...

10-أ) ومن بعد الغمّ –وإن كان فيه خير- ها هو سبحانه العليم بما يختلج في صدورهم، وبما يضيّق عليهم من ذلك الحزن والندم على ما كان منهم، وهو يعلم مراتب النفس، وما تحتاجه من طور وطور، وما تستقيم وتتّزن به من تداول الأحوال عليها بين تضييق وتسريح لتصير إلى أحسن أحوالها.

هو الآن يمنّ على المؤمنين في قلب المصيبة، وفي عزّ الأزمة، وفي أصعب المواقف على الإطلاق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يثبّتهم، فيدعوهم وهم مولّون هائمون على وجوههم، يسهل على المشركين الظفر به صلى الله عليه وسلم لقتله وأصحابه مضطربون، فارّون متململون ... في قلب كل هذا يمنّ سبحانه على المؤمنين بأمَنَة من نعاس:
أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ ... أنُعاسٌ في هذه الحال التي لا يُعرف لها أول من آخر ؟!  في هذه الأمواج المتلاطمة من بحر هائج مائج لا يُعرَف ماؤه من زَبَدِه ؟!
أنُعاسٌ يطوف بمُقلة والدنيا من حولهم سلاح واقتتال ومطاردة، وترصّد، وتصيّد للحظة من سهو تُمكّن الصيّاد المفترِس من فريسته ؟!
أجل... أجل نعاس ... والنعاس نوم خفيف، يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه، إنه هدوء وسكون وغفوة تبعث الراحة في الجسم المنهَك، والسكينة في الأنفس المُضناة ... أَمَنَةً نُّعَاساً  تبعث الأمان والطمأنينة...
ولكنه يغشى طائفة منكم لا كلّكم ...إنها إرادة الله تعالى، واصطفاؤه سبحانه لمَن يختصّهم بهذه العطيّة الإلهية، وهذه الرحمة المُنزَلة، سبحانه المطّلع على حقيقة القلوب، والدخائل ...إنها الطائفة المؤمنة حقا تلك التي اختُصّت بها .

يروي طلحة رضي الله عنه : "كنت فيمن تغشَّاه النُّعاسُ يومَ أحدٍ، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، ويسقط فآخذُه ."-صحيح البخاري-
كما يروي الزبير بن العوام رضي الله عنه : " لقد رأيتُني معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حينَ اشتدَّ الخوفُ علَينا أرسلَ اللَّهُ علَينا النَّومَ فما منَّا من رجلٍ إلَّا ذقنُهُ في صدرِهِ ..."
 
وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ

أما الطائفة الأخرى، فهي التي لم يمنّ الله عليها بتلك الأمَنَة، إنهم أولئك المضطربون، المتقلّبة أنفسهم فهي لا ترسو على حال، تلك التي لا تعرف الثبات... خرجوا إلى أحد وفي أنفسهم من ذلك الخروج ما فيها ...
إنهم قد:" أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ " في تدليل على أن الفئة السابقة لم تهمّهم أنفسهم، بل أهمّهم نبيّهم وسلامتُه، فالتفّوا حوله، وذادوا عنه، وافتدوه بأرواحهم... لم يعد يحزنهم ما فاتهم من الغنيمة والنصر، ولا ما أصابهم من القتل والجراحات، بل أصبح أكبر همّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ...لم يفكّروا بأنفسهم، بل بالإسلام، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم ممثلا للإسلام ...
أما هؤلاء فهم الذين أهمّتهم أنفسهم ...فهم :  يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ

وأيّ خزي وأي سوء هُم عليه، وهم ما يزالون يوصَفون بالجاهلية الظلماء، إذ ما تزال ظنونها تعشّش برؤوسهم فتغلِب، ولا تدع للإيمان الحق مكانا ... ظنّ الجاهلية ...
ثم إنّ وصف الجاهلية لظنّهم بالله هذا، لهو الوصف الدقيق، وقد عرفنا أنّ سورة آل عمران، سورة تبيّن دور العلم بالله تعالى، دور حيازة المؤمن للعلم الذي بيّنه الخالق سبحانه لعباده في هذا الكتاب العظيم، العلم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ...
العلم الذي كان بإزاء باطل المبطلين مبيَّنا، موضَّحا، مُجلِيا للحقائق كما هي لا كما يحبّ المبطلون إظهارها ملبِسين الحق بالباطل ...

تُرى ما ظنّ الجاهلية بالله هذا الذي هو ظنّ باطل : "غير الحقّ" ؟

يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ

يستنكرون ألا يكون لهم من أمر خروجهم من شيء، وكأنما أمرهم هو الحقّ، وما كان من خروج هو الباطل...! فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المتّبع  لما يوحَى إليه من ربّه، ليس عندهم بالأمر السويّ !
إنهم هنا قد وضعوا أمرهم نِدّا لأمر الله تعالى ولأمر رسوله، بل إنهم يلوّحون إلى أن أمرهم هو الحق ! ولقد عرفناهم يفضلون المكوث بالمدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبَيْ، ليس عن موافقة منهم لرأي رسول الله بل خوفا من الخروج وحتى يستتروا بالمدينة ...
ويلي هذا الاستفهام الاستنكاريّ المبطَن منهم تلقين الله تعالى لنبيّه أن يجيبهم بأنّ الأمر كلّه لله تعالى، وليس مظهر الهزيمة بجاعل أمر الله تعالى ندّا لأمر البشر، بل إنهم من جاهليتهم، ومن ظنّ جاهليتهم بالله تعالى  ليرَوْن أمرهم أصحّ من أمره ...! يرون كرههم للخروج أحسن من خروجهم بأمر الله ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثم يتبيّن أمرهم أكثر والله تعالى يكشف سرائرهم :

يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا

إنهم يخفون ما لا يبدون، وهذه وحدها تبيّن أنهم من الفئة المنافقة التي عرفنا وجودَها في غزوة أحد ... انخزل منهم مع عبد الله بن أبي في بداية المعركة ثلاث مئة، ويبدو أن عددا منهم بقي ... وهذه حالهم، تُزلِقهم ألسنتهم فيتكشّف شيء من مكنون صدورهم، ويزيد الله تعالى فيكشف عميق دواخلهم ...فهذا قولهم الذي يخفون، والذي يلوّحون به وهم يقولون :" هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْء"
هذه حقيقة ما يطوف بأرجاء أنفسهم المضطربة القلِقة، بل يغشاها، بخِلاف أولئك الذين تحقق الإيمان في أنفسهم وساد، فغشيهم النعاس عطيّة من الله تعالى ...

لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا
لو كان الأمر أمرَنا والرأي رأينا والقرار قرارَنا ما خرجنا أصلا لنُقتَل ...
إنهم فُرّار من الموت، أهمّتهم أنفسهم أيّما همّ فهُم الذين يحسبون أنهم منقذوها من الموت، ولائذون بالحيلة والمأوى فرارا منها ... هذا ظنّهم بالله تعالى، أنهم يغلبون قدَره الذي يمضيه في عباده متى شاء ومتى قضى... يحسبون أنّ لهم يدا في تأخير الأجل، أو في دفعه إذا حضر...

يقول الزبير بن العوام : " فواللَّهِ إنِّي لأسمعُ قَولَ مُعَتِّبِ بنِ قُشَيْرٍ ما أسمعُهُ إلَّا كالحُلمِ : لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا فحَفِظْتُها منهُ وفي ذلكَ أنزلَ اللَّهُ : لَو كانَ لَنا منَ الأمرِ شيءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا لقَولِ مُعَتِّبٍ".

لن يُترك الأمر هكذا دون ردّ فوريّ يدحض شبهاتهم التي يُلقون ....
ولنتذكّر... ولتعد بنا الذاكرة إلى الوراء ...إلى بدايات هذه السورة العظيمة، وقد عرفنا أنها سورة التثبيت، والتحصين دون استهداف العقول بالشُّبهات، والقلوب بالشهوات، وعرفنا أنّ الحقّ الذي يعلّمنا الله تعالى هو أهمّ ما يحقق لنا هذا التحصين.

وهؤلاء المنافقون يلقون بشبهاتهم، منها ما كان بتلويح بالعبارات من مثل استفهامهم : "هل لنا من الأمر من شيء"، ومنها ما هو في أنفسهم ويُخفونه كعادتهم بإخفاء حقائق دواخلهم، من مثل قولهم الأخير أن لو كان لهم من الأمر شيء ما خرجوا ليُقتَلوا ...
نلاحظ كيف أن الردود لا تُؤجّل، لا تُذكَر شُبَهُهُم هكذا، وتُترك دون الرد عليها، بل يأتي الرد فوريا في سدّ لكل ثغرة تنفذ من خلالها الوساوس للنفوس، وتترامى جراءها الأسئلة تتلوها الأسئلة ...

وإننا لنعرف من الإعلام المشبوه في أيامنا هذه، والإعلام المأجور الذي يحارب الدين، وحتى من الإعلام الذي يلهث خلف العناوين والسّبق الإعلامي دون نظر في آثار ما يقدَّم ... نعرف ما يُعرض من مواد إعلامية لحالات الشباب ضائع الهويّة الذي تنصّل من دينه بحجة أو بأخرى، وبدافع أو بآخر،  وأصبح هائما على وجهه ضائعا، ينتسب للإلحاد واللادين ...

فيُؤتى بالشاب يُلقي الشبهة والتساؤل، ويُترَك دون ردّ يُدحِض الشبهة لمن يتابع ويتلقّى، تُترك المادة الإعلامية التي هي في حقيقتها شُبهة يُزاد في نشرها بين شباب غير متحصّن بعلم من كتابه، كتابه الذي لا يعلم عنه غير أنه كتاب دينه ... فيبقى رَجْعُ صداها في عقولهم يتردّد ... وهي التي لم يُردّ عليها ... تبقى أسئلة مترامية، السؤال منها يجرّ السؤال، والوسواس يجرّ الوسواس ...
نظنّ بتلك المواد الإعلامية عرضا للواقع، وكسرا لحاجز الكتمان والتكتّم، وهي تعرض للشبهة دون ردّ ... بينما لنتأمّل ها هنا والله تعالى لا يترك الشبهة مُلقاة لمن يقرأ آيات هذا الكتاب، كما لم تُترك لمن سمع شبهات المنافقين والمتزعزعين في ذلك الزمان، بل يأتي الردّ فوريا سريعا قويا حاسما في صورة تمثّل الحق وهو يُزهِق الباطل ...

قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ
هذا هو الحق، هذا هو الردّ على الشبهة، هذا هو العلاج والدواء لردّ فعل النفس إزاء الشبهة تُلقى من مرضى القلوب... هذا هو التعليم، وهذه هي العقيدة في الله تعالى وفي أمره الذي يُمضيه ... التصوّر السليم لمعنى الموت، وأنه لا دافع له إذا حضر، لا دافع له من البشر وهو ما أمضاه الله في كل البشر ... لا يغني حذر عن قدر ...
لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين جاء كتابهم، وحلّ أجلُهم المكتوب، لبرزوا من بيوتهم الآمنة، ومضاجعهم الدافئة في بيوتهم إلى مضاجعهم التي كُتبت لهم...
ولننظر لهذه المُشاكَلَة، في هذا الأسلوب القرآني البديع، والله تعالى وهو يذكر البيوت، والأمن فيها، والسكون إلى المضاجع فيها، يقابله ذلك السكون النهائي في مضاجع كَتَبَها الله تعالى لعباده، لا يؤخّر اجتهادُ مجتهد موعدَها... فيخرج المرء سعيا على قدَميه إلى مضجعه المكتوب ...

يصف سيد قطب رحمه الله أنفس هؤلاء المنافقين وضِعاف الإيمان، فيقول: " وحينما تعاني آلام الهزيمة! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا وحين تتخيل أن تصرّف القيادة هو الذي ألقى بها في هذه المهلكة ، وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها! وهي لا يمكن - بهذا الغبش في التصور - أن ترى يد اللّه وراء الأحداث ، ولا حكمته في الابتلاء. إنما المسألة كلها - في اعتبارها - خسارة في خسارة! وضياع في ضياع! هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله. لأمر الحياة والموت. ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء : «قُلْ : لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .." –في ظلال القرآن-

وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
فلمَ كان ما كان ؟ لمَ لم يكن النصر حليف مؤمنين بالله ؟ لمَ لم يمنّ الله وهو النصير على عباده المؤمنين بالنصر؟  لمَ كانت هزيمة وقتلا لعدد منهم، وجراحات ؟ وهم المؤمنون، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!

إنه الابتلاء، وإنه التمحيص ...

الابتلاء امتحانا من الله تعالى لما في صدور المؤمنين، أهو الاعتقاد الحق، أهو الظنّ الحقّ بالله تعالى ؟ أهي الثقة بصدق رسوله، وبأنه سبحانه له الحكمة في منح نصر أو في حَجْبِه عن عباده ؟ أهو الثبات على الحق أم هو التزعزع ساعة الشدّة وساعة يُعرَف شرّ ولا يُعرف خير ؟
أهو الإيمان الحق، أم هو الإيمان على حرف، العبادة الحقة أم هي العبادة على حرف ؟ فإن كان من خير كان الاطمئنان، وإن كان من مصيبة كان الانقلاب على الوجه ؟! :" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ  فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ  وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ  ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"-الحج:11-
أم أننا حسبنا أن نقول قولا باللسان آمنّا، ولا فتنة ولا امتحان ولا ابتلاء ؟ : "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"-العنكبوت:02-

ويتنادى أصحاب صيحات الإلحاد الجُدُد بقولهم : أين الله من هذا الظلم الحاصل في الأرض؟؟ أين الله من استغاثة المستغيثين به ومن نصر المستضعفين المستنصرين ؟
وغفلوا كل الغفلة عن الابتلاء، وعن الامتحان وعن الفتنة ... بل الأحرى بي أن أقول أنهم بقولهم ذاك وبتساؤلاتهم تلك ما نجحوا فيما امتُحنوا به، وفيما كان لهم ابتلاء لما في صدورهم ... تبيّنت حقيقة "حرفية" إيمانهم، وهوائيته وهشاشته ... سقطوا في امتحانهم، كما كان حال هؤلاء الذين ظنوا بالله غير الحق عندما هُزِموا، وعندما مات من المؤمنين من مات، وعندما انتصر عليهم أهل الكفر ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ...

أجل إنّ كل هذه المصائب لابتلاءِ ما في الصدور، ولتبيّن حقيقتها ولتمحيص ما في القلوب:
وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ
والتمحيص هو تطهير القلوب ممَّا يخامرها من الريب حين سماع شُبَه المنافقين الّتي يبثُّونها بين المؤمنين. التنقية والتطهير من كل ما من شأنه أن يُحدث غبشا في التصوّر، وشِيةً في بياض العقيدة .

وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

وهذا الذي يكشفه الله تعالى من أحوال العباد، هو ما مَحَلّه الصدر والقلب، هذا من علم الله تعالى دون غيرِه سبحانه، الذي يعلم ما نعلم وما لا نعلم، ما يمكننا الوصول إليه، وما يستعصي علينا الوصول إليه... السرّ والعلانية، والقلب شأنه السرّ ... وهو خاصة علم الله تعالى وحده ...
ولكأني بالصدر وهو يحوي القلب، قد كان الشأن من أمر الله فيه الابتلاء...للجميع، مؤمنهم ومنافقهم، فإن كان خاليا من الإيمان لم يكن التمحيص والذي هو العمل مع ما في القلب، وإن كان به وإن شيء من إيمان، كان التمحيص، لأنّ القلب واسطة الصدر ومخزن الإيمان فيه، الإيمان الذي يميز صاحبه عن المنافق والكافر، تنقيته وتطهيره من كل شائبة حتى يركز الإيمان ولا يتزعزع ...
« آخر تحرير: 2019-02-19, 10:12:34 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وحتى يتعضّد أنّ هؤلاء ليسوا هم أهل مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هم المنافقون، تُتبع هذه الآية بقوله سبحانه :

10-ب) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا  وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ

المتولُّون من المؤمنين، الرُّماة الذين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين فرّوا من القتال وقد اهتزوا إثر إشاعة مقتله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء يبرّئ الله ساحتهم، ويحدّث عنهم في هذه الآية حتى يتميّزوا عن المعنيّين بالآية التي سبقتها...
وحتى نتعلّم أنّ الخطأ والزّلل البشريَّيْن لا يعنيان انتفاء الإيمان عن صاحبه، كما لا يعني وجود الإيمان في القلب انتفاء الخطأ والزلل ...
أما سبب تولّيهم فهو استزلال الشيطان لهم، و"استزلّ" بمعنى طلب الزّلل، فهو عليه لعائن الله سَهُلَ عليه النفوذ إليهم ببعض ما كسبوا. وهنا نتبيّن كيف لا يجب أن نتكئ على الشيطان فنبرئ ساحتنا ونلقي عليه باللائمة إذا زللنا أو أخطأنا وكأننا المحكومون بحُكْمه، الذين لا فِكاك لهم من أسره ... ! بل إنها : بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا

إنّ نجاح الشيطان مع الإنسان ليس إلا من بابٍ تفتَحُه له ذنوب العبد،  وإن هو أوصده دونَه لم ينجح في غوايته... فلنتذكر... إنه هو الذي سيتبرأ منا ساعة الجدّ بقوله : "...وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم..."-إبراهيم: من22-
ولعلّه قد ناسب كل المناسبة ونحن في هذا الصدد أن نتذكّر كيف تخلّلت غزوةَ أحد تلك الآيات المزكيّات المُرقّيات(130-138). تلك التي عُنِيت بالنفس وما يجب عليها من جهاد في ساحتها هو من جنس جهاد العدوّ إن لم يكن أولى ...

بعض ما كسبوا من الإثم كان سببا في استزلال الشيطان لهم، فكانت مخالفتهم، وكان تزعزعهم عند سماعهم شائعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك ذكر الله تعالى أولئك الرِبِيّين الذين كان أول سؤالهم وهم في لجّ الحروب وقلب المعارك أن يغفر الله لهم ذنوبهم وإسرافهم في أمرهم، دخلوها وهم يقرّون، فكان إقرارهم دافعا للإحجام عن الاستزادة مما يُثقلهم أصلا ويسألون الله تخفيفه عن كاهلهم ...فيتحرّون أقصى درجات الطاعة والتذلّل بين يدَي الله وذكر عقابه وجزائه ...

يقول ابن القيّم : " كانت أعمالهم جنداً عليهم ازداد بها عدوهم قوة . فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ولا بد للعبد في كل وقت من سرية من نفسه تهزمه أو تنصره . فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها ، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه .فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى .ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله بعثه له الشيطان واستزله به".

وزيادة في بيان تميّزهم عن الفئة المعنيّة بالآية السابقة، هذا عفو الله تعالى يعلنه سبحانه لهم رغم ما كان منهم، فضلا منه ورحمة كما عرفنا :
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
ثم ننتقل في السياق ذاته، وبعدما عرفنا من منّة الله تعالى على عباده المؤمنين بأمنة النعاس طمأنة لهم، وتسكينا لما في نفوسهم من فوضى اعترتْهم لما كان من انقلاب الحال، وبعدما عرفنا حال المنافقين وضعاف الإيمان وهم يرون أنّه لو كان الأمر إليهم ما قُتل مَن قُتل في الغزوة، وليس ذلك إلا كُرها منهم للانبعاث في سبيل الله...

وعلى إثر مقالتهم المشوّشة هذه يبيّن سبحانه حقيقة الموت، وأنها قدرُ الله الذي يُمضيه في عباده فلا يردّه راد ...وأنما الهزيمة كانت للابتلاء وللتمحيص، فالشرّ ظاهرُها بينما الخير في ثناياها وطواياها...
ثم يتميز المؤمنون اللذين ضعفوا ساعةً حينما أخذتهم الغنائم عن طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يميّزهم الله عن المنافقين، ويبين كيف استزلهم الشيطان ببعض ذنوب كانت منهم، ويعلن عفوه عنهم ...

بعد هذا كلّه نجدنا أمام توجيهات إلهية، وتربية قرآنية، تحذّر المؤمنين من سلوك درب المنافقين والكافرين :

11- تربية ربانية ترسّخ التصوّر السليم للموت :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ(158)

عودة إلى حال المنافقين الذين قالوا قبل قليل : "لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا"..
فيا أيها المؤمنون لا تكونوا مثلهم...
وإنّ وصفهم بـ:"الذين كفروا" ليُجلي حقيقتهم، ويبيّن أنّما أقوالهم تلك في حقّ الله تعالى، وظنّهم به ظنّ السوء، ليس من الإيمان في شيء ... ولقد عرفنا كيف همّت طائفتان من المؤمنين أن تفشلا مما كانوا يُلقون في صفوفهم ... لنعلم مدى حاجة المؤمنين إلى هذه التوجيهات والتحذيرات، حتى لا يضعفوا أمام شبهاتهم وتشكيكاتهم ...

11-أ)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُوا
وربما كانوا إخوانهم برابطة النسب، جماعة من الخزرج استُشهد منهم من استشهد في أُحُد، وقد كان من الخزرج منافقون على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، أولئك كانوا يلقون لمن يعرفون من أبناء قومهم أنّهم لو لم يخرجوا في سبيل الله سفرا أو جهادا لما ماتوا ولما قُتِلوا ...
إننا لو تأملنا لوجدناهم يكرهون الخروج أصلا في سبيل الله، يكرهون تلبية داعي الله إلى الجهاد من نفاقهم ومن كفرهم المبطَن الذي تنطوي عليه أنفسهم الخبيثة ...
فهم من كرههم لهذا الخروج، ومن سوء ظنّهم بالله تعالى، ومن انعدام الإيمان به وبإرادته وبضرورة الائتمار بأمره يرون هذا الخروج سببا للموت، لو دُفِع لدُفِعت الموت ...!

إنّ تصوّرهم للموت تصوّر كله غَبَش، تصوّر لا يملكون دفعه عن أنفسهم وهم لم يدفعوا عنها النفاق والكذب بادعائهم الإيمان وإظهارهم له بينما باطنهم كفر ... كيف لهم بتصوّر سليم لحقيقة الموت وهُم لم يتمكن من أنفسهم تصوّر سليم لألوهية الخالق سبحانه المُحيي المميت، الذي خلق الموت والحياة، والذي يبقى وجهه بينما يفنى كل من على الأرض... سبحانه الذي قضى في عباده الموت كما قضى فيهم الحياة، فلا يدفعها عنهم دافع ...

لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ

فحالهم على هذا التصوّر وهذا القول، وهذا الاعتقاد الفاسد حال المتحسّر الذي تملك عليه الحسرة نفسَه كلَّها  ... يتحسّر أن خرج، ويتحسّر أن لم يطعه مَن أشار عليه بالقعود، ويتحسّر أن لم يكن له من الأمر شيء، ولو كان له لما كان داعٍ لخروج، ولما استجاب مستجيب لداعي الله ... بل إن قلبه المريض لحسرتُه دائمة على اضطراره لإظهار ما لا يحب من مظهر الإيمان، وإبطان ما يحبّ من حقيقة كفره، أمر اضطرّ له مع قوة في الإسلام والمسلمين دعته لادعاء موالاتهم تصنّعا وكذبا ...
تلك الحسرة هي من أمر الله في قلوبهم:  "لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ". وهو سبحانه القائل فيهم : "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا  وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" -البقرة:110-


« آخر تحرير: 2019-02-19, 10:21:32 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

إنه سبحانه المحيي المميت، هذا هو التصحيح لهذا الاعتقاد المشوّه الذي تنضح به أوعية المنافقين، والذي لا يجب أن يمرّ دون تصحيح، لئلا يتشوّش المؤمنون... هذا هو التصويب الإلهي، والتوجيه الرباني لعباده المؤمنين أن يكون هذا اعتقادهم، لا تلك التصوّرات المشوّهة التي تغشى قلوب الكافرين ...
إنه سبحانه المحيي والمميت، الحيّ الذي لا يموت، وقد كان أمره في عباده حتما مقضيا ... لا يؤخّر الموتَ عمّن حضره مؤخِّرٌ، ولا يقدّمه لأحد مقدّم ...
في هذه الآيات يرسّخ الله في نفوس المؤمنين حقيقة الموت، من خلال الرد على شُبَه المنافقين في كل زمان، ما حاولوا به زعزعة إيمان المؤمنين في ظروف غزوة أحُد، وما يسعى به منافقو هذا الزمان في ظروف مماثلة لها نعايشها اليوم، سعيا حثيثا وعملا مكثّفا مدعّما من العلمانيين وأنصارهم أصحاب الأهواء والشبهات والشهوات ...كما عرفنا سابقا في : "أُحُد وأيامنا"

11-ب)وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ(158)
أنتم أيها المؤمنون ... أيها المعنيّون بهذه التربية الربانية السامية...
تلك التي ابتدأت بالتحذير من سلوك درب الكافرين المخلِطين والمُخبطين في أمر الحياة كما في أمر الموت، فهم كما لا يعرفون حقيقة الهدف من الحياة، أو الأحرى أن نصفهم بالمنكرين لما سطّره الدين من هدف للحياة... كذلك هم لا يعرفون حقيقة الموت ... لا يعرفون حقيقة البداية كما لا يعرفون حقيقة النهاية ... التصوّر السليم مغيّب عنهم ...

فملاحِدة ينادون بألا إله والحياة مادة، وأنه لا حياة بعد الموت، وأنّ الإنسان جاء صدفة وبخبط عشوائيّ، كضربة حظّ في لعبة نرد ...! فهم التائهون، الضائعون الهائمون على وجوههم يعرفون الوجود وينكرون حقيقة معناه، ويعرفون الموت، وينكرون حقيقته ...يتشبثون بالأوهام وباللاهدف وباللامعنى ... وبالعشوائية، وبضربة الحظ ...! هكذا في عالم عظيم التركيب، دقيق التكوين، ليس لشيء من أتفه وأضعف أشيائه خبطُ عشوائية، فكيف بسيّد الكائنات فيه أن يكون بخبط عشوائية ...؟!!

واليوم أولئك "الطبيعيوّن"، الرافضون للاعتراف بإله خالق مبدع واحد يعبدون نظرية "التطوّر" التي تقضي بعدم وجود إله، وتقضي بأن الصُّدفة والعشوائية هي الفاعل، وتقضي بأن الخلية طوّرت نفسها بنفسها، وتقضي بأن البكتيريا ذكية والفيروس ذكيّ، والمادة ذكيّة ... ! وكله عندهم قابل لأن يكون الفاعل الأول إلا أن يُؤتى على ذكر الخالق المبدع، فعندها تقع الواقعة وتَصعق الصاعقة ... ! وإنّ مما يُضحك شرُّ البلية ... !
نجدهم يُلغون الخالق والخَلْق من كل حساب، بل وينظّرون للخُرافة باسم العلم، وتتوشّى أكاذيبهم ومساعيهم المسعورة لترسيخ اللاخلق باسم العلم ...

إن روح الانتقام من اضطهاد الكنيسة قد عملت فيهم عملها، بل وأغرقت وأغرقت في أنفسهم كفرا وإلحادا، وتأليهاً للمادة، وللخُرافة، وللكذب، وللدجل وللّعب بالعقول والاستخفاف بها باسم ماذا ؟؟ باسم العلم .... !وهم إذ لا يعترفون بالخالق في مختبراتهم ... يقدّسون كل شيء إلا أن يقدّسوا خالق كل شيء ... !! فتمثّل لي قوله تعالى : "اقرأ ".... وإنها لم تكن "اقرأ" مجرّدة ... لم تكن اقرأ وانتهى ....بل كانت : "اقرأ باسم ربك".... باسم ربك يجب أن تقرأ ...أما إذا قرأت هذا الكون، وهذا الإبداع، وهذا النظام المتكامل المتناسق المتّسق هكذا دون اسم ربك ... فستقرأه مقلوبا ... منكوسا، معكوسا ... ستقرأه وأنت تؤمن بالعشوائية، وبأن البيئة والطبيعة تنتقي وتنتخب وتختار ... أما أن يفعل ربك، فلا ... وأما أن يريد ربك فلا وأما أن يقدّر ربك فلا وألف ألف لا .... !!

نعم ستُبهِر الكلّ بما تكتشف من جديد، ولكنك لن تقول يوما أنه من إبداع الخالق ومن إرادة الخالق ... ستنسبه لكل شيء إلا لمبدِعه وخالقه الذي أذِن فعلمتَ ولو لم يأذن لما علمتَ ...
عندما تقرأ بغير اسم ربك... سيكون كل شيء إلا أن يكون ربّ كل شيء ... إلا أن يكون خالق كل شيء ...وإنها لم تكن : "اقرأ باسم ربك " وانتهى.... بل كانت : "اقرأ باسم ربك الذي خلق " أول صفة لهذا الرب ... هذا الرب الذي أنعم أول ما أنعم فخلق ..."خلق" هكذا مُطلقة ... لأنه خلق كل شيء ... كل شيء.... أيها الإنسان اقرأ باسم الذي خلق.... فإن قراءتك مجرّدة عن الذي خلق، بعيدا عن إيمانك بخالق وخَلْق هي ولا شيء، هي والخُرافة سواء.... هي والعشوائية والخبط والخلط سواء ... وماذا هُم مُنكِرون أصلا ؟؟ ولأي شيء هم يؤصّلون ويكرّسون أصلا ؟؟

هو سبحانه الخالق الأكرم الذي علّم ... هو خالق العقل، ومُكرِم الإنسان بالعقل، ولولا كرمه لما كان الإنسان المتجبّر اليوم، المُنكِر لربه اليوم شيئا يُذكر ...
وإنه لولا كرم ربّه لبقي كما كان : "هَلْ أَتَى عَلَى الِإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا"
ولكنه خلقه ... وعلّمه ... علّمه ما لم يكن يعلم ...فلما تنعّم وتعلّم .... كفر بالخالق المُنعِم الذي علّمه ...!!

إنّ اعتقادكم أيها المؤمنون ليس اعتقاد أولئك الهائمين، إنه :

وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ

إنّ الحقيقة التي يقررها هذا الدين، وهذا الإله الخالق للموت والحياة للابتلاء والامتحان، أنّ منْ يُقتل في سبيل الله أو يمتْ فإنّ له مغفرة من الله ورحمة هما خير من كل ما يجمعون ...
إنّ هذه القتلة التي ينكرها المنافقون، وهذه الموتة التي يظنون أنهم مؤخّروها بقعودهم وبأمر غيرهم بالقعود، لهُما وهُما في سبيل الله تعالى خير مما يجمعون، لما يجني بها صاحبها من عظيم المغفرة وواسع الرحمة...

إنه التعليم الرباني للتصوّر السليم للموت ... دين يعلّم حقيقة الحياة، وحقيقة الموت، دينٌ يعلّم أن أمرهما بيد الله تعالى وحده، يُنفِذُهما في عباده متى شاء وكيفما شاء ... ونذكر في هذا السياق ما عرفناه في بدايات السورة، من نفخه سبحانه الحياة في عيسى عليه السلام من غير أب : "هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ  لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6)"

وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ(158)
وبعد ذكر الموت يأتي ذكر البعث ... ذكر الحياة الأخرى التي سينبعث لها الإنسان، من بعد حياة أولى تعقبها موت، حياة أخرى يعقبها خلود فلا موت...فإما في جنة وإما في نار عياذا بالله من النار ...

إنه تمام التعليم الربانيّ الدقيق لحقيقة وجود الإنسان والغاية من وجوده:" الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"وما هذا البلاء وهذا الامتحان إلا لجزاء يُوفّاه صاحبُه في الحياة الأخرى
« آخر تحرير: 2019-02-16, 11:57:58 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
12- التصوّر السليم للنصر ورسول الله النعمة الكبرى على المؤمنين

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159) إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ(160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(163) لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ(164)

وها نحن الآن ترفرف علينا نسمة عليلة، ويغشانا ظلّ ظليل من ذكر أعظم النّعم على الأرض قاطبة، تلكم هي منّة الله تعالى على المؤمنين ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
كنا مع تصحيح التصوّر، وعدم ترك الشبهات هكذا ملقاة بغير رادع أو مُلجِم من الحق يزهق الباطل ... حذّرنا سبحانه أن نكون كالكافرين قولا أو فعلا، حذرنا من تصوّراتهم المُغَبَّشة، واعتقاداتهم الفاسدة، وأمراض قلوبهم المُعيية والمظلمة ... وعلّمنا التصور السليم للموت والحياة، وأنّ حياة أخرى هي التي سنصير إليها، ونحن بين يدي الله تعالى، حياة الجزاء على ما كان من بلاء الدنيا وامتحانها ...

علّم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عايشوا أجواء أُحُد والذين ربّتهم هزيمتها، ويعلّم كل مؤمن تعْرِضُ له الشبهات، والمزعزعات حتى يثبت، ولئلا يهتزّ إيمانه، ونحن نعلم صفة الثبات والتثبيت الملازمة لكل حركات هذه السورة العظيمة ...

12-أ)رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين :
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)
إنها باء المصاحبة ، برحمة من الله تعالى كان صلى الله عليه وسلم ليّنا، رقيقا رحيما، لان للمؤمنين وقد عرف منهم رأيا غير رأيه حينما شاورهم بشأن أُحُد أيبقون بالمدينة أم يلقون العدوّ خارجها، وكان رأيُه أن يبقوا بداخلها، وعرف من الرُّماة مخالفة أمره أن يلزموا أمكنتهم ولا يبرحوها وإن رأوا النصر على العدوّ وجمع الغنائم، وعرف منهم التولّي عنه وهو يدعوهم من خلفهم ... عرف كل هذا ولانَ لهم، ولم يُعرف منه تقريع لهم أو معاقبة ...!

كل هذا من رحمة الله تعالى الذي جعله رحيما رؤوفا : "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ"-التوبة:28-
يقول ابن عاشور: "أي لنتَ مع رحمة الله : إذ كان لينه في ذلك كلّه ليناً لا تفريط معه لشيء من مصالحهم ، ولا مجاراةً لهم في التساهل في أمر الدّين ، فلذلك كان حقيقاً باسم الرحمة."-التحرير والتنوير-
ولو كنت قاسي القلب غليظ الطباع لانفضّ مِن حولك مَن تدعوهم ولما كان لدعوتك من أثر في نفوسهم، بل إنّ رحمته صلى الله عليه وسلم كانت سبّاقة .. تصف عائشة رضي الله عنها خُلُقه فتقول : "...ولا يَجْزِي بالسيئةِ السيئةَ، ولكن يَعْفُو ويَصْفَحُ"-سنن الترمذي-

فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
1- فَاعْفُ عَنْهُم :هذا أمر الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم بكيفية التعامل مع المؤمنين وقد أخطؤوا، وخالفوا، وتولّوا، هو سبحانه سبّق عفوه عنهم، وذكره مرتين خلال قصّة الغزوة : "... وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ  وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " –آل عمران:من 152-   وأيضا في قوله سبحانه : " إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا  وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)".

إنها رحمة الله بعباده وهم على خطأ كبير أدّى بهم إلى الهزيمة، ولكنهم في الوقت ذاته يجب أن يتعلموا من خطئهم، ولن يتعلموا إن نزل بهم تيئيس من حالهم، ومن عودتهم عن خطئهم ومن تعلّمهم ما ينفعهم ويكون لهم درسا لا يغادر أذهانهم في قابل أيامهم ...

2- وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ : استغفر لهم الله الذي يغفر الذنوب، واستغفارك لهم له مقام خاص، بل إنّ استغفارك لهم في ذاته قمّة اللين منك وقمّة التسامح وحبّ الخير لهم بمحبّتك مغفرة الله لهم .

3- وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ : لن يكون خطؤهم هذا مانعا وحائلا دون مشاورتك لهم لاحقا، ستبقى الشورى قانونا في هذا الدين لا يَنِدُّ عنه إلا صاحب هوى أو محبّ تسلّط أو مستخفٍ بسيئ نواياه .. 
سبحان الله ! لكم يستوقفني هذا الأمر بالذات من الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم، أن يبقى على مشاورته لهم، وهم الذين لم يختاروا رأيه بالبقاء في المدينة إذ شاورهم، وهم الذين خالفوا أمره ونزلوا عن الجبل...
لن يتوقف العمل بالشورى، بل سيبقى ... وطبعا لن تكون الشورى في شأن من شؤون الشريعة وأحكامها وما كان وحيا، بل فيما يجوز فيه الاجتهاد.

ولقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن الخروج أو البقاء بالمدينة، وكان قد رأى في رؤيا بقرا تُذبَح ، وثلما في سيفه، وتأوّلها على ما حصل بأُحُد ... ورغم  ذلك فقد أمضى رأي أصحابه وترك رأيَه ...

ولسيد قطب في تحليل ذلك منه صلى الله عليه وسلم كلام دقيق عميق أضعه :
"ولم يكن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج. فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة ، التي رآها ، والتي يعرف مدى صدقها. وقد تأولها قتيلا من أهل بيته ، وقتلى من صحابته ، وتأول المدينة درعا حصينة .. وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى .. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات. لأن إقرار المبدأ ، وتعليم الجماعة ، وتربية الأمة ، أكبر من الخسائر الوقتية.
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة. أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة! ولكن الإسلام كان ينشئ أمة ، ويربيها ، ويعدها لقيادة البشرية. وكان اللّه يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة ، أن تربى بالشورى وأن تدرب على حمل التبعة ، وأن تخطئ - مهما يكن الخطأ جسيما وذا نتائج مريرة - لتعرف كيف تصحح خطأها ، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها. فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ ..
والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة. واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها ، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها ، وتخسر وجودها ، وتخسر تربيتها ، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية. كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي - مثلا - لتوفير العثرات والخبطات ، أو توفير الحذاء! كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها ، ويعدها للقيادة الراشدة. فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها ، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية ، كي تدرب عليها في حياة الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - وبإشرافه. ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى ، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا في أخطر الشؤون - كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا ، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب - ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة - لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون ، لكان وجود محمد - صلى اللّه عليه وسلم - ومعه الوحي من اللّه سبحانه وتعالى - كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى! - وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ضلل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة. ولكن وجود محمد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث ، ووجود تلك الملابسات ، لم يُلغَ هذا الحق. لأن اللّه - سبحانه - يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون ، ومهما تكن النتائج ، ومهما تكن الخسائر ، ومهما يكن انقسام الصف ، ومهما تكن التضحيات المريرة ، ومهما تكن الأخطار المحيطة .. لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة ، المدربة بالفعل على الحياة المدركة لتبعات الرأي والعمل ، الواعية لنتائج الرأي والعمل .. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي ، في هذا الوقت بالذات
"-في ظلال القرآن-
« آخر تحرير: 2019-02-19, 10:28:34 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
4- فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ

وهذا ما عرفناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحزم أمره فلا يعود عن قراره بالخروج، وقد انتبه الصحابة أنهم استكرهوه على ما لا يحب. يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنه  : "... فلبِس رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَأْمَتَه ، فقالوا : ما صنَعْنا ؟ رَدَدْنا على رسولِ اللهِ رأيَه فجاؤوا ، فقالوا : شأنُكَ يا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، قال : الآنَ ليس لنبيٍّ إذا لبِس لَأْمَتَه أن يضَعَها حتى يُقاتِلَ "

وهذا ما يُؤمر صلى الله عليه وسلم أن يبقى عليه، أن يستشير في شأن غير الوحي وما يجوز عليه الاجتهاد، ثم ألا يبقى للتردد والتأرجح، بل أن يحزم أمره ويمضي لما اجتُمِع عليه، وهو متوكل على الله .
وهنا نستشف التوازن في التصوّر الإسلامي، أخذٌ بالأسباب، تخطيط وتفكير وإعداد ثم التوكل على الله، التوكل الذي يكتنفه الرضى بأمر الله تعالى وبقدره وبمشيئته... فليس معنى الإعداد والتخطيط والاستشارة والنظر في الأمر وفي عواقبه، أنّ الإنسان مقدّر لما سيحصل، وصانع لما يأمل من نتيجة، كما أنّ التوكل على الله لا يعني ذلك الفهم القاصر البعيد عن التوازن الذي هو سمة هذا الدين، ذلك الفهم الذي يرى التوكل على الله تواكلا وقعودا وانتظارا لأمر الله دون بذل جهد أو سعي ...

بل إن  الإنسان مأمور أن يسعى ويجتهد، ويبذل طَوْقَه، ثم يسلّم لما يكون من نتيجة على أنها هي مشيئة الله تعالى وقدرُه، فإن وافق المأمول فهو أمر الله تعالى وإرادته، وإن لم يوافقه فهو أمره وإرادته التي لا تخلو من حكمة ولا تخلو من دور في التربية والصقل والتعليم ...
وقد تُكرَه النتيجة ويُستَمسَكُ بالمأمول الذي لم يتحقق، ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الخير في المأمول والشرّ فيما كان من نتيجة : "... وعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ  وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ  وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"-البقرة: من216-
وكذلك كان الخير كل  الخير في هزيمة أحُد، والمؤمنون يتعلمون منها دروسا لا تُنسى في وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقامة عليها إلى آخر لحظة، والاحتراس من الاغترار بزينة الحياة الدنيا، والحرص على الثبات وعدم التزعزع ... وعلى التزكّي والارتقاء في سلم الطاعات للارتقاء بالنفس عن الدنايا وعن استزلال الشيطان لها...

12-ب) التصوّر السليم للنصر(العقيدة في النصر) :

إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ(160)
إذن وقد بيّن الله سبحانه حبّه للمتوكلين، وأن على رأسهم جميعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول المتوكّلين، وأكثر الفاهمين لمعنى التوكّل على الله والرضى بقدره، بعد البذل والاجتهاد والأخذ بالأسباب ... بعدما عرفنا تربية الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم قائدا وقدوةً للمؤمنين . يأتي دور المؤمنين في أمرهم بالتوكّل على الله تعالى، من بعد تعليمهم أن النصر عند الله تعالى إن شاء منحه لعباده وأمدّهم به وإن شاء حبسه عنهم، وأنه :

1-النصير سبحانه ولا نصير سواه : إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ.
2-وأنه لا ينصرهم أحد غيره في مرة قابلة إذا ما خذلهم مرة . حتى لا يظنوا أنّ النصر والمكَنة عند غيره إذا ما تنازعتهم الهزيمة النفسية والانبهار بالمنتصرين عليهم : وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ.

3- ومادام سبحانه النصير الذي يمنح النصر، والنصير الذي لا يُستنصَر غيرُه فعليه وحده يتوكل المؤمنون : وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ

والأمور الثلاثة أعلاه مثبّتة للمؤمن أيما تثبيت، عقيدة من العقيدة، لا يجب أن يتزحزح عنها  المؤمن، حتى لا يظنّ انتصاره نِتاج اجتهاده فيغترّ، وحتى لا يحسب من انتصار الكافر عليه أن العزّة في جانبه فيستمطرها منه، وينشد القوة والتمكين في غير جنب الله .

وإنّ هذه الآية لتعلّمنا أن هزيمة المؤمنين مرة ومرة لا تعني نهايتهم، بل تعني أنهم إذا فقهوا، وكانوا من المتعلّمين من دروس الهزيمة، فصححوا مساراتهم، وعادوا عن أخطائهم،  واستمسكوا بالله وحده نصيرا  فالنصر في قابل الأيام حليفهم  .


ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وما زلت أعود لمواضيعي هذه، ونحن بصدد آل عمران ن بعد الانتهاء من البقرة بفضل من الله تعالى.
جزى الله خيرا من بفضله ما يزال المنتدى قائما.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
الحمد لله على منتدانا الأثير ... وأنا أعود للمواضيع هنا وأقتبس منها وأستعين بها .. الحمد لله
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب