المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (المنـــافقون)  (زيارة 87 مرات)

0 الأعضاء و 3 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
 
(1)
لماذا ترينه وََحْْده المشكاة على الدرب ؟ ! وترين النّّور فيه وحده !


ومانزال في رحاب هذا الجزء العامر، وعلى درب الحياة نريد أن نسير ونحن نستضيئ لظلمته ...
قد يخطر لأحد خاطر... ! قد يتساءل مَن يتساءل، وقد يبحث في قولي باحث...
ـ ما الذي يجعلكِ تتّخذين من هذا الكتاب مشكاة دون غيره ؟!

ما الذي يدعوكِ لاعتماده نبراساً والكتب على أشكالها تقع ؟ ! وقد كتب الرجال، ونظّر المنظّرون، وقعّد الفلاسفة المفكّرون، والحكماء عبر الأزمنة والدهور ... !
لماذا ترين في هذا وحدَه النور، والنور قد أشعّ من أفكارهم، وزناد الفهم قد قُدح من أذهانهم ! وعلماء الطبيعة، ومستكشفو أغوارها قد بسطوا للناس عِلمَهم، وفكرتهم عن أصل الوجود، ونظرهم وتقديرهم للحياة ولأصل الإنسان  ...؟ ! أما سمعتِ عن نظرياتهم، وكيف أنّ الوجود كلّه بما فيه  هو تطوّر العناصر بعضها عن بعض، من خلية قد أوجدت نفسها بنفسها،  فانتقاء، فارتقاء ؟ ! حتى بلغنا الحظّ منها فكنّا معشر البشر ؟ !

لماذا لا ترين في غير هذا النور، وكثير من حولنا كثير، شنشنتُه صيحات العلماء، وأخبارهم، وأقوالهم، وما اصطلحوا عليه حول الإنسان وأصل وجوده ...؟ !

سأقول لهذا الذي ألقى سمعه للصيحات تملأ الآفاق، وهو يرى الناس قد مالوا إليها، وانجذبوا إلى سحرها، وعرفوا من أقوال العلماء والفلاسفة والطبيعيّين، وعرفوا لهم صيتا، وعرفوا سامعين لقولهم إذا قالوا، هم على أثرهم مقتدون، بقولهم قائلون... وهُم بقدر ما بلغوا من العلم، بقدر ما أصّلوا لأفكارهم عن الإنسان "الهباءة" ! الذي من لا شيء كان، وإلى لا شيء هو صائر ... !  أصّلوا لفكرهم القائم على إنكار الخلق من عدم والإيجاد من عدم، من خالق هو الأول والآخر والظاهر والباطن... !

إنّني مع هذا الكتاب الذي هو ليس كلام البشر، ولا قوانين البشر، ولا ما اصطلحت عليه عقول البشر، ولا هو من فكر جهابذتهم، ولا من طفرات فلتاتهم، ولا من عقول فهّامَتِهم ...

إنني أيها السائل المتسائل مع "كتاب الله" ... مع كلام خالق العقل، وواهبه الإنسان، ومُكْرمه به، إنني مع ما نوقن أنه لله لا لأحد سواه، وأنه الذي اصطفى له مبلّغا من البشر،  بشيرا ونذيرا، فكان عليه أمينا، بلّغه كما نزل، حرفا بحرف، وأمرا بأمر ...
وإنني وأنا معه ومعك،  نسير الهُوَينى، خطوة إثر خطوة، فإذا الكلام من ذاته يُبينُ عن ذاته،  يحدّث عن ذاته، من الحياة التي فيه تدُبّ، ومن الروح التي تبعث الحياة في عنصر الحياة، ومن الحركة التي تتجلّى في صُوَره، ومن البيان الذي يصدعُ في آيِه ... !

إنك وأنت تقطع معي هذا الدرب على ضوئه، يستبين عقلُك نورَه،  ولا تجدك تكتفي بما تسمع عنه من قول المؤمنين به، المذعنين لأمره،  لا تتخّذ كلامي وكلامهم  منطلقا وأصلا، بل إنك تعرفه منه، لا من أحد ... وإنك تبصره منه لا من أحد، مما نستكشف سويّا على هذا الدرب على ضوء مشكاته... وستتبيّن إن كانت ستضيئ لك حقا، أم أنّه ليس إلا ادّعائي الضياء، وتكلّفي النور... !

ألم تبصر به ما كان عنك مُغمّى ؟ ! ألم ترَ في تناسق آيِه وترابطها وتلاحُم أطراف السورة من سُوَره، ووحدة موضوعها، واتساقها مع السورة والسورة،  كيانا حيا مضيئا، يُسفر ويُجلي لك الحقائق، ويبسط لك في شؤون نفسك التي بين جنبيك، فإذا هو مرآتها العاكسة لكل خفاياها، وإذا هو الطبيب الآسي لكل أدوائها، وإذا هو المرتقى الذي ينتشلها من أوحال الأهواء، ودركات البهيميّة إلى سنا الإنسانية السامقة بمعانيها النفيسة المتفرّدة في خلق الله تعالى... !

ويبسط لك في شؤون الوجود مِن حولك، وفي العلاقة بينك وبين كل عناصره،  وفي الغاية من وجودك، فهو يقيم لك مبدأ وغاية، ومآلا، ولا يملي عليك أنك الهَمَل الذي جاء من هَمَل، وإلى هَمَل هو صائر !  ويبسط لك في الحياة وأبجدياتها، ويكشف لك لا عن المشكلة والمعضلة وحدها فيحدّدها بمعالمها، بل يرشدك إلى منبتها الشائك وإلى مرعاها المُرّ، وموردها الآسن ! فيعلّمك كيف تـتّـقيها،  ويعلمك كيف تتجاوز العقبات على دربك، وكيف تتفادى المهالك ... !

ألم تُبصر كل هذا مع هذه الحياة التي عشنا في رحاب الآيات ؟ ! وفي رحاب الاتساق والتناسق، والتكامل بين أطراف هذا الهدى الذي تنمّ كلّ حركة معه، وكل حقيقة تتبيّن تحت عدسته الكاشفة، عن تفرّد وعلويّة مصدره، وأنه ليس إلا وحي الخالق المالك لأمرِك كلّه، ولأمر الوجود كلّه، وليوم الدنيا كما ليوم الدين ! ليس كلاما من كلام البشر، بل هو كلام خالق البشر، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... !

من ذاته يُنبيك عن حقيقته، دونما حاجة لإملاءات ولا لتعليمات مسبقة... !
يفسح لعقلك أن ينظر، لا يحجر عليك، ولا يُملي عليك القول فيه إملاء، بل يدعُك له... فيعمل مع عقلك عمل النور في الظلمة، عمل البيان في المُبهَم والمُشكَل ... عمل الروح في الجسد الهامد، لتنبعث الحياة ! حياة الحقيقة، لا حياة الأوهام   !  حياة الميزان لا حياة العبثيّة، حياة الغاية لا حياة الهبائية ... ! حياة الروح لا حياة الجسد وحده، حياة "الإنسانية" يا مَن لم تكن شيئا مذكورا... وصرتَ بأمر خالقك من نطفة أمشاج، مخلوقَه العاقل المكرّم على كل مخلوقاته...مخلوقاته التي سخّرها لك، وهداك السبيل، وجعلك مخيَّرا، وكلّفك وابتلاك ... ! ابتلاك ليوفّيك أجر ما عملت، إن إحسانا فبإحسان، وإن سوءا فبسوء ... في دار هي دار القرار ودار المقام ودار البقاء بعد دار الفناء ... !

إن قضيّة الإيمان والتصديق، والإذعان لله الخالق، والتسليم بأنّ كتابه هو الهدى، ليست قضية مقرّرات وإلزامات  وإملاءات ...بل هي قضيّة اختيار، ونظر، وإعمال للعقل، وإبصار للحق بعين القلب والعقل معا ... !

وإن القرآن ليهدي للتي هي أقوم ... إنك لتراه يفعل ذلك في نفسك، وفي دبيب الحياة فيه، وفي الحكمة التي يحمل، والحق الذي به نزل ولأجله نزل... !
ثم انظر مع كل سورة، ومع كل حياة في رحابها، ومع كل حركة لها فيك، كيف أنّ القرآن هو المشكاة المضيئة على درب الحياة، وحده لا ينازعه في ذلك غيرُه ... !

وإنّي لست أمليها عليك إملاء ... ولكنّني أدعوك أن تعيش معي هذه الحياة .... !
عِش معنا هذه الحياة ... واخلع عنك كلّ إملاء ... وسِرْ وأنت تتملّى عظمته وتفرّده بالإرشاد إلى سواء السبيل ... وأنت ترى روعة بيانه، وإحكام سَبْكه، وتناسق أطرافه، وتكامل صوره ... !

عِش في هذه الرحاب السنيّة وأنت ترى بأمّ عقلك وأمّ قلبك كيف يبيّن لك مواطن العلل، ويُجلي لك سرّ حال الأمّة  من تأخر وضعف وهوان، ويجعل لك في الأنبياء، وفي المؤمنين الأوّلين القدوة والمنارة والهدى الذي تَـحقّق على الأرض حركة وعزّا وعلوّا ونهضة ... !
عش وأنت تتعلم منه كيف أنّ العزة لله جميعا، وكيف أنك في جنبه وفي رحابه تعزّ وتسمو، تحقق السيادة على الأرض بالهدى والنور والعدل، وأنك لا تنال من ذلك شيئا في جنب سواه ... !

وإنني لأجل هذه الحياة مع القرآن، ولأجل هذه الحركة التي يُحدثها في نفسك، وفي مجريات حياتك مِن حولك، دعوتك لهذا العيش الذي تلامس فيه روحُهُ روحَك، فلا تبقى في حدود الحروف، وفي حدود التنادي بثواب الحروف، بل لتخرج من تلك الحدود إلى فضاءات الملامسة والمعايشة، والتناغم بين روحك وروحه ... لتُبَثّ فيك حياة القرآن، فتحيا الحياة التي لأجلها خلقك الله ... !
هلمَّ بنا نكمل دربنا ... خذ المشكاة بيدك ... وهيا إلى الحياة ... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(2)
شهادة وشهادة، وشتّّان بين شهادة وشهادة !


إننا مع سورة جديدة في رحاب هذا الجزء، من بعد ما عرفنا "المجادلة" و "الحشر" و"الممتحَنة" و "الصف" و"الجمعة". جزء مدنيّ، ترفرف عليه أجواء المدينة، أجواء الدولة الإسلامية التي بُنِيتْ على عاتق السابقين الأوّلين من أنصار ومهاجرين، أجواء الانتظام في المجتمع المسلم الناشئ الذي عاش على نبض الوحي، وعلى تربية المعلم الأعظم ﷺ.

عرفنا اشتراك السُّوَر السابقة كلّها في قضية الانتماء للجماعة المؤمنة، والولاء والبراء، عالجتها كلّ سورة منها من زاوية، فكان لها طابعها الخاص، وهداياتها الخاصة...ألقت "المجادلة" بدروس الانتماء، بدءا بشخصية خولة بنت ثعلبة الفارّة إلى رسول الله ﷺ تستسقي الحكم لأخصّ شؤونها مع زوجها استسقاء، وهي لا تجد في قلبها حبّاً أعلى من حبها لله ولرسوله، فكانت القدوة في تحكيم أمر الله تعالى في حياتها، والقدوة في قضية الانتماء للجماعة المؤمنة، لينبثق عن قصّتها حال الموالين من حول رسول الله ﷺ، وحال المحادّين لله ورسوله، فتقرّر السورة في نهاياتها  حقيقة : ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ  أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ  وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ  أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)﴾ [المجادلة:22]

وجاءت بعدها سورة "الحشر "، وهي تجسّد حركة حزب الله وحزب الشيطان، وقد صنفتْهما سورة "المجادلة" قبلها، بيانا لحزب الحق، وحزب الباطل، الكائنَيْن في الأرض في كل زمان وفي كل مكان ومَيْزاً بينهما، وكيف أن الله سبحانه مؤيّدٌ حزبَه، مُذِلّ حزب الشيطان ...

تُبِعت بسورة "الممتحنة" وهي تَعرض لقضية الولاء والبراء، بتحذير المؤمنين من اتخاذ أعداء الله أولياء، انطلاقا من واقع زلّة حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- فكان العلاج الفوريّ لتلك العلّة في الجماعة المؤمنة حاسما في القضية، بالدّعوة إلى التأسّي بإبراهيم عليه السلام الذي تبرّأ من قومه الكفرة، وببيان خطورة موالاة عدوّ الله على وحدة الصف المسلم، مقابل إيواء الله للمؤمنات المهاجرات لله ورسوله، مُختَتَمَةً بميثاق الولاء الذي أخذه رسول الله ﷺ على المؤمنين كما أخذه على المؤمنات .
تبعتها سورتا "الصف" و"الجمعة"، وفيهما الحضّ على وحدة الصفّ المسلم، وتحذيره من سُوس الداخل، من أمراض النفس، وعِلَلها، من أن تتلبس النفس المؤمنة بصفات المنافقين، فجاءت الدعوة للتخلص من الازدواجية بموافقة المخبر للمظهر، وأن يوافق قول المؤمن فعله ...

والسُّوَر مجتمعات فيها التنظيم الرباني للمجتمع المسلم، للجماعة المؤمنة، التي يصنعها الله على عينه، وعلى يد نبيّه ﷺ، امتثالا لأمره فيهم، وهو ليس إلا من أمر الله تعالى.
جماعة تنتظم وهي تحقق الولاء لله ولرسوله، وللمؤمنين، وهي التي تعلن عداوة عدوّ الله، ولو كان ذا قربى أو ذا رحم ...لنبلغ من الجزء سورة جديدة... اسمها "المنافقون"
ولقد جاءت السُّور السابقة على ذكر المنافقين، ويحسُن هنا أن أجمع مواطن ذكرهم على اختلاف طابع كل سورة عن السورة الأخرى ...

1-) في المجادلة: جاء عنهم :
أ-) معصيتهم لرسول الله ﷺ :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ... (8)﴾
ب-) عدم توقيرهم لرسول الله ﷺ : ﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ... (8)﴾
ج-) تجرؤهم على الله : ﴿...وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) ﴾
د-) موالاتهم لأعداء الله وحلفهم على الكذب : ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) ﴾  .  ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) ﴾
هـ-)مآلهم عند الله : ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) ﴾ .  ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) ﴾
و-)اتقاؤهم المؤمنين بالأيمان الكاذبة : ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) ﴾
ي-)استحواذ الشيطان عليهم وهم حزبُه: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) ﴾

2-) في الحشر: جاء عنهم:
أ-) وعودهم الكاذبة ومؤاخاتهم للكافرين :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) ﴾
ب-) بيان الله لكذبهم : ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) ﴾
ج-) حقيقة رهبتهم الناس لا الله :﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) ﴾ .
د-) حقيقة جُُبْنهم :﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ(14)﴾
هـ-)حقيقة ما بينهم من سوء :﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ (14)﴾
و-) حقيقة تفرّّق قلوبهم :﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) ﴾

3-) في الممتحنة جاء عنهم :
تحذير المؤمنين من خطورة إتيان أفعالهم (موالاة أعداء الله) :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾

4-) في الصفّ جاء عنهم :
تحذير المؤمنين من التلبّس بصفاتهم (الازدواجية) :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) ﴾.

وهكذا اجتمعت من السُّور صفات للمنافقين، كما اجتمعت بيانات من الله لدَغَل دواخلهم تجاه المؤمنين، ولدواعي ذلك الدغل فيهم، ولمآلهم عنده سبحانه، ولتقرير الله عنهم أنّهم حزب الشيطان مع الكافرين.

فتمحورت هذه السُّور حول تنظيم الجماعة المؤمنة، وبيان خصوصياتها، وتحديد وجهتها وولائها، موازاةً مع تحذيرها من نَخْر سوس المنافقين فيها من جهة، ومن خطورة تلبّس المؤمنين بصفاتهم من جهة أخرى. لنجدنا بين يدي هذه السورة مع التخصيص والتّحديد، والتأكيد على ذلك بجعل "المنافقون" اسما صريحا للسورة، في مزيد تجلية لحقائقهم، وللتوغّل في شأنهم، من بعد الإشارات التي كانت تتخلّل السّور السابقة من هذا الجزء. ولا بدّ أن لقضية الولاء -المشتركة بين سور هذا الجزء حتى الآن-  علاقة بهذه الفئة الغامضة المستخفية المتظاهرة بالإيمان، وسنتطرق لهذه العلاقة في رحلتنا مع الآيات ....

وقد نزلت هذه السورة في أخصّ شأن هذه الفئة التي كانت بالمدينة المنورة حول رسول الله ﷺ، والتي كانت مستخفية بادئ الأمر، حينما انتقل رسول الله ﷺ وصحابته إلى المدينة وهم بعدُ في طور الفرار بالدين إلى أرض حاضنة، وفي طور تهيئة الأرضية الصلبة للدولة الإسلامية الناشئة، وتنظيم شؤونها، وتأسيس استقلاليتها الماديّة والحيويّة بعيدا عن سيطرة اليهود بسوقهم ومائهم ...
وإثر انتصار بدر، بدأ نجم الدولة الإسلامية في الظهور، وبدأت قوة الدولة الإسلامية في البروز بجيشها الذي بدا مستعدّا لمقارعة جيوش المشركين على كثرتهم، بل والانتصار عليهم، وأمام القوة المتصاعدة للمسلمين، لم يملك الذين يضمرون الحقد عليهم وعلى الإسلام إلا أن   يظهروا  الإيمان والمودّة كذبا وتزلّفا إليهم لخشيتهم قوّتهم...

وهذا دَيْدن أعداء النجاح في كل زمان، منهم مَن يبرز للعداوة وتربّص الدوائر بالناجح المتألّق من خلف ستار المودّة الكاذبة، من خلف الألسنة الليّنة التي تُتّخذ تقيّة وحجابا ساترا لدَغَل في القلوب وكُره وغيرة وحسد ...
والعدوّ الذي يبرز بمظهر العداوة الصريح خير ألف مرّة من عدوّ يُبدي الخير وهو يضمر الشرّ كلّه ... فالأوّل جليٌّ، وجليٌّ أمر الاستعداد له بالعُدّة اللازمة من الاحتراس والتصدّي،  أما الثاني فماكر مخادع، يلبس جلد الحمَل وهو الذئب المفترس ... ! ولذلك جاء القرآن في كثير من السُّور على ذكر أوصافهم، حتى لا ينخدع المؤمنون بذلاقة ألسنتهم، وبكلماتهم المعسولة، بل حتى بأيْمانهم ... !

فلنمـــــــضِ مع الآيات ...
﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) ﴾
خطاب لرسول الله ﷺ في شأن هذه الفئة المحيطة به، يعرّفه سبحانه بأحوالها، فيصفهم وصفا مباشرا بـ : "المنافقون" في تقرير ربانيّ مباشر صريح قويّ،  يكشف الحقائق المستورة عن المؤمنين -والبشر لا يملك النفاذ إلى دواخل البشر-  بسبب استخفاء المنافقين، وإظهارهم خِلاف ما يبطنون .
إنهم يجيئون رسول الله ﷺ، كما يجيئه المؤمنون، ولكنّهم إذ يشتركون في المجيئ، يختلفون في الحال التي يجيئونه بها ... يجيئه المؤمنون بإيمان، بصدق مخبر ومظهر، بقول يصدّق الإيمان الواقر في القلب، بينما يجيئه المنافقون قائلين بقول المؤمنين  : ﴿قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾

ولنتأمل فيما اجتمع في هذه العبارة  : "نشهد"  و  "إنّّك" و  "لـــرسول الله"
لفظ الشهادة، مضافا إليه التأكيد بـ "إنّ" مضافا إليه لام التأكيد... !
وإنّ السامع لعبارة من هذا القبيل لَيتبادر إلى ذهنه سريعا معنى الإقرار بالشيء إقرارا مؤكّدا وموثّقا، يُنبي عن قناعة عميقة عند القائل، وتوثّق مما يقول ...وكثيرا ما تأتي الشهادة بمعنى القسم، كما هو الحال في هذا المقام.

﴿...وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾
وهذه الجملة الاعتراضية الشريفة من الله سبحانه : ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ لها بالغ الأثر في التمييز بين قول المنافقين وبين قول الله تعالى، بين شهادتهم وشهادة الله تعالى، بين كذبهم والحقّ من عند الله تعالى .
لو لم تكن هذه الجملة المعترضة، لكان للشطر الأخير من الآية: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ معنى ملتبسا، قد يوحي فيما يوحي أنّ الله سبحانه يكذّب شهادتهم بأن رسول الله ﷺ رسول الله، فجاءت الجملة المعترضة بيانا وقطعا لتأويلات المتأوّلين، ولإغراض المغرضين، الذين دَيدنهم التصيّد للمتشابه في بحر القرآن الزاخر، فيؤوّلونه وِفق أهوائهم، ويفرّون من ردّه إلى مُحكَمه .
وهذا المقطع من الآية، علامة من علامات دقة القرآن العظيم، وعظمة مصدره الربانيّ الجليل.

يعلم الله سبحانه إنّه لرسوله، بالتأكيد بالحروف المؤكّدة ذاتها ... ولكن ..... :
﴿...وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾
وعلى طريقة المشاكلة، تأتي : " يَشْهَدُ "  كما جاء في قولهم : " نَشْهَدُ "
يشهد سبحانه إنّ المنافقين لكاذبون، شهادة مقابل شهادة، شهدوا بخلاف ما تعتقده قلوبهم، وبخلاف ما تضمر صدورهم تجاه رسول الله ﷺ وتجاه الإسلام، فكانوا كاذبين، ويشهد الله تعالى المطّلع على السرائر بكذبهم فيما قالوا مما يخالف حقيقة قلوبهم، وحقيقة ما يضمرون، لينكشف أمرُهم، ولتستبين سبيلُهم، ولكي لا ينخدع رسول الله ﷺ والمؤمنون بكلماتهم، وهم البشر الموكَلون بالظاهر، وبما تتلفظ به الألسن ...
هكذا علّمنا  الإسلام، أننا موكلون بما نسمع، فمن تلفظ بشهادة الإسلام، لم يكن لنا أن نكذّبه، أو أن نؤوّل شهادته على غير ما سمعنا، لأن السرائر من شأن الله تعالى وحدَه، ولذلك أنزل القرآن يحذّر من المنافقين، في تبصرة وتحذير وكشف لحقائقهم، لما في ضبابيّتهم وغموض أحوالهم من خطورة على الجماعة المؤمنة ...

وتحضرني هنا قصة أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- حينما بعثه رسول الله ﷺ في سَريّة إلى قبيلة جُهينة، فكان أن تعقّب -وأنصاريّ معه- رجلا منهم،  فتلفظ بالشهادة، فكفّ الأنصاريّ عنه، بينما قتله أسامة، فلما بلغ رسولَ الله ﷺ ما كان منه، بادره غاضبا:  {يا أُسَامَةُ، قَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ ! قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّما كانَ مُتَعَوِّذًا (أي قالها اتّقاء الموت) قالَ: أقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قالَ: فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حتَّى تَمَنَّيْتُ أنِّي لَمْ أكُنْ أسْلَمْتُ قَبْلَ ذلكَ اليَومِ. } –صحيح البخاري-
وإنكار رسول الله ﷺ على أسامة فعلته في هذه الحادثة، يبيّن أنّنا لسنا مخوّلين بكشف سرائر الناس، ولا بالجزم بما تضمره قلوبهم، وليس لنا أن نحكم على من يشهد لسانُه بشهادة الإسلام بصدق أو بكذب، لذلك استدعى الأمر مع المنافقين أن ينزل الله في شأنهم إضاءات ربانية تُجلي حقائقهم لرسول الله ﷺ وللمؤمنين من حوله ...فهذه شهادة الله سبحانه على كذبهم .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(3)
حول شبهة : "السُُنّّة غير موثوق بها ما دام بين الصحابة منافقون" !

قد يسأل سائل:  كيف لرسول الله ﷺ أن يميّز بين مؤمن ومنافق، والكلّ يأتيه يشهد بشهادة الإسلام ؟ !
أقول:  إن الأمر لا يؤخَذ بتفرّد الحدث، وتفرّد الخبر بين الأخبار، بل إنّه يُؤخذ بمجمَل ما عُلِّمه رسول الله ﷺ من صفات المنافقين، ومن أعيانهم عبرَ الوحي القرآنيّ من جهة، وعبر الوحي له بأسمائهم التي أودعها حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- وأخذ عليه ألا يبوح بها لأحد.

ولا بأس بالتذكير بشيء مما جاء من أوصافهم في القرآن الكريم، إضافة إلى ما أجملتُ آنفا مما كان عنهم في سُوَر هذا الجزء.

* كانوا يعتذرون عن الخروج مع رسول الله ﷺ إلى الغزوات بأعذار كاذبة وحجج واهية، كانوا يلقونها بين يديه وأيدي المؤمنين، فأنزل الله ينبئ عن كذبهم : ﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ  قُل لَّا تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ  وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) ﴾[التوبة: 94]

* كانوا يكرهون الجهاد، ويشقّ عليهم، فأنزل الله حال وجوههم وهم يسمعون الأمر به: ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 20]

* في غزوة أُحُد انكشف أمرهم، حينما انخزل عبد الله بن أُبَي بن سلول بثلاث مئة رجل عن صفّ المسلمين، وأشاع بينهم الأراجيف أنهم مقبلون على حتفهم بأرجلهم، وذلك في قوله : «والله ما ندري علامَ نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس!» يريد أن يشيع الفشل والتقاعس في الصف المسلم: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا  وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا  قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ  هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ  يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ  وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾[آل عمران: 167]

* كانوا كلما انكشف أمرهم بين المؤمنين من أثر نزول الآيات الكاشفة لحقائقهم، هرعوا إلى رسول الله ﷺ وإلى المؤمنين يدّعون أنهم ما كانوا يعنون ما صدر منهم، بل كانوا مازحين:  ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ  قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ  إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) ﴾[التوبة]

* عرّفه الله بطائفة منهم، بأعيانهم، وهم الذين بنوا مسجد الضّرار، بغاية تفريق المؤمنين، وصدّهم عن مسجد رسول الله ﷺ، وليكون مكان اجتماعهم على عداوة رسول الله والمؤمنين، وليكون تقيّة لهم ولما يكيدون للإسلام، فنزل في شأنهم على رسول الله ﷺ من قبل أن يصلّي لهم فيه كما طلبوا منه : ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ  وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ  وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) ﴾[التوبة]

* جعل الله سبحانه لرسوله ﷺ خصيصة تمييزهم من خلال لَحْن القول، من تعريضهم بالكلام، أو توْرِيتهم، ومن خلال فلتات ألسنتهم: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ  وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ  وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد:30]
بل قد عُرف تململ المؤمنين من أناس بأعينهم، من خلال مواقف لهم، وفلتات كلام لا تصدر عن مؤمن. كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- : «ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه»

* معرفة رسول الله ﷺ وصحابته لعدد منهم، كانوا يتناجون في حضرة المؤمنين، مما كان يُحزنهم ويلقي في أنفسهم الشكوك، حتى نهاهم رسول الله ﷺ عن النجوى، ثم عادوا إليها غير آبهين بنَهْيه، فعرّفه ربّه بهم، وهم العائدون لما نُهوا عنه، الذين كشفهم الله  مع ذكر دخائل أخرى لهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ  حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا  فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) ﴾[المجادلة].

* جاء في فضل صلاة الجماعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : {...وَلقَدْ رَأَيْتُنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلقَدْ كانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى به يُهَادَى بيْنَ الرَّجُلَيْنِ حتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ. }-صحيح مسلم-

* عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: {إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ علَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ... }-صحيح مسلم-

هذا، ومثله كثير في القرآن افتضحت به حقائق المنافقين، ودخائلهم، وأضيئ لرسول الله ﷺ وللمؤمنين المخلصين من حوله في شأنهم، حتى لا يغترّوا بهم، وحتى لا يُفلح مكرهم وكيدهم للإسلام والمسلمين. لقد كانوا أعداء ألدّة، بل كانوا أخطر وأكثر عداوة للمسلمين من غيرهم ... !

وعن فضح القرآن للمنافقين –وخاصة في سورة التوبة- جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: « التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أنها لن تبقي أحداً منهم إلا ذكر فيها».
وقبل أن أنتقل إلى الآية الموالية، أحبّ أن أعرّج على موضوع مهم، يندرج ضمن الشبهات التي تكاثرت في عصرنا، جدّدوا منه ما هو قديم، واختلقوا له صيحات ...

إنه تقوّل المتقوّلين على السنّة كعادتهم، يكثرون الطعن فيها، وفي ناقليها ضربا منهم للدين من خلالها، إذ وقد استعصى عليهم الطعن في القرآن في أوساط الأمة لعلمهم بعلوّ نكير المسلمين على ذلك، عمَدوا إلى السنّة فرمَوها بسهام الطعن والتشكيك، فكان من تقوّلاتهم وافتراءاتهم أنّ الأحاديث النبوية لا يمكن أن تَسْلم وأن يُتيقّن من سلامتها، مع وجود المنافقين بين المؤمنين، وهو ما لا يمنع –حسب ادعاءاتهم- أن تكون لهم أيدٍ في وضعها ونسبتها إلى رسول الله ﷺ . وحَسب هذا المطعن لا تتحقّق للسنّة حجيّة، ولا يبقى لها من دور في الدين !!

وبهذا يكون ضرب الدين، وضرب اعتقاد المؤمن الذي لا يعرف عن دينه غير القشور، ولا يتبناه إلا عنوانا ! ويُعرف هذا –للأسف الشديد-  في أوساط شبابنا اليوم، اللاّهي عن معرفة أساسيات دينه، وكثير منهم جذبتهم تيّارات التشكيك والطعن، وأودَتْ بإيمانهم، وأذهبت ريحَه... !

فيا تُرى أيّ مقام هو لهذا الطعن في الحقيقـــــــة ؟
دعونا نطرق الموضوع من أصله ومن جذوره، ولنــــرَ ...
أولا: إنّ أصل الصحابي في التعريف المصطلح عليه، أنه الذي عرف رسول الله ﷺ وآمن به، ومات على ذلك، فمن لم يكن مؤمنا به، لم يُعدّ صحابيا، ووِفْق هذا التعريف يخرج المنافقون (وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر) بداهةً عن هذه الزمرة.
ثانيا: يُجمع أهل السنّة على أن الصحابة كلهم عُدول(بخلاف ما يفتريه الطاعنون فيهم)، ومعنى عدالتهم أنهم لا يتعمّدون الكذب على رسول الله ﷺ، لما يُعرف عنهم من قوة إيمان وتقوى في أعلى درجاتها، وورع ومروءة، وسموّ أخلاق.
((وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصي، أو من السّهو أو الغلط، فإنّ ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم، ولم يخالف في عدالتهم إلا شُذّاذٌ من المبتدعة وأهل الأهواء، الذين لا يُعتدّ بأقوالهم وآرائهم لعدم استنادها إلى برهان)) -براءة الصحابة من النفاق : منذر الأسعد-

ثالثا: كثير من المنافقين عُرفوا بأعيانهم، من خلال حوادث كانوا يفتضحون فيها، إذ لم يكونوا يجدون مفرّا، فلا تعود تسعفهم ادعاءاتهم، بل ينكشفون، من مثل نكوصهم عن القتال، -كالذي فعله ابن سلول في أُحُد هو وثلاث مئة من أتباعه-  كما كانوا يستأذنون رسول الله ﷺ ليتخلفوا عن الغزو معه، وقد كان هذا الافتضاح جانبا من تحقّق وعد الله تعالى : ﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ  فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ  وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) ﴾. [آل عمران]
إضافة إلى ما كان يعرفهم به رسول الله ﷺ وصحابته من مجمل الإضاءات التي كانت تنزل في شأنهم قرآنا يُتلى، وقد كانت كثيرة، ذكرتُ منها نزرا ...

رابعا: أسرّ رسول الله ﷺ إلى حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- بأسماء المنافقين، وتبيّن أنّ عددهم اثنا عشر منافقا، فقد جاء في صحيح مسلم عن قيس بن عباد -رضي الله عنه- قال: { قُلتُ لِعَمَّارٍ: أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ هذا الذي صَنَعْتُمْ في أَمْرِ عَلِيٍّ، أَرَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ، أَوْ شيئًا عَهِدَهُ إلَيْكُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟ فَقالَ: ما عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ شيئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وَلَكِنْ حُذَيْفَةُ أَخْبَرَنِي عَنِ النبيِّ ﷺ قالَ: قالَ النبيُّ ﷺ: في أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا، فيهم ثَمَانِيَةٌ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ منهمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ وَأَرْبَعَةٌ لَمْ أَحْفَظْ ما قالَ شُعْبَةُ فيهم. }-صحيح مسلم-
وجاء أيضا عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-  أنه قال: {إنَّما كانَ النِّفَاقُ علَى عَهْدِ النبيِّ ﷺ، فأمَّا اليومَ فإنَّما هو الكُفْرُ بَعْدَ الإيمَانِ. }-صحيح البخاري-

 وقد جاء عن منذر الأسعد في كتابه "براءة الصحابة من النفاق" :((وسؤال جوهري آخر: لو كانت أسماء المنافقين ذات صلة بإبلاغ الرسالة، فهل كان النبي ﷺ المرسل رحمة للعالمين، يستأثر حذيفة بها، ويستأمنه أن يكتمها ؟ !  من أجاب بـ : نعم، فقد كفر، لأن النبي ﷺ أدى الأمانة وبلّغ الرسالة، ونصح الأمة ولم يكـتُم من أمر الدين شيئا -حاشاه- . )) .
وجاء عنه أيضا: ((فوظيفة حذيفة أن يفتضح هؤلاء القلّة إذا ما حاولوا إثارة الفتن، أو التصدي لمواقع قيادية، أو ممارسة التحريف في أي شكل من أشكاله. والله أعلم. )).

خامسا: قد يسأل سائل، كيف ينقشع ضباب المنافقين عن الأمة بعد وفاة رسول الله ﷺ، ما سرّ بقاء اثني عشر منافقا فقط ؟ !
نقول: ذلك أن الله تعالى قد فتح لهم باب التوبة، فتاب منهم خلق كثير، وقد أسلفنا عن ذلك في حديث حذيفة الذي قال فيه أن الأمر بعد رسول الله ﷺ صار بين كفر وإيمان، كما روى الأسود بن يزيد عن حلقة من حلقات عبد الله بن مسعود، فيها جماعة من التابعين، دخل عليهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم جميعا  :  {كُنَّا في حَلْقَةِ عبدِ اللَّهِ، فَجَاءَ حُذَيْفَةُ حتَّى قَامَ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ، ثُمَّ قالَ: لقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ علَى قَوْمٍ خَيْرٍ مِنكُمْ، قالَ الأسْوَدُ: سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يقولُ: ﴿إنَّ المُنَافِقِينَ فِي َالدَّرَكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، فَتَبَسَّمَ عبدُ اللَّهِ، وجَلَسَ حُذَيْفَةُ في نَاحِيَةِ المَسْجِدِ، فَقَامَ عبدُ اللَّهِ فَتَفَرَّقَ أصْحَابُهُ، فَرَمَانِي بالحَصَا، فأتَيْتُهُ، فَقالَ حُذَيْفَةُ: عَجِبْتُ مِن ضَحِكِهِ، وقدْ عَرَفَ ما قُلتُ، لقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ علَى قَوْمٍ كَانُوا خَيْرًا مِنكُم ثُمَّ تَابُوا، فَتَابَ اللَّهُ عليهم. } -صحيح البخاري-

وقد أراد حذيفة تحذيرهم من الاغترار  بما هُم عليه من التديّن والتقوى، إذ قد كان النفاق في قوم كانوا خيرا منهم، عنى بهم طبقة الصحابة وهو يحدّث التابعين . ويتبيّن من كلامه كيف أنهم تابوا فتاب الله عليهم.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ  وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) ﴾.[النساء]
كما توعّدهم الله تعالى بفضحهم وبتسليط رسول الله ﷺ عليهم إن لم ينتهوا، وذلك في قوله سبحانه : ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) ﴾ [الأحزاب].

ورسول الله ﷺ لم يسلّط عليهم، ولم يخرجهم من المدينة، وهو مما يعني ضمنيا نزوع كثير منهم إلى التوبة.
بعد ما سلف، كيف يتأتى للمنافقين أن يقحموا أنوفهم في شيء من الوحي بتحريف أو تبديل، أو تكذيب (وأعني هنا السُنّة)، وهي جزء من وحي الله تعالى إلى نبيّه، كما القرآن، إلا أن القرآن موحى من الله بلفظه ومعناه، بينما السنة وحي الله بالمعنى، واللفظ من رسول الله ﷺ .
والله سبحانه تعهّد بحفظ الذكر، أي بحفظ الكتاب والسنة، طرفي الدين الأساسيّين، القرآن منهجا وهدى ودستورا للحياة وتشريعا، والسنّة بيانا للقرآن وتشريعا.

هذا من جهة... من جهة أخرى، كما ذكر منذر الأسعد في كتابه "براءة الصحابة من النفاق" :
((وتستوقفنا ظاهرة قرآنية مهمة تؤيد ما ذهبنا إليه، فلقد تعدّدت الآيات التي تحدثنا عن أخطاء بدرت من الصحابة، وليس من بينها الافتراء على الوحي، بل إن في القرآن معاتبات من الله لخاتم أنبيائه ورسله بسبب اجتهادات منه ﷺ اختار فيها غير الأمثل(مثل اختياره عدم قتل الأسرى المشركين في بدر، وإعراضه عن ابن أم مكتوم لمصلحة رآها هي دعوة بعض من رموز الكفر إلى الإيمان...) فكيف يُعاتَب خير الخلق في مواقف كان اجتهاده فيها بخلاف الأمثل في حقّه ﷺ، مع أنه ليس فيها حكم إلهيّ مسبق، وينجو الذين يكذبون على الوحي؟ -حتى من العتاب !!- تعالى الله عما يقولون)) -براءة الصحابة من النفاق: منذر الأسعد-
كما يذكر في كتابه، عن الإمام أبي زرعة قوله : ((إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق، لأن الرسول ﷺ عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسُّنن أصحاب رسول الله ﷺ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، فهم زنادقة)). -براءة الصحابة من النفاق: منذر الأسعد-

وقد كانت هذه إطلالة مني على بعض ما يُشاع، ويُتقوّل به على الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، متّخذين من التشكيك بعدالتهم مِعْولا من معاولهم التي يضربون بها السنة المطهرة، وهم إذ يضربونها، ويطعنون بنقَلتِها إنما يطعنون في القرآن الذي جاء حاضّا على طاعة رسول الله ﷺ، وأن طاعته من طاعة الله تعالى، وهم بذلك يمهَدون إلى الطعن في القرآن ذاته، وهو مع السنّة الذكر الذي تعهّد الله بحفظه، وما بلغنا القرآن إلا من تسخير الصحابة الكرام لنقله ولحفظه .
لذلك أجدني في كل مرة، في عرض عيْشنا مع الآيات، وكلما كانت المناسبة، أؤكّد على هذا الموضوع الحساس، وعلى هذه الحرب المُشنّة على الدين من خلال محاربة السنة والتشكيك بنقلتها.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(4)
"الولاء والبراء"  و "المنافقون" بدءا من الإشارات المبثوثة عنهم بلوغا إلى التخصيص والتحديد  !

ونعود من تلك النافذة التي فتحنا على السنّة والحرب عليها، إلى جــــــــــوّ السورة...
﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ﴾

وهذه شهادة المنافقين الكاذبين، الذين يكذبون في تقريرهم الإيمان بمحمد ﷺ رسولا، مقابل شهادة الله الحقّ فيهم بأنهم الكاذبون، الذين يقولون غير ما يضمرون، الذين يخالف قولهم فعلهم (وهو ما يذكّرنا بسورة الصف التي جاءت تبعد النفوس المؤمنة عن التلبّس بهذه الصفة التي هي صفة المنافقين، القول المخالف للفعل). والله سبحانه بهذه التجْلِيات، وبتخصيص سورة باسمها ومحتواها عن فئة المنافقين من بعد تلك الإشارات التي كانت عنهم في السور السابقة، يريد مزيد بيان للأحوال التي لا يجب أن يكون عليها المؤمنون، وللصفات التي لا يجب أن يقعوا في شِراكها ... سبحانه يحضّ المؤمنين على الابتعاد عن هذه السّموم التي تخالط النفس، فتُهدِر الإيمان من القلوب.

والآن ... تأتي الآية الموالية تذكر شكلا من أشكال كذبهم الذي شهد الله أنه صفتهم ولازِمتهم:
﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ﴾
إنها آية تؤكّد أنهم ليسوا فقط: "كاذبون"، بل إنهم الذين يحلفون على الكذب ! لا يَـؤدهم أن يُقسموا أيمانا على الكذب، ما قدروا الله حق قدره، وما هابوه، وما وجدوا في صدورهم منه رهبة، ولا رجوا لجلاله وقارا،  فهم الذين اتخذوا الأيمان بالله العظيم جُنّة وسترا، يحلفون بالله ليصدّقهم الرسول ﷺ، وليصدّقهم المؤمنون كلما كشف القرآن شيئا من دسائسهم ومن وسائلهم، ومن طرقهم الخبيثة، ومن صفاتهم الدنيئة، ومن مُضمرات قلوبهم التي يظهرون خلافها ... !

وقد جاء عن حلفهم بالكذب قوله سبحانه :﴿وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ [التوبة:56]  . ﴿يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ... ﴾[التوبة: من الآية74].  ﴿يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾  [التوبة: 62].

وهذا دَيْدَنهم... ومن حلفهم كان المؤمنون يصدّقونهم، لأنهم لم يكونوا يتوقّعون أن يحلف مؤمن بالله على الكذب، وهم لا يملكون أن يطعنوا في إيمانهم، فكان المنافقون يتخذون ذلك سبيلهم للصدّ عن سبيل الله:  ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
إنهم وهم يحلفون على الكذب، وهذه شهادتهم بين يدي رسول الله ﷺ  أنه رسول الله -مخالَفةً لما يضمرونه من كفر به، ومن حقد عليه وعلى الإسلام- إنما هي قَسم ويمين، وهي صورة من صور اتخاذهم الأيمان الكاذبة سترا وتقيّة دون انكشاف حقائقهم، وبهذا -والمؤمنون غير موكَلين بسرائر الناس وحقائق قلوبهم-  يمضون في غيّهم، وفي مكرهم للإسلام والمسلمين، وفي تبييتهم الأذى لهم، وفي موالاتهم لأعداء الله تعالى  ... ولكنّ الله سبحانه كان ينزل على نبيّه ﷺ خبرهم وأوصافهم ليحترس منهم هو وأصحابه، وليتحذّروا، وليكونوا على بيّنة من الكثير من كيدهم .

﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾  لن يغلبوا أمر الله، مهما كادوا، ومهما مكروا، لن يطفؤوا نور الله بأفواههم، كما عرفنا في سورة الصف : ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8)﴾ [الصف]. وهذا الكشف لنواياهم ولكذبهم أكبر بيان على سوء ما يعملون، وعلى خساره وبواره.

وها هنا أقف وقفة، لأعود لما ذكرتُه آنفا عن ملامح علاقة بين الإشارات المتكررة عن المنافقين في رحاب سُوَر هذا الجزء التي عرفنا حتى الآن، وبين قضية الولاء والبراء والانتماء للجماعة المؤمنة التي تشترك فيها كلّ هذه السُّوَرِ ...
ما سرّ هذه الإشارات المبثوثة في السُّوَر، حتى بلوغنا سورة تحمل اسم المنافقين بشكل مباشر، وتحمل شيئا من صفاتهم، بل إنك لو تأملتَ لوجدت أنّها تحمل أخطر صفاتهم، كذبهم، وليس أيّ شكل من أشكال الكذب، بل كذبهم في شأن عقديّ حيويّ دقيق، إنها شهادتهم الكاذبة بأنهم يؤمنون ويصدّقون برسول الله  ﷺ ، ومن ثَمَّ كشف الله لحقيقتهم مع هذه القضية العقديّة الدقيقة، قضية تحدّد إيمان المرء من كفره... 

فكان مما عرضت له تلك الإشارات المبثوثة في السور السابقة، معصيتهم لأمر رسول الله ﷺ، واتخاذه ظِهريّا، وإلقاؤهم التحية عليه بلسان ملتوٍ، فهي الكلمة المتخذة منهم للسلام والتوقير زعما، بينما  حقيقة مرادهم منها سَبّه أو الانتقاص من قدره، أو الدعاء عليه ... من مثل ما عرفنا في سورة المجادلة : ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) ﴾ .

وضمن قضية الولاء المحوريّة في تلك السُّوَر،  كانت الإشارة إلى تولّيهم الكافرين، ثمّ عودتهم للمؤمنين مدّعين أنهم لهم أولياء لا لغيرهم، بأساليبهم في إخفاء حقائقهم، وأهمّها الحلف على الكذب، للمضيّ قُدُما في صدّهم عن سبيل الله وممالأتهم لأعدائه، فجاء في المجادلة  : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) ﴾
هذه الآيات واضحة في خطورة طرقهم، وهم يتولّون أعداء الله ورسوله والمؤمنين، ويتمالؤون معهم ضدّ المسلمين، ثم يتخذون أيمانهم جُنّة دون انقلابهم عليهم، فهم ماضون في مكرهم تظاهرا بالإيمان، وبأنهم الموالون للمؤمنين لا لأعدائهم ...

ثم تمضي السور متتابعة في الإفاضة عن حقائقهم، فنجد في سورة الحشر بيان حقيقة خَوَرهم، وجُبنهم ووعودهم الكاذبة حتى لأوليائهم من الكفار، وسبحانه يصفهم بـ : "إخوانهم" : ﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) ﴾

والله سبحانه يُجلي للمؤمنين حقيقة هوانهم على الله برهبتهم الناس وعدم رهبتهم لله تعالى، حتى لا يفزع المؤمنون منهم، ولا يحسبوا أنّهم ومَن معهم من الكفار على شيء وهم خواء من الإيمان ومن الصلة بالله، وهم حملة لواء محادّة الله ورسوله وحرب الله ورسوله .
ثم تأتي الإشارة في سورة الممتحنة إلى النفاق وخطورته مع قضية الولاء والبراء، انطلاقا من قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، والزلّة التي كانت منه، حينما أرسل إلى كفار قريش يعلمهم بعزم رسول الله ﷺ على غزو مكة، ومع أنّ حاطبا كان بريئا ساعتها من النفاق، بشهادة رسول الله ﷺ  له، وبشهادة الله الضمنيّة له حينما وجّه الأمر للمؤمنين بألا يتخذوا عدوّ الله وعدوّهم أولياء، وكان هو المخاطَب معهم بصفة الإيمان، رغم ذلك كان الحسم من الله سبحانه حتى لا ينتهج المؤمنون هذه الأساليب الملتوية، وأنّ قضية الولاء قضية حاسمة لا وسطية معها، ولا ظروف ولا علّات ... ولا تُستسهل بأي شكل من الأشكال وتحت أي ظرف من الظروف : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) ﴾. [الممتحنة].

وفي سورة الصفّ جاء تحذير المؤمنين من التلبّس بواحدة من أبرز صفاتهم، الازدواجية، القول المخالف للفعل،  وهي الأرضية التي يقوم عليها كيان النفاق، أرضية مخالفة المظهر للمخبر : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) ﴾[الصف]
وبهذه الإشارات نتبيّن وضوح قضية الانتماء وقضية الولاء بالنسبة للمؤمن، كما نتبيّن بالمقابل خطورة المنافقين بما يعتمدونه من أساليب التغمية والادعاء والكذب والتظاهر والحلف على الكذب مع هذه القضية الحيوية الحساسة في الجماعة المؤمنة ...
وتلكُم هي العلاقة،... إظهار الولاء وإضمار العداوة... وَهْــمُ الولاء وحقيقة المحادّة ... ولذلك كثر ذكر المنافقين بالموازاة مع بيان حيوية قضية الولاء والبراء، فجاء الإسهاب عنهم  مع ما جاء من إسهاب عن القضية، حتى يتبيّن المؤمنون ويتعلّموا أنه لا عُذر لمَن كان مؤمنا ووالى أعداء الله ورسوله، إلا أن يكون هو الآخر عدوّا لله ولرسوله، على أن نأخذ بحيثيات الأمر، ويحسن منا التفريق بين الموالاة للعدوّ المقاتل المخرج من الديار والعدوّ المظاهر على الإخراج، وبين البرّ والإقساط لمَن لم يكن هذا نهجه مع المؤمنين (وقد جاءت هذه الشروط والبيانات في سورة الممتحنة).

هذا من جهة، ومن جهة أخرى حتى يحترس المؤمن، ويحرس نفسَه، ويراجع مكانة قضية الولاء والبراء من نفسه، وحتى لا يتلبّس بصفات المنافقين. فأن يطلق المؤمن لنفسه العنان في الكذب، وفي إخلاف الوعود، والقول بما لا يفعل، إنما هو منه التكريس للنفاق في النفس، ولا يبعد أن يكون سبيلا إلى نفاق أعلى، النفاق العقديّ -عياذا بالله- ...ذلك أنّ المظاهر تصبح هي الحَكَم، فلا يعود صاحبها محتكما لأمر الله، حريصا على علاقته بربّه، بل يصبح المحتكم لأمر المظاهر، وكذلك حال المطبّعين مع أعداء الدين وأعداء المسلمين  من وجوه الحُكم في بلاد الإسلام اليوم،  وكذا فئة من غير وجوه الحُكم، من الأذناب المنبهرين بالغرب، المؤيّدين لهذه الخيانات وهذا الخضوع والخنوع، ليس ذلك إلا من عبادة المظهر، فهم لأهل القوة والمادة والسلاح والسلطان تبع، لا لله ولا لدينهم .... !

لذلك نجد مع بلوغنا  سورة "المنافقون" بيان كذبهم في أهمّ قضية، قضية العقيدة، الأساس الذي يقوم عليه الولاء، قضية الإيمان والتصديق برسول الله ﷺ . 
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(5)
احذر أن تأخذ بعقلك  الأجسام والألسنة !  فالحق لا يُعرف بالرجال، بل يُعرف الرجال بالحقّّ !

ونعود لنكمل المسير مع جوّ الآيات من بعد وقفتنا التي كانت ....
﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ﴾
قد عرفنا من جوّ هذه الآية فيما سبق...
وإنك لتتساءل عن سرّ بلوغ المنافقين هذا الحدّ من الاستخفاف بجناب الله تعالى، وسرّ هذا الإصرار منهم على الكفر، مضافا إليه ادّعاء الإيمان كذبا، وفوقه الحلف بالله على الكذب، بل وحلفهم بين يدي رسول الله ﷺ على تصديقهم به رسولا !  وحرصهم على إخفاء حقائقهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ... ! فتسعفك الآية الموالية بالجواب، وبالسبب وبالدافع النفسيّ الذي جعلهم على تلك الحال :
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) ﴾
طُبِع على قلوبهم من عودتهم للكفر المرّة بعد المرة، فهم لا يرعوون، ولا يعودون عن غيّهم، ولا يجدون في اليمين الكاذبة -عادةً وشنشنةً- من نقيصة.

وعندي أن الحديث عن حال إيمان مرّوا بها، انتقلوا منها إلى الكفر:﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا...﴾ إنما هو على سبيل المجاز.  فهم بين إيمان وكفر، لا إيمان على الحقيقة، بل إيمان بأفواههم، إيمان ظاهريّ بحسب ما يصرّحون، وبما يُعرفون به بين الناس، ثم هم الكافرون بعد ذلك إذا خلوا إلى أنفسهم وإلى أوليائهم، وقد جاء ذلك في  قوله سبحانه : ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14) ﴾ [البقرة].

بل إنك لتجد بيانا أكبر لحالهم تلك في قوله تعالى : ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) ﴾[النساء].
ثم لننظر، فإذا هم يتّقون المؤمنين وانكشاف أمرهم بينهم بالأيمان الكاذبة، بينما لا يهابون جناب الله، ويستسهلون الحلف به على الكذب، وهذا مما يصدّقه ما عرفناه في سورة الحشر عنهم، وهو الكشف لحقائقهم والفضح لبواطنهم يُجمع بعضُه إلى بعض : ﴿ لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) ﴾ [الحشر].

وفي الآيتين جاء نعتُهم بأنهم " لَا يَفْقَهُونَ " أي لا يدركون خفايا الأمور وأعماقها، لا يقدّرون حقائق الأمور، فكما أنهم يظهرون الإيمان أمام المؤمنين، ويعتدّون بذلك الكذب والتظاهر والادّعاء منهم، كذلك فكرهم وتصوّرهم، لا يستوعبون إلا ظاهر الأشياء،  أما الحقائق والأعماق، وجوهر الحياة وجوهر معناها،  فغائب عن فكرهم كلّ الغياب، الإيمان وتحقيقه، والهدف منه، والجزاء الذي يُبتغى منه غائب عنهم  كل الغياب !

إذن فلقد جمعت هذه الآيات الثلاث الأولى بين :
أولا: كذبهم، وشهادة الله تعالى على كذبهم في قولهم أنهم يقرّون ويؤمنون بأن محمدا رسول الله.
ثانيا:  البيان أنّ تلك الشهادة الكاذبة على أنفسهم بالإيمان والتصديق، إنما هي صورة من صور تستّرهم  بالأيمان الكاذبة، وهم يجدون للمؤمنين رهبة في صدورهم أكبر من رهبتهم لله سبحانه، وبذلك يمضون في الصدّ عن سبيل الله، والكيد للإسلام والمسلمين.
ثالثا: تلتئم الآيات الثلاث، ويلتئم السياق بتتمة ذكر الدافع النفسيّ الذي يجعلهم على تلك الحال...إنه من تذبذبهم، ومن كفرهم المرة تلو المرة، طُبع على قلوبهم، فلم يعودوا يفقهون للهدف من العبودية للخالق معنى، ولا للهدف من الإيمان من معنى على حقيقته، فهم أهل ظاهر، آمنوا بالظاهر حتى حسبوا أنهم يخدعون الله بتلك المظاهر الإيمانية التي يدّعون، وهو سبحانه خادعهم، يفضحهم في الآيات تنزل على نبيّه تكشف حقائقهم ودواخل أنفسهم ... فتتبيّن مغبّة احتكامهم للمظهر، وكذبهم بالمظهر، واتخاذهم له سبيلا مموّها ومشوّها للحقائق ... !

﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) ﴾
ويزيد سبحانه بذكر صفات لهم، لا يتناسق فيها المظهر مع المخبر، تماما كما هو مقالهم المخالف لحقيقة قلوبهم ...إذ يظهرون إيمانا، ويضمرون كفرا.
هم أولاء إذا رأيتَهم أعجبتك أجسامهم... قوة، وفراهة قامة، وجمال وجه، وإذا قالوا، انجذبتَ لقولهم، وأعجبتَ بذلاقة ألسنتهم، وأحببت ما يقولون ...وكلّه المظهر منهم...

ولكأنّك وأنت تكتفي من الآية بهذا المقطع : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ... ﴾  تسمع مدحا وثناء، تسمع عن الحُسن والجمال، واللياقة واللباقة، والذلاقة، حتى إذا أنهيت مقطعها الأخير، تكشّفت لك الحقيقة... فانظر واستمع :
﴿... كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾

"كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ" . سبحان الله ! أرأيت ذاك الذي أعجبك جسمه، طوله، لياقته، قوّته، جمال وجهه ... ذاك الذي أبهرك بلسانه، فرأيته الفصيح الحصيف، اللبيب، الأريب اللّبق، المتحدث بثقة، لاحتْ لك من لسانه تباشير الحكمة، وأبهرتك كلماته المنمّقة الموزونة، وقلت بعدها إنه ليتحدث كما يتحدث الراسخون في العلم ! لا بدّ أنه من العلماء ! بل لعلّك من انبهارك به جعلتَ تبحث عن جديده، وعن جديده، حتى زاد الانبهار على الانبهار، وصرتَ تراه فلتة زمانه، والعالم المفوّه الذي لا يُقارع ولا يُشقّ له غبار... !
إنه كالخشبة المسنّدة ... خشبة جامدة، ساكنة، جوفاء... !

مظهر لا يحقّقه جوهر... ! كالجسد بلا روح، بلا حركة، جماد ... متيبّس، لا حياة فيه ...حقيقتهم موت وهم يفتقرون لتلك الروح المحيِية، التي تعطي لمظهرهم ولألسنتهم ولأقوالهم حياة ... يفتقرون للإيمان الذي يُدِبّ الحياة في القلوب ....قلوبهم جوفاء، خاوية، ميتة .... !
أقوالهم ادّعاء وكذب لا يصدّقه فعل ... فلا حياة لما يصدر عنهم، لما يظهر منهم .... مجرّد خُشُب، وليست خُشبا وحسب، بل  مسنّدة، لا يُنتفع بها ... !

﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ... ﴾
هي ذي حقيقتهم، يحسبون كل صيحة عليهم، ذلك أن ديدنهم في الكيد للمسلمين وتربّص الدوائر بهم، يجعلهم يتحسّبون أنّ كل مَن عداهم كائد لهم، متربّص بهم، من جنس ما يخططون وما يبتغون يظنون بغيرهم حِيالهم، المكر والكيد فيهم طبع، لا يجعلهم ممن يرى في الناس خيرا وودّا !
خاصة أن القرآن كان يفضحهم، وكانت تبلغهم آياته وهي تعمل عمل المرآة العاكسة لدواخلهم، ولما يضمرون ... فكانوا يعيشون في حالة من الخوف والرعب والاضطراب والاهتزاز النفسيّ الذي هو نتاج سوداوية تغشى نفوسهم، وظلاميّة تكتسح قلوبهم . يعيشون القلق والحيرة جزاء وِفاقا لظنّهم أنهم يخادعون الله وهو سبحانه خادعُهم بهذه المعيشة  الضنك التي يتخبطون في أوحالها !

﴿ ...هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾
تأكيد من الله سبحانه على أنهم أعداء للمسلمين، بل قد جاءت بصيغة التعريف " الْعَدُوُّ " للتأكيد على شدة عداوتهم للمسلمين، فهم العدوّ الأكبر، والعدوّ الحقيقي، الذي يجب الاحتراس منه، والتحذّر منه ... هم العدوّ الذي يلتبس على المسلمين حاله، وهم منهم، وهم بينهم، وهم يظهرون الولاء والمحبة، ويحلفون أيمانا أنهم أهل الإسلام وأهل محبّته وأهل الذّود عنه... ! ولذلك كان للقرآن دوره العظيم في كشف حقائقهم، وإنقاذ المسلمين من شرورهم ...
ويدعو الله عليهم، ودعاء الله عليهم أمره المُحقّق فيهم : ﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾،  لقد استحقوا ذلك، إذ كيف يُصرَفون عن الحق وعن الهدى، كيف يشترون الضلالة بالهدى، ويؤثرون الباطل على الحق، وحالهم هي تلك، من التلوّن والتذبذب والتمايل بين إظهار الإيمان وإبطان الكفر ... !
ويجدر بي في هذا المقام المناسب أن أتحدث عن  أهل الشُّبهات، وتلك اليوم مظاهرهم، وتلك ألسنتهم ! بها سحروا مَن ليس له من علمٍ بدينه إلا أنه المسلم، فما بحث في كنوز علماء الأمة، وما قرأ لهم، وما عرف عنهم إلا ما تقوّله عليهم أهل التمييع والتعالم، بدعوى التجديد في الدين ... !

كم منهم سحروا أعين كثير من  شباب الأمة المفرَغ من علم بأساسيات دينه، الباحث عن الثوب يخيطه له أهل الأهواء بمقاسات هواه، ليصيّر الدين على مقاسه وعلى ما تقتضيه شهواته، وما يقتضيه ابتغاؤه الدنيا بكَلِّها وكَلْكَلِها، بحلالها وحرامها، لا يعنيه من الأمر إلا أن يرضي شهواته، ويلبّي حاجة نفسه التي كلما أكلت ازدادت شرها للمزيد، لا يحبّ حدّا ولا قيدا، ولا قانونا، فالعالم من علماء الأمّة عنده من أهل الكتب الصفراء، ومن أهل القديم، ومن أهل التشدّد، وعندهم أنّ التجديد يقتضي أن نساير كل صيحة، وأن يساير الدين الدنيا، لا أن نكيّف دنيانا بديننا دستورا للحياة لا يعلو عليه دستور ولا قانون ... !
أو ربّما وجدتَه يقول بما يقول باسم "العقلانية" زيفا -والإسلام دين العقل السليم، والبرهان والدليل-  فهو لا يرى غضاضة في خوض العقل حتى فيما هو أصل من الأصول، فلا وجود لأصل مع خوضه، بل إنّ الدين برُمّته قابل للقلب، بحسب ما يرى عقلُه زعما، والحقيقة أنها رؤية هواه.

وهؤلاء المفوّهون اليوم سواء بسبيل الشبهة بسلطة الشهوة، أو الشبهة بعلويّة العقل على الوحي،  كلاهما هوى ...  كلاهما يريد تكييف الدين للهوى، فهم  يقلبون الحقائق، ويطعنون في كبار علماء الأمة، مشهرين سلاحا يحبّه أهل الأهواء وشبابٌ لم يتشرّب من دينه شيئا، فهو بالاسم والعنوان مسلم، لا يتعدّى تلك العتبات، سلاح أنّ أولئك القدامى أهل القديم، وأهل الزمن القديم، وأنه الركود والقعود و الجمود والركون إلى ما لم يعد يُجدي في عالم الطيران بالمادة، وبالعلم ... ! 

حتى أنّ علم الدين ليس ضرورة لنتبيّن معالم الدين، فالسنّة مطعون بها ! والصحابة مطعون بعدالتهم ! وعلماء الأمة مطعون بعلمهم ومعرفتهم ! وحتى بتميّز فهمهم للدين وللقرآن -بحكم امتلاكهم للمعرفة الصحيحة باللغة، وبأدواتها، وبتصاريفها-  والقرآن ليس حِكرا على من علم من اللغة علما عميقا، ولا على من كان راسخا في علم الدين ! بل هو للجميع، لكلٍّ أن يفسّر آياتِه بما يرى، وبما يعتقد، وبما يريد أن يصنع من عجينةٍ قوامُها أخلاط أهواء، وأضغاث أحلام وألوان جديدٍ مُدّعى ... !

إنهم ممّن إذا قالوا سمِعَ مَن سمع لقولهم، وعدّوهم علماءهم الأفذاذ، ضحايا أهل التراث والأصفر والقديم، الذين لا يعترفون بالجديد، فهم لهم محاربون...  "أهل التراث والقديم" –كما يرونهم-  هم الذين لا يريدون دينا بمقاس الحداثة، والعلمانية، والحرية !    لا يريدون دينا لقائل منهم أن يقول فيه بإنكار فرض بين الفروض، أو ركن بين الأركان، ولقائل منهم أن يحلّ حراما،  ولقائل منهم وقائل أن يطعن في السنّة، ويعدّها نقل الرجال، والرجال مطعون فيهم ومطعون !  وبطعنهم في السنّة المشرّفة، استساغوا التشريع بأهوائهم، وتفسير القرآن وأحكامه بأهوائهم، وأساغوه للناس، وهم يصيّرون الدين أهواء مطوّعة للميول والنزعات والرغبات. فهم على منصات التواصل الافتراضية، أعلامٌ بجماهير مصفّقة مهلّلة ممجِّدة ... ! وحقيقتهم خُشُبٌ مسنّدة، لا نفع منها !  بل  يفسدون على الناس دينهم، ويضربون إيمانهم، ويصيّرونه أشلاء متطايرة تلهو بها الأهواء، فحيثما مالت أمالتْها ... !

فيا مَن تقرأ ما أقرأ ... ويا مَن تعيش معي هذه الحياة، ويا مَن تقطع معي هذا الدرب على ضوء مشكاة القرآن ... وعلى ضوء هذه السورة، وهذه الآيات منها،  تعلّم ... واحذَرْ ... فليس اللسان مناط الحكم، ولا المظهر ... !
قد عُرِّفتَ من هذه الآية  وقد رُبّيتَ... فلنعرف عمّن يُؤخذ الدين، ولنفهم الحرب المُشنّة على الدين وأصوله وأحكامه وحدوده وزواجره وروادعه، باسم الحريّة والتحرّر والعصر ومقتضياته ... !

ويزيد سبحانه في بيان خسار المنافقين وبوارهم، بمزيد تعداد لصفاتهم :
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) ﴾
أما هذه فواحدة من حقائق أحوالهم مع رسول الله ﷺ...
جاء في صدر السورة كشف كذبهم بين يديه وهم يدّعون التصديق به، وموالاته، وفي هذه الآية حقيقة مقامه عندهم، وشتّان بين مقام ومقام ! مقام المصدّق المؤمن، الموالي، ومقام الذي لا يأبَه له ولا لأمره، ولقول من يدعوه أن يستغفر له رسول الله ﷺ.
وهما تانِكَ الحالتان اللتان يتأرجح المنافقون بينهما، ففي ساعة مخالطة المؤمنين، هم المؤمنون الموالون المحبّون،  وفي ساعة الاختلاء بالنفس وبأهل الطبع هم العدوّ ... !

ولكن لننتبــــــه ... !
إنّ الذين يدعونهم ليستغفر لهم رسول الله ﷺ، هم جماعة من المؤمنين، فهي ذي فلتات من دواخلهم تطفو على السطح، هي ذي كواشف عن أنفسهم من أنفسهم، هي ذي صفات لهم كاشفة منهم لا من غيرهم !
وبهذا،  نفهم أن للمنافقين فلتات من اللسان ومن الحركات، كانت فاضحة لهم عند المؤمنين، فهل يُعقل وهل يُتصَوَّر أن يلوي مؤمن رأسه وهو يُدعى إلى رسول الله ﷺ ؟ !
هل تظنّ مؤمنا يدعو أحدهم إلى أن يستغفر له رسول الله ﷺ، ويراه وقد لوى رأسه، وصدّ واستكبر، ثم يمضي وهو لا يفهم من حركاته شيئا ؟ !

خدعتهم أنفسهم وقد استأمنوها على كذبهم ... ! شهدت عليهم رؤوسهم، ونظراتهم، وألسنتهم ... !
ويكأنّهم قد سُلّطت عليهم جوارحهم، وهم يستميتون في المكر والتخفّي والتوقّي، وإظهار خلاف حقائقهم ... ! لكأني بقوله تعالى : ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ...﴾[النساء: من الآية142 ] محقّقة فيهم، بهذا الانفلات من عقال التخفّي إلى فضاء الانكشاف، من حيث ظنوا أنهم الذين أحكموا خططهم، وأبرموا مع أنفسهم الأمر إبراما وثيقا ... !
أفرأيت الفرق بين فعلهم المذكور في الآية الأولى، وبين فعلهم في هذه الآية  ؟ !  إنه الفرق بين الادّعاء على ألسنتهم، والحقيقة التي تسكن قلوبهم ... ! إنه الفرق بين الوهم والحقيقة  فيهم ... !

إنه بيانٌ لمِحور سورة "الصفّ"، لِما نهى الله المؤمنين أن يتلبّسوا به من صفات المنافقين، أنكر عليهم أن يقولوا ما لا يفعلون... إنه علامة من علاماتهم، وهم  بقول بين يدي رسول الله ﷺ، بينما هي ذي حقيقتهم حِياله... ! يلوون رؤوسهم، ويصدّون، ويستكبرون .... !
أما أنت وأنا ... فلنحذر من أن نستهين بأمر رسول الله ﷺ فينا ... !
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) ﴾
وهذا أمر الله فيهم محقّق، وقد عرفنا قبلها قوله سبحانه فيهم : ﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
هذه عاقبة انصرافهم عن هدى الله تعالى، وعاقبة كذبهم وادعائهم الإيمان، ومكرهم، وصدّهم واستكبارهم، وما يريدون بالإسلام والمسلمين، باؤوا بالخسار والبوار والتّبار، حتى وإن استغفر لهم رسول الله ﷺ -وقد كان يفعل رفقا بهم وحبا في اهتدائهم-  : ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ  ﴾

سبحانه، يعلم حقائقهم، ودغل أنفسهم، والشوب الذي يملأ قلوبهم، والظلام الذي يغشى  صدورهم، يعلم فسوقهم، وانصرافهم عن الهدى، وتولّيهم عنه، وإن بدا منهم كلّ ادّعاء، وإن أقسموا أيمانا على أنهم المؤمنون، وإن شهدوا أنهم المصدّقون برسول الله ﷺ. سبحانه وتعالى يعلم كذب الكاذب وصدق الصادق ... !

لن يغفر الله لهم ... ويا ما أكبرها من طامّة ! 
وقد رُويت في نزول هاتين الآيتين روايات، من أهمها تلك التي نقلتْ موقف عبد الله بن  أُبَي بن سلول رأس النفاق والمنافقين، وهو في غزوة أُحُد، حينما انخزل بثلاث مئة من أصحابه عن رسول الله ﷺ وعن المؤمنين، فدعاه أحد المؤمنين قائلا: أَتخذُلونَنَا وتُسلِمُونَنَا لِعَدَوِّنَا ؟ فأجابه بقوله: «ما نَرَى أن يكونَ قِتالًا ، لَو نَرَى أن يكونَ قِتالًا لاتَّبعْنَاكُمْ» !
فانظر كيف كشفه تصرّفه، وكشفه لسانه  ... ! وكُشف ثلاثمئة ممّن معه، بل ونزل فيهم بعدها قرآن يُتلى يزيد في تأكيد حقيقتهم : ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا  وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا  قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ  هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ  يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ  وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) ﴾[آل عمران].

فلما اجتمع رسول الله  ﷺ بالمسلمين في المسجد مرجِعهم من أحد، قام ابن أبي كعادته فقال: « أيها الناس، هذا رسول الله ﷺ أكرمكم الله به.. » .فأخذ بعض المسلمين بثيابه من نواحيه وقالوا له : «اجلس يا عدو الله، لست لهذا المقام بأهل، وقد صنعت ما صنعت». فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول:  «والله لكأنما قلت بَجْرًا ( أي أمرا منكرا ) أن قمت أشدّد أمره » فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد، فقالوا له : ويلك، مالك؟.. ارجع  يستغفر لك رسول الله ﷺ، فجعل يلوي رأسه ويحركه استهزاء...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(6)
احذر  أن يصير المظهر والظاهر إلهَك !  احذر أن تصير ممن لا يفقهون ولا يعلمون ! ثمّ هاكَ سرّّ العزّة !

ومازال سبحانه يكشف من حقائقهم...
﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) ﴾
"هُمُ"... هم أنفسهم، أولئك الذين شهدوا كذبا أنهم مصدّقون برسول الله ﷺ، وهم الذين يحلفون أيمانا على الكذب، ويصدّون عن سبيل الله، وهم الذين آمنوا ثم كفروا، فطبع الله على قلوبهم، فهم لا يفقهون...هم الذين إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم، كالخُشب المسنّدة بلا حياة وبلا نفع...هم الذين يعيشون حياة الاضطراب والخوف والهلع والترقّب، من سوداوية في صدورهم، وظلامية في قلوبهم ...إنهم هم أنفسهم الذين يقولون : ﴿ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾

ولهذه الآية أيضا سبب نزلت لأجله، إذ كان الله سبحانه يكشف لنبيّه وللمؤمنين من أحوال المنافقين ومن حقائقهم، كما كان يكشف المراد من كلماتهم المغلّفة بالخير، كلمات منهم، كانوا يلقونها زعما منهم أنها النصح وإرادة الخير لجماعة المسلمين ... !
وقد كان ذلك في غزوة بني المصطلق، وكان قائلها رأس المنافقين عبد الله بن أبي، وجيئ بصيغة الجمع هنا، لموافقة جماعة المنافقين لما صدر عنه، كان يبتغي من وراء كلماته إضعاف صفّ المسلمين، بإرادته تفرّق الأعراب وفقراء المسلمين -من مثل أهل الصفّة- عن رسول الله ﷺ، وهم الذين كان رسول الله ﷺ يقوم على حاجتهم، يبثّ في الصفّ المسلم روح الأخوّة والتعاون والتلاحم،  فلا يُترك فقير لفقره، بل الكلّ إخوة يشدّ بعضهم بعضا، ويؤازر بعضهم بعضا...

والمنافقون يُعرَفون بكُرههم الإنفاق في سبيل الله، فكانت قولة ابن سلول مما أجمعوا عليه،  إذ تخلّصهم من تكلّف الإنفاق تظاهرا منهم بالامتثال لأوامر الدين، مدّعين أنها النصيحة، وأنه مما يخفّف حِملا على رسول الله ﷺ.
يروي زيد بن أرقم رضي الله عنه في قصة نزول هذه الآيات : { كُنْتُ مع عَمِّي، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ يقولُ: لا تُنْفِقُوا علَى مَن عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ حتَّى يَنْفَضُّوا، وقالَ أيضًا: لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذلكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأرْسَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى عبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ وأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا ما قالوا، فَصَدَّقَهُمْ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكَذَّبَنِي، فأصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ في بَيْتِي، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} إلى قَوْلِهِ {هُمُ الَّذِينَ يقولونَ: لا تُنْفِقُوا علَى مَن عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ} إلى قَوْلِهِ {لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ} فأرْسَلَ إلَيَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ صَدَّقَكَ. } –صحيح البخاري-

إنه هواهم، وكُرهم الامتثال لأوامر الإسلام، والائتمار بأمر رسول الله ﷺ، والاقتداء بفعله، تلك حقيقتهم ... وذلك خبثهم، وعَوار فكرهم، وقصر نظرهم...وحدودهم المظهر، لا شيء غير المظهر... !
ولقد عرفنا في رحاب هذه السورة كيف أنّ المنافقين قوم محتكمون للمظاهر، محدودو النظر، لا يحْدوهم الهدف الحقيقي من الوجود للتناغم مع الكون، ومع الحياة، لا تحدوهم الغاية السامية من الدنيا ومن العيش فيها،  إلى ما وراءها ... فيردّ سبحانه بقوله :
﴿ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ  ﴾

هذه هي الحقيقة التي غُمّيت على المنافقين، على أهل المظهر،  والاحتكام للمظهر، فالإنفاق على الغير عندهم لا يعنيهم في شيء، لا يقدّرون الإله الرزّاق حقّ قدره، يحرسون المال حراسة الشحيح البخيل الذي يرى أنه قد أوتيه على علم عنده، ولا يراه هبة الله ومنحته، وعطاءه، يخشى ذهاب شيء منه،  لا يعرف سؤال الرزاق، والأمل في عطائه وفضله، سبحانه الذي يعطي منفقا خلفا، لا يعرف له سبحانه حقّ قدره، لا يفهم أنه الغنيّ الذي يعطي كل عباده، ويرزق كل مخلوقاته، خزائن السماوات والأرض بيده سبحانه ينفق كيف يشاء . ﴿ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾... لا يفقهون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وتلك حدودهم ... وتلك حدود كلّ بعيد عن الإيمان بالله العظيم الرزّاق الكريم، الذي يدبّر الأمر سبحانه  مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ.
لا يفقهون أن هؤلاء الذين ينفق عليهم رسول الله ﷺ، وينفق عليهم المؤمنون، إنما رزقهم على الله، وإنما رسول الله ﷺ والمؤمنون معه سبب لبلوغ هذا الرزق إليهم ...

وإنه لدرسٌ لنا جميعا، مع هذه الآيات البينات، حتى لا تأخذنا الدنيا، وحتى لا تعمينا زينتها عن الحقائق التي لا تُسفر بمظهر، بل تتجسّد في عقيدة وإيمان، وفهم لمعنى علاقة الإنسان بالكون وبما حوله، وفهم لمعنى وجوده والغاية من وجوده في هذه الحياة...  حتى لا تأخذنا الدنيا بمظهرها، وببهرجها، ولا يأخذنا حبّ المادة وحبّ الخير ، عن اليقين في أنّ الله تعالى هو الرزاق سبحانه، فما ينقص مال من صدقة، وما ينقص مما يُبتَغى به وجه الله، وما ينقص مال من إعطاء فقير، أو إعانة محتاج ... !
حتى لا تكون المظاهر حدودنا، حتى لا تحدّنا الدنيا القصيرة، القاصرة -بكل ما يبدو عليها من علوّ وزهوّ وزينة وبهرج-  عن الجزاء ... لم تُجعل دارا للجزاء، بل جعلت دارا للابتلاء ... بكل زينتها هي ابتلاء وامتحان ... أيغرق الإنسان في لجّها ويركن إلى قعرها أم   ينجو بنفسه، ويسمو عليها، ويرنو إلى الباقية بعد فنائها، وإلى جزاء الباقية .... !
درس لنا حتى لا تغرّنا المظاهر، وحتى لا تجتاح أنفسَنا سَموم المادة ... !

﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) ﴾
إنهم "هُم"  أنفسهم مازالوا يقولون بعد .... !
 بعد فراغ المسلمين من غزوة بني المصطلق، وهم مقيمون على المُريسيع(مكان به ماء)، كان مع  عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجيرٌ له يقال له جَهْجَاه الغفاري، ازدحم هو وسنان بن وبر الجُهني على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني(وهو أنصاريّ): يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه(وهو مهاجريّ): يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله ﷺ: {أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة}
وبلغ ذلك عبدَ الله بن أبي بن سلول، وهو مَن هو في حقده على رسول الله ﷺ وعلى المسلمين، وقد عُرف نفاقه وكُرهه للإسلام وضغنه عليه في مواقف عديدة منذ دخل رسول الله ﷺ المدينة، وهو قاب قوسين أو أدنى من أن يُتَوّجه قومُه الخزرج ملكاً عليهم، فرأى في رسول الله ﷺ مَن سلَبَه مُلكَه.. فهو مايزال من ساعتها حاقدا عليه، يتفنّن في نفاقه والتوائه كما لا تتلوّن الحِرباء... !
بلغه ما حصل بين المهاجريّ والأنصاريّ، فكان كمن وجد فتيلا يُشعل به لهيبا، وكان معه رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، وكان غلاما، فقال: « أوقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهُم إلا كما قال الأول: سمِّن كلبَكَ يأكلك، أما والله لئن رجعنا المدينة ليُخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ »، ثم أقبل على من حضره، فقال: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم . »

.فأخبر زيد بن أرقم عمّه بما سمع، فذهب عمّه بها إلى رسول الله ﷺ ، وعنده عمر بن الخطاب، فقام عمر فقال: مُرْ عبّاد بن بِشر فليقتله، فقال ﷺ: {فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، ولكن أذِّن بالرحيل}، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله ﷺ يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أُسَيد بن حُضير، فحيّاه وقال: لقد رحتَ في ساعة منكرة؟ فقال ﷺ: {أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟} -يريد ابن أبيّ- فقال: وما قال؟ قال: {زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليُخرجنّ الأعز منها الأذل.} قال أسيد: «فأنت يا رسول الله تُخرجه، هو والله الذليل، وأنت العزيز» ثم قال: «يا رسول الله ارفُق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه يرى أنك استلبتَه ملكَه . »

وقد جاء في صحيح البخاري، ما كان بشأن زيد بن أرقم، وتكذيب مقالته، من بعد ما حلف ابن أبي لرسول الله ﷺ أنه ما قالها : { كُنْتُ مع عَمِّي، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ يقولُ: لا تُنْفِقُوا علَى مَن عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ حتَّى يَنْفَضُّوا، وقالَ أيضًا: لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذلكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأرْسَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى عبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ وأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا ما قالوا، فَصَدَّقَهُمْ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكَذَّبَنِي، فأصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ في بَيْتِي، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} إلى قَوْلِهِ {هُمُ الَّذِينَ يقولونَ: لا تُنْفِقُوا علَى مَن عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ} إلى قَوْلِهِ {لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ} فأرْسَلَ إلَيَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ صَدَّقَكَ. } –صحيح البخاري-
ولما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، كان مُراده أن يشغلهم عن حديث الفتنة ذاك، فمشى بهم يومهم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، حتى وقعوا نِياما.
وكان عبد الله بن عبد الله بن أُبَي رضي الله عنه، لما بلغه ما كان من أمر أبيه، وعاد المسلمون إلى المدينة بعد غياب ثمانية وعشرين يوما عنها، وقف لأبيه على باب المدينة ، فلما رآه أناخ به وقال: «والله ما تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل» فلما جاء النبي ﷺ أذن له، وقال: {دعْه، فلَعَمْري لنحسننّ صحبته ما دام بين أظهرنا} فخلّى سبيله... كما يُروى أن عبد الله شَهَر السيف بوجه والده وقال: «لله عليّ ألا أُغمدَه حتى تقول محمد الأعزّ وأنا الأذل». فقال ابن أبي: «ويْلك! محمد الأعز وأنا الأذل»، فبلغت رسولَ الله ﷺ ، فأعجبته، وشكرها له.

ويُروى أنه كان إذا أحدث بعدها ابن أُبَي الحدث، قام قومُه وعنّفوه، وعاتبوه، فكان في امتناع رسول الله ﷺ عن قتله كما أحبّ عمر كل الحكمة والأناة .
وفي هذا نزلت الآية، في  هذا الحقد الذي تنصدع عنه ألسنتهم، فتكشفهم أنفسهم التي حسبوها مستقرّ حقائقهم ومستودعها، حتى إذا فاضت بالحقد،  نطقت ألسنتهم بتلك الحقائق وأخرِجت من مستودعها الذي لم يكن المأمن والقرار المكين كما حسبوا، وليس ذلك إلا من إرادة الله تعالى كشفهم وفضحهم، وهم هُم المستخفون، المدّعون، المبطنون، هم أنفسهم الكاشفون ... !
﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) ﴾
ولله العزّة، ولرسوله وللمؤمنين ...

إنهم هم الأعزّة يا معشر المنافقين ... شئتم أم أبيتم ! إنهم حزب الله، القويّ بالله، الآوي إلى الله، المعتزّ بالله، المستنصر لله، المستعين بالله ...  فهل تكون العزّة لسواه ؟ وهل تكون لسوى حزبِه وأهله ؟ ! العزّة لله العزيز سبحانه، ولأهله وحزبه ... ولكنّ المنافقين لا يعلمون !
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ... فالأعزّة عندهم مَن كانوا أهل الديار، والأذلّة من أووا إلى تلك الديار... ! العزيز عندهم  ابن المدينة، والذليل عندهم من أخرِج من داره، فأوى إلى دار غيره ...
المظاهر.... الظاهر ... !

ذلك قوام المنافقين، وقوام كلّ مَن لا يسمو به الإيمان بالله إلى المدارك العليا، إلى المعاني السامقة، إلى تشرّب معنى رحِمِ العقيدة .... والأخوة في العقيدة، والتخندق في خندقها، إخوة متحابين مجتمعين، متناصرين ...أعزّة بالله... ليس بينهم أصيل ودخيل، كلّهم أبوهم الإيمان، ونسبهم الإيمان، ورحمهم أهل الإيمان والعقيدة الواحدة والملّة الواحدة ... !
 
بل لقد تنوّرت المدينة بدخول رسول الله ﷺ إليها، ولقد عزّ أهلها بمقدمه عليهم... فهم الصفّ الواحد خلف القائد الواحد، حاديهم على درب الإيمان والتقوى ...فلله العزّة ولرسوله وللمؤمنين .... !
وعزّة المؤمن في كلّ زمان، لا تتحقّق له إلا في كنف دينه، إلا وهو المعتزّ به وبإيمانه، وهو يجعل أمر الله فيه فوق كل أمر، وأن يجعله مرجعيته في كل حركة من حركات حياته، لا يساير، ولا يداهن، ولا يرضى الدنيّة فيه، وقد تكالب الأعداء عليه من كل حدب وصوب، أعداء الداخل وأعداء الخارج، والمنافقون المتلوّنون من بني الأمة، الذين يأخذون من الإسلام عنوانه، بينما هم أولياء أعدائه، وأعداء أوليائه ... !

اعتزاز المؤمن بدينه... ذلك ما يبقيه مرفوع الرأس، وإن تحالف ضدّه قريب وبعيد، لا يساوم لإرضاء أهل القوة والمال والسلطان، لا يبيع دينَه لقاء فُتات الدنيا،  لا يوالي العدوّ ليرضى...! لا يبيع قضايا الدين ... لا يساير من ينعت الإسلام بالرجعيّة والتخلّف والتزمّت والكبت، ويدعو للتحرر من كل قيد باسم الحرية الفردية، وحرية الفكر، وحرية الاعتقاد في بلاد ما زالوا يسمونها بلاد الإسلام ... ! وأدعياء الحرية فيها، وأذناب الغرب، يتجيشون، ويتخندقون لدعوات تمييع الدين، بألسنة دعاة هذا العصر... ! أدعياء التجديد، الذين يريدون  نقض عُرى الدين عروة إثر عروة ... ! دين ثقل عليهم أن يُستمسك به، وبتعاليمه، وأسيادهم لا يرتضونه، ويرومون إذهاب ريحه، بإبعاد أهله عنه في حركة الحياة وفعلها، وإن بقي المظهر أنهم أهله ... !

إن  المسلمين اليوم يفتقرون لذلك الاعتزاز الذي هو اعتزاز بالله العظيم، وبدينه الذي ارتضى لعباده... يفتقرون لرفع الرأس عاليا به وبنوره، وإن قضى الواقع بتخلّفهم عن ركب العلوم والتكنولوجيا، وأدوات القوة المادية ... ! فذلك ليس داعيا ولا دافعا لدنيّة تُرتضى في  الدين، ولا لهزيمة نفسية تشعر المسلم بالذلّة وكأنّ علّته في دينه ... ! يرفعون شعارات التحرّر من الدين، وهم محاطون بهالات التقدّم الماديّ، فيضطرب المسلم المتأخر عنهم، ويتململ، وتحيك فيه دعواتهم، وهو يراهم أهل قوة وسلطان وكلمة مسموعة نافذة ... !
وأقبـــلْ  ...أقبِل، ونحن على هذا الدّرب، وعلى ضوء مشكاتنا  نتبيّن الداء، ونتبيّن الدواء، أقبِلْ إلى نافذة نفتحها على "السابقين الأوّلين"  وعلى مَن تبع خطاهم وما رأى فيها رجعيّة ولا تخلّفا !
أولئك الذين أخرِجوا من ديارهم وأموالهم، وهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، فسمّاهم الله "الصادقين"، وهم لا يرون مالهم ولا ديارهم، ولا ما كانوا يملكون،  شيئا إلى دينهم، ونبيّهم  وكلمة الله التي تركوا لأجلها كلّ نفيس... !
وأولئك الذين تبؤوا الإيمان دارا وقرارا مع دارهم، وأحبّوا مَن هاجر إليهم، ولم يجدوا في صدورهم حاجة مما أوتوا، بل كانوا يؤثرونهم ويقدّمونهم على أنفسهم في العطايا، ووُقوا شحّ أنفسهم فسماهم الله "المفلحين"... !

واجتمع الصادقون والمفلحون،  وآخى بينهم الإسلام، فكانوا بالله أعزّة... ! وعلى أيديهم أشرقت الأرض بنور ربّها،  وأعلوا عليها كلمته، وفتحوها للإسلام، ودانت لهم الأمم، فكانوا القادة والسادة المطاعين، أحلّوا العدل مكان الجَور الذي عمّ  الأرض من لهث اللاهثين خلف الاستبداد  وظلم الشعوب، واستضعافها واضطهادها،  ونهب خيراتها، فجاؤوا هُم،  فأنصفوا المظلوم وأخذوا له من الظالم حقّه، دون نظر في دين أو عرق أو مكانة...وأحلّوا الهدى مكان الضلال الذي غشّى الأرض، وأعادوا للإنسان إنسانيته وهو العزيز بربّه لا يذلّ لغيره... وهو بين يديه وحده عبد ... !

فأين ما رأيته يا ابن أُبَي من أنّ أهل الدار هم الأعزة، وأن من هاجر إليهم  الأذلّة ؟ ! أين كلماتك اللئيمة، ورحم الإيمان الولادة قد جمعت الأنصار والمهاجرين رجالا من أعظم ما عرفت الأرض عبر أزمنة الوجود ... !
أين كلماتك يا "ابنَ أُبَي" زمانك ويا "ابن أُبَي" كلّ زمان ...وأنت تعني بنعتك "الأذلة" عزيزَ الدنيا والآخرة، حبيب ربّه الذي عزّ المؤمنون به...لم يرَوا العزّة في غير جنب الله،  وفي غير اتباع نبيّه ﷺ فأعزّهم الله ...
ويا ابنَ أبيّ ذلك الزمان، ويا ابن أُبي كلّ زمان ...حسبنا فهما لدوافع مقالكم وفِعالكم، ما أعلمنا عنكم ربّكم : ﴿...وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾  ﴿...وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
ومتى ما عاد المسلمون لتقدير دينهم حقّ قدره وعدّه الروح والأنفاس، ومعنى الحياة التي يحيون، عاد به عزّهم ... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
(7)
بخلاف المنافق ... أنت أيها المؤمن أهلٌ للنظر البعيد ... إلى ما وراء حدود الفانية !

ونمضي مع هذه السورة الكاشفة ... ونمضي مع آياتها البينات المبينات في شأن المنافقين، لنقع الآن على قطاع يضمّ الآيات الثلاث الأخيرة منها، من بعد ما عرفنا من صفات المنافقين وأحوالهم المضطربة، وحقائق دواخلهم التي كشفها الله لرسوله ﷺ وللمؤمنين معه ...
لنتساءل ونحن نسقط من مشكاة القرآن على درب حياتنا ...ونحن نستضيئ لحياتنا بمشكاة آياته: ...هل نحن مخوّلون بمعرفة المنافقين من خلال هذه الصفات، وهذه الكلمات الكاشفة لمكنونات الصدور ؟ !

هل لنا أن نأخذ من هذا الذي عرّفه الله من صفاتهم، لننعت به فلانا أو علانا من الناس ؟ أهذا واحد من أدوار هذه الآيات، وهذه العلامات المبسوطة لنا في هذه السورة وغيرها من السُّور التي جاءت على ذكر أوصاف المنافقين وعلاماتهم، وأحوالهم وحقائقهم ؟
أقول : لا ....  ليس لواحد منّا أن يأخذ من هذه الآيات علامات يسترشد بها ليلج دواخل الناس، ويكشف النّقاب عن حقائق قلوبهم، فينعت هذا أو ذاك بالمنافق ! ليس هذا لأحد منا، وإنما ذلك لله وحده، ولو تُرك أمر الناس للناس لجار بعضهم على بعض، القلوب شأن الله وحده، وحقائقها شأنه وحده ... وإنما دور هذه الآيات فينا أن نحرس أنفسنا، وأن نسبُر غورها، وألا نأمنها، وأن نخشى عليها غوائل الأهواء، وصروف الفكر المنحرف، والاعتداد بالعقل حدّ الاغترار، وأن نراقبها عند القول وعند الفعل، أتُرى يساوي القول فينا الفعل، أتُرانا نقول ما نفعل ؟ نراقب أنفسنا حتى لا نقع في فخّ الازدواجية، وفخّ المظاهر المُهلك، فنكون بمقال بين الناس لا يوافقه الفعل... !

فإنّك إذا وقعتَ فيه، صرت معتدّا به وحده، محتكما له... ! معيار الناس عندك مظاهرهم، فبالقدر الذي ترى من مظهر أحدهم بقدر ما تقيّمه، تغرق في الدنيا فيصبح مظهرها مبلغ علمك... وتغفل عما وراءها، وعن الغاية من وجودك فيها لساعة، لتُؤخَذ بعدها إلى  حيث النتيجة ... !
ولهذا نجد هذه الآيات الأخيرة موجّهة للمؤمنين، والله سبحانه يعلّمنا بسياق آيات السورة مجتمعة في شأن المنافقين، إلى سياق هذه الأخيرة في شأننا أنّ علينا أن نكون بحال غير حالهم ... فلنشنّف الآذان لتربية الربّ العظيم :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) ﴾

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) ﴾
أوليست هي مظاهر الدنيا، وأمواجها العاتية، ولُجّها المغرِق ؟؟  أليست الأموال والأولاد أهم مظاهرها، وأهم زينتها، وأبرز دواعي حبّها ؟
الأموال مباحة، والعيال زينة وفرحة وفخر وسند ... وليسا محرَّمَيْن، ولكن الفارق في القضية هو "الإلهاء" ... ! فاحذروا أن تلهيكم، أن تشغلكم عما هو أولى وأهمّ، أن تأخذ كل أوقاتكم، أن تأخذ كل حياتكم ....
﴿لَا تُلْهِكُمْ﴾...  لا يأخذنّكم السّعي خلف الأموال وتكديسها وتكثيرها، عن ذكر الله، عن ذكر يوم لقائه، عن ذكر دورك في هذه الحياة، وعن اجتياز امتحانك في هذه الدنيا بنجابة، عن ذكر الغاية التي لأجلها خلقك... !

ولقد زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة  : ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ... ﴾ [آل عمران: 14]. ولا تثريب على الإنسان إذ تُزيَّن له هذه الشهوات، ولا تثريب عليه إذ يتمنّاها ... ولكنّ الأمر عند المؤمن ميزان، وموازنة... قضية المؤمن ونظر المؤمن أبعد من حدود هذه الشهوات، ومن حدود دارها...  لا يقف الأمر معه عند الدنيا وحدودها، بل نظره أبعد، وفكره أوسع، وغايته أسمى، ومراده من وجوده أهمّ وأعلى قيمة ووزنا ....

لذلك فأنت إذا أتممت الآية وجدت الله يعرّفك بالقيمة الحقيقية لتلك الشهوات : ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ هذه حقيقتها، متاع الحياة الدنيا، الأشكال التي تتخذها الدنيا، زينتها، مظهرها...ولكن ... الأوسع والأهمّ، والأبعد والأحسن والأعلى هو ما يعلمك به ربّك: ﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾. وهو  النعيم الذي خبأه لك عنده : ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ  لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ  وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) ﴾[آل عمران: 15]

فإنما الدنيا مثلها كمثل مبنى،  أُخبرتَ أنّ عليك أن تمشي فيه وأنت ترنو لمنتهاه حيث كلّ الجمال وكل الخير وغاية الراحة ومنتهى النعيم، وأن تنتبه إلى أنّ لك وقتا محدّدا يجب أن تستغلّه أحسن استغلال حتى تبلغ ذلك المنتهى المرجوّ ! دخلتَ، فإذا مستهلّه بَـهْو فسيح، فيه من جميل الأثاث  بألوان وأشكال، يأخذك منه هذا الجميل، وذاك الأجمل، وهذا الحسن، وذاك الأحسن... حتى تحسب أن منتهى الجمال في هذا البهو الذي يبدو لك ممتدّا، بينما هو المنتهي ... ! وإنك لن تصل منتهى ذلك المبنى وقد أُخِذت  بالبهو وحده ! ستحسب أن البَهْو الفاخر غاية المبنى وكل المبنى ! سيأخذ كل وقتك، حتى ينفذ، ويذهب من بين يديك، وأنت المأخوذ بالبهو وحده ... !!

﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ .. اللّبيب من فكّر بهذا الحسن الذي هو عند الله، الذي هو خير من كل تلك الزينة التي تأخذ، والجمال الذي يُبهِر ... لا تثريب على الإنسان وهو تُزيَّن له الشهوات، وهو يتمناها، ولكنّ مربط الفرس، ولُباب الأمر كلّه، والفلاح والفوز ألا تُنسيه تلك الشهوات الدنيوية آخرتَه،  ألا يغرق في بحرها، وألا يستغرق حياته وهو ينتقل من شهوة إلى شهوة إلى شهوة، فلا تنفذ الشهوات، ولا يقنع ولا يشبع، بل يزيد شرَهُه كلما أوغل فيها ... !
فلا تلهينّكم أموالكم ولا أولادكم، لا تلهينّكم عن الأهمّ، عن ذكر الله:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ  وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾

وذكر الله هو الذي سيجعلك للآخرة ذاكرا ...لما عليك من تكليف في هذه الدنيا، ولما يجب أن يكون عليه حالك من طاعة أمر الله وحده دون إشراك الدنيا به سبحانه، فلا تكون المظاهر إلهكَ المعبود الذي تحتكم إليه، وإلا بُؤتَ بالخسار والبوار... !
وهكذا... فيا أهل الإيمان، لا تكونوا كالمنافقين، شغلتهم المظاهر، شغلهم ظاهر الحياة الدنيا، عن الحقيقة العظمى، عن الغاية من الوجود، فغمّيت عليهم الرؤية، وانطمست بصائرهم، وما عادوا يؤمنون بغير الظاهر والمظاهر، ذهب عنهم الفهم العميق، والنظر البعيد، والعلم المفيد، فقرّر الله أنهم : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾  و  ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
لا تكونوا كالمنافقين بـــــــــــــــل :
﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) ﴾
لا تكونوا كالمنافقين، الذين كانوا يقولون ادّعاء منهم الإشفاق على رسول الله ﷺ والنصح لرفع الحِمل والثقل عنه: ﴿ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾. وحقيقتهم أنّهم لا يملؤهم الاعتقاد بالله الذي له خزائن السماوات والأرض، والذي  هو يرزق عباده، وينفق كيف يشاء ...
أنفقوا، من قبل أن يأتي الموت، فيودّ مَن داهَمَه ساعتها لو أنّه أُخِّرَ إلى أجل ليتصدّق، من بعد فوات الأوان ... أنفقوا في سعة من وقت حياتكم، في ساعات صحتكم وقوّتكم، أنفقوا في ساعة قدرتكم على الإنفاق، لا حينما يأتي الموت فلا مفرّ، ولا تأجيل، ولا تأخير ... !

أنفقوا من قبل أن يأكلكم النّدم ساعة لن تجدوا من ساعة ... ! ساعة تقولون ما لن ينفعكم : ﴿ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ !!
﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) ﴾
يا أهل الإيمان ! يا أهل القرآن ! يا من أنتم أهلٌ لفقه معنى الحياة الدنيا، والغاية من الوجود فيها ... إنّكم أنتم مَن يفقه أنّ الله لن يؤخّرَ نفسا إذا جاء أجلها ... !  انتهى الأمر... !  لم تعد من فرصة ... لم تعد تُجدي الأماني، ولا الأقوال، ولا الجأر إلى الله أن يؤخّر إلى أجل قريب، ليبقى لك من حظّ ومن فرصة ! جفّت الأقلام، ورُفِعت الصُّحُف ... !

وهكذا تنتهي هذه السورة، وقد أضاءت لنا قبسا من قبسات الهُدى ... !
ولقد كانت فرصة لأن أخوض في واحدة من أكثر الشبهات التي يلقيها محاربو الإسلام، وأهل الأهواء، وتشكيك المؤمنين بدينهم، تقوّلهم أنّ المنافقين كانوا بين الصحابة، ولم يكونوا يُعرَفون فردا بفرد،  والصحابة كانوا نقلة السنة، وهذا ما لا يجعل للسنّة من حجيّة ولا موثوقية ... فعرضتُ لعدد من الأدلة الداحضة لهذا التقوّل وهذا الهراء الذي يجد به المتصيّدون بشباكهم المسمومة صيدا في نفوس شباب مفتقر لمعرفة أساسيات دينه... !

وقد علّمتنا "المنافقون" أن نحترس من صفات المنافقين، ألا نأمن هذه النفس التي بين جنبَيْنا، ألا نتركها للمظاهر حتى تصبح الدستور الحاكم فينا، وحتى نراها ولا نرى شيئا من ورائها ... علّمتنا أنّنا -نحن المؤمنين- أصحاب الفهم العميق، والفقه، والعلم بما وراء المظهر ... بما وراء هذه الدنيا برمّتها ! بأنّ تقديرنا لهذا الوجود أوسع من حدود الدنيا بكثير...  بأنّ نظرتنا أبعد بكثير من مظهره، بأنه الطريق الذي علينا قطعُه لنصل إلى مبتغانا، إلى موعود الله تعالى لعباده المؤمنين المصدّقين .
علّمتنا أنّ شهادتنا بأنّ :  "محمّدا رسول الله " ليست كشهادة أصحاب الظاهر والمظاهر والتظاهر بخلاف الحقيقة التي تستوطن القلوب ... ! ليست كشهادة أولئك الذين حدودهم الدنيا وزينتها، بل شهادتنا حقّ، يصدّقها العمل منّا للآخرة، لما بعد الموت، لا لحدود الدنيا... ! فلا نرى المال فيها حدّا، ولا نرى الأولاد حدّا، ولا نرى أي زينة من زينتها حدّا ومنتهى  !  الدنيا بما فيها، لن تلهينا عن ذكر الله ... !

علّمتنا أن شهادتنا بأنّ :  "محمّدا رسول الله " شهادة نوقّره بها، ونجعله أسوتنا وقدوتنا، وسائقنا على درب الحياة إلى الهُدى وإلى الخلاص والنجاة ... بما جاءنا به من قرآن وبما ترك فينا من سنّة هي بيان القرآن وحركته على الأرض ... !
علّمتنا أن نعرف الرجال بالحقّ، لا أن  نعرف الحقّ بالرجال، فكم من لسان فصيح ذلق، تنساب الكلمات منه انسياب الماء الرقراق في ساقيته، ولكنّه يُشبّه علينا، ويصيّر لنا الدين قطعا متناثرة لأيّ كان أن يكيّفها حسب ذوقه وهواه بدعوى التجديد والعقلنة والتكييف والمواكبة !!

علّمتنا أنّ عزّتنا في هذا الدين وبهذا الدين لا بغيره، وبأنّ تأخرا عن ركب العلوم أو المادة ليس داعيا ولا دافعا لأن نذلّ وننهزم، ونرى أنفسنا الهباءة ! فنرتضي الدنيّة في ديننا، ويُرمى بالنقص وكأنه علّة تأخّرنا، وما العلّة إلا منا وفينا حينما ابتغينا العزّة فيما سواه، وحينما قعدنا وديننا براء من جمود وقعود كانا من أنفسنا... وإنّ الأرض لعطشى للهدى الذي بين أيدينا، وهي تنتظر من يرويها بمائه، وقد أجدبتها المادة وعبادة البشر للمادة !
وختاما... نسأل الله تعالى أن يجيرنا  من النفاق عملا واعتقادا، وألا يجعلنا من الذين ينبهرون بالمظاهر حتى تحدّهم المظاهر وتصبح إلهَهم الآمر الحاكم  فيهم بحكمه .... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب