بيعة العقبة، وما أدراك ما بيعة العقبة ...
حينما تتّبعها بفكر متأمل، كم تستوقفك مواقفها، وكم يُبهرك ذلك الاجتماع الليلي، الذي كانت فيه النقاشات والأسئلة والأخذ والرد والتوثيق والتأكيد والتثبّت، بين جَمع الأنصار الثلاثة والسبعين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرافقه ويؤيّده عمّه العباس رضي الله عنه، وهو حينها ما يزال على شركه، لم يؤمن بعد، ولكن كان منه العجب العُجاب من السَّنَد والظهر والحماية كما كان من أخيه أبي طالب الذي مات على شِركِه ...
في جزء يسير من ليلة من ليالي العام الثالث عشر للبعثة، في جُنح الظلام،اجتمع مَن على عاتقهم ستُبْنى الأمة، ستُبنى الدولة، سيتحقق التمكين لدين الله، ستشرق شمس الإسلام على الأرض منهم....... واتسم اللقاء بسموّ عقلي وقلبي سواء بسواء،وفيه تمت المشاورات، والتوثيقات، والتعهدات، والمعاهدات، وفيه خرج الجمع بالقرار، وفيه أخِذ الميثاق، وتمت المبايعة...
كل ذلك كان في جزء يسير من ليلة من ليالي ذلك العام،في مكان ما بين مكة ومنى،عند العقبة، في جزء ما بعد الثلث الأول من الليل، حيث تسلل ثلاثة وسبعون رجلا ومعهم امرأتان من نسائهم من بين جمع مِن قومهم الذين ما يزالون على شركهم أدوا معهم مناسك الحج في ذلك الموسم من ذلك العام .
كم كان اللقاء ثريا ونحن نتجاذب الرؤية والتأمل في معاني هذا اللقاء، هذه المبايعة، هذه المعاهدة..... في كل لقطة منه، في كل مرحلة منه، في كل كلام كان فيه، في كل متكلم تكلم فيه ....
كم أن التأمل فيما كان منهم وحده ثري، وأي ثراء !! كم أنّ أولئك كانوا عِظاما بحيث تتمثل وجوههم الوضاءة، وحضرتهم المهيبة، وقوة قلوبهم وتفتحها للإيمان، وإصرارهم على المبايعة رغم كل ما نُشر وبُسط ووضّح من مغارم لا يطيقها إلا رجل اشترى الجنة وباع دنياه بما فيها ....
فكان تأملا أنسانا الدنيا بما فيها، وصغُرت في أعيننا بما فيها، وصرنا وكأنّ الزمان كله قد طُوي في ذلك الجزء اليسير من تلك الليلة، وكأن المكان الذي نحن فيه هو تلك العقبة.... وأي عقبة هي !! عقبة كانت اسما على غير مسمى، عقبة مهدت لنشر الدين، ولتمكينه، ولبناء الدولة الإسلامية .....عقبة ذلّت فيها على النفوس كل الصعاب ....
فعشنا.... حيث عشنا .......
"و
في موسم الحج من العام الثالث عشر للبعثة (13)اعتزم المسيرَ إلى الحج سبعون رجلا من الأوس والخزرج اجتمعوا على موافاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقد قالوا : حتى متى نذَرُ(أي نترك) رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرَد في جبال مكة ويخاف؟"
حتى متى نذره ؟؟؟
هم جَمع من الذين آمنوا من أوس يثرب وخزرجها، بدؤوا في العام الحادي عشر ستة، ثم ارتقوا في العام القابل إلى اثني عشر ،قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وعدوه، فبايعوه بيعة العقبة الأولى بيعة النساء، وعادوا إلى يثرب بعدهاوقد أرفق معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير الذي نجح أيما نجاح في دعوة أهل يثرب للإسلام، وتعليمهم الدين، وعادوا في العام الثالث عشر للبعثة،بعد عام واحد، وهُم جمع من ثلاثة وسبعين رجلا ومعهم امرأتان، تدفعهم الغيرة على رسول الله، وعلى دين الله، تدفعهم روح الإيمان بصدق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعظمة ما جاء به، تدفعهم أن لم يرضوا الدنيّة لرسول الله، فإلى متى سيتركونه طريدا في جبال مكة ؟!! إلى متى ؟؟ يسألها سائل قد أعيته السنون، وأثقلت كاهله، وهو يعلم أن الحق يُضطهد وتُستباح حرمة أهله، ولكن هؤلاء لم يلبثوا في كنف وحِياض الإيمان والإسلام إلا عاما أو عامَين، وكان العامان كافِيَيْن لشحنهم إيمانا يناطح السحاب سموا، والجبال شموخا .... فيؤهله لأن يغار لله، ويغضب لله، ويهبّ لله .... "إلى متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرد في جبال مكة ويخاف ؟"
"
خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها،ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر،سيّد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم مَنْ معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيّد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه، أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، فأسلم وشهِد معنا العقبة وكان نقيبا ."
ها هم أولاء وهم قد خرجوا للحج، ومعهم المشركون من قومهم، وهم يخفون إسلامهم وأمرَهم عنهم، ويخفون أنهم ما قدِموا هذا الموسم إلا للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ها هم أولاء لا يتركون الدعوة، ولا يتخلون عنها وهم في أشقّ حالة، وأصعب ظرف، ولكنهم، -ولله درّهم- ...إنهم يعرفون من يختارون من هؤلاء لدعوتهم في ظل إخفائهم أمرهم، وخشيتهم من المشركين أن ينقلبوا عليهم ويفسدوا عليهم خطتهم ... إنهم إذ يدعون لله وللإسلام في هذا الظرف يعرفون ما يفعلون، ومع من يفعلون ذلك ....
إنهم -ولا ريب- كانوا أهل حكمة ورزانة ونظر بعيد، فلا يعرّضون جماعتهم ولا خطتهم ولا هدفهم للخطر، بل لننظر كيف أنهم يتخيرون السيد والشريف، وليس السيد والشريف في قوم العرب بذي المال، سفيه العقل، بل إنه عادة بينهم سيد الحكمة فيهم، والرأي السديد، والنظر البعيد، والخُلُق القويم، والأمانة والصدق، والشجاعة والإقدام ... فهم إذ يختارونه لدعوته وهم في طريقهم هذه، وفي ظروفهم هذه، وفي ظلّ سريّتهم تلك، وحرصهم كل الحرص على ألا يفسد أمرهم، ولا يُكشف، يعرفون مَن يختارون.... وها هو الشريف يُسلم، بل ويحضر معهم أخطر اجتماع، ويطّلع على أكبر الأسرار، بل ويعيَّن نقيبا .... فلله درهم من دعاة فطنين، حكماء، يعرفون كيف يزداد خيرهم وهم في أصعب وأخطر ظرف ...إنهم كانوا الرجال... إنهم كانوا المثل الصحيح لمعنى الرجولة ....
"
قال كعب: فنِمْنا تلك الليلة مع قومنا في رِحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، وهدأت الرِّجل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلّل تسلّل القَطا (طائر مِشْيَتُه ثقيلة)، مستخفين حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، من ذوي أسنانهم (أي المسنّين منهم) وأشرافهم،وثلاثون شابا،يقال أن أصغرهم كان أسعد بن زُرارة،قال: ومعنا امرأتان من نسائنا، نُسيبة بنت كعب أم عُمارة إحدى نساء بني مازن بن النجّار، وأسماء بنت عمرو أم منيع إحدى نساء بني سَلمة."
ها هم أولاء نِيام مع قومهم، كأن شيئا ليس كائنا، كأنهم لم يلتقوا رسول الله سرا فور وُلُوجهم مكة، ويتفقوا معه على لقاء هذه الليلة ذاتها، وأن يكونوا جميعا عند العقبة ....
ها هم أولاء، وهم ثلاثة وسبعون، يُوقظ أحدهم الآخر، ويتسللون تسلل القطا... بكلمة سرّ؟ بإشارات؟؟ بنأمات؟؟ بحركات ؟!!
المهم أنهم نجحوا في أن ينسلوا من بين قومهم دون أن يشعر أحد بهم .....
يااااه ما أروعها من خطة .... ما أجمل تلك الليلة وهم فيها يخططون للقاء خير خلق الله، للسمع منه، لإخباره بمكنوناتهم وبما مِن أجله قدِموا إليه، ليعاهدوه، ليُظاهروه ...
ما أروعه من تسلّل في جنح الليل لجَمع مؤمن كل الإيمان أن هذه الدعوة التي تلاقي كل الصدود والتعذيب والتنكيل في مسقط رأسها، لهي دعوة للأرض كلها، فها هُم يهبّون من أرض أخرى ليحتضنوها .... فأيّ تسلل كان تسللكم ؟؟ !! وأي خطة تلك التي اتفقتم يا جَمع المؤمنين الصادقين الحكماء على تنفيذها !!!
وامرأتان من نسائهم معهم.... أي عزّ، وأيّ قدر، وأي قيمة!! وأي تقدير هو للمرأة من الإسلام، وممّن اعتنق الإسلام فعلا وقولا ؟! أي بَون هو وأي شساعة هي شساعته بين جاهليّي الأمس القريب وهم على ما هم عليه من رأيهم بالمرأة وموقفهم من المرأة ورؤيتهم للمرأة، وبين حالهم اليوم وهم مؤمنون بالله وبرسوله، مسلمون ؟! ها هي ذي المرأة ترافق زوجها في مرحلة من أخطر وأهم مراحل الدعوة، فلا ينتقص من رأيها، ولا من قدرها، ولا من دورها، بل يصحبها معه وهو واثق من دورها، ومن فكرها، ومن أنها ستقاسمه الوفاء بالوعد كما قاسمته حضوره وسماعه ...
"
كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج،-وكانت العرب إنما يسمّون الحيّ من الأنصار "الخزرج"خزرجها وأوسَها-: إنّ محمدا مِنّا حيث قد علمتم،وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزّ من قومه، ومَنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم،واللّحوق بكم،فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك،وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه وخاذِلوه، بعد الخروج به إليكم، فمِن الآن فدَعُوه، فإنه في عزّ ومنعة من قومه وبلده ."
العباس بن عبد المطلب ! ما يزال بعد على دين قومه ! ويُقدِمه معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويكون أول متكلم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستأمنه على سر من أكبر أسرار الدعوة ! ويدخل مع ابن أخيه ظهيرا، حاضا على نصرته حق النصرة، مخوّفا من خذلانه، مبيّنا لمكانته من قومه وإن كان منهم ما كان، فهو وإن لقي من قومه ما لقي، إلا أنه أيضا لا يعرف مصيره بين هؤلاء الجُدُد، هؤلاء البُعداء، هؤلاء الذين لم يكن ليعرفهم لولا إرادة الله أن يعرفهم، ها هو العباس رغم معرفته بما كاله قومه لابن أخيه من صنوف التعذيب والتكذيب، إلا أنه وبعقل الحكيم الراجح لا يضمن ما سيكون له بين هؤلاء، فقد يناله منهم ما قد يبدو معه ظلم أهله رحمة، وما قد يبدو معه سَموم أهله نسمة .... ما يدريهم أنّ الذي سيكون خير من الذي كان ؟؟!!
بهذا المنطق تحدث العباس الذي ما يزال بعد على دين قومه، بمنطق العقل وبمنطق الحق على السواء، وإن كان ما هو قائم عليه حتى الساعة مخالفا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ....
ولكنها الحكمة ...وأي حكمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إذ استأمنه يعرف مَن استأمن ... وإذ اتخذه ظهيرا وسندا يعرف من اتخذ لذلك ! ولله درّ العباس وهو على غير الإسلام، يحضّ على احتضان الإسلام بصدق لا بغدر، ويخوّف من خذلان الذي جاء به...
ويكأنّ الله سبحانه وتعالى لم يحرم العباس فضل هذه الليلة العظيمة من قبل أن يؤمن، ويهيئه لأن يصبح مؤمنا ....
"
فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن،ودعا إلى الله،ورغّب في الإسلام،ثم قال:
"تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل،والنفقة في العسر واليسر،وعلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر،وأن تقولوا الحق لا تخافوا في الله لومة لائم،وعلى ن تنصروني فتمنعوني إذا قدِمْتُ عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءَكم ولكم الجنة"".
تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبماذا تُراه بدأ ؟ وبمَ عقّب؟!
بدأ بالقرآن، ثم دعا إلى الله ثم رغّب في الإسلام، ولأي شيء كانت هذه البدايات وهذه الأساسات منه ؟؟ إنها كانت لبناء الدولة المسلمة، إنها كانت لبناء الأمة المسلمة، إنها كانت للتمكين لدين الله في الأرض كلها ....
ولمَن يقولون وينادون ويناضلون من أجل فصل الدين عن الدولة، وأين؟؟ في بلاد الإسلام !! أقول وما ضرّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس للدولة أن جعل الأساس هو القرآن، وهو الدعوة إلى الله، وهو الترغيب في الإسلام .... لهؤلاء أقول، أي معنى لدولة مسلمة تفصل الدين عن الدولة ؟؟؟ إنه كمعنى اللامعنى ! إنه كمن يبني السراب ، إنه كمن يريد دينا على هواه، ويريد للسياسة أن تكون بمعزل عن الدين.... وللدين أن يكون بمعزل عن السياسة ... وما بيعة العقبة إلا سياسة رشيدة من أعظم ساسة الأرض، لم يجعل لها من أساس أقوى من قرآن رب السماوات والأرض ...!! فهل منكم يا دعاة الفصل رجل رشيد ؟! أم أنّ رشدكم قد بلغ عنان الصواب حتى رأى في محمد صلى الله عليه وسلم أسطورة لا يجب التأسي بها في عالم الحقيقة !!
وفي بنود البيعة، الوضوح كل الوضوح، القوة كل القوة، اللازم لمعركة بناء الأمة، بينما كانت البيعة الأولى لمعركة بناء النفس، أما وقد بُنِيت تلك الأنفس، فإنّ الدور حان للاضطلاع بمسؤولية بناء الأمة،بناء الدولة المسلمة، ولذلك فالتبعات قوية قوية، قوية....ومن البداية كان هذا الوضوح، وكان هذا الإفصاح، فمَن رضي أن يبايع على هذا وهو واثق من مدى تحمله للتبعات، فليأخذ، ومن لم يرضَ فهو حر أن يُعرض .....
"
البراء بن معرور كان قد دُعِي للإسلام من قِبل الأنصار وهم في طريقهم إلى مكة، وكان سيدًا من سادتهم، فقبل الإسلام ، والأنصار بذلك يعلّمون المسلمين جميعًا درسًا لا ينسى، وهو أن الدعوة لا تتوقف مهما صعبت الظروف، فرغم مشقة السفر، ورغم الاحتياط والحذر، رغم كل ذلك لم يتوقف الأنصار عن دعوتهم إلى الله، وسبحان الله! سيموت البراء بن معرور بعد هذا الحدث بأقل من شهرين"
وهكذا يُدْعى البراء بن معرور هو الآخر في ظل كل السرية المحيطة بالأمر، وهو شريف من أشرافهم، فيسلم، ويشهد البيعة، بل يكون أول من يوثق العهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : والذي بعثك بالحق لنمنعنّك ممّا نمنع منه أزُرَنا فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب،وأهل الحلْقة(وهي السلاح عامّة)، ورثناها كابرا عن كابر .
وهكذا يموت البراء بن معرور بعد البيعة بشهرين، فلا يشهد مع المسلمين غزوة، ولا حربا، ولا يجاهد، ولكنّه مات مبايعا، وشتان بين موته كافرا، وموته مبايعا ....!!إن المغزى ليس بطول العمر، بل بحسن العمل، بل بالصدق مع الله، بل بالإخلاص لوجه الله وحده .....فها هو يسلم شهرين، ثم يموت، فيموت مبايعا ....!!
والبراء على ذلك الموقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاطعه أبو الهيثم بن التَّيِّهان رضي الله عنه، فيقول: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال(يعني بهم اليهود) حبالا، وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدَعَنا؟ فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "بل الدّم الدّم والهَدْم الهَدْم، أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربكم، وأسالم من سالمكم"
ما أصدق الرجل، ما أشد حضور عقله مع حضور قلبه، ما أبعد نظره، وما أحكم قراءته لما قد يكون حاك في نفوس الكثير ممن معه ، ولكنهم أحجموا عن الخوض فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد يكون من تحرج، وقد يكون من استكثار مواجهته بها وهو رسول الله...
ابن التيّهان، ها هنا يطرح أمرا مهما جدا، وخطيرا جدا، قد يكون الكثير ممّن معه قد أغفلوه في ساعة نصرة عاطفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّه هنا بإفصاحه يجعل موالاتهم موالاة كاملة خالصة، موالاة قلبية وعقلية، لا تشوبها شائبة من ظنّ أو شك أو خوف . يطرح أمر اليهود الذين يحيطون بالمدينة إحاطة السِّوار بالمعصم،وفيما بينهم عهود وتحالفات، واتفاقيات، واليهود على ما هُم عليه من المكانة والسيادة الروحية والمالية.وهم أهل حروب وصنّاع سلاح، وهو يزيد من تجلية الأمر لمَن معه أنهم سيقطعون كل هذه الحبال التي تربطهم بهم، فيريد جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موقفه منهم إن هو انتصر وعاد إلى مكة...
فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تواضع ودون رسم أي خلفية من أنّ الرجل يشكك بمواقف رسول الله، بل يتبسم ويعطيه العهد والميثاق الآكَد أنه معهم في السراء والضراء، يذود عنهم ويحميهم مما يحمي منه نفسه وأهله، فإن طُلب دمهم فقد طُلِب دمُه .ولنا أن نتخيّل نفسية ابن التيّهان بعد جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفسيّة كل من كان بداخله تخوّف من هذه النقطة .
والآن ....قد حان وقت البيعة...قد انجلت الغيوم كلها من صفحات تلك النفوس، قد حان لا ريب .......................أم .....أنه لم يحن بعد ؟؟؟!!!!
أأصبح لذلك الجزء اليسير من الليل البهيم، كل هذا التحمّل... ليتسع لنقاش أكثر، وأطول، فيُحاط بكل ما يجب الإحاطة به والقوم مقبلون على قرار مصير الأرض كلها .......
نعم ...إنه ليستّع ...............
يتدخل رجل آخر من رجال الأنصار .....إنه العباس بن عبادة موضحًا لهم:
إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَت أموالُكم مصيبةً، وأشرافَكم قتلاً أسلمتموه، فمِن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.وهكذا، يزيد العباس بن عبادة من توثيق العهد، ويزيد في توضيح الأمر للأنصار، أنه ليس نُزهة، ولا لقاء تلك الليلة وكلمات فيها، ومن بعدها النقض والتولّي، والنكوص، بل هو الوعد الذي يوافقه الفعل ويصدّقه، بل هو تحمّل كل الأذى في سبيله مهما بلغ، إنه يقدّر عظمة الوعد، ويضعهم في صورة الموقف وجلاله،وهم يعدون رسول الله صلى الله عليه وسلم على محاربة الأحمر والأسود نصرة له ولما جاء به . وهكذا يبدو جليا صدق الأنصار، وعزمهم على الحق لا الباطل، والصدق لا الكذب، والوفاء لا الغدر .
فيجيب الأنصار في عزم وثقة: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟قال صلى الله عليه وسلم : الجنة.إنهم قد عرفوا الجنة .....فلما عرفوها، قبلوا بها ثمنا وجزاء لكل استعداداتهم للتضحية بالنفس والنفيس...قد عرفوها ساعة عاد أولئك الستة، وأخبروهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وساعة عادوا إلى يثرب في العام الذي تلاه وقد أصبحوا اثني عشر رجلا ومعهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن والإسلام.... لقد نزل بمكة ما قارب نصف القرآن في تلك الآونة، فقد عرفوه كله من مصعب، وتشربوا معانيه، وصدقوا وعوده، وآمنوا باليوم الآخر، وبأن الجنة حق، والنار حق .... فعرفوا الجنة وقدروا عظمتها فقبلوها ثمنا، وأدركوا أنه لا يعلو عليها ثمن ....
ولله درّ مصعب بن عمير وقد كان سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم بيثرب، فعلّم وأسس لهذا الجمع المؤمن الواثق، المصدّق المستعد لبذل مهج الأنفس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ودون الإسلام ...لله درّه معلّم هؤلاء البُناة ، هؤلاء الأنصار الناصرون ....لله درك يا مصعب، كم هي حسناتك ؟! وكيف تُراك كنت تقضي أيام عامك بين اليثربيّين، بين خصماء الدهر أوسا وخزرجا، وقد غدوا بالإسلام إخوة متحابّين، فأقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أوسا وخزرجا على قلب رجل واحد، وهذا الإسلام بيده الربانية وحده يجمع شتاتهم، ويوحد صفوفهم، ويأتي بهم إخوانا متحابين ....
ها هو الإسلام وهم يرونه الحل الذي لم يكن لهم قبله من حل، ها هُم يقبلون على البيعة الثانية وقد عاينوا فعل الإسلام فيهم........
وقد جمعهم بعد فرقة، وسالمهم بعد حرب وقتال .... ها هو الإسلام يعمّ به السلام أولا قبل أن يكون منه أي أمر آخر ....
فأين من ينعتون الإسلام بالإرهاب ليعرفوا فعله في خصماء الدهر ؟؟!! ليعرفوا كيف دعاهم هذا السلام الذي عاينوه حقيقةً لم يكونوا ليحلموا بها يوما، أن يقبلوا عليه وعلى نصرته ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم غير مدبرين ولا مولّين، ولا مذبذبين، ولا متهيّبين ....إن لم يكن لإدراكهم العميق بأنّ فيه كل الخير، كل الخير، وبأن في الإدبار عنه كل الشر، كل الشر....
الآن أقد حان وقت البيعة ؟! لا بد أنه قد حان، لا بدّ أنه لم يبقَ من صوت غير صوت الأيادي تصفق على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايِعة، معاهدة على النصرة وعلى كل تلك الشروط التي أعطى ....
أم أن ذلك الجزء من الليل ما يزال يطيق ويتحمّل ما هو أكثر ...........؟؟
بلى ...........إنه ليطيق ....
فهذا أسعد بن زرارة يقطعهم فيقول :
رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله.وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.إنه يؤكد على معنى جديد، وخطير، وبالغ في الأهمية كل مبلغ، على الجهاد، وعلى الاستعداد لفقد خيار القوم وأشرافهم،الاستعداد لحماية الدعوة من كل ما يتعرض لها ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتضحية في سبيل ذلك أكبر التضحيات.
الأنصار كانوا قد سمعوا الوعد: "الجنة" فما عادوا يطيقون صبرًا، ما بينهم وبين الجنة إلا أن يبايعوا، فقاموا يتسارعون وقالوا: يا أسعد، أمِطْ عنا يدك،والله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
روي عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال:قالت أم عمارة:كانت الرجال تصفق على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بيعة العقبة،والعباس بن عبد المطلب آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بقيت أنا وأم منيع نادى زوجي عرفة بن عمرو: يا رسول الله !هاتان امرأتان حضرتا معنا تبايعانك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد بايعتهما على ما بايعتكم عليه،إني لا أصافح النساء.وها هو عرفة بن عمرو لا يفوّت الليلة واللقاء، ويكتفي بمبايعة الرجال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من فرط تقديره لزوجته، ها هو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بينهم امرأتان، وأنهما ما قدمتا إلا للمبايعة هما الأخريان، ولم تَقْدَما هكذا لتحضرا، وتكتفيا بالحضور وحده، بل إنهما حرتان ، ذاتَا إرادة وفكر حر، تريدان المبايعة، تريدان المعاهدة، وهما على قدر من الثقة بما في نفسيهما من الوفاء بالعهد، والعمل بشروط المبايعة .....
فيبايعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الشروط .....................
وياااااه على وفاء المرأة المؤمنة الحرة القوية بعهدها....ياااه على وفاء نسيبة بنت كعب أم عمارة الرائعة ....المجاهدة بنفسها وبزوجها وبأولادها .....
هي تلك التي قامت تذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، يوم انفض الرجال من حوله، وهي تمنعه من ضربات المشركين وتعرّض جسدها لها دونه، وتصاب بالجروح الغائرة يومها، حتى يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوه بعصبة للملمة جراحها ، ويدعو لها ولأهل بيتها، فتتصيّد الفرصة وهي الموفية بوعدها لرسول الله يوم العقبة، فتسأله أن يدعو لها ولأهل بيتها أن يكونوا رفقاءه في الجنة، فدعا لها بما أحبت ....
ليهنأْكِ الدعاء يا أم عمارة ..... طوبى لك طوووووبى ...................
وكأنها وهي قد أعطيت الجنة على وفائها بشروط بيعة العقبة، وقد بايعت عليها، تسأل ما هو أعظم، تسأل رفقة رسول الله فيها ، وهكذا هي الروح المؤمنة العالية التي تطمع فيما عند الله.... في الآخرة، وكلما ارتقى إيمانها كلما ارتقى طمعها في خير الآخرة، وأي خير أعظم من رفقة الحبيب صلى الله عليه وسلم في الجنة !!! وتزهد في الدنيا بما فيها .... فلما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرادها قالت : ما أبالي ما أصابني من الدنيا....!!!
وعاشت أم عمارة ما عاشت مجاهدة في أكثر من غزوة، وكانت تبلي البلاء الحسن، واستشهد زوجها وأبناؤها في سبيل الله ....وتلكم عينة من عينات وفاء أهل العقبة بما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ....
هم قوم صدقوا الله ..... فصدقهم الله .....
فطوبى لكم يا أهل تلك البيعة .... طوبى لكم يا بناة الأمة والدولة، ويا لبنات الإسلام الأولى، ويا مَن أنقذتم الإسلام وأوردتموه موارد النصرة والانتشار والقوة والمنعة .... يا مَن تفتحت قلوبكم للإيمان تفتّح الصدر لنَفَسِه المُحيي ............
ولذلك سمّيتم الأنصار، وكم أنتم مستحقون لهذا الفضل العظيم ..... يا أيها العظماء .....
يااااااااااااااه كم عشنا يوم أمس هذه اللحظات وكأننا نعيش بروح الآخرة لا بروح الدنيا، وكأننا ونحن الأخوات المجتمعات نقرب من طأطأة رؤوسنا إجلالا لعظمة أولئك الرجال، وحياء من حضرتهم المهيبة....حتى قالت إحداهنّ، وقد جعلن بين حين وحين يستوقفن ليقلن ما يجيش في نفوسهن من إعجاب وإجلال وتقدير، وحسرة على واقع نعيشه وددْن لو أنهن لا يعدْن له وقد عِشن جزءا من تلك الليلة العظيمة .... قالت : اليوم هم أولاء يتبارون على التنمية البشرية، والبرمجة اللغوية العصبية في بناء الفرد ، الآن عرفت إننا نستند لتنمية بشرية، بينما استند هؤلاء العظماء لتنمية إلهية ربانية ....وشتان بين التنميتين....