والآن أيها الإخوة الكرام مع الآية الموالية :
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199)
لنتأمل أيها الإخوة الكرام سبب نزول هذه الآية أولا :
قوله (ثُمَّ أَفيضوا مِن حَيثُ أَفاضَ الناسُ) أخبرنا التميمي بالإسناد الذي ذكرناه عن يحيى بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كانت العرب تفيض من عرفات وقريش ومن دان أخبرنا محمد بن أحمد بن جعفر المزكي قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن زكريا قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن السرخسي قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة قال: حدثنا حماد بن يحيى قال: حدثنا نصر بن كوسة قال: أخبرني عمرو بن دينار قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: أضللت بعيراً لي يوم عرفة فخرجت أطلبه بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس بعرفة فقلت: هذا من الحمس ماله ها هنا قال سفيان: والأحمس: الشديد الشحيح على دينه وكانت قريش تسمى الحمس فجاءهم الشيطان فاستهواهم فقال لهم: إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانوا لا يخرجون من الحرم ويقفون بالمزدلفة فلما جاء الإسلام أنزل الله عز وجل (ثُمَّ أَفيضوا مِن حَيثُ أَفاضَ الناسُ) يعني عرفة رواه مسلم عن عمر والناقد عن ابن عيينة.(1)
إذن فقبيلة قريش كانوا يسمّون الحُمس بمعنى المتشددين في دينهم، وكانوا يرون في أنفسهم رفعة عن غيرهم من القبائل ومن أهل مكة، يقول البخاري :حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت:" كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة , وكانوا يسمون الحمس , وسائر العرب يقفون بعرفات . فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات , ثم يقف بها ثم يفيض منها . فذلك قوله:من حيث أفاض الناس " . .
ومنهم من يقول أنّ الإفاضة هنا من عرفات ، ومنهم من يقول أنها الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر...
إنها المساواة، إنه تكريسها بهذا الدين القَويم الذي محا كل أثر من آثار الجاهلية الظلماء المتعدّية المتكبرة، التي فتحت الأبواب على مصاريعها للأهواء،لتتكبّر وتتعنّت وترى الأنساب وشرف الأنساب فاصلا وفيصلا بين الناس، ليس هناك فرق بين هذا ولا ذاك، الناس سواسية كأسنان المشط، فلا يدع بذلك الإسلام مجالا ذهنيا ولا مجالا حركيا لمثل هذه الجاهليات، جاء ليأمر الجميع أن يكونوا سواسية، فقد تجردوا في هذا الموقف المهيب من ثيابهم، ولبسوا ثيابا واحدة لا لشيء إلا ليروا أنفسهم سواء، ليس هناك من يلبس الحرير والديباج، وبالمقابل من يلبس الخَلَق والرثّ ....ساواهم في كل شيء، وأذهب عنهم كل رجس من أرجاس الأفكار الجاهليّة الخرقاء البالية التي تعطي السطوة للهوى، فإذا هي الأهواء متصارعة، وإذا هي الحروب والعداوات تقوم من جراء اتباع هذا هواه، وذاك هواه والآخر هواه، فإذاهي الفوضى، وإذا هي الضوضاء وإذا هي الاختلاط وانعدام النظام، لأنه ما من حكم أعلى يركن إليه الناس جميعا وما من سلطان أعلى يعودون إليه في الحكم والفصل ....
ويلوّح لهؤلاء الذين ضلوا عندما كانوا في الجاهلية، ضلوا فاستكبروا ورأوا أنفسهم أعلى من غيرهم، يلوّح لهم بالمغفرة والرحمة منه تحلّ عليهم، لأنه الغفور الرحيم، والإسلام يجبّ ما قبله، وما كان منهم يستغفرون الله عليه وهو أهل المغفرة وهو أهل العفو والسماح والصفح والرحمة الواسعة....استغفار الله سبحانه من كلّ ما من شأنه أن يفسد معالم هذا التصوّر الإسلامي العظيم للعلاقة البشرية وللحالة البشرية التي هي قدم من المساواة تجمع كل الناس .... الاستغفار من أجل العدول عن كل قول أو فعل لا يليق بمقام الإسلام العليّ الرفيع وبتصوره الراقي السامي ....
وننتقل فنضمّ هذه الآيات الثلاث سوية لأنها تشكل لحمة واحدة يتمّم الجزء فيها الآخر ليعطي كمال الصورة ويلقي كمالها بالقلب مفهوما ومعنى، قوله عزّ من قائل :
فإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201)أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ(202)
يقول صلى الله عليه وسلم :
الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج
وانتهاء عرفة وإدراكها إدراك للحج وانتهاء لمناسكه ....وإنّ لنزول هذه الآ]ة سببا حريّ بنا ذكره :
قوله (فَإِذا قَضَيتُم مَّناسِكَكُم فَاِذكُروا اللهَ كَذِكرِكُم آَباءَكُم) الآية قال مجاهد: كان أهل الجاهلية إذا اجتمعوا بالموسم ذكروا فعل آبائهم في الجاهلية وأيامهم وأنسابهم فتفاخروا فأنزل الله تعالى (فَاِذكُروا اللهَ كَذِكرِكُم آَباءَكُم أَو أَشَدَّ ذِكرا).
وقال الحسن: كانت الأعراب إذا حدثوا وتكلموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا فأنزل الله تعالى هذه الآية. (2)
نعم عرف العرب قبل الإسلام بتفاخرهم بأنسابهم، وبأسواق الكلام التي كانوا يتسابقون فيها على التفاخر بأنسابهم يرون فيها العزّة والشرف والمِنعة والأفضلية بعضهم على بعض ....الإسلام يعطيهم هذا التصور ويلقنهم هذا التجرّد لله وحده،ويبعدهم عن ذكر الأنساب والتفاخر بها، ولا يراد هنا مساواة ذكر الآيباء بذكر الله تعالى وإنما هو التنديد بذكر الآباء في ها المقام من التوجه الخالص لله ....
تأملوا أيها الإخوة ....تأملوا هذا التخليص، وهذا التنظيف وهذه التنقية وهذه التصفية التي يجريها الله على قلوبهم، والتي يريدهم أن يصبغوا بها، يرد أن يكونوا متجردين بحق له وحده، يريد أن يذهب عنهم الرجس والشرك والجاهلية وآثارها، يريدهم أن يدينوا لله بحق ويعبدوه حق العبادة
---------------------------------------------------------------
(1) أسباب النزول للواحدي
(2) نفس المصدر السابق