المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (الممتـــــحنة)  (زيارة 335 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ها نحن في رحاب هذا الجزء من قرآننا ننعم بسياحة فريدة، تأخذنا من جمال إلى جمال، ومن جلال إلى جلال، ونحن نتنسّم أجواء المدينة، ونتفيّأ ظلال الدولة الإسلامية الناشئة، فنأمَن في رِحابها، ونحيا بنفحات العزّ والسُّؤدد فيها... لا هروبا من لفحات الواقع الذي نعيش، إلى نفحات ماضٍ كان سعيدا...!  بل ونحن نتيقّن عودة ذلك الحال لا مَحال ... ! بل ونلمس عن قرب أنه العائد لا ريب ... !

إنه الذي وُلِد بعلامات الخلود... !

إنه الجذر الذي وإن بدت على فروعه علامات الذبول، فهو الذي لا يُقتلع ولا يؤخَذ بجريرة فروع استغنت عن منبع الغذاء، فتاهت، وهي تنبهر بالفضاء الرحيب تحسبه مُمِدّا لها بشيء، حتى تُبهَت بالرياح تأتي عليها، وهي التي لا تقوى على المقاومة، وعِلّتها المشخَّصَة سوء تغذية، وشُحٌّ في الموادّ الأساسيّة ... !   أدّى إلى إصابتها بضعف ووَهَن، ذهلت به عن نفسها وتاهت... !

كيف لا وهي التي ترنو لما ليس من مادة حياتها، بل من مادّة ضياعها، وبقائها بين حياة وموت، فلا هي حيِيَتْ ونمت،  ولا هي ماتت واندثرت .... ! تعاني الضياع ! والتّيه لانسلاخها عن جذرها المتروك المنسيّ... !

أجل إنها الفروع... ! ولكن سُرعان ما تنتبه لعلّتها، إذا ما بحثت عن الأصل، لتفهم أنّه الذي من مادة البقاء قد أوجِد... ! باق إلى ما بعد الدنيا... إلى ما بعد الفناء ... !  فهو المسافة الممتدّة ما بين الابتلاء والجزاء ...  !  هو جِنان الدنيا، وجِنان الآخرة  ... هو الإسلام لا شيء غير الإسلام ... !!

فنعزم على الاستزادة بعُدّة المضيّ في طريق العودة، فإما أن يسعفنا العمر لعيش شيء من نفحاتها، وإما أن نقضي ونحن على الطريق الصحيح ...!

نحيا بنفحات العزّ ونحن نفقه حقّ الفِقه أنّ روحَه لا تموت وهي من روح الله، ومن أمر الله ... فلا نمنّي النفس تمنية، ولا نتنادى به ماضيا كان وانقضى، وحالا عفى عليه الزمن، بل نوقِن أنّه الممدود في الزمن، وأنّ مثله كمثَل الشمس، فهي إذ تغيب تقطع مع الأرض موعدا للعودة، لا تتخلّف عنه وإن طال ليل النائمين ...!

إنّه حال أمّة لا تموت، وهي التي عرفناها في "المجادلة" وفي "الحشر" موصولة بالخالق الموجِد سبحانه، معلّقة في أصل السماء علوّا وشموخا وسناء، ضاربة بجذورها في أصل الأرض عراقة وأصالة  ...هي الأصل، والأصل لا يحول ولا يزول ... ! 
هي التي كانت خير أمّة أخرجت للناس كما تُخرَج اللّينة القائمة على أصولها، لا يتحاتّ ورقُها، تؤتي أكلَها كلّ حين بإذن ربّها ...!

عرفنا حزب الله الذي يتآخى فيه المؤمنون، ورحِمُ العقيدة الولادة جامعتُهم في ظلاله متحابّين، لا يعلو في نفوسهم على حبَّ الله ورسوله حبٌّ، ولا يحكم بأمره فيهم غيرُ أمر الله ورسوله، فهم الذين كُتِب الإيمان في قلوبهم كتابة، وأُيِّدوا بروح من الله تأييدا ...!
لا يوادّون من حادّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ... وهم الذين من بعد ما قدّم لهم الله في "المجادلة"،  سمّاهُم في "الحشر" بأسمائهم وصفاتهم... مهاجرين صادقين، وأنصارا مفلحين، ومن جاء بعدهم تنبض قلوبهم حبّا للذين سبقوهم بالإيمان عِرفانا منهم بدورهم في إشعاع الإسلام على الأرض، وانبثاق نوره فيها من أيديهم ... !

عرفنا أنّ أصحاب الأصول والجذور والعروة الوثقى هُم أصل الغاية من الوجود والإيجاد، وهم أهل الخلافة في الأرض لإصلاحها وإعلاء كلمة ربّها عليها، كلمة خالقها ومالكها ومالك أمر طَيّها بشماله يوم انتهائها، كما ملك أمرَ دَحْوِها، وأمر إخراج مائها ومرْعاها في ابتدائها ...!

 أولئكُ هم أهل نصر مؤزّرٍ من الله في كل زمان، ما حقّقوا الحبّ الموصول عبر الزمان، قلوبا تسبق، فتَسَعُ قلوب إخوة  تتوالى بهم الأجيال يغمرها الحب لمن سبقهم بالإيمان، من حياةٍ لبذرة الإيمان لا تذوي ولا تموت... !

من سُقيا لها من روح الله  العظيم القدير الذي لا يكون في ملكه إلا ما يريد من أمره ... سبحانه ناصر حزبه في كل زمان ما أعلى بالإيمان رأسا، وما اعتزّ بالإسلام دينا، وما أيقن أنّ حزب الشيطان هواء وخواء وريشة في مهبّ ريح سَموم، هي من ريح الشيطان اللعين المريد، الذي يتخذه أولياؤه ربّا معبودا من دون الله، وهو العدوّ الذي أقسم بعزّة الله ليُغويّنهم أجمعين إلا عباد الله المخلَصين  ...!!

العدوّ الذي يتبرّأ من عبيده ساعة الفصل، ويقيم على كذبه، فيعلنها أنه يخاف الله ربّ العالمين !!
فخِزياً وعارا وشَنَاراً على مَن وهبه خالقُه عقلا، فأعرض عن أُوْلَى المعارف وأسماها وأجداها، عن أن يعرف ربَّه، فيعرف منه عدوَّه ليتّخذه عدوّا، وادّعى أنه العالِم العارِف الذي جمع علوم البرّ والبحر والجوّ، ثم قال كما يقول سفيه العقل طائشه : إنّ الوجود من لا شيء إلى لا شيء ...!

فما ينفعُ إنسانا انصاع لأمر عَدُوِّه إذ قال له اكفر علمٌ ينفذ به من أقطار السماوات والأرض، ولا مال، ولا قوّة ولا سلاح يخرق به الأرض، أويخترق به الأجواء، أويفتّت به الجبال ... ما ينفعه شيء من كل هذا ما كفر بربّه الذي خلقه ليبتليه أيؤمن أم يكفر...!
وفي "الحشر" قواعد نصر الله لعباده المؤمنين حقا وحقيقة ... !

فيها حَشَرَ الله حقائق الكافرين القائمين على هواء وإن كانوا أرباب المال والقوّة في الأرض... لنتبيّن أصل الداء في الأمّة وفي هوانٍ صنعه المؤمنون حينما أذهبوا عزّتَهم بدينهم وطفقوا يبتغون العزّة بمظاهر الدنيا، وببتلات زهرتِها المتفتّحة ...!  فأصبحوا لقمة سائغة لمَن نحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، لمَن  تجتمع على قلوبهم وعلى صدورهم الرهبة والرعب جنودا مُسلَطة عليهم من أنفسهم الضعيفة الخائرة، المفرَغة من الإيمان والصلة بالله، كلما كان أمامهم جنود الله من حزب الله، الذين لا يذلّون لغيره، ولا يخشون سِواه، ولا يخضعون إلا لجلاله ...!

هكذا علّمتْنا "الحشر" وهي التي ترصّعت بأسماء من أسماء الله الحُسنى وصفاته العُلى، تؤكّد أن النّصر لله، ولدينه في الأرض، وأنه سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب ... !  وأنه ناصر عباده ما أيقنوا بعظمته وجلاله وما أيقنوا أنّ العزّة له جميعا ...!
لأجل هذا الذي علّمتنا السورتان ... "المجادِلة" بما فيها من تقدمة لحزب الله المحادّين لمَن حادّ الله ورسوله، ولحزب الشيطان المحادّين لله ورسوله، و"الحشر" بما فيها من بيان لأسماء أفراد الحِزبَين وصفاتهم ... ولعزّة حزب الله ونصر الله له على أعدائه ...

لأجل ما علّمتنا الدُرّتان من دُرر القرآن العظيم -الذي لو أنزِل على جبل لرأيتَه خاشعا متصدعا من خشية الله-  كان يقينُنا بأنّ الحال الذي كانت عليه الأمة عائد لا ريب ...!   وأنّ التنادي بالعودة ليس أضغاث أحلام ولا قصّة حُلوة من قصص ما قبل النوم !
وأنّ حزب الله عائد لا محالة في الأرض ممكّنٌ بأمر الله، لأنه من أمر الله ومن روح الله، ولأنه نبتتُه التي لا تموت ...!

ونباشر سورة جديدة من هذا الجزء العامر...نتطلّع إلى معرفة موضوعها...
إنها "الممتحنة"، سورة مدنيّة هي الأخرى، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الثامن للهجرة ... مطلعها نداء لجماعة المؤمنين الذين تكوّن بهم المجتمع المسلم الناشئ، كما تكوّنت بهم الدولة المسلمة الناشئة :

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) "

عرّفتنا سورة "المجادلة" بحال جماعة المحادّين لمَن حادّ الله ورسوله، وأنّها خصيصة الجماعة المؤمنة المحقّقة للانتماء بانضوائها في حزب الله، مُحادَّةً لحزب الشيطان المحادّين لله ورسوله ...

كما عرفنا في سورة "الحشر" حركة الحِزبَين، وحالهما، وتهاوي حزب الشيطان القائم على هواء، مقابل ثبات حزب الله وقوّته المستمدّة من صلته بربّه، ناصره ما أقام موصولا بربّه، بائعا الدنيا بما فيها في سبيل رضوان من الله ونصر له ولرسوله ...
وهو ذا نداء "الممتحنة" في مطلعها، نداء لهذه الجماعة المحقِّقة لروح الانتماء لحزب الله، التي تتخذ الله وليّا ونصيرا ... والتي لا نصير لها من دونه ...

إنها لفتةٌ تربويّة دقيقة، وتذكير إلهيّ بالثبات على روح الانتماء، والحفاظ عليها من كل شائبة :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ..."

نعم... لقد تكوّنت هذه الجماعة رأسا على هذه التصوّرات، وهذه الأساسات، وعلى هذه المبادئ التي لا حِياد عنها، فهم إذ أُخرِجوا من ظلمات الشرك والكفر إلى أنوار التوحيد وعبادة الله الواحد، أُخرِجوا من التصوّرات الباطلة للحياة ولوجودهم فيها، بما كان رسول الله صل الله عليه وسلم يبني فيهم في مكة من عقيدة في الله الذي يُعبَد وحدَه، والذي يُنصَر دينُه، والذي لا يُوالى أعداؤه ... طيلة ثلاثة عشر عاما شيّد فيهم رسول الله هذا البناء الراسخ ... !

وخرجوا من مكة إلى المدينة وهم جبال رواسخ، والعقيدة المنعقدة في قلوبهم في الله هي دافعهم للتضحية، وللانخلاع من كل عناصر الماضي المظلم ...

عرفنا في "الحشر" المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم نصرة لله ورسوله، مبتغين فضلا من الله ورضوانا، وعرفنا الأنصار الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم محبّين لهم، مؤثرين لهم على أنفسهم، يرون فيهم الشموس التي سبقتهم للإيمان، وللتضحية في سبيل العقيدة، فأصبحت هي الرحم، وهي الأم، وهي مادّة الأخوّة الأقوى من أخوّة الرحم والدم ...!

وها نحن مع نداء يجدِّد هذا العقد، ويوثّقه، ويذكّر به تلك الجماعة التي بُنِيت على أساسه، تلك الدولة التي قامت من لبناته البشريّة ممثّلةً في المهاجرين والأنصار  ...

فـــ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ..."

أوليست تعمل هذه الجماعة المؤمنة -وقد مضى على تواجدها بالمدينة مهاجرين وأنصارا ثمانية أعوام- وِفق هذه القاعدة العقديّة ؟ ! ألا يقوم بناؤُهم على هذه الدّعامة الإيمانيّة الكبرى ؟!

بلى ... ! فإنهم "مهاجرين" هجروا دار الشرك والكفر، وأهل الشرك والكفر نصرةً للإيمان، وإعلاء لكلمة التوحيد، وإنهم "أنصارا" بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمايته وحماية الرسالة مما يحمون منه نساءهم وأولادهم، واستعدّوا لكل الأخطار المُحدِقة بهم وأهلُ الكفر ومُحادّة الله ورسوله يبتغون استئصال شأفتهم ...

ولــــــــــــــــكن .....!

إن لنزول هذه الآية من صدر هذه السورة سببا جاء في صحيح السنّة ...
« آخر تحرير: 2020-09-29, 14:07:35 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

كان صلح الحديبيّة بين المسلمين والمشركين في العام السادس للهجرة، وقد قضى ضمن بنوده أنّ مَن دخل في حلف أحد الفريقَين من قبائل العرب فهو منصور من ذلك الفريق إذا ظُلِم، وقد دخلت في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم خُزاعة، ودخلت في حلف قريش بنو بكر، وكان ما بين القبيلتَين مناوشاتٌ وتقاتلٌ في الجاهلية، حتى حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به، فلما كانت الهُدنة بعد صلح الحديبية اغتنمها بنو بكر وأرادوا أن يصيبوا من خُزاعة ثأرَهم القديم، فعَدَوا على رجل من خُزاعة وهم في فترة هُدنة وسلام قضى به صلح الحديبية، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتلوا معهم...

فسارعت خُزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستنصره وهو حليفها، فعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم العزم على نصرتها، وتجهّز لغزو مكّة، من بعد نقض قريش لصلح الحديبية ...

وأخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمَه، وأسرّ بالأمر لعدد من الصحابة، ودعا الله قائلا: "اللَّهُمَّ خُذْ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَلاَ يَرَوْنَا إِلاَّ بَغْتَةً، وَلاَ يَسْمَعُونَ بِنَا إِلاَّ فَجْأَةً". وكان حاطب بن أبي بلتعة واحدا ممّن علم بعزم رسول الله على الخروج، وقد وقع في فخّ لحظةِ ضعف نفسي جعلته يُقدِم على ما لا يُتوقّع أن يكون من صحابيّ من أوائل مَن هاجر، وشهِد بدرا والحديبية ... !

كتب حاطب بن أبي بلتعة رسالة لأهل مكة يخبرهم بتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج، واستأجر لذلك امرأة من مُزَيْنة زارت المدينة، فأطلع جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حدث استجابة لدعوته بأخذ العيون عن قريش، فأرسل الرسول عليًّا والزبير والمقداد لإدراك المرأة، وقد أرشدهم إلى مبلغها من طريقها إلى مكة ...

يروي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصل القصة فيقول: " بَعَثَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَا والزُّبَيْرَ، والمِقْدَادَ، فَقالَ: انْطَلِقُوا حتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فإنَّ بهَا ظَعِينَةً معهَا كِتَابٌ، فَخُذُوا منها قالَ: فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بنَا خَيْلُنَا حتَّى أتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بالظَّعِينَةِ، قُلْنَا لَهَا: أخْرِجِي الكِتَابَ، قالَتْ: ما مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ، أوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قالَ: فأخْرَجَتْهُ مِن عِقَاصِهَا(مما انطوت عليه ضفيرة شعرها)، فأتَيْنَا به رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِن حَاطِبِ بنِ أبِي بَلْتَعَةَ، إلى نَاسٍ بمَكَّةَ مِنَ المُشْرِكِينَ، يُخْبِرُهُمْ ببَعْضِ أمْرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا حَاطِبُ، ما هذا؟ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ، يقولُ: كُنْتُ حَلِيفًا، ولَمْ أكُنْ مِن أنْفُسِهَا، وكانَ مَن معكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ مَن لهمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أهْلِيهِمْ وأَمْوَالَهُمْ، فأحْبَبْتُ إذْ فَاتَنِي ذلكَ مِنَ النَّسَبِ فيهم، أنْ أتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، ولَمْ أفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عن دِينِي، ولَا رِضًا بالكُفْرِ بَعْدَ الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أما إنَّه قدْ صَدَقَكُمْ، فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هذا المُنَافِقِ، فَقالَ: إنَّه قدْ شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ علَى مَن شَهِدَ بَدْرًا فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. فأنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إليهِم بالمَوَدَّةِ وقدْ كَفَرُوا بما جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ} [الممتحنة: 1]- إلى قَوْلِهِ - {فقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[الممتحنة: 1]" –صحيح البخاري-

وهكذا...نعايش أجواء المدينة، وأجواء السيرة المطهّرة وأحداثها، نعايش تنظيم المجتمع المسلم، وتربيته وتنشئته مع نشأة دولته، فنعرف مسار خطَّيْن لا يفترقان، مسار الدولة ومسار المجتمع، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولا حال أحدهما عن حال الآخر... هذا يؤثر في ذاك، فلا ينفصل تنظيم المجتمع وتنظيم حياته على نبض الوحي عن تنظيم الدولة، وإقامة الحكم فيها على نبض الوحي كذلك ...

وتلك خاصيّة الإسلام، وخاصيّة هذا التشريع الربانيّ المهيمن الكامل الشامل، الذي لا يعالج مجالا ويترك آخر، بل هو الدين الشموليّ الذي ينظّم الحياة بكل مجالاتها، ويجعلها كلّها على وقع الوَحي ومن روح الوحي، ذلك أنّ الإنسان الذي يعيش ويتحرك حركته في الحياة، يشبّ، ويتزوج وينجب، ويكوّن الأسرة، ويعتاش بما يُيَسّر له من سبل الاعتياش، ويخالط غيره، وتتكون به وبمَن معه اللحمة المجتمعية المتفاعل بعضها مع بعض، هو ذاتُه الإنسان الذي يخرج من قلب ذلك المجتمع، ليتقلّد مسؤوليات الحكم ولتسيير شؤون المجتمع... فلا ينفصل كيان عن كيان...!

شمولية هي من أهم خصائص التصوّر الإسلامي للحياة وللكون وللوجود، وللغاية من وجود الإنسان ...
والمؤمن لا يستقي منهج حياته من غير القرآن، ومن غير توجيهات الإسلام ... لا يحتكم إلى القوانين الوضعيّة الهوائيّة المتلوّنة بألوان الأهواء والتفاوتات العقليّة، والتصوّرات النابعة من الفلسفات والاعتقادات الأرضيّة التي هي من صنع الإنسان الذي لا يقوى على الإحاطة باختلافات البشر، ولا على وضع ما يوائم هذه الاختلافات مجتمعة، ولا على احتواء حاجات الأنفس التي تحقّق توازنها في الحياة، وتحفظ عليها أَوْلى أولويّات تعقّلها بتحقيقها للخلافة في الأرض، ومراد خالقها منها ...

إنّ المهاجرين والأنصار كانوا اللبنات الصحيحة، والعِماد القويّة التي عليها قامت الدولة الإسلامية في المدينة، وإنّ حياتهم كانت على نبض الوَحْي، وعلى نهج القرآن، والتربية والتقويم النبويَّيْن، ولقد حققوا الانتماء، وحافظوا على حيويّة العلاقة التي تصلهم بربّهم آمرا وناهيا، ووليّا ...

ولكن كحال البشر... وعلى عادة النّفس البشرية المخلوقة من ضعف، يزلّ مَن يزلّ، ويخطئ مَن يُخطئ، ويقع مَن يقع، وإن كان من الصّحابة، وإن كان ممَّن شهد المواقع العظيمة، مثل حاطب، الذي كان من أوائل المهاجرين، وشهد بدرا، والحديبيّة ...
وللوهلة الأولى وأنت تسمع بفِعلته، ينتابك الدَّهَشُ، وتتملكك الحيرة من مقاربة مثله لهذا الخطأ الجسيم، ولن يكون قَوْلُكَ بأبعد من قول عمر بن الخطاب –كما جاء في الحديث أعلاه- أنه المنافق، بل قد تزيد أنه الخائن، الذي باع دينَه، وباع جماعتَه ... !

ولكنّ القرآن الذي ذكر مناقب الصحابة الكرام، وأثنى عليهم، ووصفهم بالصدق وبالفلاح، القرآن الذي أعلن رضى الله عن أهل بيعة الرضوان في وقعة الحديبية التي شهدها حاطب هذا نفسُه مع مَن شهدها، هو ذاتُه القرآن الذي لا يغمّي عن هذا الزلل، وعن هذا الخطأ الجسيم، ولا يطوي خبرَه، بل يكشفه ويكشف خطورته في صدر هذه السورة، كما جاءت به السنّة المحفوظة مفصّلا، يحمل الجُرمَ ويحمل الدافع إليه، ويحمل حقيقة أمر حاطب وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الذي صدق، حينما برّر أنه لم يفعل ما فعل كرها منه للدين، ولا رغبة عنه إلى أمر المشركين والكافرين، بل إنما هو خطأ حُسبانِه أن يجد لقرابته يدا تحميهم في مكة، وهو الذي لم يكن كسائر المهاجرين الذين كان لهم بمكة قرابة تحمي أهلهم، بل كان مُلصَقا فيهم.

ويُعالج القرآن هذا الجُرمَ، وتنزل آيات تؤكّد على خطورته، وتجعل منه مادّة للتوجيه والتحذير والتخويف عامّة على كل المؤمنين، لا على حاطب وحدَه ...
وهذا ما يجعل القرآن منهاجا وقانونا يليق بكل الأزمنة وبكل الأحوال المشابهة للحال التي كانت سبب نزول الآية أو الآيات المجتمعة ...

ذلك أن النفس البشرية بتقلباتها وضعفها وزَلَلِها وخطئها، تعيد نفسَها في كل زمان، وكائنة هي في كل زمان ... ولأنّ هذا الجيل الذي جمع العظماء الذين حملوا الرسالة مع الرسول، وتحمّلوا أعباءها وأثقالها، كان جيلا من البشر الذين يليق أن يكونوا المدرسة البشرية التي بإمكان البشر من خلفهم دخولها، والتعلم في فصولها ... !

بهذا الوضوح الذي لا يُغَمّى فيه على خطأ، ولا يُستبعَد فيه الخطأ من ساحة النفس البشرية وإن كانت ممن صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وممّن تعلّم منه، وممّن عاش معه، وممّن شهد معه المشاهد، يكون جيل الصحابة الجيل الذي بإمكان البشر التعلّم منه، والأخذ منه، وهو يعرف فيه الخطأ،  ويعرف بالمقابل كيف كان القائد المربّي يعالجه فيه ...

فلا يكون لمؤمن عبر الأزمنة أن يتحجّج بأنّهم الصحابة، وأنّه لا سبيل للاقتداء بهم وهم الذين كانوا لا يخطؤون بحكم معايشتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يكون لمؤمن بالمقابل أن يعتبر جيلهم بلا ميزة وبلا تميّز عن باقي الأجيال وعن سائر القرون ... لأنهم على خطئهم وزللهم كانوا المسارعين في التوبة، والأوبة، والإصلاح ...

وهكذا، جاء الأمر عامّا لكل المؤمنين توجيها وتحذيرا وتخويفا :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ..."

جاءت "عدوّي" سابقة لأنّه سابق في علم المؤمنين بما تأسّسوا عليه من عقيدة في الله تعالى، أنّ من كان عدوا لله، فهو للمؤمنين عدوّ ...
لا تتخذوا العدوّ وليّا، وقد التقى في اللفظَيْن تضادّ، بما يُلقي في الذهن أنّه كيف يُعقَل أن يتخذ الإنسان عدوَّه وليّا ! ولكنّ الوقوع والزّلل والاستسلام لضعف النّفس يُحقّق هذا الاجتماع الذي لا يُعقَل، أن يُتَّخَذَ العدوّ وليّا ... !

وقد عرفنا قريبا في سورة الحشر مغبّة انصياع الإنسان لأمر الشيطان فيه أن يكفر، يحقّق الانصياع لأمر عدوّه حينما يختار الضلال، حينما يشتري الضلالة بالهُدى ...  ويفعلها الإنسان، ويحسب أنه يُحسن صنعا ... يشتري العمى، يشتري الظُّلمة... ! يشتري الهلاك لنفسه فيما يحسب أنّه المصيب المحسن  ! : "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا "-الكهف: من الآية17-
ولهذا الذي يَعرِض للنفس، ولهذا الذي يكون من ضعف، يحتاج الواحد منا أيّما احتياج للذكرى ...
وإنّ حاطبا ليسمع هذه الآيات وهي حديثة عهد بالأرض، وحديثة عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم... يسمعها فيعرف أنّ أمرَه الذي حسبه سرّا قد كشفه عالم السرّ وأخفى ... !

ويسمع حاطب، ويسمع معه كلّ أفراد تلك الجماعة المميّزة على الأرض، يسمع معه ذلك القرن الفريد من البشر، ذلك القرن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريّة، مع ما شهد به القرآن، وذلك في قوله : "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ..." –صحيح البخاري-

يسمعون، فيعرفون أنّ منهم مَن يقع كمثل هذه الوقعة ... ! ويستثقلونها، وينكرونها، ويستعظمونها،  كما استعظمها عمر رضي الله عنه، ولكنّ القرآن إذ ينزل بما ينزل يُلجِمُهُم عن كلام آخر في القضية، ينزل حاسما، ينزل مبيّنا للحقيقة، وفاصلا بين الحقّ والباطل...
تنزل الآية وهي تنادي حاطبا فيمَن تنادي، فإذا هو ما يزال في زُمرة المؤمنين، فيُنادَى فيهم بـ : " يَا أَيُّهَا الذِينَ آمُنُوا " ...
وإنّي لأتخيّل حال حاطب وهو يُصعَق بتخويف الله، وبتبيين مدى خطورة الأمر، والنّدم يأكله قلبَه الذي ما يزال الإيمان فيه حيّا،  ولكن يهوّن عليه أنّه ما يزال بعدُ في عِداد المؤمنين، فيؤكّد هذا ما كان من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سمع منه : "أما إنَّه قدْ صَدَقَكُمْ"

إنه لا يهوّنه عليه فحسب، بل إنّ فرحة عارمة تملأ نفسَه والله يناديه في زمرة المؤمنين... إنه يرى نفسه الذي نجا من الهلاك بفضل من الله... ! سبحانه عالم حقيقة القلوب، يعلم أنّ حاطبا زلّ وأخطأ، بل وكان خطؤه جسيما، وكان جُرما خطيرا، ولكنّه -حقا وصدقا- لم يفعل ما فعل رغبة منه عن الإسلام وحبّا في الكفر بعده ... !

ثم هذه تفاصيل فِعلة حاطب، يصفها الله سبحانه، وهو يبيّن قبحَ مُوادّة أهل الكفر:

"تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)"

تلقون إليهم بالمودّة...
تُلقون بها إلقاء، وكأنه الفعل الذي لا يسبقه تفكير ولا تفكّر في وخيم عواقبه، فهو الإلقاء كيفما كان، على عواهنه...
وإن أول الحواجز والعوارض التي تجعل إلقاءكم لهم بالمودّة فعلا شنيعا أنهم كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، وما كانوا لله عدوّا إلا من كفرهم بما أنزل من الحق ... ! وما كانوا لكم عدوّا إلا من كفرهم بما آمنتم به من الحق ... !

فإنكم لا توالون إلا باسم هذا الحق، ولا تعادون إلا باسمه، لا توالون إلا مَن احتضنه ونصره، ولا تعادون إلا مَن أعلن كفره به، والحرب عليه وعلى أهله ... ! إنّ هذا الحقّ هو الفصل في الموالاة والمعاداة عندكم، هو الذي لأجله اتخذوكم عدوّا، فكيف توالونهم، وتلقون إليهم بالمودّة متناسين سبب عداوتهم لكم ؟ !!

ثم يزيد سبحانه في التشنيع على مَن يلقي بالمودّة لمَن كانت عداوته عداوة في الله وفي دين الله : " يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ "

إنهم ما أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم من أرضه، وما أخرجوكم معه إلا لإيمانكم بالحقّ الذي جاءكم، إلا لإيمانكم بربكم الواحد الأحد ونبذكم كل الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله سبحانه ... !

إنهم لم يكتفوا بالكفر، بل زادوا فترصّدوا للرسول صلى الله عليه وسلم ولدعوته، فحاربوه وحاربوكم، واضطروكم للخروج بالرسالة إلى أرض تحتضنها وتحفظها، وتحميها ... ! اضطرّوكم للبحث عن ملجأ ، وعن نصير...
ومع كلّ زيادة، ومع كلّ تذكير بحقيقة من يلقي إليه المؤمن بمودّته، يأكل النّدم قلبَ حاطب، وقلب كل مؤمن في دواخل نفسه إبقاء على الإيمان بالله، وعلى نبذ الكفر ... فتحصل التربية، وينجَعُ العلاج ... !

لم يُكَفَّر حاطب، ولم يَترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب فرصة أن يُقِرّ عليه صفة المنافق، ولكن أردف بعده يؤكّد أنه صادق . بل ويُشيد بميزان شُهوده بدرا في حياته... !

بل وقد جاء في شأن حاطب أيضا شهادة أخرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه : "أنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَشْكُو حَاطِبًا فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: كَذَبْتَ لا يَدْخُلُهَا، فإنَّه شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" -صحيح مسلم-

ورغم ذلك لا يُترَك حاطب بلا علاج، بل تنزل هذه الآيات الأولى من صدر السورة علاجا،  فيه من التوبيخ والتذكير بمدى عداوة مَن ألقى إليهم بالمودّة في ساعة ضعف شديد، وبأن مِعيار المُوادّة عند المؤمن الإيمان، ومِعيار المُحادّة الكفر.
وكما آليت على نفسي، مع آيات القرآن العظيم، أن أقف عند ما تلعبه السنّة من دور مع القرآن، بيانا مني، وكشفا لزَيْف المتنادين بإنكارها وطرحها جانبا ...

أدعو للنّظر في هذه الحادثة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلَم من ربّه بفِعلة حاطب، ينزل عليه جبريل مُخبرا، وما كان له صلى الله عليه وسلم أن يعلم الغيب لولا أن أعلمه ربُّه، لا ينزل الخبر بفعلته قرآنا، بل يأتيه به جبريل في غير حاله من مجيئه له بالقرآن ... ثم يزيد ما حُفِظ من صحيح الحديث في بيان التفاصيل، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق حاطب بما أُعلِمَه من ربّه في شأنه .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ثم ها هو حاطب، وها هو كلّ من يُقدِم على فِعلته في كل زمان، يزيد فيشعر بالخِزْي وهو يُوَبَّخ بتذكيره :
"إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي"
إنّ خروجا في سبيل الله من الرحم والأهل والوطن بنيّة الجهاد في سبيل الله، وابتغاء مرضاته يقتضي ألا يكون الإلقاء بالمودّة بعدها للمُخرِجين...
فماذا بعد إعلان المُعاداة في الله، وإعلان البغض في الله، والمُشاقّة في الله ... لأجل الله، ولأجل دين الله، ولأجل الحق الذي أنزله عليكم ...؟ !

في سبيل هذا كان خروجكم، ونبذكم الدنيا وراء أظهركم من ديار وأهل وأملاك وأموال، أفئن كان لهذا خروجكم يكون بعده هذا منكم ؟!
كيف يلتقي الحالان ؟!  كيف تجتمع معاداة وموالاة ؟! كيف تجتمع محادّة وموادّة ؟! إنها القضيّة المحسومة، التي لا يكون فيها من تراوح، فإما المُحادّة وإما الموادّة ... لا سبيل لأنصاف الحلول في أمر العقيدة، وفي أمر التصوّر الإيمانيّ للوجود وللحياة، وللحركة فيها ... !

وهكذا هو الحَسْم في قضية الانتماء، وفي قضية الموالاة، قضيّة حيويّة للأمة، هي قلبها النابض، وهي سياجها المحافظ عليها وعلى لُحمتها، وعلى خصوصيّتها وقوامتها، ومتى هُوِّنَ من شأنها، ومتى استُسهِلت تحت أسماء وعناوين كاذبة برّاقة كان فشل الأمة، وكان ذهاب ريحِها، وكان هوانُها وذُلّها ... فتارة هي الموالاة باسم السلام، وتارة هي باسم التعايش، وتارة باسم الإنسانية الجامعة، وتارة باسم العلمانيّة ومقتضياتها، وأخرى باسم المصالح المشتركة ...!!

وهكذا هي حال الأمّة اليوم ... وهكذا هي حال دول الإسلام اليوم، ونحن نشهد التطبيع يتلوه التطبيع مع العدوّ... !!
مع الذي كفر بالحق الذي جاء المؤمنين، ومع الذي أخرجهم من ديارهم أن آمنوا، ومع الذي يقتل ويذبّح ويستبيح الحُرمات، ويدنّس المقدّسات، ويسلب وينهب وما يُبقي وما يذَر...! باسم كل تلك المسمّيات، والحقيقة واحدة ...أنّها التي في جماعة المؤمنين  لا يجب أن تكون ...! لأنها الجماعة الموصولة بربّها، المؤمنة به، المطيعة لأمره في الأرض، المحقّقة للخلافة التي أراد الله بخلقه للإنسان .

ثم ها هو من بعد التوبيخ،  التعجيب من أمر المؤمن إذ يفعل ذلك :
"تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ "

يعلم المؤمن، ويوقن أنّ الله تعالى أعلم بما يخفي الإنسان وبما يُعلن، أعلم بحقيقة أمره الكائنة في قلبه، وفي نيّته، أعلم يما يفعل أسرّ أو أعلن، أخفى أو أبدى ... فمن يفعل من المؤمنين ما فعل حاطب من بعد ما نزل من التوبيخ والتحذير والتفظيع والبيان في هذه الآية  فقد ضلّ سواء السبيل ...!

إنه تخويف ما بعده تخويف، يُلقي بالحسم في شأن مَن يأتي ما أتى حاطب، لئلا يستسهل مؤمن فعله بحكم فعل صحابيّ له، فعلته كانت مناسَبَة لنزول الأمر الفصل، من توبيخ وتحذير وتفظيع يبلغ المؤمنين عبر الأزمنة  ... لتُقام الحُجّة على المؤمنين في كلّ زمان، وأنّه رغم بقاء حاطب في زُمرة المؤمنين، إلا أنّ الحكم في فعلته فيما قد يلحق قد نزل  : " وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ "

وتزيد الآيات المقبلات في بيان إقامة عداوة أعداء الله للمؤمنين ببيان ما يريدون بهم :
"إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)"

إنهم إن يظفروا بكم يكونوا لكم أعداء، وإن ألقيتم إليهم بالمودّة، لن يمحو عداوتَهم لكم إلقاؤكُم إليهم بالمودّة، وإسراركم لهم بأمر المؤمنين، تبتغون منهم يدا لمصالحكم ... ! إنهم إن يظفروا بكم في موقعة سيقيمون على عداوتهم لكم، لأنّ أصل العداوة عندهم أنكم مؤمنون بالله ربّكم ... !

ويحضرني هنا ما لحِق بأصحاب الأخدود من تعذيب وتحريق، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله : " وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ"

هكذا هو دَيْدَن أعداء الله في كل زمان ... مع الرسل السابقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مبعثه، ومن بعده إلى يوم الدين ... مُعاداتهم لله ولرُسُله هي أصل معاداتهم للمؤمنين ... !
وليْت شِعْري ... ! أين الأمّة اليوم من هذا الفهم الذي يُلقي به القرآن لهم إضاءات على الطريق، كشفا وتبيينا لحقيقة أمر أعداء الله ورُسُله ... !

فأين السلام المزعوم يا أيها المطبّع الخانع الذليل، يا وصمة العار في جبين الأمة، يا منافقا، ويا خانعا، ويا بائعا لدينك ولأهل دينك، ولأرضك، يا مَن يعلم علم اليقين أنّه ليس السَّلام، ولكنه الاستسلام، وتُسمّيه سلاما عملا على توطين الرعيّة المؤمنة على ما هو ليس من حضيرة الإيمان ولا من قواعده، ولا من أسس جماعته ...!!

" إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ "
تلقون إليهم بالمودّة، لقضاء مآرب لكم، ولمصالح ... ولكنّهم رغم الكائن منكم من تزلّف وتقرّب، بل من تقبيل لنِعالهم، هم إن يظفروا بكم في لقاء أو في أي سانحة لن يبتغوا إلا إيذاءكم بأيديهم قتلا وبألسنتهم سبّا، شُكرا لكم وامتنانا على ما أسديتُم لهم من خدمات ...! لن يجتمع لكم أن يكونوا لكم موادّين وأنتم المؤمنون ! لن يرضوا عنكم إلا أن تكفروا بالله ربكم ...!
ذلك أنّ وُدّهم القديم الجديد المتجدّد أبدا ....  : " لَوْ تَكْفُرُونَ" .

"ولَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" –البقرة: من الآية 120-

ونتأمّل التأكيد على حالهم بإزاء حالنا، من قولهم سبحانه قبل قليل : " تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ "، ثم من قوله هنا سبحانه : " وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ".
فإنما تلك قضيتهم مع المؤمنين، كافرون بما جاءهم من الحق، وغاية أمانيهم أن يردّوهم عن دينهم، ليكفروا كما كفروا.
قضيّتُهم أن تكفروا بالله ربّكم، أن تتّبعوا ملّتهم ...

وهي ذي الإضاءات، وهو ذا الكشف القرآنيّ لنواياهم، ودواخلهم، وحقائقهم ...ولكنّنا طرحنا ضوءَه الكاشف، فغُمِّي علينا، ولم نعد نبصر الحقائق، بل صرنا نحتكم للمظاهر والأوهام... !

وإننا لندري أنها الأوهام، ونعلم ما يحملون علينا في صدورهم، ولكن ما حال العبد إزاء ربّه المعبود إلا الخضوع والخنوع والتسليم التامّ ... ! فهُم الأسياد والأرباب والمستَرضَوْن من عبيدهم في ديار الإسلام ...!

ويزيد الله سبحانه في البيان... ومازلتُ أتخيّل حاطبا وهو يسمع، وما زلتُ أرى القرآن يعالج في نفسه داء خبيثا، برحمة من الله لم يأتِ على الإيمان في قلبه :
"لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)"

لأجل قرابته فعل حاطب ما فعل، ليضمن لهم يدا حامية في مكة، وكائنا ما كانت المصلحة التي لأجلها يُلقي المؤمن لعدوّ الله وعدوّه بالمودّة، فهي الأدنى منزلة من الأولاد والأرحام، فجيئ بالأرحام والأولاد المعنيّ بها مصلحة حاطب، وما دونها مضمَّن لكل من يُلقي بالمودّة من المؤمنين إلى أعداء الدين تحت أي مسمّى ... !

لن تنفعكم ... والمؤمن موصولة دنياه بآخرته، لا تنفصل عنها ولا تنبتّ، بل إنّها الجَنَى المأمول من غِراس الدنيا، والحصاد المُبتغى من زرعها ... هي التي يرنو إليها، وهي التي يعمل لها ...
فلن تنفعكم مصالحكم يوم القيامة -وإن كانت أرحامكم وأولادكم- وأنتم تُقدّمونهم على حبّ الله ورسوله، ومُحادّة مَن حادّ الله ورسوله ...

وقد عرفنا في "المجادِلة" تلك القاعدة : " لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ  أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ  وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ  أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " –المجادلة :22-

إنه اليوم العظيم الذي يفرّ المرء فيه من أخيه، وأمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ...!
يوم القيامة يُفصَل بينهم...كلٌّ بما قدّم ... !
فمن قدّم أرحامَه وأولاده على قضية الانتماء، ورجحت كفّتهم عنده، فوادّ أعداء الله وأعداء الدّين من أجلهم، لن يبوء بنفع ولا فائدة، إلا أن يجد نفسه يومَ القيامة وحيدا، لا ينفعه مَن باع لأجله قضيّته الحاسمة ! "وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وتستمرّ التربية الربانيّة، ويستمرّ العلاج الربانيّ، بالهداية الدائمة، والإرشاد، تستمرّ مشكاة القرآن في الإضاءة على درب الحياة بكلّ سبيل، وبكلّ أسلوب :

"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"

أما هذه المرة فإنها الإضاءة بالقُدوة... التربية بالقُدوة، من بعد ما كان من تحذير، وتوبيخ، وتفظيع لموادّة أعداء الله وأعداء المؤمنين.
ففي "المجادِلة" عرفنا التقدمة لحزب الله، ولصفاته، وفي "الحشر" عرفنا الحزب بأفراده بدءا بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، انتهاء إلى كلّ مَن يأتي من بعدهم من متبعيهم بإحسان إلى يوم الدين ...

أمّا مع "الممتحنة"، فإننا نَعرض لما من شأنه أن يطرأ على هذه الجماعة التي أسِّست على قاعدة من مُوادّة الموالين لله ورسوله، ومُحادّة المحادّين لله ورسوله، إنه من شاكلة ما كان من حاطب ساعة ألقى بالمودّة لأعداء الله يبتغي يدا تحمي قرابتَه...

إنّه الشّرخ الذي لا يجب أن يكون في الجماعة المؤمنة، بل يجب أن يُحذَر، ويجب أن يوقَف عنده، فتُعطَى الجُرعات اللازمة للعلاج من خطأ المرة الأولى لكي لا يتكرّر مرات بعدها... ! تُعطى التركيبة اللازمة المكوّنة من أصناف الأدوية المتكاملة فيما بينها ...
لكي تتحصّن نفوس المؤمنين منه بما تستقبل من ضبط ربانيّ حاسم، ومن ردع  صارم، ومن تخويف من مغبّته، في كلمتين ثقيلتَين مخيفتَين  : "وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيل" تأكيدا على وجوب الاستقامة على الطريق ... وأنّ الحفاظ على وحدة الصفّ وتماسكه وتلاحمه يقتضي ثورة على مثل هذه الخروقات التي تقع بفعل تفاوت الأنفس، وتفاوت قوّتها، ولكنّ وقوعها خطر وجب التصدّي له بالكمّ اللازم من العُدّة التحذيريّة الربانية، تأكيدا على وجوب لزوم قاعدة المُوادّة لأهلها والمُحادّة لأهلها، فلا حِياد للمؤمن الحقّ عن الموادّة والمحادّة متخذا دينه وعقيدته لذلك مرجعا...!

إنه التذكير بالأسوة الحسنة، بالقدوة فيمَن سبق...
الأسوة بنبيّ الله إبراهيم عليه السلام الذي كان أمّة قانتا لله، وبمَن كان معه، تأسّي الجماعة المؤمنة بالجماعة المؤمنة، روحها من روحها، هي أصلها، كما أنّ أصل هذا الدين ضارب في القِدم قِدَم الوجود البشريّ على الأرض ...

في سورة الحشر عرفنا حزب الله مُمَثّلا في أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّق بدعوته، ومع "الممتحنة" نضرب في أصل الأصل، لنعود إلى أبي الأنبياء، وأبي الحنيفية أصلا ... فرسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه قبس من ذاك النور الأصيل الذي هو بقِدم الوجود، وبقِدم الإنسان على الأرض.

لهذه الجماعة المؤمنة في المدينة أسوة حسنة في إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومَن معه : "إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"

هكذا أعلنها أولئك المسلمون لله، المنقادون له سبحانه، الموالون لمَن والاه، والمُعادون لمَن عاداه، أعلنوها بالقول والفعل معا، أنهم برآء من قومهم ومما يعبدون من دون الله...
"كَفَرْنَا بِكُمْ" ... وكأنهم وهم يعلنون الكفر بهم، يعلنون التبرؤ منهم قلبا وقالبا، فالكفر بما يعبدون مضمَّن في هذا لا محالة... ولكنّه هنا إعلان القطيعة معهم، يؤكّدها قولهم بعدها :

" وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ "

لأجل الله وحده، كفرنا بكم، قاطعناكم... لأجله وحده العداوة والبغضاء أصل ما هو كائن بيننا، إلى حين تحقّق الشرط المُذهِب لها : "حتّى تؤمنوا بالله وحده" ... !

وبهذا التعبير الدقيق البديع، وبهذه الصيغة المُحكَمة، هو الإعلان الحاسم، فكما أنها القطيعة أبدا ما دمتم على كفركم بالله، فهي المنقلبة وصلا وصلة متى آمنتم بالله وحده ... وحده بلا شريك ... لا أن تعلنوا إيمانكم به مع إيمانكم بغيره، مع اتخاذ الشريك له ... !
ولنتأمّل... فكما جاء في الآية الأولى التأكيد على أن معاداتهم للمؤمنين قائمة بسبب إيمانهم بالله ربّهم، مُحادّةً منهم لله ولرُسُله، كذلك معاداة هؤلاء المؤمنين القدوة للكافرين قائمة ولا تزول ما كفروا بالله الواحد، وذلك مُوادّة لله وحده سبحانه ...

حسم في هذه القضية الحيويّة المصيريّة في حياة الجماعة المسلمة، بل في حياة الأرض قاطبة... حسم هو روح هذه العقيدة، وروح هذه الجماعة الضاربة بقاعدتها الانتمائية في أًصل الوجود.
إلا أنّ استثناء يُذكَر في الآية، على سبيل أنه القول الفصل الحقّ الواضح الذي لا يُغَمَّى فيه على شيء لحاجة بين الحاجات :
" إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ "

هذا هو الاستثناء الوحيد، عزم إبراهيم على الاستغفار لأبيه، لرحمة فيه ورأفة، أشفق بها على أبيه وعلى مآله عند ربّه : "وَمَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيه إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّه تَبَرَّأَ مِنْهُ..." –التوبة: من الآية 114-  فسواء كان ذلك الوعد هو وعد أبي إبراهيم لإبراهيم بالنظر فيما دعاه إليه كما يُروى، أو وعد إبراهيم لأبيه بأن يستغفر له، فإنه لما تبيّن له صلى الله عليه وسلم أنه عدوٌّ لله تبرأ منه هو أيضا.

إنه الانقطاع التامّ لله، بالتبرؤ من أقرب الناس، بإعلان القطيعة معهم ما داموا أعداء لله ...
"رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"
هذا جِماع أمر إبراهيم ومَن معه...  جِماع أمر هذه الجماعة المؤمنة القدوة لجماعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المؤمنين ...

ربنا عليك توكّلنا ... أنت وكيلنا، ومعتمدنا وسندنا، وظهيرنا ... وإليك الرجوع والأوبة والتوبة، وإليك المصير والرُّجعى ... منك نحن ولك وإليك راجعون.

ولقد قالها إبراهيم مرة بصيغة أخرى : " الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)" -الشعراء-

حياة على وقع الصلة بالله التي لا تنقطع، وعلى الإيمان واليقين به سبحانه وبأنّ الأمر كلّه بيده ... إنه ومَن معه الأسوة الحسنة في الإيمان، وفي تحقيق الحركة في الأرض وِفق منهج الله، ووِفق أمره، لا نوالي إلا مَن والاه، ولا نعادي إلا مَن عاداه .

ويزيد إبراهيم عليه السلام ومَن معه في بيان الوجهة، وفي بيان المنهج، بعد ما كان من :

1- إعلان قويّ صادع عن عداء الكافرين وإن كانوا أقرب الأقربين، ومجافاتهم، وبغضهم إلا أن يؤمنوا بالله الواحد.
2- ومن بعد ما كان من توكّل عليه وحده، وأوبة وتوبة وتذلّل بين يَدَيه.
3- ومن إعلان اليقين بأنّ المصير إليه سبحانه.

فهي دنيا مُقامة على أساس التوحيد والعبادة والموالاة في الله والمعاداة فيه،  تُقدّم لآخرة يقوم فيها الناس لربّ العالمين، فيقوم فيها المؤمنون موحّدين مؤمنين بما قدّموا من توحيد وإيمان في الدنيا.

يزيد عليه السلام في اعتزاز بالله، وفي حبّ لعِزّة دينه :
" رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)"

لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، بأن يكون حالنا حال ذُلّ وهوان بين أيدي الكافرين، وحال ضعف واستجداء واسترضاء لهم، فيُفتَنون، ويرون أنّنا لو كنّا أهل حقّ لكانت حالُنا البيّنَةَ على ادّعائنا ... ! ويرون أنفسهم بالمقابل أهل حقّ وهم في قوة ومنعة وسيادة، وقدرة على إخضاع العالَم لما يريدون ... !

غيرة هي منه عليه السلام على دين الله الحق، وعلى أهله، فيسأل ربّه سبحانه أن يُديم عِزّهم به.
وهذا حال العزيز بربّه أبدا، الذي أكثر ما يكره، وأخشى ما يخشاه أن يذلّ دينُه ويذلّ أهل دينه ... ويعزّ أهل الكفر وأهل عداوة الله!
وإنها لحالنا يا سيّدنا إبراهيم... ! يا قدوتَنا وأسوتَنا .... !

لقد ذلّ أهل الإسلام، ولقد هان على المؤمنين دينُهم، ولقد هانت بلاد الإسلام على أهلها، فباتت لقمة سائغة لأعداء الله ... ! من بعد رضى بالذلّ والخضوع والهوان، من بعد ابتغاء العزّة في غير جنب الله ... !

من بعد ما ذهِلنا عن قواعد القرآن وإضاءاته، فحسبناهم جميعا وقلوبهم شتى... ! من بعد ما جعلنا من قشّة لا تُمسِك ولا تُمسَك قوّة وعِزّا، وهم الذين لا تقوم لهم على الحقيقة قائمة من انبتات صلتهم بالله، ومن سَبْحهم في الهواء... فلا قرار ... !

أيا سورة الحشر يا قريبة غير بعيدة ... أيا سورة العزّ بالله العزيز الحكيم، يا مَن توشّى بعزّة العزيز صدرُكِ، ومُسّك بها خِتامُكِ ... هجرناكِ، وهجرنا قواعدكِ التي لا تتبدّل فهجرتْنا العِزّة... !

غابت عنا ظلال المهاجرين المُخرَجين من الدنيا ومن زهرتها... مما ملكوا، وممّا كان لهم ثراء وجاها وسُلطانا، مبتغين فضلا من الله ورضوانا، ناصرين لله ورسوله... !

غاب عنّا الاقتداء يا سورة الحشر ... !
غابت عنا ظلال الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان،  وأحبّوا إخوانهم، فأسكنوهم قلوبهم قبل دُورِهم، وقاسموهم كلّ ما يملكون، بل وآثروهم على أنفسهم، فوُقُوا شُحّ أنفسهم ... !

غاب عنّا الاقتداء يا سورة الحشر ... !

غاب عنّا أن نوقّر سادتَنا الذين سبقونا بالإيمان، غاب عنّا أن نعتزّ بالإيمان وإن كنّا الأقلّ مالا وقوّة ... !

غابت عنّا حقائقك يا سورة الحشر ... وقواعدك يا من حشرتِ لنا القواعد حشرا، يا مشكاةً على الدرب... !

غابت عنّا حقائق كشفها لنا ربّ العزّة العليم الخبير، حقائق عُصبة المنافقين مع الكافرين من أهل الكتاب، مع المشركين، مع كلّ من كَفَر بالله الواحد يا سيّدنا إبراهيم ! يا مَن هجرتَ الأهل والأرحام وأعلنتَ العداوة والبغضاء بينك وبينهم أبدا حتى يؤمنوا بالله وحده !

حقائق ضعفهم بالانقطاع عن الله، وإن صارت بين أيديهم كلّ حبات تراب الأرض ذهبا وسلاحا ... !  وحقائق أنّ حزب الله هم المفلحون ما استمسكوا بالله ربّا لا بالأرباب البشريّة، ما اعتزّوا بالله العزيز، وما أيقنوا بحكمته في تدبيره ... !

غابت عنّا يا سورة الحشر، ويا سيّدنا إبراهيم العزيز برّبه،  العزيز بقدرة العظيم، أنّ الله ينصر عباده المؤمنين -وإن كانوا الأقلّ قوّة وعُدّة- بالرُّعب يُلقى في قلوب الكافرين، لتنقلب عليهم مُضغتُهم عدوّا مقاتلا، يُزلزل قواعدَهم قبل الجيوش المسلّحة! ، وبالرهبة في صدور المنافقين، أشدّ هي من رهبتهم الله، إذ هم لا يفقهون ... !

فكيف نبصر من بعد غياب كل تلك الشموس عن حياتنا ! وكيف نعقل من بعد غياب كلّ تلك القواعد عن تصوّراتنا ومفاهيمنا !
يا سيّدنا إبراهيم يا أسوتنا ... يا مَن تسأل ربك العزيز الحكيم، ولا تسأل غيره: " رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" ... !

يا مَن آمنتَ وصدّقتَ، وعملتَ لله وبالله، وفي سبيل الله، كأحسن وكأتمّ ما يؤمن إنسان، وكأحسن وأتمّ ما يعمل لربه... ! فكنتَ شمعة الإيمان الموقَدة في ظًلمة كفر الأرض... ! وكنت إشراقة شمسه في بهيم ليلها المظلم... ! كنتَ أنت المؤمن، وأنت الإيمان، وكنتَ أنتَ ولم يكن معك إلا الواحد أو الاثنان ... !

يا مَن كنتَ أمّة قانتا لله... ! يا مَن ابتلاك ربك بكلمات فأتممتهنّ، فكنت المطيع لأمرٍ منه بذَبْحِ قرّة عينك الذي رُزِقتَه على كبر، وعلى وَهَن العظم منك.. وإذا أنتَ مع كلّ عظيم ائتمارٍ منك بأمر ربّك، وعظيم طاعةٍ له،  تسأله أن يغفر لك ذنبَك... !!
يا مَن تبتغي العزّة في جنابه وفي رحابه، ولا تبتغيها من غيره، ولا فيما سوى دينه ... ! يا أُسوَتَنا وقدوتَنا، يا أبا الحنيفيّة ويا أبا الأنبياء... !

وما كان هذا شغل المؤمن الشاغل، وما كان هاجسَه، إلا أدام الله عِزَّه ...وما فرّط وتساوى عنده حقّ بباطل، وما تساوت عنده عزّة بالله وذِلّة بالناس، وما صار ميزان القوة والمال عنده ميزان حقّ، وإن كان في أبطل المبطلين، إلا أذلّه الله وجعله فتنة للذين كفروا ... !!

لقد تأسّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيدنا إبراهيم، ولقد تأسّت الجماعة المؤمنة بسيّدنا إبراهيم وبمَن كان معه، فكانوا أذلّة على المؤمنين، أعزّة على الكافرين... !
فمِن بعد الإفاضة في عزّة الله تعالى، وعزّة المؤمنين في جنبه في سورة الحشر، وذِلّة الكافرين في معاداته ومعاداة دينه، يتجسّد لنا في سورة الممتحنة الاعتزاز بالله وبدين الله، والغيرة عليه وعلى أهله في دمٍ ولحم، في سيّدنا إبراهيم عليه السلام أسوة وقُدوة في العزّة والاعتزار بالله العزيز الحكيم ... وهو الحنيف المائل عن كُفْر الأرض إلى التوحيد، إلى الإيمان بالله وحده ... !

يا سيّدي ... يا إبراهيم يا خليل الرحمان... يا أمّة .... ! يا مؤمنا بربّك العظيم، يا من لا تحبّ الآفلين: "لا أُحِبُّ الآفِلِينَ" ... يا مهتديا بربّك، وممتنّا له وحده بالاهتداء: " لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين" ...
يا متبرّئا مما أشرك قومُه المشركون : " إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ"...
يا مَن وجهتَ وجهك لله حنيفا : " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين"  ويا قدوة وأسوة ... !
« آخر تحرير: 2020-09-29, 14:26:36 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)"

ويعود الخطاب للجماعة المؤمنة المؤسَّسة على موالاة أولياء الله، ومحادّة المحادّين لله.
يعود الخطاب التربويّ العلاجيّ لطوارئ أحوال أفرادها، حتى يُحافظ على خصوصيّة الجماعة التي لا تحيد عن قاعدتها الانتمائية إلا ويُخزيها الله...  تأكيدا على أنّ في إبراهيم ومَن معه الأسوة الحسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، أما من يرجو الدنيا ومظاهرها فستغيب عنه الأسوة كما غابت عنه كل إضاءات القرآن ... كلّ إضاءات سورة الحشر، وسورة المجادلة في ربوع الدولة المسلمة، في ربوع المجتمع والدولة سواء بسواء ...

ولقد عرفنا في سورة المجادلة : " لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) "

هي أمّة موصولة دنياها بآخرتها... فهي التي تعمل لها، وتقيم شأن مجتمعها على أساسٍ من العمل للفوز بخيرها وثوابها وحُسناها، كما تقيم دولتها على أساس من الاتصال بها ...

أما أن تكون غايتها الدنيا، وحدودها الدنيا، فكلٌّ من الحاكم والمحكوم لن يرى في إبراهيم ومَن معه أسوة، فكما عمِي عن تربية القرآن بكشف الحقائق وبترسيم القواعد المقيمة لحياته، سيعمى بلا ريب عن الاقتداء والتأسي بإبراهيم ومَن معه ... !

وقد جاءت في "الحشر" الإشادة بالسابقين الأوّلين من مهاجرين وأنصار قدوة وأسوة،  لنجد في الممتحنة امتدادا أعمق للتأسّي والاقتداء، ضربا في تاريخ هذا الدين، وفي أصل الرسالات والأنبياء، بيانا لأصل توجيه الله لعبده لضرورة الاتصال بربّه، والاحتكام لأمره، والعيش على نبض الهداية بالرسالات وبالرُّسُل...

ومن يتولَّ، وتكنْ حدوده الدنيا الضيّقة الزائلة، وهو الذي يراها ممدودة مترامية الأطراف، متعدّدة الأشكال، زاهية الألوان : " فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ "
هو الغنيّ سبحانه عمّن يعادي فيه وعمّن يحب فيه، الغنيّ عن عباده، المغني، الذي يفتقر إليه وإلى عطاءاته، وإلى إقامة أمره من أدقّ دقيق فيه إلى أجلّ جليل، كل مخلوق من مخلوقاته.

هو الغنيّ الذي لا يضرّه مَن كفر، ولا ينفعه من آمن، لا ينقص من غناه مَن أعرض عنه، ولا يزيد فيه مَن أقبل عليه... إنما ينفع نفسَه، ويزيد لنفسه، ويُنجي نفسه وهو العبد المملوك لربّه ... هو الحميد سبحانه الذي يُحمَد على كل ما يكون منه...
وهكذا... من بداية السورة، ونحن في ظلال الاعتزاز بالله العزيز الحكيم الغنيّ الحميد، في ظلال التحذير والتخويف من موالاة المؤمنين لأعداء الله... التخويف منه وهو المضلّ عن سواء السبيل، المضلّ للفرد المؤمن، وللجماعة المؤمنة على السواء، المُهلك لروح الجماعة المؤمنة المنقطعة لله، المحققة للخلافة في أرض الله ... وأنّ المؤمن لا يرجو  عزّة ولا منعة، ولا قوة، ولا يدا من عدوّ لله، محادٍّ له ولدينه ...

وأنّ موادّة أعداء الله عارٌ وشَنَار وخسار وبوار، ويدٌ تُمَدّ لمن لا تنقلب عداوته للمؤمن موادّة إلا أن ينقلب المؤمن كافرا، وذلك الوُدُّ القديم الجديد المتجدّد للعدوّ...فهو الباسط للمؤمن يده ولسانه بالسُّوء كلِّه ...إنه عنده "الذي آمَنَ بالله وحده" ... !
وأنّ إبراهيم ومن معه الأسوة الحسنة والقدوة، وهم الذين أعلنوها تشقّ الآفاق، وتخترق الأطباق أنهم لله الواحد عباد، موالون لمن والاه، معادون لمن عاداه...

والقاعدة الذهبية، والخلفيّة الذهبيّة في تبنّي قواعد القرآن كلّه، وفي اتخاذه مشكاةً على درب الحياة : "رجاء الله واليوم والآخر" ...

" عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) "

و "عَسَى"  فعل مقاربة يدلّ على الرجاء، وإذا صدر من الله  تعالى كان متحقق الوقوع، لصدوره من أكرم الأكرمين.
وهنا يكمن الاستثناء، كما كان في قول إبراهيم ومَن معه وهم يُعلنون العداوة والبغضاء، يُضَمِّنون إعلانهم الاستثناء القالب للحال قلبا كليّا من المعاداة إلى المودّة في قولهم : "كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ "
"حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" فتنقلب عداوتنا لكم مودّة، وبغضاؤنا لكم رحمة ...التوبة باب الاستثناء لقلب البراء ولاء ...

دعوة للإقامة على الرجاء في الله، الذي يرجو الله واليوم الآخر ويتخذ إبراهيم ومن معه أسوة فيوادّ في الله، ويحادّ في الله، هو ذاتُه الذي يرجو في الله أن يقلب ما بينه وبين مَن عادى لله، مودّة ورحمة، هو سبحانه الغفور الرحيم لمن تاب وآمن وعمل صالحا  : " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82) " –طه: 82-

" إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70)" –الفرقان:70-

والله سبحانه قدير، وهو الهادي سواء السبيل، قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلّبها كيف يشاء سبحانه .
الرجاء في الله كبير، ولا يستطيع كائنا مَن كان أن يجزم بإقامة إنسان على حال، فكَم من كافر أحيا قلبَه الإيمان، وكان في كفره عَتِيّا شديدا على المؤمنين، لا يظنّ ظانّ أنّه قد ينقلب إلى الحال التي عاش حياتَه محاربا لأهلها، لا يألو جهدا ولا سعيا في سبيل صدّ الناس عن الإيمان، وفي سبيل محاربته ...

ولقد نقلت لنا ليلى بنت أبي حثمة عن عمر بن الخطاب قبل إسلامه،  حينما مرّ بها وهي وزوجها يهمّان بالخروج إلى الحبشة، كيف عرفت في وجهه رقّة لم تكن تراها فيه، وكيف انصرف وقد أحزنه خروجهما، فلما أخبرت زوجَها بذلك  قال: أطمِعتِ في إسلامه ؟ قالت: نعم، قال: فلا يُسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب ... !

ولكنّ ابن الخطّاب أسلم حقا كما توسّمت في وجهه ليلى -على ما كان يُعرف فيه من شدّة على الإسلام وأهله- وأصبح بابا دون الفتنة في الأمة، وحقّق عدل الإسلام في الأرض حتى سُمّي الفاروق  ... وأقام حضارة نشرت نورَ الإسلام وعدله في ربوع واسعة من الأرض ... !

وإنّك لتظنّ بهند بنت عتبة كُلَّ ظنون السوء، وهي التي لاكتْ كبدَ أسَدِ الله حمزة، وما كان أهْلُ خِبَاءٍ أحَبَّ إلَيها أنْ يَذِلُّوا مِن أهْلِ رسول الله ومَن معه، وما أصْبَحَ -يوم أسلمت- علَى ظَهْرِ الأرْضِ أهْلُ خِبَاءٍ أحَبَّ إلَيها أنْ يَعِزُّوا منه صلى الله عليه وسلم ومَن معه  ... !
عسى أن يجعل الله بينكم وبين مَن عاديتم من قومكم وأهلكم وأرحامكم في مكة مودّة ورحمة بهداية تُسكَب في قلوبهم أنوارا، تُميط الظلمة وتُزيح أستارها ... ! والله على ذلك قدير، وهو الغفور الرحيم ...

وإنّ النّفوس التي جُبِلت على الميل للأهل والرحم والأحباب والأقارب، يعلم خالقُها بما أودع فيها من هذا الحبّ الجبليّ، أنّها التي تُكابِد الفراق والقطيعة، وتودّ لو لم يكن منها شيء، وتودّ لو يهتدي للإيمان بالله وحده مَن تحبّ ... ! ليجتمعوا على الحبّ في الله فلا قطيعة ولا عِداء... !

والله رحمان رحيم سبحانه، يُحدث أمرا، ويبدّل من حال إلى حال ... !ولا يدري أحدُنا مَن يهتدي يوما من بعد ضلال، ومن يؤمن من بعد كفر... !
وهكذا نستشعر رحمة الرحمان الرحيم سبحانه، وهو بعد الحسم والحزم في الآيات السابقة، يُحدث التوازن في الأنفس المخلوقة من ضعف، فيُلوّح برحمته، وبجواز تبدّل الأحوال، واهتداء مَن يقاطعه المؤمنون من الأحبة والأرحام، ليعود الصَّفْو، بل لتعود الإشراقة في النفوس تحت شمس الإسلام المُضيئة المُحيية ... !

"لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)"

ويستمرّ وَقْع الرحمة ونحن نستشفّ عمل الآيات على خلق توازن في النفوس، وتوازن على مستوى المعاملات، لتحقيق العدل في خلافةٍ للإنسان في الأرض تعمل بمقتضى أمر الله العدل سبحانه الذي لا يرتضي ظلما أو إجحافا بحقّ أحد من عباده.
ولا يحقق هذا العدل إلا هذا المنهج الربانيّ، الذي يراعي الظروف والملابسات، وطوايا النفس الفاعلة المتحركة بالأمر، وهي كما هو من أمر خالقها الذي يعلم ما يوائمها .

في هاتين الآيتين وجهٌ من أوْجُهِ التفصيل والتحديد... 
إنّ النهي الذي جاءت به الآيات الآنفة لا يعني الكفار على المطلق وعلى العموم، بل لقد جاء في الآيات بيان أنهم الذين أخرجوا الرسول والمؤمنين، أن آمنوا بالله ربّهم، ويأتي التفصيل في تحديد المستثنَيْن منهم في هذه الآية : "الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ" ...
هؤلاء المسالمون، الذين وإن كانوا على غير ما أنتم عليه من اعتقاد، وإن اختاروا البقاء على الكفر، فإنهم لم يقاتلوكم بسبب إيمانكم، لم يُعلنوا عليكم الحرب لأنكم مؤمنون، ولم يخرجوكم من دياركم .
هؤلاء ليسوا من الذين نهى الله عن برّهم(أي معاملتهم بالحسنى) وعن الإقساط إليهم في الأحكام، فلا يُظلَمون ولا يُبخَسون حقا ولا يُجار عليهم...
برّ وعدل، هما روح الإسلام، وسَمْتُه...
فلا يمنع أن يكون الواحد من الناس كافرا لينال عند المؤمنين حقا من حقوقه، أو ليُنصَف في قضية تجمع بينه وبين مؤمن إن كان هو  صاحب  الحق فيها .

وإنه هو هو القرآن الذي يأمر فيه سبحانه ألا يكون بُغْض قوم دافعا للاعتداء عليهم : "... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ..." - المائدة: من الآية 02-

وهو هو القرآن الذي أنصف يهوديّا على مؤمن حينما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية وما تلاها من بضع آيات نزلت فيه وقد اتُّهِم  بالسّرقة...
فبُرِّئت ساحته وأدين المسلم، في عدل تام لا يحابي، بل يعطي كل ذي حق حقَّه، في حكم لا يجعل اعتقاد المحتكِم عاملا من عوامل إنصافه أو إدانته : "إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105)" -النساء-

وقد جاء في الصحيح أنّ هذه الآية نزلت فيما نزلت، في أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، إذ هرعت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها مع أمّها الكافرة عندما زارتْها يوما : فعنها رضي الله عنها قالت : "أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً، في عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: آصِلُهَا؟ قالَ: نَعَمْ قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ} [الممتحنة: 8]." - صحيح البخاري-

كما دخل في حكم هذه الآية حلفاءُ النبي صلى الله عليه وسلم مثل خُزاعة، وبني الحارث ابن كعب بن عبد مناةَ بن كنانة، ومُزَيْنة، وقد كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحبون ظهوره على قريش، وكذلك النساء والصبيان من قريش.
وتزيد الآية التالية لها في البيان :

"إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون"

هؤلاء على التحديد هم مَن تشملهم دائرة النهي:

1- قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ.
2- أَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ.
3- ظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ.

هؤلاء المنهيّ عن موالاتهم...هؤلاء هم أعداء الله وأعداء المؤمنين الذين حذّر الله من اتخاذهم أولياء، ومن الإلقاء إليهم بالمودة .
هم الذين كانت فعلة حاطب سببا في نزول آيات التخويف والتوبيخ والتعجيب من توليهم ... !

هم الذين نزل بيان أنّ من يواليهم ويوادُّهم قد ضل سواء السبيل ... !
وهاتان الآيتان ليستا من المنسوخ كما قيل بل قائم حكمهما في كل زمان .
وليس لأحد أن يجدهما محجّة لتسويغ ما هو كائن من تطبيع وسلام ومُوادّة لليهود ...!

فأمر الآيتين أبين من أن يُلْبس غير ما ألبسهما الله، وأن يؤوِّله المطبّعون المتذلّلون من بني الإسلام زعما وادعاء ! الخانعون المتزلّفون لأربابهم من دون الله، أعداء الدين ... !
الآيتان أبين مما قد يحاول أحدهم أن يلصق بهما من تأويلاته الهوائية ... !

** الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ: واليهود أشدّ عداوة للمؤمنين في كل زمان، وهم مَن يستلذّون قتل المؤمنين وتذبيحهم ...وما مذابح "دير ياسين" و"كَفَر قاسم" و"خان يونس" و"المسجد الأقصى" و"الحرم الإبراهيمي" و"مخيم جينين"... وغيرها عنا ببعيد !! وما استشهاد إخواننا الفلسطينيين منذ النكبة إلى يومنا، واستشهاد غيرهم من المسلمين في سبيل الله ودفاعا عن القضية عنّا ببعيد ... !

** وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ : وهم قد فعلوا، ويفعلون، وهم دائمو التخطيط لذلك... !
استوطنوا فلسطين قطعة إثر قطعة، شرّدوا أهلها، وهدموا بيوتهم، وأخرجوهم منها، وسلبوهم أرضَهم، وأقاموا عليها مستوطناتِهم...
أقامت إسرائيل بعد عام 1948 قرى استيطانية بكاملها، كما قسمت القدس، فطردت وطردت وشرّدت الفلسطينيين من الناحية الغربية، واستوطن اليهود فيها، وصيّرتها عاصمة لإسرائيل، ومستوطناتهم تحيط بالمسجد الأقصى في الناحية الشرقية إحاطة السّوار بالمِعصم... ! تزحف على أراضي الفلسطينيين، تنفث سُمّ الاستيطان والاستيلاء على أراضي المسلمين يوما بعد يوم ... !

هذا عن فلسطين ... وحدِّثْ عن السّياسات الاستعمارية المقنّعة بقناع السلام، وإنقاذ الشعوب العربية من حكّامها الدكتاتوريّين، لإحلال الديمقراطية بأراضي العرب، بقيادة أمريكا وإسرائيل  والدول الغربية، في العراق وفي ليبيا وفي السودان، وفي اليمن ... ! وبلاد الإسلام قطعة إثر قطعة تُنتَهَب وتُسلَب من أهلها، وتُستَغَلّ ثرواتها الهائلة باسم النظام الدوليّ المحارب للإرهاب، والحقيقة أنه المحارب للإسلام والمسلمين ...على مرأى من أعين المسلمين وعلى مسمع ... !!

وليس اللّوم على الذّئب وهو يقع على الغنم القاصية، بل اللوم على الراعي الذي يرعى مصالح الذئب وهو القائم في جنْب الغنم !!  واللّوم على غنم ضيّعت الانتماء، والروح الجامعة، وأعرضت عن ماء حياتها وهوائها وانبهرت بما عند الذّئب من ماء ومرعى، هو السُمّ للغنم القاصية المتفرّقة المفرّطة فيما عندها من عذب زُلال، سُمٌّ يأتي على أصلها  ووجودها  ... !!

** وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ : تشمل كلَّ مَن ظاهر وأعان، وسهّل إخراج المؤمنين من ديارهم .. وكل بلاد الغرب عونٌ لإسرائيل وظهير على ذلك، بدعوى نصر اليهود المُتباكين على الهولوكوست، وعلى التشريد والتطريد، وعلى هَيْمِهم على وجوههم في الأرض بلا قرار : " شعب بلا أرض ... شعب بلا أرض !  "... !

وأهل التطبيع من مستسلمين يَلبَسُون الإسلام قناعا، لم يعودوا يُسِرّون بالمودة... !  بل صاروا يجاهرون بها خدمة وطاعة وانصياعا لأمر العدوّ فيهم، وهم المهلّلون باسمه، المسبّحون بحمده... يوقّعون مواثيق التطبيع والمُوادّة، وعلامات السرور الأخرق،  والفرح الأحمق تغمر وُجوهَهُم الكالحة التي أظلمت بها الأمة، فعلتها غبَرَةُ الذُلّ ورهقتها قَتَرةُ الهوان... !!

وإنّ الآية لا تنتهي حتى تصفهم بما يليق بخيانتهم وغدرهم وانبطاحهم :
"وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون"

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند...!!
« آخر تحرير: 2020-09-30, 10:49:10 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وتنتقل بنا الآيات إلى سياق آخر، ولكنّه الذي ساقت إليه الآيات السابقة ومعانيها، وهو من روحها لا من غيرها :

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)"

إنه النداء الثاني للمؤمنين في هذه السورة...
الأول كان فيه أمر الله وتذكيره للمؤمنين وتحذيرهم من اتخاذ أعداء الله وأعدائهم أولياء، وانبثقت عنه تفصيلات شملت العلاج اللازم للأنفس التي لا يغادرها الإيمان ولكنّها تزلّ، وتقع،  فوجب التصدّي لذلك الضعف الطارئ منها، والذي لو تُرِك لكان مَهْلَكة للجماعة المؤمنة، التي تنضوي تحت راية الله، فتتحرك بروح الوَحي وبالمنهج الربانيّ القويم الذي جعله الله موائما للنّفس بما خُلقت عليه من ضعف ومن تقلّب ...

وكما كانت فيها التربية بالتحذير والتخويف، كانت التربية بالقدوة في سيدنا إبراهيم ومَن معه.
كما جاءت الإشارة إلى قدرة الله تعالى في إحداث أمر، بتقليب القلوب، وإمكانية تبدّل الحال من كفر إلى إيمان، في بارقة أمل في رحمة الله تعالى الغفور الرحيم، لتنقلب المُعاداة في الله حُبّاً ومُوادّة فيه، تُسعِد المؤمن وهو يرى قريبَه ورحِمه يدخل حضيرة الإيمان، فيُرحَم بها الذي كان بالأمس القريب كافرا معاديا كان أو مسالما... !

ثم كانت آياتٌ خصّصت الفئة التي يجب معاداتها وعدم موالاتها، والفئة التي لا حرج من برّها والإقساط إليها، في عدل هو من أهم سمات هذا المنهج المتوازن المُوازِن .
وها هي الآيات الجديدة بين أيدينا وفيها نداء جديد للذين آمنوا ...

فيها تتمّة لشروط الانتماء الكامل، الذي كما نصّ على محادّة المحادّين لله ورسوله، وإن كانوا آباء أو أبناء أو عشيرة، فهو ذا يدعو إلى ما هو من جنس الأمر المؤكَّد عليه، المُدعَى له، المُحَضّ على الحفاظ عليه روحا للجماعة المؤمنة، وخاصيةً من خصائصها :

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)"

عندما عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع المشركين، قبِل رسول الله بما أملته قريش من شروط، وكان منها، أنّه مَن جاء المؤمنين من الكفّار مؤمنا يردّه المؤمنون على قريش، ومن جاء قريشا من المؤمنين لا تردّه قريش على المؤمنين...

وبينما سُهَيل بن عمرُو يُملي شروطه في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليّ بن أبي طالب يكتب، قدِم ابن سهيل (أبو جَنْدَل) على رسول الله مؤمنا، وأبوه يشهَد إلحاحَه على رسول الله وعلى المؤمنين أن يبقوه معهم، ولا يردّوه،  فكان عمل رسول الله معه وِفق ما تعاقد عليه مع قريش من بنود، فردّه إلى قومه ...

وهكذا كان الصلح مرحلة بالغة الأهمية، توقفت فيها الحروب بين الطرفين، وعمّ السلام، فدخل في دين الله العدد الكبير من الناس، بخِلاف ما حسبت قريش وهي تشترط أن يُردّ  إلى مكة كُلُّ مَن يؤمن من أهلها، ويقبل على رسول الله بالمدينة.
وجدتِ الدعوة جوّ السلام والهدوء، والراحة من الحروب وأُوَارِها، لتنتعش في قلوب الناس ...فلَمْ يَأْتِ أحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إلَّا رَدَّهُ رسول الله في تِلكَ المُدَّةِ، وإنْ كانَ مُسْلِمًا .

وكان ممّن جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد صلح الحديبية، عدد من النسوة.
يروي صحابةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "...وجَاءَتِ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بنْتُ عُقْبَةَ بنِ أبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَئذٍ، وهي عَاتِقٌ، فَجَاءَ أهْلُهَا يَسْأَلُونَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُرْجِعَهَا إليهِم، فَلَمْ يُرْجِعْهَا إليهِم، لِما أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: {إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أعْلَمُ بإيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] إلى قَوْلِهِ: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لهنَّ} [الممتحنة: 10]... "–صحيح البخاري-

وفي هؤلاء المهاجرات أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط، خرج في إثرها أخواها عُمارة والوليد ابنا عقبة، وكان المشركون يريدون استرجاع نسائهم اللاتي هاجرن وِفق بند المعاهدة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك بنزول أمر الله تعالى فيهنّ .
فالنّساء كُنّ يَخْشَيْن أن يُفْتنّ في دينهنّ إن هنّ أُرْجِعن، خاصة ولا قِبَل لهنّ بقريش، وهنّ النساء الأضعف قدرةً على المواجهة والتصدّي، إضافة إلى أنّ بند المعاهدة يخص الرجال بلفظ ‏(‏وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددتَه علينا‏)‏ ، فلم تدخل النساء في العقد رأساً‏.‏

وقد آن أوان تأمّل عنوان هذه السورة مع بلوغنا هذه الآية منها، ومع قوله سبحانه فيها: "فَامْتَحِنُوهُنَّ"

لقد أخذت السورة اسمها من هذه الآية تحديدا، من هذا الذي كان سببا في نزولها على رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، أمرا من الله تعالى لنبيّه وللمؤمنين أن يمتحنوا صدق المهاجرات إلى المدينة بعد صلح الحديبية...

فكانت "الممتحَنَة" (بفتح الحاء)، وتعني أم كلثوم بنت عقبة التي كانت على رأس المهاجرات، والتي أقبل أخواها يسألان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ردَّها معهما  .  أو "الممتحِنة" (بكسر الحاء) وتُعنى بها هنا الآية  المتضمنة آية امتحانهنّ  ...
وعلى الصيغتَيْن، فاسم السورة مقتبس من قصة المهاجرات ...

فالممتحَنة، تُضاف إلى سُوَر القرآن الكريم التي تعالج شؤون المرأة المؤمنة، وتتسمّى باسم المرأة المؤمنة، من مثل "سورة النساء"، و"سورة مريم" و "سورة الطلاق" و "سورة المجادِلة"  القريبة ...

هكذا يُولي القرآن اهتماما شديدا بالمرأة، ولا  يكرّس لقيمتها العالية، ولعظيم قدرها، وحساسيّة دورها في المجتمع قانونٌ على الأرض كما يفعل الإسلام ... ! بخلاف كل صيحات النكير الكاذبة المتعالية، التي تصِم الإسلام باضطهادها، وبالانتقاص من قيمتها، وبأنه الذي لا يقيم لها وزنا، وبأنه الذي يكرّس للذكوريّة ... !

كلّ ذلك من بنات أهواء أهل شيطنة الأرض، والإفساد فيها، ونشر التفسّخ الأخلاقي، والدعوة إلى تسيّب المرأة وتعرّيها، وانخلاعها من حيائها، وعدّها وسيلة من أهم وسائل الإغراء واللّهو، وانطلاق الغريزة البهيمية التي تصوّرها وَطَرا وشهوةً، لا شيء غير الشهوة !

فتجعلها ألعوبة بيد كل شهوانيّ عابث لاهٍ... ! تتقاذفها الأيدي، وتركلها الأقدام، كما تتقاذف الكُرةَ وتركلها، شهوةً عابرة  بلا أدنى رادع أو ضابط  ...فهم الدّاعون إلى التحرر الأعمى، مَن يُخرجها عن دورها السّامي الذي خُلِقت له، ليُحيلها سَقط متاع  !
إنها الممتحَنَة أم كلثوم بنت عقبة، وفيها نزلت الآية، وعلى قصة امتحانها سمّيت السورة ... إنها المرأة ... !

وقريبا عرفنا من "سورة المجادِلة" قصة خولة بنت ثعلبة المؤمنة العظيمة، التي هرعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستسقي حكم الله استسقاء ليسكُن روعُها، ويطمئنّ قلبها ... انطلقت إليه لا تلوي على شيء، وهي التي تفرّ إلى ربّها إذ تفرّ إليه ...  وتأوي إلى ركن شديد بقوّة إيمانها، وتجسيد عيْشها على نبض الوَحي، على نبض أمر الله سبحانه ... تعيش لله وبالله ... تحقّق العبودية له، بل تحقّق الهدف من وجودها أصلا ... !

ثم هي ذي"الممتحَنة"  جارة "المجادِلة" أم كلثوم بنت عقبة...
هي الأخرى فرّت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينها، هاجرت إلى دار الإيمان، وفيها نزل الأمر بالامتحان ...
ولأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاقد مع قريش على أن يردّ إليهم كل من يأتيه من مكة مؤمنا، نزلت هذه الآية بشكل خاصّ تفصل في شأن النساء منهم...

وقد اختُلِفَ في شأن النهي عن إرجاع المؤمنات المهاجرات إلى الكفار، أكان نسخاً لما تضمنه شرط الصلح الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، أم كان الصلح غيرَ مُصَرَّحٍ فيه بإرجاع النساء، وقد صيغ بجمع المذكّر. فاعتُبِر ما جاء في العقد مُجملاً، وكان النهيُ الذي في الآية بياناً لذلك المجمل. أي تخصيصا .

ويُعرَف تخصيص القرآن للسنة، من مثل الإجمال في قوله صلى الله عليه وسلم : "ما قُطِعَ مِن البَهيمةِ وهي حيَّةٌ، فهو مَيْتَةٌ." أي : فهو محرم، فجاء تخصيص هذا العموم بقوله  تعالى : " وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ" .

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..."

ونتأمل كيف جاء وصف الله لهنّ رأسا بــ "المؤمنات"  ...
ولقد هاجرت المؤمنات من قبل إلى المدينة، ولكنّ هجرتهنّ كانت مع قوافل الهجرة الأولى، كُنَّ فيها مع أزواجهنّ ومع أهلهنّ، وكُنّ باكورة المهاجرين من مكة إلى المدينة، أما هؤلاء فهنّ فارّات بدينهنّ من بين أهلهنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى دار الإيمان، لا يصاحبهنّ أحد من أهلهنّ، بل قد خرجْن من بينهم وهنّ على غير ما هُم عليه، بدليل قدوم أخويْ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط على رسول الله يسألانه أن يردّها معهما، وما يُروى من مقدم صيفيّ بن الراهب زوج سُبيعة بنت الحارث أيضا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله إرجاعها إليه.

وعلى هذا نزل الأمر من الله تعالى في حقّهنّ ألا يُرجَعْن إلى أهلهنّ ...
وتلك كانت عادة العرب في شأن الرجل والمرأة على السواء، وهم قد ألفوا القبلية، والعصبيّة للقبيلة والفصيلة، والرّحم وبني العمومة، بَلَه حرمة المرأة بشكل خاص، وأحقيّة أهلها وأرحامها بها ...

ولهذه الأسباب مجتمعة مع ما أقرّت المعاهدة بين المؤمنين والمشركين من ردّ من يأتي من مكة مؤمنا، نزل الأمر من الله تعالى باستثناء المؤمنات المهاجرات، ولكن ليس قبل امتحانهنّ  ...

ويأتي الاعتراض بقوله سبحانه : " اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ " للتأكيد على علم الله تعالى بحقيقة ما أقبلْن به مهاجرات، ولكنّه سبحانه ترك الأمر للمؤمنين...

لتجتمع لنا في هذه السورة صورتَان، صورة حاطب بن أبي بلتعة الذي تبيّن بقاؤه على الإيمان بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبِر من جبريل بفعلته، وهو يقول فيه : " أما إنَّه قدْ صَدَقَكُمْ "، وبأن شملته الآية الأولى من السورة في نداء الله للمؤمنين : "يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا..."  وصورة أم كلثوم بنت عقبة ومَن معها من المهاجرات، والله سبحانه يصفهنّ ابتداء بالمؤمنات المهاجرات، ثم يترك أمر تبيّن صدق إيمانهنّ للمؤمنين، والفعلان في حقيقتهما متقابلان كلّ التقابل، متضادّان كل التضادّ.

فعلة حاطب التي كان من الضرورة بمكان أن يُعَرَّف الناسُ ببقاء الإيمان في قلبه، لئلا تظلمه الجماعة المؤمنة من فداحة ما أتى، وليس قول عمر بن الخطاب الذي طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتركه فيقطع عنقه عن ذلك ببعيد ... ! كان موقفه في أمسّ الحاجة لشهادة علويّة بصدق ما ألقى به بين يدي رسول الله من تبرير، أنه لم يفعل ما فعل رغبة منه عن الإسلام ورضى منه بالكفر ...

بينما يترك هؤلاء النسوة الوطن والأهل والرَّحم وبني العمومة والفصيلة، يتركن كل قريب وكل حامٍ، ويَفرُرْن بإيمانهنّ إلى الله ورسوله ... ! 
فكانت غلبة الظنّ التي تحصل عند المؤمنين من بعد امتحانهنّ كافية في شأنهنّ، وقد قدّم الله لهنّ بوصفهنّ بـ : " الْمُؤْمِنَاتُ".
ولننظر...  فإذا الله سبحانه يُجيب حاطبا بهذه الآية، ويجيب كل من يأتي ما أتى، أو يفكّر بأن يأتيه.
إنّ هؤلاء لم يُبالِينَ بما قد يلحق بهنّ وهنّ النساء الأضعف قلوبا، والأقلّ قدرة على مواجهة شرور المتربّصين من قريش بكل مَن يؤمن .... ! فَرَرْن، وتركْن خلفَهنّ كُلّ حماية وكل حرمة، وكل ظهير، وأقبَلْن على الله تعالى، وعلى رسوله، أقبلْن تحدوهنّ الثقة بالله، وابتغاء الفضل منه وحده ... ! بينما فعل حاطب ما فعل من إلقاء بسرّ دولة، يتودّد به للمشركين، عسى أن تكون منهم يدٌ تحمي قرابَتَه ... !

وإنّي لأتخيّل حاطبا، وهو يسمع الآية، وهو يقارن بين ما أتى وبين ما أتَيْن، وهو يقارن بين مَن خاف عليهم حتى وادّ من أجلهم أعداء الله، وبين نسوة لم يأبَهْن لما قد يلحقهنّ من إيذاء شديد من أهلهنّ إن هم ثقفوهنّ وظفروا بهنّ ... !
إنّي لأتخيّل حاطبا، وهو يرى فضل الله عليهنّ، وحماية الله لهنّ وقد لُذْنَ به وحده، دون كلّ قرابة، دون كل رحم، دون كل حامِ من البشر ... !

كيف صدَقْن الله، فصدقهنّ الله، وأنزل فيهنّ أمرا لعباده المؤمنين أن يبقوهنّ بحِماهم، وألا يرجعوهنّ للكفار ... ! ومن أوى إلى ركن الله، أنّى له أن يخيب ؟ !

إني لأتخيل حاطبا، وكل آيات السورة وهي تنتظم بهذا التسلسل تربّيه، وتربّيه. فتارةً يُربَّى بالتحذير والتخويف وببيان فظاعة ما أتى، وتارة يُربّى بالقدوة في سيّدنا إبراهيم ومَن معه، وهم الذين ولّوا قومَهم الدُّبُر، وأقبلوا على الله، معلنين أنّهم لهم أعداء مبغضون إلا أن يؤمنوا بالله وحده ...

ثم ها هو يُربّى بقصّة المهاجرات إلى الله ورسوله، اللائذات بحِمى الله، الفائزات بحماية الله  ... ! هذه يدُ الله تعالى حينما تُمدّ حامية راعية، فيرضخ لأمره في ما يُعدّ على الأصابع من مؤمناتٍ، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المؤمنين، ليحظَيْن بالحماية والترحاب في رحاب الجماعة المؤمنة الحاضنة الحامية ... !

أيّ سَبك وأيّ نظم هو في هذا القرآن العَجب العظيم ... ! أيّ جمال في جلاله، وأي جلال في جماله ! وأنتَ توقن آية بعد آية، وسورة بعد سورة أنه  ليس إلا كلام ربّ العالمين الذي  " هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ "  كما ترصّعت بأسمائه الحُسنى سورة الحشر الحسناء... !

طوبى لكِ أيتها الممتحَنة ... ! طوبى لكِ وطوبى للمجادِلة، وقد نزل فيكما قرآن من ربّ العزّة سبحانه العزيز الحكيم ...
آويتُما إلى ركنه فآواكُما ... ! واخترتما جنبَه فأنزل أمرَه سكينة لكما وطمأنينة ورِفعة وإعلاء... ! عجلتُما إليه ليرضى، فرضي عنكما ... !
« آخر تحرير: 2020-10-01, 15:18:43 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

يا أيتها الممتحنَة، يا أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ... ! يا بنت واحد من أعتى مَن عرف تاريخ التصدّي لدعوة الحق، وتاريخ التصدّي لداعي الحق صلى الله عليه وسلم ... 

إنه عقبة بن أبي معيط، أحد أكابر عتاة قريش، الذين نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دعا عليهم ... ! 
هو الذي ألقى بسَلَى الجَزور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد لربه عند الكعبة. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "بيْنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَاجِدٌ وحَوْلَهُ نَاسٌ مِن قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، إذْ جَاءَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ بسَلَى جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ علَى ظَهْرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، فأخَذَتْ مِن ظَهْرِهِ، ودَعَتْ علَى مَن صَنَعَ ذلكَ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ المَلَا مِن قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ، وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وشيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وعُقْبَةَ بنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ، أَوْ أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ، فَلقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَومَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا في بئْرٍ غيرَ أُمَيَّةَ، أَوْ أُبَيٍّ، فإنَّه كانَ رَجُلًا ضَخْمًا، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقَى في البِئْرِ. " -صحيح البخاري-

وهو الذي لفّ ثوبَهُ حول عنقه يريد خنقَه لولا أن هرع إليه أبو بكر الصديق، منقذا، وهو يصيح بهم  "أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ"... !
عن يحي بن كثير رضي الله عنه قال: " سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ: أخْبِرْنِي بأَشَدِّ شيءٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: بيْنَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصَلِّي في حِجْرِ الكَعْبَةِ، إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ حتَّى أخَذَ بمَنْكِبِهِ، ودَفَعَهُ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] الآيَةَ." –صحيح البخاري-

كما نزل فيه قول الله عزّ وجلّ : " وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) " -الفرقان-
أجل ...إنها أم كلثوم، بنت هذا الظالم، العتيّ على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم !! من صُلْب هذا الكافر كانت هذه المؤمنة المهاجرة إلى الله ورسوله، وكانت عند هجرتها كما وصف الحديث أعلاه "عاتقا"، أي شابَّةٌ أوَّلَ بُلوغِها الحُلُمَ... أوَّلَ إدراكها ... كانت ممّن يُرغَب في الزواج بها ... لم تكن كهلة أو عجوزا قد ولّى شبابها، وولّت فيها أحلامه ... بل كانت في ريعان شبابها، وفي مقتبل عمرها ... أدبرتْ عن كلّ أحلام أترابها، وأقبلت بإيمانها تبتغي رضوان الله ... !

وفيما يُروى عنها أنها كانت ثقِفة، ذات عقل وفهم ودراية...

وها هي ذي وهي تروي قصة هجرتها :
 ((((كُنْت أَخْرُجُ إلَى بَادِيَةٍ لَنَا، بِهَا أَهْلِي، فَأُقِيمُ فِيهِمْ الثلاثَ وَالأَرْبَعَ، ثُمّ أَرْجِعُ إلَى أَهْلِي فَلا يُنْكِرُونَ ذَهَابِي، حَتّى أَجْمَعْتُ السّيْرَ، فَخَرَجْت يَوْمًا مِنْ مَكّةَ كَأَنّي أُرِيدُ الْبَادِيَةَ الّتِي كُنْت فِيهَا، فَلَمّا رَجَعَ مَنْ تَبِعَنِي، بينما كان يدور في خلدي كيف المسير إلى المدينة مهاجرة إلى المؤمنين، يمّمت وجهي نحو المدينة، ورحت أغُذُّ السّير وأعدو ماشية على قدمي، وبينما كنت في طريقي، إذ أنا برجل من قبيلة خزاعة، وقد رآني وحيدة في الفلاة، فقال لي: "أين تريدين يا أخت العرب ؟"، فقلت له: ما مسألتك، ومَن أنت ؟، قال الرجل: إني رجل من خزاعة . فلما ذكر الرجل قبيلة خزاعة، شعرت بشيء من الطمأنينة تسري في داخلي، وأحسست بشيء من الأمن في قلبي، حيث إن قبيلة خزاعة كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عقده .
ولما استوثقت من ذلك الرجل، وعلمت حسن نيّته، قلت له: يا أخا خزاعة، إنني امرأة من قريش ، وإني أريد أن ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، ولا علم لي بالطريق، فقال الرجل: إذا أنا صاحبك حتى أورِدَكِ المدينة .
ثُمّ جَاءَنِي بِبَعِيرٍ فَرَكِبْته، فَكَانَ يَقُودُ بِي الْبَعِيرَ، وَاَللّهِ مَا يُكَلّمُنِي كَلِمَةً، حَتّى إذَا أَنَاخَ الْبَعِيرَ تَنَحَّى عَنِّي ، فَإِذَا نَزَلْتُ جَاءَ إلَى الْبَعِيرِ فَقَيّدَهُ فِي الشّجِرَةِ وَتَنَحَّى عَنِّي، حَتى إذَا كَانَ الرَّوَاحُ (أي وقت القيام للرحيل) قرَّب الْبَعِير وَوَلَّى عَنِّي، فَإِذَا رَكِبْت واستويت على ظهر البعير أَخَذَ بِرَأْسِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ وَرَاءَهُ حَتّى نَنْزِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، . فَجَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا مِنْ صَاحِبٍ.
ولما وصلتُ المدينة لم أدخل على أخي عثمان بن عفان، (وعثمان بن عفان رضي الله عنه أخو أم كلثوم لأمها أروى بنت كريز العبشميّة وهي أيضا من المسلمات المهاجرات، إذ قد أسلمت وهاجرت إلى المدينة)، وإنما دخلتُ على أم سلمة أم المؤمنين وأنا متنقّبة، فما عرفتْني حتى انتسبتُ، وكشفتُ نقابي، وعندها التزمتْني ثم قالت لي: يا أم كلثوم، هاجرتِ إلى الله ورسوله ؟ ! قلت: "نعم، وأنا أخاف أن يردّني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي، كما ردّ أبا جندل، وأبا بصير، وحال الرجال ليس كحال النساء، والقم مُصْبِحِيّ، فقد طالت غيبتي اليوم عنهم خمسة أيام منذ فارقتهم، وهم يتحيّنون قدرَ ما كنت أغيب، ثم يطلبوني فإن لم يجدوني رحلوا."
وبعد قليل دخل النبي صلى الله عليه وسلم على زوجته أم سلمة، فأخبرَتْه بأمري، فرحّب بي وسهّل، فقلت: يا رسول الله إني فررت إليك بديني، فامنعني، ولا تردّني إلى الكفار يفتنوني ويعذّبوني، ولا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة، وضعف النساء إلى ما تعرف، وقد رأيتك رددتَ رجلين حتى امتنع أحدهما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد نقض العهد في النساء. وكان أخواي عُمارة والوليد قد لحقاني إلى المدينة ليردّاني إلى مكة، فمنعني الله منهما بالإسلام، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند أم سلمة، وقد أنزل الله آية الامتحان : "يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ..."
))) –بيعة النساء لأحمد خليل جمعة-

ويُروى أنها مشت من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة على قدميها
فطوبى لها من فارّة بدينها، أمَرَ الله أن تُمتَحن، ومن بعد الامتحان أن تُحمى وتُحتَضن، وكفى بوصف الله لها ولمَن جئنَ معها بــ : "المؤمنات"
طوبى لك يا أيتها الممتحَنة في إيمانك، يا مَن كنتِ تربية ومربّية لمَن شُهد له بالإيمان وبالصدق، وبشهود الجهاد وببيعة الرضوان ... !

"فامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..."

قالَ عُرْوَةُ: "فأخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بهذِه الآيَةِ: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قالَ عُرْوَةُ: قالَتْ عَائِشَةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشَّرْطِ منهنَّ، قالَ لَهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قدْ بَايَعْتُكِ كَلامًا يُكَلِّمُهَا به، واللَّهِ ما مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ في المُبَايَعَةِ، وما بَايَعَهُنَّ إلَّا بقَوْلِهِ." –صحيح البخاري-

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهنّ بالآية الثانية عشرة من السورة :"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)"

وكان صلى الله عليه وسلم يستحلفهنّ أنهن ما جئن هربا من رجالهنّ، وأنّهن ما جئن رغبة في رَجُل من المدينة، وأنهنّ ما جئن إلا حُبّا في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال عكرمة: "يُقال للمرأة : ما جاء بكِ إلا حبّ الله، ولا جاء بكِ عِشْق رجل منّا، ولا فرارا من زوجكِ، فذلك قوله سبحانه: فَامْتَحِنُوهُنَّ"

وكانت المرأة من المشركين إذا غضبت على زوجها، وكان بينه وبينها كلام، قالت والله لأهاجرنّ إلى محمد وأصحابه.
وزاد ابن عباس فقال : "كانت الممتحنة أن تُستحْلف أنها ما خرجت بغضاً لزوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقاً لرجل منّا، ولا بجريرة جرّتها بل حبا لله ولرسوله والدار الآخرة، فإذا حلفت بالله الذي لا إلٰه إلاّ هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يرُدَّها".

كان يستحلفُهُنّ، وكُنّ يحلِفْن بالله على كلّ ذلك، وبهذا كان المؤمنون يَعْلَمُونَهُنّ مؤمنات، الله أعلم بحقيقة قلوبهنّ، تماما كما لا يعلم حقيقة كلّ إنسان إلا هو سبحانه، ولكن بالاستحلاف والحلف كان يحصل عند المؤمنين غلبة الظنّ وغلبة الظنّ علم . لأنّ الناس موكّلة بالظاهر لا بالباطن .

"فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ..."
أمر من الله سبحانه، بحمايتهنّ وبضمِّهنّ إلى الجماعة المؤمنة، وأنهنّ أصبحْن حرمة المسلمين، ولا يجوز لهم أن يفرّطوا بهنّ إلى الكفار ليفتنوهُنّ عن دينهنّ ...

بهذا حمى الله سبحانه أم كلثوم ومن معها، كما صدَقْنه سبحانه وفرَرْن إليه بأغلى ما كُنّ يملِكن... بإيمانهنّ ... !
وهذه أخوّة العقيدة تتجسّد من جديد في هذه الصورة المشرقة التي تُلُملم الأشتات، وتجمع المتفرّقين تحت راية الإيمان بالله وحده سبحانه ...
وقد سبقت هذه الآية آية الرجاء في الله : " عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)"
لتأتي بعدها قصة المهاجرات بدينهنّ، وهنّ من أصلاب كافرة وأرحام كافرة، بل إن أم كلثوم بنت واحد من أعتى عتاة قريش وأشدّهم شراسة في حرب الإسلام وحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . هو الله القدير، وهو الغفور الرحيم سبحانه ...

"لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ" ...

لا هنّ حلّ للكفار من بعد إيمانهنّ، ولا الكفار يحِلّون لهنّ ...انقطعت كلّ العُرى التي كانت بينهم بحكم اختلاف ما يعتقد كلّ من الطرفَين، رجالهنّ بقوا على الكفر، وهنّ أوَيْن إلى حضيرة الإيمان ... فلم يعد يربطهم بهنّ رابط، ولم يعد يربطهنّ بهم رابط .
"لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ" ... حرِّمْن عليهنّ، انقطع ما بينهم من عُرى، فصل حاسم فوريّ بينهما. ... "وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ" ... ليسوا لهم أهلا بحكم بقائهم على الكفر، فلا يحلّون لهم فيما يُستأنَف، بمعنى أنه لا يحلّ لمتزوجة بمشرك أن تبقى على ذمّته إن هي آمنت، كما لا يحلّ لامرأة مؤمنة أن تتزوج مشركا. والتكرار جاء للتبيين والتأكيد.

"وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ..."

وهكذا يكتمل حكم الله في المؤمنات المهاجرات، بعدل تام لا نظير له في الأرض، ذلك بأن يؤتي المؤمنون أزواجهنّ الكافرين مهورهنّ التي دفعوها إليهنّ، فلا يجمع الإسلام عليهم فَقْد أزواجهم وفقد ما أنفقوا عليهنّ .
والمكلّف بإرجاع مهور الأزواج المشركين، هم ولاة أمور المسلمين مما بين أيديهم من أموال المسلمين العامة.

"وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ..." .

وللمؤمنين أن يتخذوهم زوجات لهم، ما داموا قد انفصلوا عن أزواجهنّ، وذلك بعد انقضاء عدتهنّ إن كان قد دُخِل بهنّ، فإن لم يُدخَل بهنّ، فلهم أن يتزوجوهنّ دون نظِرة . ولا تحلّ الواحدة منهنّ للمؤمن إلا أن يؤتيها أجرها، أي مهرها، وذلك تفريقا بين ما أعطي لزوجها الكافر عوضا، وبين حقها في المهر من زوجها المؤمن، حتى لا يظنّ من يودّ الزواج منها أنّ ما دُفِع لزوجها كاف .

((وقد ذُكِر أن أم كلثوم لما خرجت من مكة وقدمت المدينة، كانت لا تزال عاتقا(في بدايات بلوغها)، فأقامت زمنا بلا زوج، ومن ثمّ خطبها أربعة، وهم الزبير بن العوام، وزيد بن حارثة، وعبد الرحمان بن عوف، وعمرو بن العاص، وأشار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِبّ زيد بن حارثة، وقال لها: "تزوجي زيد بن حارثة فإنه خير لك"، ففعلت وتزوجته، وولدت له زيدا ورقيّة، ولما استُشهِد زيد في معركة مؤتة، مكثت أم كلثوم حتى انقضت عدّتها، وبعدها تزوّجها الزبير بن العوام، فولدت له ابنتَه زينب، ثم طلقها الزبير نزولا عند رغبتها، وبعد انقضاء عدّتها تزوجها عبد الرحمان بن عوف، وعاشت معه حياة رضيّة، وولدت له حُمَيْدا وإبراهيم، وكان هذان الولدان من أكابر النجباء والعلماء، وقد سجّل ابنها حُمَيد أثرا عظيما في ميدان العلم والفقه والرواية، قال عنه ابن العماد: "كان عالما فاضلا مشهورا، توفي سنة 95هـ رحمه الله" .
ومكثت أم كلثوم بنت عقبة عند عبد الرحمان بن عوف إلى أن جاءته سكرة الموتبالحق في العام 18هـ، فتزوجها بعده عمرو بن العاص، فماتت عنده .
)) –من كتاب بيعة النساء لأحمد خليل جمعة-

ولقد كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت أبي العاص بن الربيع وهو مشرك، وأضع لابن كثير رحمه الله قوله في الآية وما كان من أمرها رضي الله عنها: ((وقوله : (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ; ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب رضي الله عنها ، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله  صلى الله عليه وسلم  رقّ لها رقة شديدة ، وقال للمسلمين : " إن رأيتم أن تُطْلقوا لها أسيرها فافعلوا " . ففعلوا ، فأطلقه رسول الله  صلى الله عليه وسلم  على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  مع زيد بن حارثة ، رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردّها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقا. حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن إسحاق ، حدثنا داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ، ولم يحدث شهادة ولا صداقا .)) –تفسير القرآن العظيم لابن كثير-
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ"

هذا الجزء من الآية الكريمة، ومن هذه الأحكام المتوالية فيها خاصّ برجال المؤمنين (والعصمة ما يُتَمَسَّك به من عقد)، وقد أمِروا هنا أن يسرّحوا زوجاتهم اللاتي بقين على الكفر، وبهذا الأمر كان تحريم بقاء كافرة في عصمة مؤمن، ومنها طلّق عمر بن الخطاب زوجَتَيْن له كافرتَين بمكة بقيتا في عصمته . وهو حكم عام، خُصِّصَ  بما أبيح من زواج بالكتابيّات، خُصِّص هذا الذي بين أيدينا، كما خُصّصت آية سورة البقرة  : " وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221 )". 

والآية المُخَصِّصة هي التي في سورة المائدة :"الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ..." –المائدة: من الآية 5-

فكان للزواج من كتابية شروط :

1- أن يُستوثَق من كونها كتابية.
2- أن تكون من المحصنات أي من العفيفات.
3- ألا تكون من قوم يعادون المسلمين ويحاربونهم.
4- ألا يكون من وراء الزواج بها فتنة ولا ضرر محقّق أو مرجّح.

وقد كرِهَ عمر بن الخطاب الزواج بهنّ، فأرسل إلى حذيفة حينما سمع بزواجه من كتابية أن يطلقها، وكان قد ولّاه على المدائن،  فردّ عليه حذيفة بقوله: "لا أفعل حتى تخبرني أَحَلالٌ الزواج بهنّ أم حرام؟ وماذا أردتَ بذلك ؟"
 فردّ عليه أمير المؤمنين قائلا: "بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإذا أقبلتم عليهنّ غلَبْنَكُم على نسائكم، فقال حذيفة : الآن، أي اقتنعت." 

وكذلك عُرِف عن الحَسَن البصريّ قوله لرجل سأله : أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب : "ماله ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات، وإن كان ولا بدّ فاعلا، فليَعمَد إليها حَصَانا غير مسافحة ".

وذلك لما قد يجرّه الزواج بهنّ من فتنة في دين الأولاد، وهي حاضنتهم وراعيتهم، وخوْفَ عزوف المؤمنين عن المؤمنات والإقبال على الكتابيات، والمؤمنات أولى . خاصة ومجتمعاتهنّ اليوم تشهد انفتاحا على العلاقات الجنسية بلا رادع ولا ضابط، بل الحرية الجنسية عندهم قانون ... ! والفتاة منهنّ بعمر الطفولة تشبّ على حريّة الزنى واتخاذ الأخدان، وتُعَيَّر من أترابها مَن لا تفعل ذلك بينهنّ، بل ومن أهلها ... !

أفمؤمنةٌ عفيفة أولى أم هؤلاء المنسلخات عن الأخلاق والعفّة !

وهكذا نلحظ كم أنّ هذه الآية عامرة بالأحكام الدقيقة، التي تنظّم حياة المجتمع المسلم، وتضفي عليها طابعا خاصّا، سِمته الدائمة الانضواء تحت أمر الله تعالى، وتحقيق الانتماء للجماعة المؤمنة، في إطار التقارب والتصاهر المنضبِطَيْن بضابط الولاء العقديّ، الذي يزيد من اتساع رقعة الإسلام، وتكاثر المسلمين ... وذلك حفاظا على قوّة وقوامة هذه الجماعة المنوط بها إصلاح الأرض .
وكلّه متّصل بما جاء به صدر السورة الكريمة، من دعوة لضرورة ألا يُتَّخَذ أعداء الله أولياء، ولا أن تُلقى إليهم المودّة، ومع هذه الآيات، تأكيد على ألا يتزوج المؤمنون من كافرات ولا المؤمنات من كافرين، وهي من أقوى العلاقات التي أساسها التراحم والمودّة .
.ثم يزيد الله سبحانه في شأن الرجال المؤمنين، وفي ضبط الروابط الأسرية، وعلاقة المصاهرة بضابط الإيمان:

"وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"

وهذا المقطع من الآية خاص بمن ذهبت من نساء المؤمنين إلى قومها مرتدّة عن الإسلام،  فنزل الأمر من الله أن يسأل زوجُها المؤمن  قومَها ما كان قد دفع إليهم من مهرها...  وكذلك الحال بالنسبة للكافر الذي تفرّ زوجته إلى المؤمنين -كحال المهاجرات موضوع الآية- فلهذا الكافر بالمقابل  الحق في أن يطالب المؤمنين  بما أنفق عليها، أي بمهرها الذي دفعه إليها.
وهذا الحكم بمطالبة كلّ طرف بما أنفق، خاص بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ما كان في الفترة ما بين صلح الحديبية إلى فتح مكة. وهي مطالبات بين معاهدين.

"ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"

كل ما عرفنا في الآية حكم الله تعالى، يحكم بين المؤمنين والكافرين، وهو سبحانه العليم بحقائق الأمور، وحقائق العواقب والمآلات، وهو سبحانه الحكيم الذي لا يحكم إلا بحكمة، فلا خلل ولا زلل في حكمه .
وتلكم سِمة المؤمن في الأرض على مدى الأزمنة، أن يحتكم إلى أمر الله، أن ينصاع لحكمه، ويرضى بحكمه، يَحْدُوه اليقين التامّ أنّه حكم الذي يدبّر الأمر، ويعلم الحال والمآل، ويعلم حقيقة ما هو كائن، وما سيكون، وما يترتّب عليه الحال . الحكيم سبحانه الذي يدبّر الأمر.

ونحن في رِحاب السورة، لا نغادر حكم الله، وأنّ الجماعة المؤمنة هي الجماعة المحتكمة إلى الله في مسار حياتها، العاملة بأمره الذي يُنظَّم مجتمعها وِفق قاعدة التحزّب في حزب الله... فكلّ شيء في حياة المؤمن بالله ولله، والرَّحِم الجامعة هي العقيدة، والوشيجة الرابطة هي الإيمان ...

بدءا بقصّة حاطب، وكل مَن يأتي ما أتى حاطب عبر الأزمنة، مرورا بالأسوة المتمثّلة في إبراهيم عليه السلام الأمّة القانت لله، بلوغا إلى قصة المؤمنات المهاجرات ... وكلّه في ظلال الأَوْيِ إلى الله ... وإيواء الله لحزبه.
وأُجمِل الأحكام التي عرفنا في هذه الآية في الصورة التمثيلية الآتية:


"وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)"

رُوي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يُعلمونهم بما تضمنته الآية السابقة من التَرَادّ بين الفريقين في قوله تعالى : " وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا" . فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللائي عُدْن إليهم، فنزل قوله تعالى :  "وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ... "
أي من ذهبت عنه من المؤمنين زوجته مرتدّة إلى قومها الكافرين، وعُبّر عن الزوجة المرتدّة  بـ "شيء" للتحقير، إذ لا خير فيمَن نكصت على عقبيها، وارتدّت إلى  الظلمة من بعد ما عرفت النور ...

و : " فَعَاقَبْتُمْ " هنا بمعنى التعاقب، أي ما كان من سؤال متبادل بين الطرفَين، سؤال المؤمنين ما أنفقوا على زوجاتهم المرتدّات، وسؤال الكافرين بالمقابل ما أنفقوا على زوجاتهم المؤمنات المهاجرات إلى الله ورسوله.
فإن فات المؤمنين حقوقَهم من الكافرين، -كما فعلت قريش بامتناعها من دفع المهور- فإن الذي يتولّى إعطاءهم بمثل ما أنفقوا على زوجاتهم المرتدّات هو الإمام ممثّلا للدولة. كأن يُعطَوا من الغنائم. والوجه ألا يُصار إلى الإعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء من مهور نساء المشركين اللائي أتين إلى بلاد الإسلام وصرن أزواجا للمسلمين .

وقد أعطى النبي  صلى الله عليه وسلم  عمر بن الخطاب، وعياض بن أبي شداد الفهري، وشماس بن عثمان، وهشام بن العاص، مهور نسائهم اللاحقات بالمشركين من الغنائم .

وتُذيَّل الآية بقوله سبحانه: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ"

التقوى رأس أمر المؤمن، وصفتُه، وسِمة قلبه المنعقد به الإيمان.
تقوى الله التي هي دليل إيمان المؤمن،  وهي عمل وحركة في الأرض، ائتمار بأمر الله، وانتهاء عن نهيه، وناسبتِ التقوى موضوع حكم الله تعالى، تدليلا على وجوب احتكام المؤمن له.
« آخر تحرير: 2020-09-29, 15:03:14 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ونجدنا الآن مع نداء للنبي صلى الله عليه وسلم، من بعد ما كان من نداء للمؤمنين جاء فيه حكم الله تعالى في المؤمنات المهاجرات، فكان الفصل في تحريم زواج المؤمنات من كافرين، وفي تحريم زواج المؤمنين من كافرات.

"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)"

هذه الآية، آية مشهورة، عُرفَت بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في فتح مكة، بينما كانت مبايعات رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنات كثيرة وفي مناسبات مختلفة، بل تاريخ مبايعته للنساء قديم قِدم بدء الرسالة وبدء الوحي ...
وإني أرى أن أسهب شيئا ما في تاريخ مبايعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،  قبل التطرّق إلى مقاطع الآية الشريفة، حتى نتبيّن أن هذه الآية لا تخصّ فتح مكة وحده كما دَرَج على فهمه الكثير من الناس.

وقد جاء لفظ "المبايعة" مشتقا من البيع، وكان الناس قبلا يتبايعون فيما بينهم السلعة لقاء السلعة، فجاءت المبايعة وهي تعني العهد والميثاق بين سيّد القوم ورئيسهم وبين الرعيّة، والمبايعة هنا بين سيّد الخلق أجمعين وبين المؤمنين، فكانوا يتعاقدون على أن يعطوا منهم التصديق والإيمان والولاء، ويعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمقابل الوعد بالثواب وحُسن المآل .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم زعيم بذلك للمؤمن(أي ضامن).

عن فضالة بن عُبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَنا زعيمٌ ، (والزَّعيمُ الحميلُ) لمن آمنَ بي، وأسلمَ وَهاجرَ ببيتٍ في رَبضِ الجنَّةِ، وببيتٍ في وسطِ الجنَّةِ، وأَنا زعيمٌ لمن آمنَ بي، وأسلَمَ، وجاهدَ في سبيلِ اللَّهِ ، ببيتٍ في ربضِ الجنَّةِ ، وببيتٍ في وسطِ الجنَّةِ ، وببيتٍ في أعلى غُرَفِ الجنَّةِ ، من فعلَ ذلِكَ فلم يدَع للخيرِ مطلبًا، ولا منَ الشَّرِّ مَهْربًا، يَموتُ حيثُ شاءَ أن يموتَ" –صحيح النسائي-

وفي الحديث أعلاه، بيان للُبّ ما تتضمنّه المبايعات بين المؤمنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم . فالبيعة هي ميثاق الولاء، والالتزام بجماعة المسلمين، والطاعة لإمامهم.   

وقد عرفت البيعة على امتداد العهد النبويّ أطوارا، ومناسبات، فكانت :

1- البيعة على الإسلام، ومنها ما جاء في هذه الآية.
2- البيعة على النصرة والمَنعة: مثل بيعة العقبة الثانية التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار.
3- البيعة على الجهاد: وقد وردت في سورة التوبة (الآية111)، وهي باقية في عنق كل مسلم إلى يوم القيامة: " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " –من كتاب بيعة النساء لصاحبه أحمد خليل جمعة-

وقد توزّعت هذه الأصناف من البيعات على زمن الرسالة، وكان للنساء فيها حظّ جميعا، فكانت :

1- البيعة في مكة: وقد كان في مقدّمة المبايعات خديجة وبناتها رضي الله عنهنّ، وأسماء وعائشة بنتا الصديق، وليلى بنت أبي حثمة العدويّة، وأم أيمن الحبشيّة، وسميّة بنت خباط أم عمّار بن ياسر، وأم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب، وفاطمة بنت أسد زوج أبي طالب بن عبد المطلب، وغيرهنّ كثيرات جدا من السابقات للإسلام، وللمبايعَة على الإيمان والتوحيد .

2- البيعة في العقبة الثانية (الكبرى): وهي بيعة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم على النصرة، وقد رافق رجال الأنصار الثلاثة والسبعين امرأتان، شَرُفتا بشُهود هذه البيعة التي نقلت الإسلام نقلة عظيمة من طور الاستضعاف إلى طور القوة والمنعة والدولة . هما نُسَيْبة بنت كعب المازنية أم عمارة، وأسماء بنت عمرو الأنصارية أم منيع، وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم عليهما البيعة كما أخذها على الرجال، إلا أنه لم يكن يصافح النساء، بل كان يكتفي بمبايعتهنّ كلاما . وقد بايعهم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، نصرة للرسالة وللرسول. وقد وفّتا بالبيعة، كما وفّى الرجال، ونصرتا الإسلام كما نصره الرجال، وكانتا عظيمتَين، بل يُعرَف عن نسيبة الثبات، وهي تذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد بينما فرّ معظم الرجال .

3- مبايعات ما بعد الهجرة النبوية : حرص نساء الأنصار على مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعطائه الميثاق والعهد من أنفسهنّ على السمع والطاعة والرضى بأمر الله ورسوله، وقد قدّمن بذلك أروع آيات الإيمان والنصرة والعمل للإسلام من أنفسهنّ، وفي تربيتهنّ لأولادهنّ، وفي حضّهنّ لأزواجهنّ على الجهاد والبذل في سبيل الله، فكُنّ ربّات أسر عظيمة كانت قوام المجتمع المسلم الموالي لله ولرسوله، المعادي لكلّ من عادى الله ورسوله .

وقد كان من بين أُولى المبايعات في المدينة أم عطية، وأم عامر الأشهليّة، وأم سعد بن معاذ، وحواء بنت يزيد، وغيرهنّ كثيرات كثيرات. وقد قال ابن سعد في الطبقات : "أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم أم سعد بن معاذ كبشة بنت رافع بن عبيد ..." –طبقات ابن سعد-

ومن أمثلة تلك المبايعات مع النساء في المدينة، والتي فيها تجديد أخذ العهد على النساء، كما كان من تجديده مع الرجال، ما جاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:  "شَهِدْتُ الفِطْرَ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمْ يُصَلُّونَهَا قَبْلَ الخُطْبَةِ، ثُمَّ يُخْطَبُ بَعْدُ، خَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَأَنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ بيَدِهِ، ثُمَّ أقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حتَّى جَاءَ النِّسَاءَ معهُ بلَالٌ، فَقالَ: {يَا أيُّها النبيُّ إذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] الآيَةَ، ثُمَّ قالَ حِينَ فَرَغَ منها: آنْتُنَّ علَى ذَلِكِ؟ قالتِ امْرَأَةٌ واحِدَةٌ منهنَّ، لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ، - لا يَدْرِي حَسَنٌ مَن هي - قالَ: فَتَصَدَّقْنَ فَبَسَطَ بلَالٌ ثَوْبَهُ، ثُمَّ قالَ: هَلُمَّ، لَكُنَّ فِدَاءٌ أبِي وأُمِّي فيُلْقِينَ الفَتَخَ والخَوَاتِيمَ في ثَوْبِ بلَالٍ. "-صحيح البخاري-

وبهذا الحديث وغيره نعرف أن نزول هذه الآية من سورة الممتحنة كان سابقا لفتح مكة، ولكنها ارتبطت بالفتح، بينما كان يقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة على من يبايعهنّ من النساء، ويشهد لذلك أيضا ما جاء عن أم عطية، وهي واحدة من الصحابيات الفقيهات العالمات العاملات، وقد كانت من فقهاء الصحابة، وكانت تغزو كثيرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوي الجرحى وتُمَرِّضُ المرضى.

وقد جاء عنها قولها : " بَايَعْنَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ باللَّهِ شيئًا}، ونَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا، فَقالَتْ: أسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ، أُرِيدُ أنْ أجْزِيَهَا، فَما قالَ لَهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شيئًا، فَانْطَلَقَتْ ورَجَعَتْ، فَبَايَعَهَا. "- صحيح البخاري.

وهذه التي أعرضت عن المبايعة، ذهبت تردّ صنيع من ساعدتها في البكاء على ميت لها في الجاهلية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لها شيئا، لعلمه أنه البكاء الذي لا نياحة فيه ولا خمش وجه ولا شقّ جيب، ثم رجعت وبايعتْه.

وقد جاء عن عُبادة بن الصامت قال: "كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ في مَجْلِسٍ، فَقالَ: تُبَايِعُونِي علَى أَنْ لا تُشْرِكُوا باللَّهِ شيئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، فمَن وَفَى مِنكُم فأجْرُهُ علَى اللهِ، وَمَن أَصَابَ شيئًا مِن ذلكَ فَعُوقِبَ به فَهو كَفَّارَةٌ له، وَمَن أَصَابَ شيئًا مِن ذلكَ فَسَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فأمْرُهُ إلى اللهِ، إنْ شَاءَ عَفَا عنْه، وإنْ شَاءَ عَذَّبَهُ. وفي رواية: وَزَادَ في الحَديثِ، فَتَلَا عَلَيْنَا آيَةَ النِّسَاءِ: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ باللَّهِ شيئًا} الآيَةَ. " -صحيح مسلم-

وفي هذا الحديث تدليل على تعهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالبيعة، توثيقا وتأكيدا وتذكيرا بالعهد على الثبات على أمر الإسلام في كل مرة، فكان يتعهّد الرجال أيضا بما جاء في هذه الآية من بيعة النساء.

وقد جاء أن بيعة العقبة الأولى سميت ببيعة النساء، لما فيها من بنود هي ذاتها ما جاء في آية النساء هذه، والأرجح والأصحّ أن المبايعة في العقبة الأولى كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم : عن عبادة بن الصامت قال: "بايَعْنا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وأَنْ لا نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ، وأَنْ نَقُومَ أوْ نَقُولَ بالحَقِّ حَيْثُما كُنَّا، لا نَخافُ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ." –صحيح البخاري-

كما بايعوه في العقبة الثانية على الولاء والنصرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم عليهم المدينة، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم، وأولادهم.   فمما جاء عن كعب بن مالك وهو يروي قصة ليلة العقبة الثانية : "... فتكلَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ ، فتلَا القُرآنَ ، ودعا إلى اللهِ ، ورغَّبَ في الإسلامِ ، ثُمَّ قالَ : أبايعُكُم علَى أَن تمنَعوني مِمَّا تمنعونَ منهُ نساءَكُم وأبناءكُمْ ..." .

وأما المبايعة على مثل بيعة النساء فقد كانت بعد ذلك .

4- المبايِعات في بيعة الرضوان : بيعة الرضوان التي كانت في عام الحديبية حينما اعتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرة مع أصحابه، ولكنّ قريشا منعتهم، فأرسل عثمان بن عفان مفاوضا لقريش، فأبطأ في عودته، حتى شاع أن قريشا قتلته، عندها بايع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم على دخول مكة مقاتلين، بايعوه على الموت، وألا يفرّوا من العدوّ، وقد كان مع المبايعين نسوة منهنّ أم هشام بنت حارثة بن النعمان، وهي التي حدّثت فقالت : " لقَدْ كانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَاحِدًا، سَنَتَيْنِ، أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَما أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ إلَّا عن لِسَانِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَومِ جُمُعَةٍ علَى المِنْبَرِ، إذَا خَطَبَ النَّاسَ."-صحيح مسلم- 

وأم المنذر سلمى بنت قيس، والربيّع بنت معوّذ بن عفراء الأنصارية، وهي ابنة الصحابي الجليل معوّذ بن الحارث الذي شارك في قتل أبي جهل في غزوة بدر، وأسماء بنت يزيد الأنصارية، التي عُرفت بخطيبة النساء وهي التي لكثرة سؤالها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور دينها، ولأنها كانت تدافع عن النساء، وتسأل عن حقوقهن، شهدت غزوة خيبر، وقاتلت في غزوة اليرموك وقتلت فيها تسعة من الروم بعمود خيمتها. وقريبة بنت معوذ بن عقبة وأم عمارة بنت كعب، وأم منيع، والأخيرتان هما اللتان بايعتاه في العقبة الكبرى.

5-   المبايِعات بعد صلح الحديبية: و هي البيعة التي عُنيت بها الآية 10 من هذه السورة،  قضية المؤمنات المهاجرات اللاتي نزل الأمر في شأنهنّ بأن يُمتحنّ، فإذا علم المؤمنون منهنّ إيمانا فلا يردّوهنّ إلى الكفار، ليُفصَل في شأن المرأة المؤمنة عموما، فلا تحلّ بعدها لرجل كافر، ويُفصَل معها أيضا في شأن المؤمن، فتُحرّم عليه الكافرة، إلا ما كان من تخصيص في الكتابيات كما عرفنا .
وعلى رأس المبايِعات عرفنا أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وسُبيعة بنت الحارث الأسلمية، وأميمة بنت بِشر. وقد عرفنا آنفا تفصيلات في شأنهنّ .

6- المبايِعات في فتح مكة : جاء أهل مكة أفواجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجالا ونساء يبايعونه، فبايع صلى الله عليه وسلم الرجال على الإسلام والشهادة بعد أن عفا عنهم ، وأخذ عليهم السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، ولما فرغ من بيعة الرجال، بايع النساء . وكان من المبايعات في الفتح هند بنت عتبة، وريطة بنت منبّه السهمية زوج عمرو بن العاص وأمّ ابنه عبد الله، وامرأة صفوان بن أمية البغوم بنت المعدّل، وأميمة بنت سفيان، وأم مرثد الأسلمية، ومروى بنت أبي العاص الأموية، وفاطمة بنت الوليد، وأم الحكم بنت أبي سفيان من هند بنت عتبة .

وهي المبايَعَة التي ارتبطت بها هذه الآية، ولكنّ الذي عرفناه سالفا من تفاصيل المبايَعات بيّن لنا أنّ المبايَعَة على آية النساء كان قبل الفتح، وبدأت في العهد المدنيّ تحديدا، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايِع بها النساء والرجال.

وبعد هذه الإطلالة على تاريخ المبايعات، وتسلسها زمنيا في العهد النبويّ، نأتي إلى موضوع الآية، أي إلى بنود البيعة  :

"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)"

إذن مما عرفنا آنفا، ومن صحيح الأحاديث، يتبيّن أن نزول هذه الآية كان سابقا لفتح مكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بها البيعة على النساء، بل وقد أخذ بها البيعة على الرجال أيضا، كما عرفنا مما أورد عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه .
واستمرّ العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة، وقد أسلم أهلها رجالا ونساء، فجلس رسول الله صلى  الله عليه وسلم ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال،  على ما في هذه الآية، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة من النساء عليها، وممن بايعته من النساء يومئذ هند بنت عتبة زوج أبي سفيان .

وقد جاء عن الزيلعيّ في تخريج الكشاف : (((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا فرَغَ يومَ فتحِ مكَّةَ مِن بيعةِ الرِّجالِ أخَذَ في بيعةِ النِّساءِ وهو على الصَّفا، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ أسفَلَ مِنه يُبايِعُهنَّ بإذنِه ويُبلِّغُهنَّ عنه، وهِندُ بنتُ عُتْبةَ امرأةُ أبي سُفيانَ مُتقنِّعةٌ مُتنكِّرةٌ خوفًا مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يعرِفَها، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أُبايِعُكنَّ على ألَّا تُشرِكْنَ بِاللهِ شيئًا، فرفعَتْ هِندُ رأسَها وقالت: واللهِ لقد عبَدْنا الأصنامَ، وإنَّكَ لَتأخُذُ علينا أمرًا ما رأَيْناكَ أخَذْتَه على الرِّجالِ، تُبايِعُ الرِّجالَ على الإسلامِ والجهادِ، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ولا يسرِقْنَ، فقالت: إنَّ أبا سُفيانَ رَجلٌ شحيحٌ، وإنِّي أصبْتُ مِن مالِه هَنَاتٍ، فما أدري أَيحِلُّ أمْ لا؟ فقال أبو سفيان: ما أَصبْتِ مِن مالي فيما مضى وفيما غبَرَ فهو لك حلالٌ؟ فضَحِكَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعرَفَها، فقال لها: وإنَّكِ لَهِندُ بنتُ عُتْبةَ، قالت: نعمْ، فاعْفُ عمَّا سلَفَ يا نبيَّ اللهِ عفَا اللهُ عنكَ، فقال: ولا يزنينَ، فقالت: أوَتزني الحُرَّةُ؟!، فقال: ولا يقتُلْنَ أولادَهنَّ، فقالت: ربَّيْناهم صغارًا وقتَلْتُموهم كبارًا فأنتُم وهُم أعلَمُ، وكان ابنُها حَنْظَلةُ بنُ أبي سُفيانَ قد قُتِلَ يومَ بدرٍ، فضَحِكَ عُمَرُ حتَّى استَلْقى، وتبَسَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: ولا يأتينَ ببُهتانٍ، فقالت: واللهِ إنَّ البُهتانَ لَأمرٌ عظيمُ القُبحِ، وما تأمُرُنا إلَّا بالرُّشدِ ومكارِمِ الأخلاقِ، فقال: ولا يَعصينَكَ في معروفٍ، فقالت: واللهِ ما جلَسْنا في مجلِسِنا هذا وفي أنفُسِنا أنْ نعصيكَ بشيءٍ)))

وهكذا تصبح حال هند، ويصبح مقالها !  على ما كان منها من كُره للإسلام والمسلمين، وعلى ما كانت نفسها تتحرّق للثأر من قتل أبيها وعمها وأخيها، وعلى ما فعلت من شقّ بطن حمزة، ومحاولتها لَوْك كبِده رضي الله عنه،  فنرى في إسلامها تحقيقا لقول الله الذي عرفنا في هذه السورة : " عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) "

فهذه المودّة تصبح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين هند، وهي التي أقبلت عليه متنقّبة تخشى أن يعرفها، فيُعرض عنها لما كان منها . ! سبحانه... !

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: " جاءَتْ هِنْدٌ بنْتُ عُتْبَةَ، قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما كانَ علَى ظَهْرِ الأرْضِ مِن أهْلِ خِباءٍ أحَبُّ إلَيَّ أنْ يَذِلُّوا مِن أهْلِ خِبائِكَ، ثُمَّ ما أصْبَحَ اليومَ علَى ظَهْرِ الأرْضِ أهْلُ خِباءٍ، أحَبَّ إلَيَّ أنْ يَعِزُّوا مِن أهْلِ خِبائِكَ، قالَ: وأَيْضًا والذي نَفْسِي بيَدِهِ ... "- صحيح البخاري-

وهكذا ينقلب حال قريش كلّها، بل حال مكّة كلّها يوم الفتح، فيدخل أهلها في دين الله أفواجا، ويبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ونساء ...

وإن هذه الآية التي بين أيدينا، -وكما عرفنا- لم تكن خاصة بفتح مكة، بل تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحابته من قبل، وأخذ عليها بيعتهم رجالا ونساء، ولكن، مع ذكر فتح مكّة، فإن بين الآية الأولى من السورة وما تلاها مما نزل في شأن حاطب بن أبي بلتعة وفِعلته قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا، وبين هذه الآية من أواخر السورة عند أخذ البيعة عليها من رجال مكة ومن نسائها، نعرف تحقّق وعد الله تعالى، تحقّق الفتح المبين الذي نزل التبشير به من بعد عقد صلح الحديبية، في قوله تعالى من سورة الفتح : " لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)" -الفتح-

بين الآية الأولى وأواخر السورة مسافة، هي المسافة بين إرادة البشر وإرادة الله تعالى، وكيف أنّه لا يحول حائل دون تحقّق إرادته سبحانه... !

فهل حالت فِعلة حاطب دون تحقّق الفتح ؟ ! وهل ما فعل لأجله حاطب ما فعل كان سببا حقيقيا وكافيا لإتيانه ما أتى ؟ !  أن يجعل لقرابته في قريش يدا تحميهم ؟ !   
 
فهذه قريش اليوم تبايع على الإسلام ... ! وهذه مكة تُفتَح للإسلام ... ! وهذه : "عَسَى  اللهُ" وهي للرجاء، والرجاء في الله تعالى محقَّق لا محالة، وواقع،  وهو في أكرم الأكرمين ... !

وهل كانت هجرة أم كلثوم بنت عقبة ومَن معها إلا مثالا حيّا قويّا متحققا على مَن يلوذ بالله تعالى وهو لا يَلوي على شيء، فيحميه الله ... !
فأيّ حجّة هي لمَن يفرّط في جنب الله بحجّة المصالح ؟ ! أي حجة هي لمَن يتخذ من دون الله وليّا ظنّا منه أنه يقضي له مصلحة ... ؟ ! بَلَه فيمَن يتخذ عدوّ الله وليّا وهو يراه حاميا ومُجيرا ... !

إنّ الأمر في السورة بدأ بحاطب، ولكنّ حاطبا رضي الله عنه وأرضاه، نزل من ربّ العزّة في شأنه بيان لحقيقة بقاء الإيمان بقلبه ...
أما هؤلاء المنبطحون الذين يتلبّسون باسم الإسلام من المطبّعين والمُوالين للعدوّ جهارا نهارا، فإنهم أبعد من أن يُقارنوا بحاطب المؤمن الذي زلّ وأخطأ، فنزل عليه توبيخ وتخويف، كان له تربية عظيمة ... !
 
تربية علّمنا الله أنها التي بعد نزولها، بما حملت من قوّة بيان لفظاعة الفعلة، لا حجّة لمؤمن بعدها أن يقول : "هذا الذي فعلتُ ، قد فعله صحابيّ " !! بل إنّ : " وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ "
ولقد كانت هذه الآية امتحانا للمهاجرات المؤمنات بعد الحديبية، وللمؤمنات والمؤمنين من قبلهنّ –كما عرفنا-  من قبل أن يبايع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء مكة ورجالها يوم الفتح .

إنها آية الامتحان، وآية البيعة في آن ... فمن نجحت في الامتحان، وعُلِم منها الإيمان، فهي المبايِعة القابلة بشروط الإسلام، المعاهدة على التوفية بها . ومَن بويِعت عليها وقبلت، فقد قبلت بشروط الإسلام وعاهدت على التوفية بها.
« آخر تحرير: 2020-09-29, 15:22:20 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ

على بنود ترتقي بالمرأة المؤمنة، وتُذهِب عنها رجس الجاهليّة، في كل مكان وفي كل زمان...
تلك الجاهليّة التي تتلبّس بها المرأة كلّما أعرضت عن هُدى الله، فلا يحسبنّ حاسب أنّها جاهليّة قريش قبل الإسلام وكفى !  بل إن من الجاهليّة لما هو أشدّ اسودادا وحُلكة من أيامها ... !

 جاهليّة تتقنّع بقناع عصر الحريّات، وما هو إلا عصر التفلّتات والتسيّبات والبهيميّة في شكل ماشِ على أربع، يسمّونه بها تجاوزا "إنسان" ... !

حريّة تُعرّي المرأة وتجعل منها شهوة حيوانيّة ... ! بلا عقل وبلا وزن، وبلا قيمة...
فما أحوجنا لتجديد البيعة... ! ما أحوجنا نحن النساء المؤمنات، والمرأة في كل مكان إلى هذا التّرياق، وهذا الرقيّ وهذا الإعزاز الذي لا يمنحه للمرأة إلا هذا الدين ... إلا هذا القرآن العظيم ... !

إنها بنود تحوي الأسس الكبرى للعقيدة، والأسس الجديدة للمجتمع المؤمن، الخاصّ المتميّز، المثال الحيّ الناجح  بهذا المنهج في الاستخلاف في الأرض، لإصلاحها، ولتحقيق العبوديّة لله وحده فيها :

1- أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا : والشّرك بالله ظلم عظيم، أن يخلق سبحانه ويُشرَك به غيرُه ! عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ. قُلتُ: إنَّ ذلكَ لَعَظِيمٌ، قُلتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: وأَنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ تَخافُ أنْ يَطْعَمَ معكَ. قُلتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: أنْ تُزانِيَ حَلِيلَةَ جارِكَ. "-صحيح البخاري-

وهو رأس الشروط كلّها، ورأس ما يبايع عليه رسول الله صلى الله عليه. وسلم لأنّ تحقيقه يحقّق توحيد الله تعالى، وهو الذي يُقبَل بعده العمل، أما الشّرك فلا يُقبل معه شيء.

وهو تَرَقٍّ بالإنسان عموما، وبالمرأة هنا، وهي تعبد ربها الواحد الأحد، ولا ترجو سواه، فتسمو على كلّ أعمال الجاهليّة التي تجعلها هوائيّة الأفعال، مضطربة السلوك، لا تعرف لها وُجهة ولا هدفا من حياتها، ومن أسرتها التي تكون ربَّتَها، وهي لا ربَّ لها تعبده، وله تعمل، ولا آخرة تحسب حسابَ جزائها فيها على ما تقدّم   : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (48)" -النساء-

وقد كان صلى الله عليه وسلم –كما عرفنا- يتعهّد صحابته بهذه البيعة، ورأسها تجديد إعلان التوحيد، ونبذ الشِّرك . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم " –السلسلة الصحيحة- 

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتقي بالمرأة المؤمنة، ويرسّخ في نفسها معالم التوحيد الخالص، فعن أسماء بنت عُمَيْس رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أُعَلِّمك كلماتٍ تقولينهنَّ عند الكربِ أو في الكربِ. اللهُ اللهُ ربي لا أشركُ به شيئًا " –سنن أبي داود-

2- وَلَا يَسْرِقْنَ : وهي التخلية الثانية من هذه الرذيلة، والتحلية الثانية للمرأة التي تبايع على الإسلام...
وقد عُرِفت النساء في الجاهليّة بها،  فكان تركها شرطاً لترقية المرأة، وإخراجها من أتون الجاهليّة التي شطحت بالأهواء يُمنة ويُسرة. فكانت المرأة فيها كما الرجل، بين مَن يسمّونهم الأشراف، والأحرار، وبين طبقات أدنى قيمة وقدرا، أجلاف غِلاظ، خِشان، لا تعرف المكارم والمراقي لنفوسهم سبيلا ... ! ولكنّ الإسلام جاء ليُساوي بين الناس، وليُعطي الفرصة للجميع، وليبيّن أنّ كلّ إنسان قادر على التبدّل من حال إلى حال، من جهالة إلى معرفة، وهو يعرف ربّه، ويعبده، ويطيع أمرَه، ويحقّق مرادَه من خلقه ...
ولقد سرقت امرأة في غزوة الفتح، فاستشفع قومُها أسامةَ بن زيد حِبّ حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلّم فيها رسول الله، فلا يقطع يدَها، إما عفوا وإما فِداء...

تروي عائشة فيها فتقول: " فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسامَةُ فيها، تَلَوَّنَ وجْهُ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: أتُكَلِّمُنِي في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ ؟  قالَ أُسامَةُ: اسْتَغْفِرْ لي يا رَسولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كانَ العَشِيُّ قامَ رَسولُ اللَّهِ خَطِيبًا، فأثْنَى علَى اللَّهِ بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ، فإنَّما أهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها.  ثُمَّ أمَرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتِلْكَ المَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُها، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُها بَعْدَ ذلكَ وتَزَوَّجَتْ. قالَتْ عائِشَةُ: فَكانَتْ تَأْتي بَعْدَ ذلكَ فأرْفَعُ حاجَتَها إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. " –صحيح البخاري-

وهكذا: " لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها " . ولهذا ولغيره كثير، كان ذلك المجتمع المثاليّ الذي كان حقيقة على الأرض، وواقعا، ففتح بالإسلام الآفاق، وأبلغَه مشارق الأرض ومغاربَها...  وحقّق فيها العدل، فأحبّه الناس، واعتنقوه حُبّا، وهم يجدون فيه وهو من روح الله،  ضالّة النفس البشرية، وحياة الروح التي هي من عند الله ومن أمره... !

فأمِن المجتمع، وسلِم ... وأمِن أهلُه بقوانينه وأوامره النقيّة السامية، وهُم تُجَدّد فيهم البيعة على طاعتها  ... ! كما أمِنت الأرض كلّها، والفاتحون يفتحون، وهم لا يغتصبون، ولا ينهبون أملاك الناس، ولا يأخذون ما هو لأهله، ليصيّروه غصبا لهم، كما تفعل العصابات الكبرى اليوم، والتي تسمي نفسها "العالم الأول" ... !!

ولقد عرفنا ما فعل عمر بن الخطاب بأرض سواد العراق، وهو يحتكم للآية العاشرة من سورة الحشر ... ! (انظر تدبّرات سورة الحشر الآية10)

3- وَلَا يَزْنِينَ :  ترقية للمرأة، وتطهير لها، ومحافظة عليها من التبذّل، وذهاب حيائها، ومحافظة على المجتمع من تَيْه اختلاط الأنساب، وانتشار الفاحشة، والمرود عليها ... مجتمع مَصُونة فيه المرأة، مُصان فيه الرجل، تحفظه المرأة العفيفة الطاهرة، إذ تحفظ نفسَها، فتجعله بعيدا عن السقطات والوَقَعات والانحلالات  ...
مجتمع تعفّ فيه المرأة، فيعفّ فيه الرجل، فلا تكون حلالا إلا لزوجها الذي شُرِع لها، ولا يكون هو حلالا إلا لمَن شُرِعت له من النساء ...

ولقد عرفت الجاهليّة ألوانا من علاقة الرجل بالمرأة، كانت فيها المرأة شهوة عارضة، تُخرج للدنيا أطفالا بلا هويّة وبلا انتساب! بل وكانوا ينسبون الولد لا على قاعدة الصُّلب المَنْشَأ، بل على قاعدة القُفاة في تعيين الأب  لامرأة عاشرت الرجال لا الرجل الواحد  ... !
فها هو القرآن وهو يرتقي بها، ليجعلها دُرّة لا يظفر بها إلا من استحقّها بشرع الله وبكلمته .
وها هي الجاهليّة العصريّة وهي تعجّ بقصص المُومسات وبائعات الهوى، بل وبمجتمعات صارت فيها الحريّة الجنسية قانونا مقنَّنا، يبيح للرجل والمرأة كل شيء، دون ضابط ولا حدود، فتهيم المرأة على وجهها عابثة، ومعبوثا بها على مرأى من الأب ومن الأخ ومن الزوج،  وعلى مَسْمَع !! 

أهؤلاء هُم مَن يتخذهم المؤمنون أولياء ؟ !

هؤلاء الذين يستهدفون فيما يستهدفون من مقاتل الأمة،  المرأة، ليضربوا بإفسادها وإذهاب عفّتها خصوصية المجتمع المسلم، البيّنة أنسابه، النقيّة أعراقه، المنتسب فيه الفرد انتسابا حقيقيا لأمه ولأبيه ... المحافظ على روح الأسرة الجامعة الحامية .

أهؤلاء الذين يرومون إفساد المرأة المؤمنة، بدعوى تحريرها من الاضطهاد والكَبْت والظلم الذكوريّ،  هم مَن نواليهم ؟ !
أعداء الله، وأعداء الفطرة السليمة، العاملون على شَيْطنة الأرض، وعلى تعبيد الإنسان للشيطان... ! لاتخاذ عدوّه الأكبر وليّا ... !

وبهذا الاهتمام الخاصّ بالمرأة، وبالبنود التي تُبايَع على طاعتها، نتأمل العلاقة بينها وبين  قضية الموالاة للعدوّ، والعدوّ قد عرف منذ زمن بعيد أنها من أهمّ ما يخدم إفساده للجماعة المؤمنة، وإذهابه لريحها، مع ما ينتشر من دعوات التحرّر البهيمي الأعمى ... !
لكأننا نسمع السورة وهي تلوّح بالقول ... لا تتخذوا عدوّ الله أولياء، لا تتخذوا أولياء مَن يريد إفساد جماعة المؤمنين بإفساده للمرأة  ... !

لا تتخذوا مَن يريدون اختراق حُرمة المجتمع المسلم من خلال إفساد المرأة وإبعادها عن عبادة ربّها، الذي رقّاها، ونقّاها وجعلها درّة غالية عزيزة، ولؤلؤة عالية نفيسة، جعلها ذات هدف أسمى في هذا الوجود ، فما عبّدها لغير الله، وهي تأتمر بأمره سبحانه، فتلتزم العفّة، وتتخذ من الطُّهر عنوانا وبيانا ... ولذلك وضع الإسلام لهذه الفاحشة القاتلة لروح المجتمع، المُذهبة لتلاحمه، وتماسكه، حدّا يُقام على من يأتيها، ليكون الرادع والزاجر والمانع من تفشّيها وتفشّي سُمّها الناقع في أطراف المجتمع .

4-وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ: ويشمل ذلك قتل المولود بعد وجوده، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية إملاق، كما يشمل قتله وهو جنين إذ كانت بعض النساء تَعمَد للإسقاط حينما تعلم بحملها .
وقد خلّى الإسلام الناس من ظلمات الجاهلية الظلماء، فحرّم ذلك، وحلاهم بالاعتقاد في أن الرزق بيده سبحانه: " وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) "–الإسراء-

وقد كانت المرأة في الجاهلية إذا حان موعد وضعها، تعمَد إلى حفرة، فإن كان المولود أنثى قبرته، وإن كان ذكرا أبقتْه ... !

ومن بين أسباب وأد البنات عندهم، اعتقادهم أن الملائكة بنات الله، فكانوا يلحقونهنّ به. ولأنهنّ يجلبْن العار لأهلهنّ، أو خوف القهر عليهنّ، وطمع غير الأكفاء فيهنّ، وقد جاء خبرهم في القرآن :  "وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)" -النحل-

ومن أشرافهم من كان يمنع ذلك. فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: "رَأَيْتُ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى الكَعْبَةِ يقولُ: يا معاشِرَ قُرَيْشٍ، واللَّهِ ما مِنكُم علَى دِينِ إبْرَاهِيمَ غيرِي، وكانَ يُحْيِي المَوْؤُودَةَ، يقولُ لِلرَّجُلِ إذَا أرَادَ أنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ، لا تَقْتُلْهَا، أنَا أكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قالَ لأبِيهَا: إنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إلَيْكَ، وإنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا" –صحيح البخاري

فهي ذي البيعة مع النساء وهي تحفظ للمرأة أمومتها، كما تحفظها من قهر رجُلها لها، وهو يئد ابنتها على مرأى منها ومسمع، ويهينها إن هي كانت ولاّدة للبنات... !
إنه الدين الذي جاء يحفظ على الإنسان إنسانيته، ويحفظ على المرأة كرامتها، ويعيد لها حقوقها التي سلبها إياها الرجل، وسلبتْها إياها معتقدات الخرافة والأوهام ... !

5-وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ: والبهتان هو الكذب، والافتراء هو الاختلاق، ذلك أن الرجل يختلق الكذبة على أحدهم، وينسبها له، فيُبهَت الآخر مما ألصِق به .
وكثير من المفسّرين رأى أن أكثر ما يليق بالبهتان تفتريه المرأة بين يديها ورجليها، أن الذي تفتريه بين يديها الولد تلتقطه وتدّعي حملها به، لتنسبه لزوجها، والذي بين رجليها أن تأتي به من زنى، وتُلصقه بزوجها، وعموم المعنى أن تنسب لرَجُلِها ما ليس من صُلْبه .

ولكن يدخل فيه أيضا بما هو أعمّ، عمل اللسان وعمل اليد، من نميمة، وسحر، وشعوذات، وكلّ ما من شأنه أن يكون كذبا مُفترى يبهَت صاحبه وهو يُلصَق به ... لذلك وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيبة بالكذب على أحدهم بقوله :" أَتَدْرُونَ ما الغِيبَةُ؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ. قيلَ أفَرَأَيْتَ إنْ كانَ في أخِي ما أقُولُ؟ قالَ: إنْ كانَ فيه ما تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيه فقَدْ بَهَتَّهُ." –صحيح مسلم-

فمن بعد نهيهنّ عن الزنى، وجعله شرطا من شروط البيعة، ها هو النهي عن افتراء البهتان، بنسبة ولد للزوج من غير صلبه، زيادة في الحفاظ على روح الأسرة سليمة المنبع، نقيّة العِرق والأصل . فلا دَخَل ولا خيانة.

وقد كانت المرأة المؤمنة العفيفة ترفع رأسها بعفّتها وهي تقول لبنيها : "والله الذي لا إله غيرُه، إنكم لبَنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنْتُ أباكم، ولا فضحتُ خالَكم، ولا هجنتُ حسَبَكُم، ولا غيرتُ نسبَكم"

6-وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمعروف، فكانت "معروف" المضافة لـ : "لا يعصينك" مَنَاطا لفهم أنّ الطاعة للإمام من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا في معروف، فإن كان رسول الله، وهو الذي لا يأمر إلا بما يرضي ربّه، ولا ينهى إلا عما يغضبه، قد أضيفت له، فهي أولى بالإضافة إلى مَن هو أدنى منه من أهل الحكم والحلّ والربط  من بعده .

وعدم معصية النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في معروف، تشمل ما نهاهنّ عنه من أمور الجاهلية، من مثل النّوح، وتخريق الثياب، وجزّ الشعر، وشقّ الجيوب، والخُلوة بغير محرم .
وقد كان مما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساءَ عنه، ما جاء عن أم عطية رضي الله عنها. قالت : "نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا."- صحيح البخاري-

وعن سلمى بنت قيس الأنصارية قالت : "جئت رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبايعته في نسوةٍ من الأنصارِ فلما شرط علينا أن لا نشركَ باللهِ شيئًا ولا نسرقَ ولا نزني ولا نقتلَ أولادَنا ولا نأتِيَ ببهتانٍ نفتريه بينَ أيدينا وأرجلِنا ولا نعصيه في معروفٍ قال: ولا تغششْنَ أزواجَكن. قالت: فبايعناه ثم انصرفنا فقلت لامرأةٍ منهن ارجعِي فسَلي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما غشُّ أزواجِنا قالت فسألَتْه قال : تأخذُ مالَه فتحابي به غيرَه" –مجمع الزائد: رجاله ثقات-

كما أنّ : " وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ " شاملة لطاعة كلّ ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهو شرط عامّ لكل أوامر الإسلام وآدابه ... به اكتملت البيعة على الإسلام بيعة تامّة...

إذ أنّ الشروط ابتُدِئت رأسا بألا يُشْرِكْن بالله شيئا، وهي شهادتهنّ أنّ : "لا إله إلا الله " . وانتهت بطاعة كل أمر من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تحقيق شهادتهنّ أنّ : "محمدا رسول الله"

"...فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)"

فإن هنّ قبِلْن بتلك الشروط، وصادَقْن على تلك البنود، ورضِين بها، وأعلنّ إذعانهنّ لما أمليتَ عليهنّ، فبايعهنّ، ومبايعته صلى الله عليه وسلم النساء كانت بالكلام، فهو لم يصافح امرأة قطّ، كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها في أكثر من حديث، وكما نقلتْ النساء ذلك عنه.
واستغفر لهنّ الله ... وإنّ في استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء لمِنحة، وفضلا عظيما  ...
"...إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"
سبحانه، يغفر ما كان من كافرة قبل أن تسلم، يجبّ إسلامها ما كان قبله، فلكأنّ بالمرأة قد وَلِدت من جديد في رحاب الإسلام، وفي جنب الله تعالى ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وإن كل هذه البنود ، وكل هذه الأسس التي تُبنى عليها كرامة المرأة، وتُحفظ بها مكانتها، لم تكن يوما حائلا دون أن تشارك المرأة في الحياة الاجتماعية، ودون أن يكون لها دورها العظيم في بناء المجتمع المؤمن، القويّ المتلاحم، ودون أن تُخرّج له رجالا ونساء من خيرة ما حملت الأرض من جنس البشر، كما لم تكن حائلا دون مشاركتها مع الرجال في حروب المسلمين، فكانت تخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته وحروبه، فتمرّض وتداوي الجرحى، وتسقي المجاهدين، بل و كانت تقاتل وتقتل أهل الكفر، وهي تحمل في قلبها حُبّ الدين، وحبّ عزّته وإعزازه ... !

وجبين الإسلام مرصّع بأسماء خالدة للصحابيات المبايعات على الإسلام، وعلى النصرة...

فهذه نسيبة بن كعب أم عمارة، وهي تذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحُد ساعة فرّ الرجال من وجهه، حتى أثخنت بالجراح... !

وهذه الرميصاء بنت مِلحان وهي التي تُعرف بجهادها،  اتخذت خنجرًا يوم حُنَيْن، فقال زوجها أبو طلحة: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر. فقالت: يا رسول الله، إنْ دنا مني مشرك بقرْتُ به بطنه... !

وهذه صفيّة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قطعت رأس اليهودي الذي جعل يتلصّص على حصن النساء في غزوة الأحزاب، وألقتْه على أصحابه، حتى فرّوا وهُم يقولون : لقد علمنا أن محمدا لم يكن ليترك أهله خُلُوفا ليس معهنّ أحد(أي بغير راع ولا حامٍ)... !

وهؤلاء الصحابيات العظيمات المبايعات، يوم أُحُد، حينما فرّ من رجال المسلمين مَن فرّ عن رسول الله حتى دخل المدينة، يصِحن بهم، وهُنّ  يقلن لهم: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرّون؟ " وأم أيمن تحثو في وجوههم التراب وهي تقول: "هاكَ المغزل فاغزِل به، وهَلُمَّ سيفك "... !

وهذه أم سعد بن معاذ، وكان ابنها عمرو بن معاذ قد قضى في غزوة أحد شهيدا،  تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إثر عودته من الغزوة سالما،  فدنت حتى تأملت وجْهَه، فعزّاها بابنها عمرو، فقالت: "أما إذ رأيتُك سالما فقد اشتويتُ المصيبة(أي استقللتها)" ... !

وتلك الماجدة العظيمة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وهي التي كانت أول من بايع على الإسلام على وجه الأرض، وهي التي قوّت النبيّ ساعة زَلْزَلَه الوحي أوَّلَ نزوله عليه، وهي تقول : "كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لَتَصِلُ الرحم ،وتحمل الكَلّ، وتُكسب المعدوم، وتُقري الضيف،وتعين على نوائب الحق" ... !

وتلك سميّة بنت خباط أم عمّار بن ياسر، وهي التي صمدت بوجه العتيّ المجرم أبي جهل ومحاولاته ردّها عن الإسلام، حتى بقر بطنها، وطعنها في موطن عِفّتها، فارتقت أول شهيدة في الإسلام ... !

وهذه، وهذه، وتلك وتلك .... ! كثيرات لا يحصيهنّ إحصاء، ولا يتّسع المقام لذكر مناقبهنّ ووفائهنّ ببيعاتهنّ التي بايعْن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكلّ هذا كان من المرأة المؤمنة ... المبايعة، الموفّية بما بايعت عليه .
على عكس ما يُروّج له الغربيون المنحلّون، وأذنابهم من بني الإسلام المنبهرون بهم، الذين يريدون سَوق المرأة المسلمة إلى حتفها بجاهلية العصر المجنون ! وسَوق المجتمع المسلم بها إلى حَتْفِه، وهم يعلمون  دورَها العظيم في بقاء قوّة المؤمنين، بعفّتها وبسموّ فِكرها إذا انشغلت بقضايا دينها وأمّتها... ! حتى أصبحنا نعرف في المرأة المؤمنة تفاهة، وهي قُصارى ما يشغلها مظاهر الدنيا، وكماليات العيش، والتفاخر والتباهي، واللهث خلف الدنيا وزينتها، وخلف دعاوى التحرّر من زينة الأخلاق إلى قُبح الشهوانيّة البهيمية ... !

وهم في دأبهم لا يفتُرون -غربا ومنافقين من أهل الإسلام- عن تصوير الإسلام بصورة الاضطهاد والامتهان، والانتقاص من قدر المرأة ...
وهم الذين امتهنوها، فرغِم أنفُها، ومُرّغَت بالأرض كرامتها، إذ صيّروها سلعة، وشهوة مسعورة، وأقصى ما أسدَوه لها من خدمة أن جرّدوها ممّا يسترها، حرّروها من ثقل ما تلبس، فسلبوها عِفّتها ... !

وأمدّوها بمِعول هدمٍ لبنيان الأمّة، فهي تهدم ولا تلوي على شيء، وتحسب أنها المتحرّرة المتقدّمة المولّية عن موروث قديم مُهَلهَل، لم يعد يعني لها شيئا مع عصر التحرّر من الدين ومن التكليف، ومن الاحتكام لحكم الربّ الخالق البارئ المصوّر الباعث ليوم عظيم ... !

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)"
وهذه الآية الأخيرة الخاتمة لهذه السورة العظيمة  ...

نداء ثالث فيها للذين آمنوا، وتعليم وتأكيد آخر على المعنى ذاتِه... على أنّ الموالاة لا تكون إلا لمَن كان مواليا لله، محبّا لله ...
فجاء في أوّلها التحذير من موالاة أعداء الله، وكانت فِعلة حاطب مع مشركي قريش مناسبة لذلك، وهذه الآية الأخيرة تختِم السورة بما بدأت به، فتدعو لعدم موالاة فريق آخر من الكفار ... هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله : " قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ "

والمغضوب عليهم هم الذين كفروا من أهل الكتاب، هم اليهود بشكل خاص، وقد جاء في سورة المجادِلة قوله سبحانه في المنافقين وهم يوالونهم : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) " -المجادلة-
كما جاء عن غضب الله عليهم : " ...فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ " –البقرة: من الآية 90-
وهكذا يجتمع في التحذير من موالاتهم في هذه السورة، المشركون والكافرون من أهل الكتاب (اليهود تحديدا)، كما جاء التخويف من صفات المنافقين في تفظيع فعلة حاطب رضي الله عنه، الذي نجا من النفاق، وكان من الضروري نزول ما ينفي عنه تلك الصفة التي لا يبتعد أحد من المؤمنين عن وصفه بها لو لم يُسعفه الوحي وينقذه، بكشف حقيقة ما بقلبه.

"...قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ"
يئسوا من خير الآخرة وحُسْن جزائها، بفعل غضب الله عليهم...
وهكذا "يئِسوا" هنا إعلام الله عن حقيقة مآلهم، لا أنهم هم اليائسون من خيرها، لأنّ أوهامَهم تصوّر لهم أنّ لهم في الآخرة حُسن مآب .

وقد كشف الله أوهامَهم  في مثل قوله سبحانه : " قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) " -البقرة-
لذلك فهو حكم الله عليهم، أنهم يئسوا منها، كقولك عن جماعة، "هلكوا" وهم ليسوا بالهالكين مظهرا، بل من فعل أتوه قد حكمتَ عليهم أنهم قد هلكوا، كذلك أرى هذه الصيغة في هذه الآية تفعل فعل الحكم الإلهيّ فيهم، ووصفُهم بـ : " قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم " كفيل بإعطاء سبب هذا الحكم،  فيهم، وهذا المآل لهم .

"...كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ"
وهذا المثل الذي ضربه الله لحالهم، أو لنقل لحقيقة مآلهم من أنهم الذين لن يروا في الآخرة خيرا، فكما يئس الكفار الذين ماتوا على الكفر من خير لهم في الآخرة،  وهم في عالم البرزخ، قد أيقنوا أنهم هالكون، وقد عرفوا سوء مآلهم، وقد يئسوا تمام اليأس من خير ينالهم . كذلك حال هؤلاء المغضوب عليهم.

وبهذا يجتمع للمؤمنين تحذير من موالاة كلّ محادّ لله ورسوله، وكلّ مغضوب عليه من الله... في هذه السورة التي نجدها امتدادا لسورة الحشر، ولسورة المجادلة ...
وفيها علاجٌ لحالة طرأت على الجماعة المؤمنة، وهي التي يجب ألا تتكرّر فيها، ونقف عند حاطب بن أبي بلتعة، حتى نؤكّد أنه لا كلام لنا فيه، وفي شأنه، من بعد كلام الله وشهادة رسوله له... فكما توقّف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما تكلّم في شأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك علينا أن نتوقف . فهو الصحابي الجليل رضي الله عنه، الذي صدق إذ قال أنّه لم يفعل ما فعل رغبة عن الإسلام إلى الكفر، وهو الذي شهد له رسول الله في حديث آخر أنه الذي لا يدخل النار، وهو الذي ناداه الله وهو ينادي جماعة المؤمنين في أول السورة، تأكيدا على أنه من المؤمنين، ولم يخرج عنهم.

ولكنّ الذي يجب أن نعلمه، أنه ليس لأحد من المؤمنين أن يستسهل تلك الفعلة بحكم أنه قد أتاها صحابي، لأن نهاية الآية الأولى من السورة، تؤكّد أن من يفعل ذلك لاحقا، ومن بعد نزول كل تلك البيانات والتخويفات، فقد ضلّ سواء السبيل ...

وقد جاء عن المنافقين في "المجادلة" وفي "الحشر"باسم المنافقين، بينما جاء عنهم في الممتحنة، بطريق التحذير من التلبّس بأفعالهم، وفِعلة حاطب الذي نجا من الاتصاف بصفتهم، هي من أفعالهم  ... ! فهي كناقوس الخطر الذي دقّ، ليُحذِّر من شقّ الصفّ المسلم بأفعال المنافقين.

وهو ما نعرفه ونعاينه اليوم في أمتنا، وهو العلّة والداء، وهو السمّ الذي تفشّى في أوصالها، وهو النار التي أتت على أخضرها، حتى ضعفت، وحتى انشقّ صفّها، وتفرّق جمعها، لأنّهم ذهِلوا عن : "وَمَن يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل" !  حتى أصبحت موالاة العدوّ قضيّة حيويّة في ملفّات المنافقين من بني جلدتنا، وأمرا الحسم فيه ألا جِدال ولا نِقاش...  لا بُدّ منه، وهو المِحكّ لنعيش !!
لذلك نتأمل...

فإذا القرآن يُحذّر المؤمنين من مغبّة الوقوع بدائرتهم، لأن قضية الانتماء حاسمة، لا وسط فيها، بل إما الولاء وإما البراء، لا شيء بين الأمرَيْن ...
ثم تتوالى التربيات في السورة والتنبيهات، والإضاءات على طريق الحفاظ على الانتماء، ولحمة الصفّ المؤمن بالقدوة والأسوة في إبراهيم عليه السلام ومَن معه، وهو يولّي عن أقرب الأقربين، وهم أعداء الله، ويوالي الله وحدَه، ويوالي مَن يؤمن به وحدَه ...
مع بيان وتحديد للفئة التي يجوز معها حسن معاملة، وتحديد لصفات وأفعال الذين لا يجوز بحال من الأحوال برّهم .

ومن ثَمّ، ينتقل الأمر إلى المؤمنات المهاجرات، وقد وَكَلَ الله أمْرَهُنَّ للمؤمنين  لتَبيّن إيمانهنّ، في مزيد من تجلية لضرورة التقارب في الله، والتصاهر في الله، وأن يَخْلُص المجتمع المؤمن لله، فلا تختلط بقضية الانتماء الحاسمة وقضية الولاء لله الحيويّة المُحيِية للجماعة المؤمنة، مشاعر القرب والرَّحِم، فتتميّع القضية بالنظر إلى ما يُمليه ذلك الميول البشريّ للقرابة والأرحام  .
فحُرِّمت نساء المؤمنين على الكفّار، كما حُرّمت نساء الكافرين على المؤمنين . لتصل بتلك الآية مرحلة التحريم من بعد سنوات من البعثة، كان فيها الأمر على حاله مما هو كائن.

فالدولة وقد تقوّت، والمجتمع وقد انتظم في إطار الوَحي وهداياته، آن أوان الحسم النهائيّ في القضية، مع ما كان من ضعف في حاطب، وهو لم يكن يبتغي من فعلته إلا يدا تحمي قرابته ...  وتلك مشاعر لا ينكرها الله على النفس، ولذلك نجد مواءمة التشريع القرآنيّ لسدّ حاجات النفس البشرية، ومعالجة ضعفها، وحماية قضية الانتماء من التمييع .

ثم تأخذنا السورة إلى أجواء المرأة المؤمنة، وهي التي تؤمن، فتهاجر إلى الله بإيمانها، وهي التي تصبح في حِمى المسلمين والدولة المسلمة، فتُحرَّمُ على الكافرين، ولتكون هجرتُها سببا في تحريم الكافرات على المؤمنين ...
وكلّ ذلك بياناً لدور المرأة في الحفاظ على تلك اللُّحمة، وفي التأكيد على الحسم في قضية الانتماء للجماعة المؤمنة، وتنشئة الأسرة بكل قواعدها على الولاء لله، رجلا وامرأة جنبا إلى جنب ...

فهي المبايِعة، المعاهِدة على الائتمار بأمر الله كلّه، والانتهاء عن نهيه ...الموفّية بعهدها، ممثَّلة في عظيمات الأرض،  الحَرِيّات أن تتخذهنّ  المرأة المؤمنة في كل زمان قدوة وأسوة، لتسير على نهجهنّ، ولتقتفي أثرَهُنّ النيّر الطّاهر، ولتقتبس من أرواحهنّ الوقّادة التي أعطت  للإسلام، فكانت أساسا للمجتمع الإسلاميّ العظيم، وللأمّة الإسلامية التي شهدت الأرض أيام عِزّها أعظم حضارة، أقامت في الإنسان صُلبَ إنسانيّته، وهي تربط حياتَه بربّه الخالق، وتربط دنياه بيوم لقائه سبحانه  ... !

هذه السورة... "الممتحنة" ... وهي على حقيقتها  امتحانٌ للمؤمن، امتحان لصدق إيمانه، وصدق دخيلته مع الله سبحانه ... امتحانٌ بالنظر إلى مدى التزامه بالولاء لله، ولمن يوالي الله، ومحادّته لمن يُحادّه سبحانه ...

امتحانٌ يعرف به المؤمن والمؤمنة على السواء، إن كان حقّا يُقدّم الله في حياته على كل اعتبار، وينضوي تحت حِزْبه، ويوقن بعظمته، وحكمته، ويعتزّ بدينه، وينجح في ابتلاءات الثبات على الولاء لله والبراء من أعدائه في هذه الدّنيا التي خُلق فيها، أم أنّه الذي تغلبه مظاهر القوّة في الأقوياء فيواليهم وهم لله أعداء، وهو يراهم الربّ الذي يُتَزلَّف له، وبه تُقضى المصالح، فبموالاته تستمرّ حياتُه، وبمعاداته يُقبَر وينتهي ... !

إنه امتحان الخصوصيّة العَقَديّة في الجماعة المؤمنة، بنسائها ورجالها، امتحانُ الثبات على هذه الخصوصيّة التي ترميها كل قوى المظاهر في عصرنا بالجمود والركود، وبأنها التي عفى عليها الزمن !

إنها الممتحِنة... وهي تكشف حقائقنا، حقائق مجتمعاتنا، وحقائق دولنا على السواء... فإذا بها تعمل عمل المجهر الذي يكشف دقائق وحقائق قطعة لا مفرّ لها من زجاجة الكشف ... ! 
فنطلّ من عينها المكبّرة على المجتمع وعلى الدولة، لنوقِن أنه لا انفصال ... ! ولنوقن أنّ حال هذه من ذاك، وحال هذا من تلك ... !
لتجد الآية الأولى وشِفرتُها "سرّ دولة" ولتجد الآيات الوسطى والأخيرة وشِفرتُها "قوام مجتمع" ... ! فتفهم أنّ من الفرد المؤمن القويّ تقوى الأمّة، وفي ظلال الدولة المؤمنة القويّة يأمن ويعتزّ الفرد المؤمن.

وتجدك وأنت تذكر فيما تذكر تلك المرأة التي حمّلها حاطب كتابَه إلى قريش ... ! أجلْ تذكرها وهي المرأة، والمهاجرات  المؤمنات من جنسها، والمبايعات من جنسها ... !
تذكرها والمهاجرات المؤمنات كُنّ قبل إيمانهنّ على ما كانت عليه، فلم تستثقل أن تكون مِرسالا بين مؤمن وكافر ! وحتى إن لم تكن تدري –وغالبا هي لا تدري- مضمون الكتاب، فهي التي تُحَمَّل بمالا تدري عنه شيئا... ربّما أسكتَتْها دريهمات، فكفتْها السؤال، وكفتْها أن تربأ بنفسها عن شرّ  لا فرق إن كانت تدري عنه أو لا تدري ... !

إنها التي لم تستنِر بنور الإيمان، ولم تبايع على شروط الإسلام، والولاء، والرقيّ بعقلها وفِكرها ومقامها، لم تبايع على شروطٍ تجعلها المترفّعة عن سفاسف الأعمال والأقوال ... !
تجعلها صاحبة الرسالة، وصاحبة الهدف، لا التي لا يُلتَفَت إليها بنظر وهي التي كانت مِرسالا، درتْ أو لم تدرِ عن أمرِه، صِنوان هما الحالان  في فِكرها المُفرغ من انشغال بقضية الحق عن الباطل ... !

إنها التي لم تعرف معنى المبايعة على أن تطيع أمر رسول الله إلى خلقِه بالحقّ، وبالهُدى  ...
ولكن .......... ! "عسى الله" ... لم تفت "الممتحنة" ... !

وقد تكون انقلبت تلك المرأة المرسال في شأن من أكثر شؤون الدولة حساسية وأهميّة، لولا لُطف الله،  لكانت بما أرسِلت به سببا في إضرار الدولة والكيد لها... قد تكون انقلبت إلى مؤمنة مبايعة يوم الفتح، يوم دخل أهل مكة في دين الله أفواجا، واجتمعوا على رسول الله مبايعين على الإسلام ... غالبا يكون حالها قد انقلب إلى هذا ...  وإنها : "عسى الله"... !

فما أبيَن حالا عن حال... وما أبعد حالا عن حال، بين ظلمة ونور، بين ضلال وهُدى، بين حقّ وباطل، بين إنسان يحقّق الخلافة، وبين إنسان يتوه عن غاية وجوده وهو يتخذ عدوَّه الأكبر وليّا .... !

فيا سورة الممتحنة ... يا حاملة الحقيقة ... ويا كاشفة لحقائقنا ... يا حاسمة ... !
« آخر تحرير: 2020-12-11, 10:23:06 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب