المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي(سورة الجـــــــن)  (زيارة 1717 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وموعد  مع سورة جديدة، وكعادتنا، نتسوّر جنّة جديدة...
جِنان الله على أرضه هو القرآن ... هو السعادة والراحة والطمأنينة... هو ذهاب الكَدَر، وصفْوُ العَيْش، وعَذْبُ الوِصال، ورَقْرَقُ المعنى.... !
هو الروح للروح... هو لها الماء  فمُحييها، وهي من غيره ظمأى تعجُفُ وتتيبّس... ! هو لها الهواء الذي يتغلغل في أوصالها ليمُدّها بالنّبض فتحيا... !

فلنستقِ... ولنرتَقِ ...

إنها سورة "الجنّ" ...
سورة من سُوَر القرآن الكريم، تحمل اسم "الجِنّ" ...فنجدها تُعنى بأمرهم، وتُفصّل في شؤون من شؤونهم ...
الجنّ...ذلك العالَم الآخر، الغريب، المغَيَّب عنا... المليئ بالأسرار...!

تلك المخلوقات التي يسمع عنها الإنسان ولا يراها، فهو المتشوّف دوما لأخبارها، حتى بات يَحيكُ لها الحكايات، وينسج لها من الخيالات ألبسة يسمّيها الحقيقة...! يؤلّف القصّة ويحبِك الحَبْكة، فتنتشر وتبلغ الآفاق وهي مَحْض وَهْمٍ وخُرافة ... ! فأصبح الجنّ رمزا للعالم الخفيّ الذي له قوة خارقة، وله سلطة وسَطوة...إنه العائث في نفس الإنسان فسادا وتنغيصا وتعكيرا... !

حتى غدا ذاك المِشجَب الذي يعلّق عليه الخائبُ خيْبتَه، والمصابُ مصيبتَه، ومَن بنفسه علّةٌ علّتَه... !
فما أسهل ما يُقال به جِنّة، وما أسرع ما يُتحجَّجُ بسُكنى الجِنّ جسمَ مريض نفسيّ أو متمارض لحاجة في نفسِه يريد أن يقضيها ...! ويقضيها مِثلُه، في قوم يسارعون للتصديق بالأكاذيب والأراجيف مُسارعة الواثق عن عمى... !

أما بائعو الأوهام والخُرافات، فأسواقهم رائجة وتجارتهم رابحة، في أمّة هي الأحرى بنبذ الخرافة، وبكشف زَيْف أهلها والعاملين عليها ... !

وأجدني سأخالف العادة في الإسقاط من حال أقوام سابقة على حال أقوام لاحقة ...! لأعود من واقعنا إلى عرب الجاهلية ! فأقول : إنّه كذلك كان سائدا فيهم الكذب على عالم الجنّ، والتهويل من شأنهم، وكان متفشّيا الاعتقاد بسطوة لهم كبيرة على عالم الإنس كما هي حالنا ...
ففداحة الأمر فينا تجعلنا الممثَّلَ به لا المماثِل...! تجعل حالَنا الأنكى والأدهى والأمرّ، ونحن الذين نزلَ فينا الهُدى يُعلي من شأن العقل، ويُكرّم العاقل المتعقّل، وينبذ الخُرافة والأوهام كما نبذ عبادةَ الأوثان والأصنام... !

وإنك لتسمع من حكاياتهم العجبَ العُجاب... !
ففلان من الناس فعل فيه الجنّ وفعل، والآخر تلبّس به وتحدّث مكانَه، وبلغةٍ غير لغته، وجعل يُخبِر بأسراره مَن كان له الفضل في تخليص المسكون المسكين منه ! وقد اختاره مسكنا دون غيرِه من المساكن ... !

ربّما هو الجنيّ العاشق الولهان الذي تسلّط على المعشوقة وتزوّجها ... !
وربّما هو الجنيّ الكافر الذي اتخذ له من هذا الجسم أو ذاك بيتا يريد أن يفتن صاحبَه عن دينه ! أو لعلّه الذي قفز من بالوعةٍ بين بالوعات بيتٍ بين البيوت يريد أن يلقّن صاحبه درسا لا ينساه وقد سكب على البالوعة ماء ساخنا ... !!

ولا يخفى ما في النفوس من خوف ورعب من هذا العالَم، هو من صنع أيدي البشر للبشر...! خوفٌ ولّدتْه الخرافات والشائعات والأساطير التي جعلت من الجنّ كائنات ذات خوارق وطوارق ! تطرق عالَم الإنس وتفعل به ما تشاء... والخوف جبلّة في الإنسان مما تراه عينه ويَعرف منه الأذى، فكيف بما لا تُدركه عينُه وهو يعتقد أنّ له عليه سطوة ... !
غيضٌ من فيض الخُرافات والتهويلات هو هذا... !

وعلى شاكلته كان العرب في الجاهلية يعتقدون بالجنّ سطوة وسلطة وقوة خارقة، تُلحق الضرر بالإنسان، ويعتقدون بهم المعرفة والاطلاع على الغيوب.  حتى كان الكاهن عندهم تُرجمانَ الجنّ، ينقل عنه الخبَرَ من أخبار الغيب، يسترقه وهو يتسمّع السماء ... !
فكان يأتي بالكلمة الصحيحة مخلوطة بالمئة الكاذبة، ويحلف أيمانا بآلهته المتعددة على أنه الغيب المقطوع بصحّته، والمُحدَّثون من جهتهم يصدّقون ويُمضون أمرَهم وِفقَ ما يلقيه إليهم ... !

بل لقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك...حتى ادّعوا أنّ بين الله وبين الجنّة نسبا، وأنه اتخذ منهم صاحبة، كان له منها الملائكة ولدا ... ! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ...

جعجعةٌ هي نسمعها ... وأيّ جعجعة...! وما من طِحن ... !
جعجعة، لو أنّنا اكتفينا بخبر القرآن لما كانت، ولما عِشنا دهورا، ينقل فيها الأجيالُ الخوفَ والرعبَ بعضا عن بعض، والكذبَ على عالَم يُقرّ القرآن وجودَه، وليس لنا عنه من علم يُجاوز حدودَ ما أعلمَنَا به، ولو كان للجنّ من سطوة على الإنس لكان القرآن أحقّ وأسبقَ  مَن يخبرنا بها ... وإنّ فيه وفي السنّة الصحيحة عنهم النبأُ اليقين، وحرِيٌّ بنا كمؤمنين أن نكتفي بهما مصدرا موثوقا، وخبرا أكيدا لا ريب فيه ولا خلْط ... !

فلنقعد من السورة مقاعد للسمع ... ولنستمع  ...

"قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ  وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)"
إنه الأمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ربّه عزّ وجلّ، أن يُبلّغ الناس أنّه قد أوحِي إليه أنّ نفرا من الجنّ قد استمعوا للقرآن ...

ولنتأمل هذا التركيب، وهذا البناء في هذه الجملة الشريفة، فإذا هي دقيقة كلّ الدقّة، موحِية كل الإيحاء بالمعنى المُراد : "قُلْ أُوحِيَ إِليَّ"  ولم تأتِ: "قل إن نفرا من الجنّ قد استمعوا" ،  لتعمل "أوحِي" عملا عظيما في بيان أنّ الذي يأتيه صلى الله عليه وسلم من الخبر إنما هو الوحي، لا شيء غير الوحي ...
في هذه السورة بشكل خاص، مع هذا الموضوع بشكل أخصّ ... مع هذه الفئة من مخلوقات الله (الجنّ) الذين ادّعت قريش -في جملة ما ادّعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه يستقي منهم الخبر-كما يفعل الكُهّان- ويقول أنه من عند الله... كما ادّعت أنّ به جنّة، أي أنّ جنّا مسّه فأصبح في حال من الخبل والجنون ... !
 
"أوحِي"  جاءت هنا من أجل القطع في أمر الجنّ ! وأنه من علاقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، بل إنّ الخبر عنهم وعن أحوالهم ينزل عليه وحياً من ربّه... وأيّ خبر هو ! إنه خبر استماعهم للقرآن وتصديقهم به ... !

إنهم الجِنّ الذين ادّعيتم كذبا وزورا وبُهتانا، أنّ رسول الله متّصل بهم، فهو يتسمّع لخبرهم ويأتي الناسَ به، فبين رَمْيِكم له بالجنون تارة، وبالكهانة والسّحر تارة أخرى... ! إنه صلى الله عليه وسلم، لا يعلم عنهم إلا ما جاءه عنهم وحيا من الله..
وأولاء هُم مَن يسمعون منه، ويستقون منه النبأ اليقين... !

ولقد عرفنا قريبا في سُوَرٍ سابقات لسورتنا هذه، كيف برّأ الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم من الجنون، ومن الكهانة ومن الشعر...  فكانت شهادة الله العظيمة له : "ن  وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)" -القلم-

وكذلك قوله سبحانه في سورة الحاقة : " فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ  قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ  قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43)" -الحاقة-

لتأتي "الجنّ" فتفصّل في شأن حقيقة القرآن، التي أشارت إليها السُّوَر السابقة في تسلسل وترابط بين السُّوَر لا يغيب.
وإنه القرآن ينبئ عن نقاء القرآن ووِحدة مصدره وعُلويّته ! وينفي كل مصدر عداه ... ! وكفى بالقرآن شاهدا للقرآن ... !! " لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ  أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ  وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا" -النساء:166-

متى كان سماعُهم للقرآن ؟ أين تحديدا ؟ في أي مناسبة ؟...
ذلك ما لا يتبيّن على وجه الدقّة، إذ إنّ خبر سماعهم له، جاء أيضا في سورة الأحقاف : "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا  فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) "
كما أتت السُّنة الصحيحة على ذكر استماعهم لآيات من القرآن، تارة بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة من إعلام القرآن له، وعَبْرَ كلا السبيلَيْن هو علم يحصل له وَحْياً ...فكان الجمع بين الروايات أنّ ذلك كان منهم مرات لا مرّة واحدة، ولكنّ المؤكّد أنّ "سورة الجنّ" جاءت بخبر سماعهم له أول مرة. وقد كان ذلك في مكة .

ولننتـــــــبِهْ... !
إنّ الإسلام دينُ الوَحْيَيْن، لا الوَحْي الواحد ...حتى لا يلتبس عليكم الأمر بين القرآن والسنّة، فما السنّة في حقيقتها -في  شؤون العقيدة والغيبيّات- إلا وحي الله لنبيّه معنى، ألقاه إلينا صلى الله عليه وسلم لفظا من لفظه ...

أوحِي إليه صلى الله عليه وسلم من ربّه في شأن نفر من الجنّ استمعوا للقرآن، فقالوا : " إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ".
هم أولاء يصفونه أوّل ما يصفونه بالعجب ... !
لقد سمعوا القرآن المكيّ... العامر بآياتٍ تبني أسُسَ العقيدة في النفوس، وتقوّي آصرة العبودية لله الواحد الحقيق بالعبادة وحده... فبدَهَهُم وبهَرَ حِسَّهُم، ولامَسَ شِغاف قلوبهم لمسا.... وهزّ مشاعِرَهم هزّا... !
وتغَلغَلَ بَيانُه في أوصال نفوسهم تَغَلْغُل الدواء يُحِلُّ الشفاء في جسم العليل ... ! وروى ظمأ أرواحِهم... وبهَتَهم فلم يملكوا إلا أن يقولوا:
" إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا " ... !!

وإنّي لأتمثّلُ النّفر من الجنّ وهم في حال ذهول وانبهار بالقرآن... !
لقد بهرهم بيانُه، فأشرق في سُويداء قلوبهم الحقّ... ونزل ماءً على أرواحهم الظمأى  فاهتزّت وربتْ، ولامَسَ مخلوقيّتَهُم أمرُ خالقِهم فاستمعوا لنداء الفِطرة فيهم، أنّها التي تعرفه، وأنه الذي يعرفها ... !!  فقالوا:
"إنا سمعنا قرآنا عجبا"  ... !

نعم... إنهم أولئك الذين تقوّل العربُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقوّلوه بشأنهم، بأنه الذي يسمع منهم، ويأتي بالخبر من عندهم، وأنّ بعقله مسّا من مَسِّهم ... !
هُم الذين نسمع من القرآن قولَهم في القرآن ... نسمع من الوحي قولَهم في الوَحي ... "قل أوحِي إليّ"  وحيُ الله سبحانه...وحْيُ الذي يلقي إليه بالقول، ولا يلقي إليه به غيرُه ... لم يكن يدري صلى الله عليه وسلم عما قال النفر منهم في القرآن حتى نزل عليه في ذلك الوحي ...
يالِنفر الجنّ ... ! ويالِسُموق فهمه، ورهافة حسِّه، وشفافيّة روحه، وهو الذي استشعر عظمة القرآن فقال إذ سمعه :  " إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَباً" ...
« آخر تحرير: 2020-12-01, 11:16:47 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ومازال النفر يقول ...فلنُصغِ  :

"يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ  وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)"

إن وصفهم لأروع وصف... وإنه لأدقّ وصف... ! إنهم النّفر، أهلٌ للرشد ولتبيّن مَعِينه ونبعه :
" يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ " ...
إنها عقول تزن فتُحسن الوزن، وألسنة تصف فتحسن الوصف... !
يهدي إلى "الرّشد" ... !  ولكأنّي بالكلمة في سورة الجنّ تلوّح من بعيد أنها من روح سورة الجنّ لا مِن غيرها !  تُناسب نَسَقاً من الآيات متّصلا، يعمل على تصحيح المفاهيم المغلوطة، واقتلاع ما كُرِّس له من أكاذيب وأباطيل، حفرها بأخلاد الناس انسياقُهم خلفَ كل سائق واتباعهم لكلّ ناعق... !

يأخذون الكذب على أنه الحقيقة، والوهم على أنه الواقع...
مُغالطات وشبهات، لم تكن خصيصة من خصائص الجاهليّين وَحْدَهم، بل مازال يعمل عليها عاملون، ومازال ينساق خلفها المنساقون، المغيِّبون لعقولهم ، والمتّخذون للقرآن عنوانا ومظهرا، لا يقينا في النفوس لا يغالبه خبرٌ... !

مازال يُكرَّسُ في أمة القرآن أنّ الجِنّ أهل الشرّ والإيذاء والتسلط على الإنس... أمّة الكتاب الذي أعلنت الجنّ أنه يهدي إلى الرّشد ... !

واسمع مني... ! فسأحكي لكَ حكاية ... !
حكاية هي عنّي، حكاية هي عن قضيّتنا في هذا الكتاب مع قراءة القرآن ... 
هذا الكتاب الذي ما وضعتُه إلا من شُحّ القراءة الحيّة للقرآن في أوساطنا ونحن أمّته... ! قراءة المعايشة والملامسة... قراءة الحركة والتحرّك به... قراءة الرّوح للروح ... ! قراءةٌ تَعُبّ من المشكاة نورا للدرب المُعتِم، ليضيئ ويُسفِر...
فإنها ليست قراءة كقراءة، تماما كما أنّه ليس سطح كأعماق ... !  تماما كما أنه ليس سماعٌ للقرآن كسماع نفر الجنّ ... !

عندما قرأت سورة الجن قراءة المتدبّر... مرّ بخَلَدي الكثير من الصُّور، والكثير من التصوّرات التي شاعت وانتشرت... مرّت بخَلَدي الحكايات التي كنا نسمعها منذ صغرنا، وما انتشر عن الجنّ من صحيح وسقيم، من خرافة وحقيقة ... وليْتَ الحقيقة كانت الغالبة... ! إن لم تكن من ضآلتها إلى جبل الأكاذيب والأخلاط لا تكاد تُبين... !
عندما قرأتها قراءة المتدبر أحسست بالاطمئنان...على غير عادة ما تكون عليه الأحوال عند ذكر الجنّ ! أحسست بالراحة ... أحسست بالاختلاف ... تلمّست الحقيقة بقوّتها ... ! وأبصرتُها من بصائرها، وأشعّ نورُها في قلبي يشقّ الظلمات... !
كان كلما ذُكِر الجنّ، خاف مَن خاف، وارتعب مَن ارْتعب، وتحاشى من تحاشى السماع عنهم، أو الحديث عنهم ... ويالِهَوْل الحال إذا ما كان الحديث ليلا ... !

في سورة الجنّ، تعرفت إلى الجنّ ...
استمعت لقول النَّفَر منهم، وتحسّست رُقِيّ فِكرهم، وسلامة منطقهم...بل وعرفت أنّ لهم رشدا ... ! بل وفهمت كم كانوا يتحرَّوْن الرَّشَد والحكمة ...فذكرت أمر التقوّل عليهم، بأنهم أهل التلبّس والدخول في جسم الإنسان ! وأنّ مَن كان بهم متلبَّسا عُدّ كالفاقد عقله، المُتحكَّم به، المُتسلَّط عليه ... !

ذكرت هذا من حكاياتٍ كنّا وما نزال نسمعها، مقابل ما عرفت وتلمّست من حقيقة في سورة الجن ... فتمثّلوا قُبالتي تَمَثُّل بريئ متّهَم مُرمَى بتخريفات من نسج أخيلة الإنس...بأكاذيب وأباطيل وأخيِلةٍ نفسيّة جعلوها الحقيقة غصبا ... !
فإذا بالإنس المتقوّلون بهذا، هم أهل الهَذَيَان والتخريف، والسَّفه، وإذا الجنّ من جنس ذاك "النّفر" هم أهل الحكمة والرشاد ... !

وياللمفارقات ...! والذي تحرّى الرّشد، وعرف مَعِينَ الرُّشد فنهل منه، قد غدا -من أوهام الناس وتخريفاتهم وتقوّلاتهم- المجرم المتسلّط !! المتحكّم الذي يأخذ من الإنسان كل مأخذ، فإذا هو كالرّيح العاتية، وإذا الإنسان كالقشة في مهبّها ... !

تبدّتْ لي الحقيقة بإزاء الأوهام ... وتبدّت لي المسافة بين الحقيقة والخيال، وهي القريبة غير البعيدة، وقد صيّرناها من اكتفائنا بالأقوال، والحكايات والمرويّات والمنسوجات بعيدة بعيدة  ... !
على كتاب الله موقعُها ... ولكنّهم يحفظون الحروف من السورة ويتلونها ويعرضونها، ويحفّظونها.... ! وهم بالمقابل ممن يختلق حكايات التلبّس ويتداولها، وينقلها ... !

ويا أيّها النّفر... من قصتي مع سورَتِكم إلى سورتكم أعود  ...
يهدي إلى "الرُّشد"   والرُّشد هو الصواب، وهو الحق، ولكنّك تجد في هذه الكلمة بالذات من هذه السورة ظلال النضج والعقل الراجح، تجد ظلال الحِكمة الوارفة ...
فأيّ الفَريقَين أولى بالسَّفَه ؟ !  أإنسِيٌّ مكذِّب مُنكِرٌ لنور الشمس الساطعة في كَبَد السماء، أم جنيّ من شاكلة النّفر الرشيد ؟؟!!
أصغِ معي ... أرْعِ النّفر سمعَك وانتباهك وتملَّ ... ولننشد الرّشد مع الراشدين ...

إنهم فورَ سماعهم القرآن آمَنوا ... "فآمَنَّا بِه وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً " ...

يُقِرّون بوحدانية الله تعالى، ويقرّون بالتوحيد، وألا يشركوا بالواحد أحدا ... هم أولاء يقتطفون الثمرة الأكثر إيناعا ... الثمرة الأهم... ! هم أولاء من رشدهم يعلنون التوحيد الخالص ويقرّون البراءة من الشرك ...
وإنّي لأستحضر أنهم قد استمعوا لآياتٍ من سُوَر القرآن المكّي، فهُم مع أول الأمر، مع مرحلة التأسيس، مع مرحلة البناء للنفوس... مرحلة العقيدة، وعقدِها في القلوب ... مع ما إليه أرواحُهُم  عطشى ... توحيد ربّهم وعدم الإشراك به ...

وإنها للصَّفْعَةُ على وجوه المشركين، وهم الملازمون لمحمد الذي عرفوه بين ظهرانيهم، وعرفوا صدْقَه وأمانته، حتى لقّبوه بالصادق الأمين، ثمّ كذّبوه لمّا حدّثهم بخَبَر السماء، ورموه بالجنون والسحر والشعر... !

فأيّ فَرْق هو، وأّيّ بَوْن شاسع بين أن نتحاشى ذكر الجنّ، ونصدّق تلبّسهم بالإنس، ونرتعب من مجرّد سماع اسمهم قبل وصفهم، وكأنهم العُتاة المجرمون، والأشباح المروّعون... وبين أن نستمع للحكمة من أفواه النّفر الراشد منهم  فنتعلم، ونرى أنفسنا المتعلمين بين أيديهم... !  نراهم أهل هدى وأصحاب رشاد وحكمة، وأهلا للاقتداء بهم... !!  أيّ بَون هو... أيّ بَون ... !!

ثم قالوا : "وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا"
الواحد الأحد الذي لا شريك له، سبحانه تعالى جَدُّه، جلاله وعظمته... سبحانه من عظمته وكماله وجلاله ما اتّخذ صاحبة ولا ولدا... !

تأمّــــــــــل ... !
إنهم قد أعلنوا التوحيد رأسا، وثنّوا بتبرُّئهم من الشرك وقرار مباعدته ... ولم يكتفوا بذلك بل زادوا إيمانهم قوة وجلاء، وهم  يقدّرون الله حقّ قدره، فيفقهون أنّ من عُلوّ شأنه سبحانه عدم اتخاذه الصاحبة والولد .. فكان منهم التوحيد الخالص، والإيمان السليم بعظمته، حَدَّ تنزيهه عما تقوّله الإنس عليه إدّا... !

كان منهم تامّا كاملا كما ينبغي لعظيم سلطانه وجلال قدره ... وفي هذا تمام نقض ذلك الغَزْل المشؤوم المَدحور أنكاثا... ذاك الذي كان الكافرون يبِيتون ويُصبحون وهُم يَبْرُونَهُ سهْماً يُضاف إلى كِنانة سِهامِهم المسمومة، يريدون قَلْب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَلَدَه وصبْرَه وثباتَه ... ! وهيهات هيهات أن تُفلِح في إيمانه وثباته كِناناتُهم بما تحمل ... !!

لقد جعل الكافرون من الأناسيّ  بين الله تعالى وبين الجنّة نسبا ! فمنه كانت الملائكة له الولد -تعالى سبحانه عن ذلك علوّا كبيرا- ... فها هُم النفر الرشيد من الجنّ يُعلنون بألسنتهم تبرّؤهم من هذا البُهتان والشرك العظيم ! ويصدعون بالتوحيد والتعظيم والتنزيه لربّ العزّة الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ... !

ولقد أصغيتُ أكثر للنّفر الرشيد... فإذا... :
"وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) "

إذا هُم  وقد اهتدوا، يهتدون للسّفيه فيهم وهو يقول على الله الشَّطَط والكذب، ويالِرشادهم وهم يَميزون سفيها من رشيد... !
فيا معشر الإنس ... أيّ الفريقين أحقّ بصفة الرّشاد ... نفر الجنّ هذا  أم المتقوّل منا على جنسهم شططا وكذبا .. ؟!!
أي الفريقين أهدى...؟  آإنسيّ يرى الجنّ شَبَحا غازيا، مستعمرا ضارا عابثا، عائثا في جسم الإنسان فسادا، أم جنيّ يسترشد ويستهدي، حتى يهتدي إلى الحق، فيعلن التوحيد والإيمان كأحسن ما يعلنه عبد موحد مؤمن ...؟!
سفيههُم هو الذي  جعل لله صاحبة وولدا، سواء في ذلك أكان إبليس عليه لعائن الله  أو الكافر منهم ...

وإنّهم بمَقَالَتِهم التالية يُلقون بمعاذيرهم :
"وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا"...
إذ حسبوا أنّه لا يمكن ولا يستقيم أن يتقوّل الإنس والجنّ على الله  ... !  وهذا ممّا يَشِي باتّباعٍ كان منهم عن إحسان ظنّ بمَن اتّبعوا، كما أنّ فيه الإشارة التوجيهية والتربوية إلى أنّ حُسن الظنّ لا يُغني عن الحقّ شيئا... ! بل إنّ التعقّل، وتقصّي الأمر من مظانّه هو المطلوب، لا أن يُتَّبَع أيٌّ كان دون أن يُستوثَقَ من مرجعيّته ... فإنّ ذلك مما يفتح الباب واسعا للتأويلات الهوائيّة، وللتصدّر للإضلال باسم الهداية ... !

ومع إيمان النّفر الرشيد، ومع إعلانهم التوحيد... ومع سياق هذه السورة العظيمة التي جاء فيها الجنّ مُحدّثين عن حالهم إزاء سماعهم القرآن، لنعُد قليلا إلى الوراء حيث نوح وقومُه ...
حيث القوم الذين دعا عليهم نبيّهم بالهلاك والاستئصال من شدّة كُفرِهم، ومن إغراقهم في الشِّرك والعتوّ والظلم، فأهلكهم الله ولم يَذَر على الأرض من الكافرين ديّارا ...

أولئك القوم الذين توالدوا وتناسلوا جيلا عن جيل، طيلة تسعمئة وخمسين سنة... كلّهم جميعا في كفّة، وهؤلاء النّفر في كفّة (والنّفر في اللغة ما لم يجاوز العشرة من الناس) ...  فأولئك كَلَا شيء... وهؤلاء ميزانهم ثقيل ثقيل وأيّ ثِقل ... !

لنلمح الترابط بين السورتَين، و"الجنّ" فيها -مع ما فيها من إعلان الجنّ التوحيد والإيمان- أنّ هذا الرسول الخاتِم، وهذه الرسالة الخاتمة جاءت بالرّشاد لأهل الأرض، جاءت امتدادا لدعوة الرّسل السابقين، وهي الظاهرة ولو كَرِهَ الكافرون ... وإنها -وإن كفر بها الإنس كما فعل المشركون وهم من جنس قوم نوح عليه السلام- فإنّها تبلغ ما لا تبلغه مداركُنا... تبلغ ما وراء حُسباننا، وما فوق قدراتنا... تبلغ الجِنَّ، وتهديهم، ويتغلغل في نفوسهم رُشدُها ... !

جاءت رسالة تُبلِّغ الناس مراقيَ الرُّشد لا ريب، من بعد ما عاشت البشرية طفولة الاعتقاد ... !
« آخر تحرير: 2020-12-01, 11:45:14 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ومازال النَّفَر يمدّنا بالمزيد ...
"وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) "

إنّهم يعلمون عنّا ما لا نعلمه عنهم ،مثلما أنّهم يَرَوْننا ولا نراهم... ففي الآية السابقة جمعوا بين الجنّ والإنس في ادّعاءاتهم بحقّ الله سبحانه، وفي قولهم الشّطط عليه...

يعلمون أنّ من الإنس ومن الجنّ مَن قال عليه الشطط سبحانه، كما يعلمون أنّ رجالا من الإنس كانوا يعوذون برجال من الجنّ... ذلك أنّ العرب كانوا إذا ما حلّوا بوادٍ أو مكان قفْر، نادوا مستعيذين بالجنيّ سيّد الوادي –كما كانوا يعتقدون- من شرور سفهائهم  ... كما كانوا يلجؤون إليهم لقضاء حوائجهم ...
وإنّ ذلك ليس ببعيد عن أيامنا هذه معشر الإنس، إذ يُعرَف في كلّ المجتمعات المسلمة، مَن يرتادُهم الناس بدعوى قضاء ما يُستعصى ... فيفتري الكاهن أو المنجّم أو المسهِّل (كما يسميه الكثيرون)  الكذب، ويصدّقه الموهومون من بني الإسلام ... !

فهذه فتاة طال بها عهد العنوسة، فهي في غمّ وهمّ ونكد... ! تشير عليها صديقة أو قريبة أن تذهب إلى ذاك الذي لا يستعصي عليه شيء ليَسهُلَ أمرُها... ! وأخرى تهرع إليه لينفث لها في شيء من أشياء زوجها التّائه عنها، أو ليُعِدّ لها خلطتَهُ السحريّة التي تستخرج الحُبَّ من قعر بِئْره السحيقة ...! أو ليأتيها بخبر تلك التي زاغ عنها إليها ...فجِنِّيُّهُ قويّ قادر منتقم ... !

وهذا شابٌّ بين الشباب، يريد أن يعرف المتسبّبَ له في النَّحْس الذي يلازم خطواته، فيشير عليه صديق حميم أنّ فلانا عنده من الخبر ما ليس عند غيره، جِنِّيُّه صادق صدوق لا يرضى بالنّحْس والشؤم ! فيُفشي للمنحوس بسرّ نَحْسِه واسم ناحِسِه لتستبينَ سبيلُه ! ولتتقدّم على الدّرب خطواتُه ... !!

أما النَّفَر الرشيد، فيعلم ما لا يعلمه كلّ أولئك الأناسيّ الذين صدّقوا الكَهَنَة والمنجّمين، وانساقوا خلف دعاواهُم الباطلة وهُم خواءٌ من الإيمان والاستمساك بالله تعالى القدير العليم الرزّاق المُعطي، المجيب دعوة الداعي إذا دعاه ...  يعلمون أنّ استعاذتهم بهم لم تزدهم إلا رهقا، إلا ذلّا وضلالا وبُعدا عن الجادّة ... بُعدا عن الرُّشد ونحن في أجواء الرّاشدين، الذين لامَسَ القرآن قلوبَهم وروى غليل عقولهم المسترشدة ... !

وما زال الله تعالى يُعْلِم نبيّه، ويُعْلِم كلّ الناس من خلاله، عن النّفر من الجنّ، وهم إذ يستمعون للقرآن فينقلون الخبر لإخوانهم، يُمِدّوننا بخبر الإنس مع خبرهم، فهذا اعتقاد المستعيذين منهم بالجنّ  : "وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)"

أنْ يا معشر الجنّ إنّ من الإنس مَن هُم على حُسبانِكُم، وعلى ما تعتقدون من أنّ الله تعالى لن يبعث أحدا... لن يبعث أحدا من عباده هاديا داعيا مُحِقّا للحق، ماحِقا للباطل، مبيّنا للناس كذب المُبطلين المتقوّلين على الله الشطط،  الظانّين بأكاذيبهم البقاء والعلوّ أبدَ الآبدين... !

ظنوا أنّ الأرضَ لهم، وأنّ أشواكَهُم ضاربةٌ في أعماقها ... وأنّه ما من هادٍ يُبعَث ليقتلعها، وليسقي نبتة الإيمان فتونع من جديد... !
ظنوا أنه لن يُبعث من يستنهض الإيمان في القلوب، ويرفع الرُّكام عن الفِطَرِ المردومة بالهوى، ويفتح نوافذ العقل المُعتِم، فيغمُرَ ضوْءُ الشمس حُجُراتِه من جديد... ويُزيح الغشاوة عن البصائر لترى الحق حقا فتتّبع وتستبشر، وترى الباطل باطلا فتجتنب وتستنكر  ... !

ظنّوا أنه سبحانه لن يبعث أحدا ... !
حتى هو ذا "محمّد"  للعالمين بشير ونذير... هو ذا صلى الله عليه وسلم تبلغ دعوتُه الآفاق، وتشقّ الأطباق، وتتجاوز المشهود والمُبصَر، إلى المَغيب الذي لا تُدركُه الأبصار...فنسمعها من ألسنة النّفَر من الجنّ يدعون بها قومَهُم ... !
بل ويدعون بها الإنس مع الجنّ ... ! فإذا نحن بين يَدَيْ هذا النّفر الرشيد مُصْغُون متعلّمون ... !

أو ربما عُني بـــ  :" أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا " البعث بعد الموت... فهذا أيضا مما يعتقده الضالّون المضلّون، وينشرونه بين الناس دعوة باطلة في كل زمان ... ولو أنني أرى أن الأُولى أنسب وأقوى، لأنّ بعثة الرّسول صلى الله عليه وسلم خاتِما للرُّسُل، ونزول القرآن خاتِما للكتب السماوية هو الهُدى الذي سيبقى أهلُه يقارعون به أباطيل المُبطلين في الأرض إلى يوم يُبعَثون ... ! ولأنّ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم -بوجه خاص- كان لها أثرٌ وعملٌ في شأن من شؤون الجنّ سيُسفِر في الآيات القادمة ...فلنستمع ....

"وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ  فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا(9) "

وفي تسمّع الجنّ للسماء يريدون خبرها، حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بيان:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "انْطَلَقَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في طَائِفَةٍ مِن أصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلى سُوقِ عُكَاظٍ، وقدْ حِيلَ بيْنَ الشَّيَاطِينِ وبيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وأُرْسِلَتْ عليهمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إلى قَوْمِهِمْ، فَقالوا: ما لَكُمْ؟ فَقالوا: حِيلَ بيْنَنَا وبيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قالوا: ما حَالَ بيْنَكُمْ وبيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلَّا شيءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ ومَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا ما هذا الذي حَالَ بيْنَكُمْ وبيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو بنَخْلَةَ عَامِدِينَ إلى سُوقِ عُكَاظٍ، وهو يُصَلِّي بأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ اسْتَمَعُوا له، فَقالوا: هذا واللَّهِ الذي حَالَ بيْنَكُمْ وبيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إلى قَوْمِهِمْ، وقالوا: يا قَوْمَنَا: {إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إلى الرُّشْدِ، فَآمَنَّا به ولَنْ نُشْرِكَ برَبِّنَا أحَدًا} [الجن: 2]، فأنْزَلَ اللَّهُ علَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّه اسْتَمع نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ} .وإنَّما أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ" -صحيح البخاري-

تأمّل... فإنّ أول ما قاله النفر المستمع للقرآن هو : "هذا واللَّهِ الذي حَالَ بيْنَكُمْ وبيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ "... عرفوا أنّ نزول القرآن هو الحدث الأعظم الذي حال بينهم وبين خبر السماء ... ! وعلى هذا رأيتُ أن الآية السّابقة (آية7)جاءت تعني بعث الرسول، لا البعثَ بعد الموت ...
إنّ بَعْثَه صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن الكريم، هو الحدث العظيم الذي عمل عمله في شأن الجنّ مع السماء، كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع ... فلم يعودوا قادرين على التسمّع، صاروا كلما حاولوا فِعل ما كانوا من قبل يفعلون، ترصّدت لهم الشُّهُب ورُجِموا بها : "فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا" ...

"الآن"...   انتهى الأمر... الآن، لم يعد من تسمّع من الجنّ لخبر السماء، ولا من ترصّد، بل إنّ الشُّهُب لكلّ مترصّد منهم رصَد... ! لم يعودوا قادرين ... حيل بينهم وبين ما تعوّدوا ... !
ولقد ظنّوا أن لن يبعث الله أحدا... ! وخاب ظنّهم ... بل لقد بعث الله النورَ الخاتِم، ولقد بعث الهادي ... بعثه بالحقّ الذي سيصدع به الجنّ مع الإنس، وسيدعو له الجنّ مع الإنس ... !

أيّ حِفظ هو للسماء ولأمرها ...!
أيّ طُهر هو لهذا الوحي ! وهو يقطع الآفاق، ويشقّ الفضاء بلوغا إلى الأرض، وهو المحفوظ... بدءا بحفظ السماء من أن يُنالَ منها خبر بين الأخبار، فيتلقّفه الكهنة الذين تعوّدوا إعداد خلطات أكاذيبهم مع الكلمة والكلمتين من كلمات الحقّ ليلبسوا على الناس أمرَهم !
انتهى الأمر ... وحُفِظت السماء، فخبرُها محفوظ ... ما من كلمة فيها ستبلغ أحدَهم اليوم ....  بل إنّه كلام الله الذي سيبلُغ محمّدا وحدَه: " وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ  قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ(42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) "...

ولقد وعد الله سبحانه بحفظه : "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" -الحجر:09-  . ومن السماء يبدأ الحفظ  : "وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18)" -الحِجر-

فإذا بلغ الأرضَ، فهو بين يدَي الصادق الأمين صلوات ربي وسلامه عليه، الأمين على وَحي السماء،  والحارس المقيم عليه من عبث العابثين وكذِب الكاذبين ... وإنه للتّفصيل في ادّعاءات المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه الذي يأتي بخبر الكُهّان يُلقيه للناس على أنه وَحيُ السماء !

"وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) "

إننا نسمع من الجنّ عن عجز الجنّ ... ! إنهم يُعلنون فيما يعلنون من إيمان وتوحيد خالص، وتبرؤ من الشرك أنّهم العاجزون ... !
إنهم يدحضون بِصِدْقِهِم كلّ دعاوى الخَرْق والقوة والتسلط،  التي ألصقها بهم الإنسُ... كلّ دعاوى علمهم بالغيوب : "وَأَنَّا لَا نَدْرِي " ...
تلك سيماء المؤمن، وأبرز علاماته عندما يخضع ويخشع للعليم الخبير، ويوقِن بإحاطة علمه، وبطلاقة قدرته... عندها يعلم ضعفه، وقلة حيلته، وأنّه لا علم له إلا بالقدر الذي يعلّمه ربُّه ... لا يضيق من الإقرار بعجزه، وقلّة علمه، وهو العبد بين يدي ربّ عليم قدير ... !
ولا ينقضي العَجَب من نفر سمعوا قرآنا عجبا ... !  وأنت لا تفتأ تقرأ عن استرشادهم واهتدائهم للرشاد، حتى تقرأ عن الرشد من جديد وهو نشدانهم !! فإذا هم قائلون :
" وإنَّا لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدا"

"رشــــــــــــدا" ... إيه ثم إيه للنفر الرشيد ... !
إيه لقوم وعبادٍ هُم للرحمن، ظننّا بهم السَّفَهَ والشرَّ المطلق ! حتى وإن قال مَن قال عابرا غير راكز : "إنّ منهم مسلمين ومنهم كافرين "  ...
يقولونها عابرة ... ودَيْدَنُهم حكايات وروايات التلبّس والمسّ، وأكاذيبها ذات الألوان والألوان ... !!
وهم أولاء صادقون، متواضعون، لا يدّعون علما بما لا علم لهم به، لسان حالهم التمييز بين السَّفَه والرشاد... !

جوّ الرُّشد والرشاد هو جوّ هذه السورة ! ظِلال وارفة من الحكمة تظلّل معانيها، وتُبرِز مراقيها ... "الحكمة"... وعلى ألسنة مَن ... ؟ على ألسنة مَن لا يروي عنهم الإنس غير روايات الشرّ والإيذاء والإضرار !!  نراهم في أجوائها أهلا لأن نتعلّم منهم، ونستقي من إيمانهم الإيمان ومن رشادهم الرشاد   !

فيا نفرَ الجنّ الرشيد ... ! لا ينقضي العَجب من هذا الكتاب !!
تالله لا ينقضي وهو يهدي إلى الرُّشد ... يهدي إلى الحقّ والفصل في شأنكم، وفي كل شأن ... !

ورغم إيمانهم واهتدائهم ونِشدانهم الرشاد في كل مرة، وتمييزهم بين حق وباطل، بل وقيامهم مقام الدعوة إلى الله، إلا أنهم من تواضعهم -والتواضع من سمات الراشدين- جمعوا أنفسهم مع مَن جمعوا، ولم يكونوا حَكَما على قومهم من علُ ...!  فقالوا :
"وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ  كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) "

من الجنّ صالحون، ومنهم فاسقون، ومنهم كافرون ...ليسوا سواء... حالهم كحال الإنس... بمذاهب وطرائق مختلفة ... بل إننا بين يَدَي نفر منهم مصلحين، وهم يقومون مقام الدعوة في قومهم ... !

"وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا(12) "
وهذا يقينهم بعجزهم وقُدرة الله، يتجسد مرة أخرى في قولهم باعتقادهم أنّ الله قادر عليهم، وأنهم لا يُعجِزونه، في دحض جديد لهرطقات الإنس وهم يصفونهم بما يُقارب القدرة المطلقة !  وبما يجعل لهم سطوة ونفوذا وأمرا في مجرى الأقدار على الأرض، وهم يعوذون بهم ينشدون غيبا بين الغيوب، وعلما بمستقبل الأحداث ... !

 الجِنّ أنفسُهم مَن يُعلِمنا عن حقيقتهم، فهم الذين لن يُعجِزوا الله أينما كانوا لا في الأرض ولا هربا من الأرض ... ! محيط سبحانه بهم، قادر عليهم ...
فأيّ كلام يُقال بعد هذا الذي ينقله إلينا ربّ العزّ سبحانه من قول المؤمنين الراشدين من الجِنّ عن الجِنّ ... !
« آخر تحرير: 2020-12-01, 11:50:31 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون


"وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ  فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)"

ويعلنونها للمرة الثانية، أنهم لما سمعوا القرآن اهتدوا...
كان ذلك في : "...فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(01)يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ  وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا(02)"... ثمّ في هذه الآية : "وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ "

فأما المرة الأولى فقد وصفوه بـ : "قرآنا عجبا وبــ:" يهدي إلى الرشد" وأما هذه المرة فقد وصفوه بقولهم : "الهدى" ...
فإذا تملّينا وتأمّلنا...  وجدنا أن الأجدر ببداية الدّعوة وتعريف المدعوينّ بالموضوع،  أن يبدؤوا بوصف ما وجدوا في القرآن، وما تَرَكَ في نفوسهم لمّا استمعوا إليه، لأنهم بصدد نقل ما حدث معهم، فدعوتهم لقومهم عندها كانت ضمنيّة ولم تكن مباشِرة ...

فكان وصفهم للقرآن بما انطبع في نفوسهم عند سماعه "عَجَباً"، وأنه الذي "يَهْدِي إِلَى الرُّشْد" ...
ثم استطردوا في وصف رأس الرّشد، توحيد الله وعدم الإشراك به، واستغنائه عن الصاحبة والولد من عظمته وجلاله، ثم في وصف حالهم وحال الإنس معهم، حينما يبتعدون عن مَعين الهدى والرشاد، فهم الواقعون بشِراك الأباطيل والأضاليل والتقوّل على جلال الله، ثم في وصف حال السماء التي حُفظت بنزول القرآن من كل استراق للسمع. هنا عرفوا أنّ الأمر جَلل وأنه المنتهى... ! وزادوا فوصفوا اختلافَهم طرائق ومذاهب، وأنهم غير معجزي الله أينما ذهبوا، اعترفوا بعجزهم وبالقدرة المطلقة لله تعالى  ...

هذا الاستطراد منهم بيّن سُوءَ حالهم وحال الإنس معهم وهم بعيدون عن الحق، وبيّن قدرة الله تعالى وعظمته وحِفظه لكتابه الخاتِم، وأنّه منتهى الحقّ والهُدى، فكان أحرى -بعد تلمُّسِهم  لكلّ هذه الحُجج البيّنات والدّلائل الواضحات- أن يُجدّدوا إعلانَهم الإيمان بالقرآن، واصفين إياه هذه المرة بـ "الهُدَى"  ...
كيف لا وهو الذي حمل إليهم كل تلك الهِدايات ... ! وهو الذي كان سبب اهتدائهم لضلال فيهم قديم، ولشطط في القول، وسَفَه في الفكر... لولاه للزِمَهُم، ولما بارحهم ....

إنّ المسافة ما بين الآية الأولى -وفيها وصفهم للقرآن إذ استمعوا له أول مرة-وبين هذه الآية التي يصفونه فيها مجدّدا وهم يبلّغون به قومَهم... هي المسافة بين حالهم أوّل إشراقة شمس الهدى على قلوبهم، وبين بلوغ الهدى سويداءها... إشراقة أولى عرفوا منها كلالةً كانت في  بصيرتهم، وانطماسا لنور الحقّ فيها باتّباع منهم وتصديق لما يُسمَع، دونما فكر أو نظر فيما يُقال، دونما تبصّر واستدلال ... أتبِعت بما عرفنا من سردهم لضلالات كانت، ولهدايات حلّت، وقد انتقلت عقولهم من الخمول إلى الحركة، من الموت إلى الحياة ...
إنها المسافة بين الاتّباع عن عمى، والاتّباع عن بصيرة وحجّة ...
"وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ" ...
 تجدر ملاحظة إيمانهم عن حجّة وتحرٍّ، لا عن اتباع أعمى كما وصفوا أول الأمر أنفسهم حينما كانوا يتّبعون الغاوين منهم عن حسن ظنّ فيهم، لا عن تمحيص وبحث، كان ذلك في قولهم : "وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا "
في سورة الجنّ، درسٌ عظيم عن خطورة الاتّباع لمجرّد حسن الظنّ فيمَن يدعو، لا عن بحث في مرجعيّته وأدلّته وحُجَجِه ... فيها بيان أنّ هذا القرآن جاء ليستنهض العقل، ويحثّه على العمل والتقصّي وعلى البحث والتحرّي  ...

وتأمّل معي تناغم اللفظ مع المعنى ...واختلاف تركيبه بين مقام ومقام بحسب اختلاف حالة المتحدّث ... فهم أول الأمر قالوا: "يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ" بصيغة فعل، ثم قالوا : "لَمَّا سَمِعْنَا الهُدى" بصيغة اسم للتدليل على التمكّن، من بعد تمكّنه في نفوسهم بحججه ودلائله.

" فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا"
إنه سبحانه الملجأ والمنجى، والملاذ والعِياذ ...
فأمّا مَن عاذ بغيره فما يزيده المستعاذُ به إلا رهقا، إلا ذُلا وضلالا... ! وأما من يؤمن بالله فإنه يأمَن ... وهكذا جاءت : "فلا يخاف" لتوحي أن الإيمان بالله أمان، ملجأ، حامٍ من الرَّهق والبخس ... والبخس نقص واقع من ظلم، فالمؤمن بالله لا يضيع له عند ربّه أجر ولا ثواب ... آمِنٌ هو من الذلّ ومن أن يلحقه ظلم ...عبدٌ لله وحده، آمِن في رحابه سبحانه ....
وأيّ فهم، وأيّ حكمة ... وأيّ رشاد قد حازه النّفر الرشيد... !!

"وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ  فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا"
أخبرونا أنّ منهم المسلمون، ومنهم القاسطون... ولعلّهم أرادوا بالمسلمين أنفسَهم، وهم الدّعاة للإسلام الحقّ من بعد ما سمعوا الهدى وآمنوا به، إلا أنّهم يتحرّون الحكمة والرشاد وهم يحدّثون بصيغة الجمع، لا يتعالون على قوْمهم، بل يُشْعِرونهم أنّهم القريبون منهم المُحبّون لخيرهم...
وقد سبق وأن قالوا بأنّ منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، وأنهم كانوا طرائق قددا، أما الآن ... فالأمر قد اختلف ... ! أصبح وصفُهم موافقا لإيمانهم، إيمانهم الذي عرفوا به الإسلام...

فمنهم مسلمون ومنهم قاسطون، و"القاسط" هو الظالم الجائر، بعكس "المُقسط" الذي هو العادل ... وقد جاء الوصف بالظلم مضادّا للوصف بالإسلام، فيما تتبادر للذهن آليّة مضادّة الكفر للإسلام، وهو ما لم يكن... لأن الوصف بالظلم أعمّ من الوصف بالكفر... أليس بين المسلمين ظالمون ؟ بلى... ! وعلى هذا هي إشارة قوية إلى كل ظالم، أنّ ظلمَه لا يستقيم مع كونه مسلما ...وكأنّ الظالم ليس في عِداد المسلمين، بل هو إلى الكافرين أقرب ... !

وتأمّلوا معي –ونحن في حديث تناغم اللفظ مع المعنى- كلمات النَّفَر الرشيد ...! إنّ في اختيارهم لألفاظهم لرَشداً وحكمة ... فهم قد قابلوا: "الصالحون" بـ : "دون ذلك"  تدليلا على أنّ الأمر ليس بين أبيض وأسود، بل إنّ الحال درجات، ولكلٍّ جزاء بحسب درجته ...
كما قابلوا الشرّ في : "أشرٌّ أريد بمن في الأرض"  بـالرشد في : "أم أراد بهم ربّهم رشدا" ... والرَّشَد أعمّ من الخير، فهو الحكمة، والحكمة خير كثير "...وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا..." -البقرة: من الآية269-

"فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا"

المسلم هو صاحب الفِكر والنّظر والتروّي والتبصّر والحِكمة...
مَن أسلم ليس إمّعة ولا منقادا عن عمى، ولا منساقا خلف شطحات الهوى، بل هو المتعقّل، الذي يُعمِل عقلَه، والذي يُسلِم وقد تحرّى... ! والإسلام لا يضيق بالسؤال، والبحث والتحرّي، بل هو الذي يحثّ العقل على القيام بعمله، فليس فيه ما يُجافي العقلَ ويُعارضه، بل كلّ ما فيه يتنسّمه ويستسيغه، إلا مما هو خارج حدوده وفوق طاقته، من مثل الغيوب والمُعجزات التي اختُصّ بها الرُّسل .
وقد عرفنا من قبلُ كيف جعل الجنّ يسوقون الحُجج في إخبارهم عن حالهم وحال الإنس معهم ... كلّ ذلك كان لهم فيه  نظر وتبصّر أوصلهم للإيمان... من بعد ما تبيّنوا ضلالهم وتَيْهَهُم حينما كانوا يتّبعون بإحسان الظنّ، لا بإحسان النظر... !

ويُعيَّر المسلمون اليوم من أصحاب الهوى، وأرباب الفساد في الأرض والفُحش والتبذّل، والتمسّح بمُسوح الغرب المتحرّر من الدين ومن الفضيلة، بأنهم الرجعيّون المتخلّفون، المتقوقعون، الذين يريدون بالحريّات قمعا، وبالمتحرّرين إلجاما وإرهابا... !
ويضيقُ الكثيرون من بني الإسلام بتعييرهم لهم، لا ضيقَ مَن يزيد استمساكا بعقيدته، قائلا للمتبجّح المتجرّئ مُتْ بغيظك... !!  بل ضيقَ الذي يتنصّل من أصله، ويقتفي خطوات المعيِّر، ليكون وإيّاه في وَهْم التحرّر سواء، عساه يَنعَم برضاه ... !

"وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا"
هو ذا مصير الظالمين أنفسَهم بالكفر، وهي ذي الإشارة إلى كل ظالم، كافرا كان أو مسلما، أنّ الظالم حطبٌ لجهنّم  ... عياذا بالله !
ثمّ تتقدّم بنا سورة الجنّ في تفصيل لحال مَن أسلم، ولكن هذه المرّة ليس على لسان الجنّ، بل من كلام ربّ العالمين الذي أوحاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمَرَه أن يخبِر به الناس في مستهلّ السورة بقوله سبحانه : "قُلْ أوحِيَ إليّ " .
والعطف بحرف الواو يقوم في السورة مقامَيْن: أوّلهما عطف قول الجنّ بعضه على بعض، والموحَى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إخبارا له بقولهم، وهو الذي عرفناه في الآيات السابقات. وثانيهما عطف كلام الله تعالى الموحَى به إليه صلى الله عليه وسلم، الموجَّه إليه مباشرة .
فبدءا من هذه الآية ننتقل من أقوال الجنّ إلى قول الله تعالى :
" وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ  وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)"

الترابط ملازم، والآية السابقة وثيقة الصلة بهذه الآية، إذ كانت عن حال مَن أسلم، وأنه الذي تحرّى رشدا، وهنا مزيد تفصيل في شأنه ...

"وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا"
الإسلام... وإعلان الإسلام هو البداية وليس النهاية... وكثيرٌ من بني الإسلام اليوم تخلخلتْ في ذهنه المفاهيم ولم تعد راكزة...يرى أنّه المسلم وكفى، أنه المسلم وانتهى ... ! حتى نرانا اليوم في حالٍ رُزء، لا تسرّ إلا عدوّا... !

نحسب أن الإسلام إعلان شهادة التوحيد وانتهى الأمر ! ننسى أو نتناسى في غمرة الدنيا وغمرة الانغماس فيها، أنّ ذلك الإعلان بداية، وأنّ الإسلام على حقيقته طريق تُقطَع ... طريق تستغرق الحياة ...
يعيش المسلم في الدنيا وهو يدندن بأنه المسلمُ، ويأبى أن يكيّف حياتَه على طريقة الإسلام، يختار ألف طريقة وطريقة، ويقطع طُرُقا شتى، ويتيه عن "الطريقة" الواحدة  .... ! تلك التي اتخذ لنفسه منها العنوان ...لا شيء غير العنوان ... ! يتيه عن الطريقة، ثم يتيه مجدّدا وهو يبحث عن سرّ التأخّر والتقهقر والعناء والشقاء... !  ويطرق أسبابا وأسبابا، وما السبب إلا في الضلال عن الطريق، وفي التّيْه عن "الطريقة"... !!

لذلك فإنّ الكلمات -كعادتها في القرآن- قليلة، ولكنها بوَزْن ثقيل، وبمدلول واسع ممتدّ : "استقاموا" ...
إنهم قد أسلموا .... ولكنّ الحكمة كل الحكمة  في استقامتهم على ما اختاروا من طريق للحياة، استقامتهم على "الطريقة"... هكذا جاءت معرّفة بـ الألف واللام للتدليل على أنها هي الطريق...هي السبيل الموصِل... هي المبلّغة إلى الرُّشد...إلى خيرَي الدنيا والآخرة ... !
الاستقامة ... هي امتحان المسلم في هذه الدنيا... أيستقيم ويثبت ولا يبدّل الطريق، أم يتزعزع، ويهتزّ، ويميل مع كل ريح ؟
   
أيعتزّ بإسلامه وإن سمّاه مَن سمّاه رجعيا متخلّفا ؟!
أتستقيم وإن نعتها مَن نعتها بأنها المنغلقة ؟ لا لشيء إلا لأنها التي تحافظ على حجابها، فهي المتعلمة، وهي المعلمة، وهي العالمة المتستّرة، التي لا تخضع بقول، ولا تعرض نفسَها لمَن يشتهي ويهوى ... !
أتستقيم وتعتزّ بالطريقة، أم تترنّح وتهتزّ، وتخجل،  وهي بين المتحرّرات تلك المتزمّتة المنغلقة المُغيَّبة عن دواعي العصر، وصيحات العصر، وجنون العصر...!
أتهتزّ والمتحرّرة مُقدَّمة عليها في كل محفل، وفي كل موقع، وهي المؤخَّرَة، لأنّها التي لا ترضى أن تكون عرضا بين العُروض المُربِحة ... !

أيستقيم على "الطريقة"،  أم ينساق خلف مَن يُفتي له بأنه العصر، وبأنه الذي يقتضي ويقتضي، فيرضى بالدنيّة في دينه ليحوز الدُّنيا ... يرضى بفتوى العصر وما يقتضي، ويُسكّن آلامَ ضميره بمُسكّن المقتضيات والضرورات ... !!
أتُراه يستقيم أم يهتزّ....؟!! أتُراها تستقيم أم تهتزّ ؟ !!... ذلك الابتلاء.... ذلك الابتلاء... !

عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: "قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ. قالَ: قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ" - صحيح مسلم-
"قل آمنت بالله ثم استقم" .... وهكذا  قال النّفر من الجنّ  آمنّا، وقالوا منّا المسلمون ومنّا القاسطون ... وكذلك يقول كلّ مَن آمن،  بها يضع قدمه على الطريق.... يختار الطريق ... طريق حياته التي عليها يسير، لا أن يقول ويُعلن، ثم على طريق أخرى هو سائر... !  فهو التائه الحائر، الذي لا يُفهَم من إسلامه إلا الإعلان ... أما البيان فما من بيان ... !

وهي ذي حالنا المُحيّرة التي يُشدَهُ منها كلُّ مَن يرى المسلمين وهو لا يرى الإسلام، يرى المعلنين، ولا يرى البيان... !
وإنّ تمام الحكمة، وتمام الرّشاد في الاستقامة والثبات على "الطريقة" ...

"وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا"
الماء الغدق الكثير الذي هو علامة الرّفاه والعيش الرغيد، الماء أساس الحياة، وأساس قيام الحضارات،  فجاءت : " مَّاءً غَدَقًا " هنا تدلّل على الإنبات، والخضار والحياة، والدنيا توصَف بأنها الحلوة الخضِرة، استُعمِل في وصفها الخضار الذي هو من الماء، كنايةً عن الحياة المرفَّهة  ...

صلة وطيدة وعلاقة وثيقة هي بين الاستقامة والاغديداق، بين الاستقامة والرّزق الوفير من الله تعالى.
ولقد أسهبتُ في هذه العلاقة في تدبّراتٍ عرفتَها معي في سورة نوح...
أتذكر... ؟ !  إذ جاء فيها قوله سبحانه: " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا(12)"
عرضتُ لقول مَن يعترض على خصوصية العطايا الربانية للمؤمن دون غيره، على اعتبار أنّ الكافر أيضا مُرَفَّهةٌ ومُترَفَةٌ حياته، وأنّ المسلمين اليوم هم الذين يكابدون شظف العيش ... فعودتك لذلك الإسهاب حول الآية يُغني عن مزيد تفصيل هنا  ...(تُرجى العودة إلى سورة نوح، مع قوله سبحانه: " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا (12)")

آيات عديدة في القرآن تعرِض العلاقة بين الاستقامة والرزق الوفير... تُبِين في كل مرة حقيقة هذا التلازم  .... وما حال المسلمين التي نعرفها اليوم، والتي تجعل المتسائلين المغرضين والمتسائلين المستفهمين في واد واحد، إلا مِن غلبة العنوان فيهم على البيان !
فهم قد قالوا وأعلنوا الطريقة، ولكنهم ما استقاموا عليها ! والاستقامة عليها تساوي الجهاد في سبيل بيان أنّها الطريقة الواحدة للأرض قاطبة، وأنها المناسبة لكل أهل الأرض ...ولكننا نعيش المداهنات، والاستسلامات والمساومات، والتنازلات في سبيل إرضاء مَن لا يرضون إلا أن تُتَّبع طريقتُهم :" وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم..."- البقرة: من الآية 120-
« آخر تحرير: 2020-12-01, 11:58:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

إنّ هذه الآية لعظيمة المدلول عميقة المعنى... ومنها نمضي قُدُما لنتبيّن سنّة من سنن الله تعالى :
"لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ  وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا"

إنّ ذلك الماء الغَدق الذي يُجازَى به المستقيمون على الطريقة ليس النهاية...! 
ما تزال الطريق تُسلَك ما بقيت حياة... !
إنه فِتنة... ابتلاء... والحياة كلّها ابتلاء كما عرّفتْنا السُّوَرُ السابقة من هذا الجزء المبارَك  : "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" -الملك:02- . " إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّة..." -القلم: من الآية 17- .  وهو القائل سبحانه أيضا: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً  وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" -الأنبياء:35-

فلا تنفكّ الحياة ابتلاء حتى نلقى الله... ! لأنّ الآخرة خيرٌ وأبقى، ولأنّ جزاءَها هو المنتهى ... فالجزاء الدنيويّ بالماء الغَدق والعيش الرغيد لمَن استقام، ابتلاءٌ من الله لعباده المؤمنين، وهو سبحانه يعلم تقلّب الإنسان، وسرعة تحوّله عند مسّ الخير، تلك جِبِلّة جُبِل عليها لا يتخلّص من إسارها إلا مَن اختار الطريقة، وعرف أنّه الابتلاء بالخير كما بالشرّ، وأنّ الوصول والقُرب يستدعي العُروج...
وانظر ... ! انظر إلى دور ذلك الزاد الذي حملتَه معك من السابقات، ومن إضاءاتها ... ! وأنت كلّما تقدّمتْ بك الخطوات، وجدتَه يُسعِفك لتتبيّن التواصل، والوِصال الذي لا ينقطع ... لتتبين التكامل ...!
هيّا..أخرج من كيسك المضيئ لخطواتك ... ! إنّك في هذه الخطوة تحتاج قبسا من مشكاة المعارج ... ألم تبصر على ضوئها : " إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21)إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) " .... إلى آخر الآيات الحاملة لعلاج الهلع ...

أمّا المُعرِض عن ذكر ربّه، الذي أبى أن يختار "الطريقة" بَلَهْ أن يستقيم عليها، فإنه :
"وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا" ...

وجاءت : "ذِكر" مناسِبة تمام المناسبة لمقام الابتلاء، لنفهم أنّ الخلاص والنجاة من الفتنة، والنجاح في الابتلاء يكون بالذّكر، لأنّ الانغماس في الدّنيا مُنسٍ، والذِّكْرُ منبِّهٌ موقظٌ ...

المُعرض عن الذّكر يسلكه ربُّه عذابا صعَدا ... عذابا شاقّا...
كما تحمل "صَعَدا"  أيضا معنى التصاعد، إذ ليس مظهر التنعُّم بدليل على السعادة والراحة، بل قد يكون الإنسان منعَّما في الدنيا وروحُه عطشى، وذلك لعَمْري العذابٌ، وأيّ عذاب ! ويصَّعَّد في العذاب وهو يلهث باحثا عن السعادة على الطريق ذاتها، طريق المَظْهر، بينما الجوهر خواء...! فيبقى ذلك السعيد المحسود من مظهر سعادته، المنكودة روحُه... !

وليس بعيدا عنا انتحارُ مشاهير التمثيل والغناء والثراء في العالَم، والشباب يتقافز ليحظى من واحِدِهم بنظرة أو بكلمة، وهو يقتفي أثرَه، فلا يفوّت صيحة من صيحات لباسه أو تسريحات شعره، ويحلم لو أنّ الحظّ حالفَه كما حالف معبودَه ولو أنّه كان مكانَه ... ! ولكنّ معبود الجماهير في قرارة نفسه، هو الغارق في لُجّ الأحزان والاضطرابات والهموم ... روحُه تستغيث ولا يعرف كيف ينقذها... !

وعلى هذا جاء سبحانه بـ : " يَسْلُكْهُ " (بمعنى الإدخال في كل نقطة) للتدليل على تغلغل العذاب في أجزائه نقطة نقطة، صُعُدا من درجة إلى درجة أعلى ! يُزاد على العذاب عذابا وهو لا يدري أنّ روحا بداخله تتلوّى وهي البعيدة السقيمة !و لا يدري ألا راحة له ولا حياة لروحه إلا على الطريق الواحدة، "الطريقة" الواحدة ...! ويا ليتَه يدري ...! يظلّ على تلك الحال حتى تُقبَض روحُه فيجد نفسَه وقد عاش مُعرضا عن الحقّ، مُقبلا على الباطل خاسرا كلّ الخَسار، وأنه إلى عذاب أكبر فأكبر قد صار ....!
أجارنا الله وبصّرنا بالحق وثبتنا على الطريقة  ...

ويتوالى ذِكرُ ما أوحِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عرفنا من بداية السورة، ومع كلام الله تعالى نبقى وقد انتهى كلام الجنّ ...

"وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) "
وبعدما عرفنا ما يلحق المعرضين عن ذكر الله تعالى من عذاب صَعَد، ينقلنا سبحانه إلى الحديث عن المساجد، وهي أمكنة الصلاة وذكر الله تعالى ...

المساجد لله، لا لأحد غيرِه...
وقد كانت قريش تعبد الأصنام في قلب المسجد الحرام، وكانت تمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلّي فيها، فأنزل الله مبيّنا أنها لله... وأستحضر هنا كيف أنّ الله تعالى أعطى نبيّه صلى الله عليه وسلم خَمْسا لم يعطِهُنّ نبيّا قبله، إذ نُصرَ بالرعب، وجُعلت له الأرض مسجدا وطهورا، وأُحِلّت له الغنائم، وأعطي الشفاعة، وبُعث إلى الناس عامّة ... فبِبِعْثتِه صلى الله عليه وسلم جُعلت الأرض كلّها مسجدا، فأينما أدركَتِ المسلمَ الصلاةُ صلّى ... وهكذا نرى أنّ "المساجد" تعني فيما تعني الأرض كلها...!    كلها لله... كلها مُلكُه.... كلّها سجود له، ولا يملك معه أحدٌ شيئا ...

"فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" ...
إنها الدّعوة إلى التوحيد، إلى ألا يُشرَك بالله أحدٌ. والسورة عامِرة به من بداياتها، والجنّ قد أعلنوا -أوّل ما أعلنوا- لمّا هُدوا إلى الرُّشد التوحيدَ الخالص : "يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ".. الجنّ الذين عبَدَهُم العرب فيمَا عبدوا، يعلنون التوحيد والبراءة من الشرك وأنهم عبادٌ لله المعبود وحده سبحانه... "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم  بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ  أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ (41)" -سبأ-

كما يجدر بي ذكرُ ما هو عليه حال الكثير من المسلمين اليوم، وهم يتخذون من قبور بعض مَن يصفونهم بالصلاح مزارات، ويقيمون عليها المساجد ! فلا تعود تَميزُ بين قداسة المسجد عندهم وقداسة قبر ذلك العبد الصالح !! أيدْعون الله داخل ذلك المسجد، أم يدعون ذلك العبد الذي جعلوا زيارتَه للتبرّك بصلاحه وهو المقبور، ولقضاء حاجياتهم وهو المقبور، وللتقرّب به لله وهو المقبور الذي لا حول له ولا قوّة،  ولا نصير له من دون الله! مثلُه مثل كل عبد من عباد الله !
فأيّ فرق هو بين شِرك المشركين قديما، وشِرك كثير من المسلمين حديثا ؟!!   ولقد قالها المشركون كما يقولها مقدِّس قبور الصالحين اليوم (الأولياء الصالحون) كما يسمّونهم : " أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ" -الزمر:03-

يأتي ها هنا الأمر بدعوة الله وحده، وألا يُدعى معه غيرُه ... فكما أعلن النّفر الرشيد من الجنّ أنهم لله عباد، فهذه مقدّمة لبني الإنسان أنهم كذلك عِبادٌ له ... كلٌّ له سبحانه عبدٌ :
"وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)"
لمّا قام عبد الله "محمد" صلى الله عليه وسلم يدعوه وحده -كما جاء في الآية السابقة-  كاد المشركون يكونون عليه لِبدا، من التلبّد الذي يصوّر تجمُّعَهم حوله بكثرة، لا كثرة استماع لما يبلّغهم، واسترشاد لمعرفة الرُّشد الذي في القرآن، بل كثرة استهزاء وتصدٍّ وكفر... !

وصورتان تتمثّلان لنا في هذه السورة، صورة نفر من الجنّ(ما لا يجاوز العشرة) رشيدٌ، عرف الرُّشد فآمن به، وأعلن التوحيد والبراءة من الشرك، وصورةُ كثرةٍ كاثرة من المشركين وهم يحيطون به صلى الله عليه وسلم يحسبون أنّهم مُبْلغوه اليأس من هذه الدعوة وهم الكثرة الغالبة، بينما هو ومن تبعه القلّة...
وباجتماع الصورتَيْن نتبيّن ثقل القلّة الرشيدة... وأنّ الحكمة ليست بالعدد، بل بثقل الإيمان في القلوب، وأنّ الكثرة السفيهة عند الله كلا شيء ...! وعلى هذا كان استماع الجنّ للقرآن وإيمانُهم به، وتصديقهم بالرسول، في الوقت الذي كان فيه المشركون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثرة المتصدّية المتصدّرة لمحاربته ومحاربة دعوته، وعرفنا ذلك في سورة المعارج : "فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ(36) "

ولنتأمّل وصف الله سبحانه لنبيّه بـ : "عبد الله" لنستشعر في أجواء هذه السورة كيف أنّ الكلَّ عبدٌ لله، جِنّا وإنسا، وسيّد الإنس والجنّ "محمّد" له عبدٌ، بَلَهْ مَن هو دونه ! وكُلُّهم دونَه صلى الله عليه وسلم... !
وفي تسلسل وتناسق واتّساق، يأتي الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد ما جاء ذكرُه بـ : "عبد الله" ...وأنه الذي قام يعبد ربّه ...

"قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ  وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)"

"إنما" ...أداة حصر وقصر...
يدعو ربّه وحده، ولا يدعو غيرَه، ولا يشرك به أحدا، فهو بعد القيام داعيا أي عابدا لله، هو ذا يُؤكّد لهم ويُعلن أنه يدعو ربّه وحده ... في ذكرٍ آخر للتوحيد في هذه السورة، وقد اجتمع فيها: " يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا"   و : "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" .  ثم هذه التي هي من تلقين الله لنبيّه : "قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا "
وهي شبيهة بما أعلن الجنُّ أوَّلَ السورة، ليجتمع فيها توحيد الله من الفئتَيْن، وليتبيّن أنّ الإنسَ والجنّ لله عبدٌ... وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للفريقَيْن قد بُعِث ...

"قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا"...
 لا يملك لأحد من الناس ضرّا ولا رشدا، هو ذا تبرؤه صلى الله عليه وسلم من أن يكون بيده نفع أو ضرّ، وبأنّ ذلك لله وحده ... فــ :"عبد الله"  التي عرفنا في الآية السابقة، يأتي تفصيلها هنا، لتُعلَم حُدُودُ النبيّ صلى الله عليه وسلم...
ولقد جاءت : "ضرّا" تقابلها "رشدا" في خصيصة لهذه السورة التي كثر فيها ورود هذه الكلمة(الرشد) تلقي بظلال الحكمة والرشد على معانيها وألفاظها سواء بسواء !
سورة حوتْ إعلان رأس الرُّشْد من الفريقَيْن إنسا وجنّا، أنّ الله وحده الحقيق بالعبادة، وأنّ الكُلَّ له عبدٌ ... و"ضرّا" يقابلها النفع، بينما جاءت: "رشدا" مكانه وهي أوسع من النفع . كما سبق وعرفنا نَسَق المقابلات في هذه السورة...

ويزيد فيلقّنه ربّه سبحانه  : " قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا" .  لن ينجيه من الله أحدٌ، ولن يجد من دونه ملجأ وملاذا إن هو تولّى غيرَه كما يُملي عليه المشركون أن يفعل، وفي الآية إقرار بالعجز، كما أقرّ الجنّ قبلها  أنّهم لن يُعجِزوا الله في الأرض، ولن يعجزوه هربا ....
ويزيد الله في بيان حدود الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّه العبدُ المطيع لأمر ربّه، حتى لا يلتبس على الناس أمرُه، فيعبدوه كما عبد مَن قبلهم عيسى عليه السلام، وقالوا أنه إله ...وحتى تخلُص الدعوة له وحدَه سبحانه :
" إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا "...  تلك هي حدوده، وذلك هو دورُه صلى الله عليه وسلم-وهو العبد المطيع لأمر ربِّه-  تبليغ أمر الله، وتبليغ رسالاته ... الأمر كلّه لله، وهو المبلّغ عنه .لا يملك أن يضرّ ولا أن ينفع، ما يملك إلا أن يبلّغ كما أمِر صلى الله عليه وسلم.
تأمّل إنها حدود رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو له عبد، كما أنّها حدود الجنّة وهم له عبدٌ مقابل طلاقة قدرته سبحانه...

" وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا" .
وهذا الرّسول المبلّغ عن ربّه، جاء من الله تعالى تقرير أنّ من يعصِه فإنّ له نار جهنّم. معصية الله ومعصية الرسول من أسباب الإرداء في جهنّم عياذا بالله .
وإنّنا نعيش عصرا يُلبّسون فيه على الناس دينَهم، فيضربون سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في خطّةِ تَسَلُّلٍ إلى العقول المسلمة من خلال ضرب السنّة، حتى لا يبدهوا المسلمين بضرب القرآن، لأنّ ضربَهم  للقرآن يجعل المسلمين يتفطّنون لما يرومون من جعلهم في دينهم على حرف ! وهم إذ يضربون السنّة يضربون الدين كُلَّه، والبُلَّهُ من المسلمين الذين لا يعرفون عن الدين إلا العنوان يصدّقون، ويتّبعون عن عمى، فيشكّون ويذهبون المذاهب في الطعن والتَشَكُّك... حتى صرنا نسمع عن شباب يخرج من الدين جُملة، فيُلحِد بدعوى التحرّر من الموروث  ... !

وهكذا في الآيات السابقة، عرفنا حدودَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّ ما عليه هو التبليغ، ولا ينفي كونَه مبلِّغا، وجوب طاعتِه فيما يأمر به، والله سبحانه إذ يذكر عاقبة العاصي، يقرنُ بين معصيته سبحانه ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان لوجوب طاعة أمره مع أمر الله تعالى...
« آخر تحرير: 2020-12-01, 12:02:28 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
أما الآن فينقلنا سبحانه نقلة أخرى، من الداعية إلى المدعوّين، من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، وينسحب ما يُذكَر عنهم على كلّ كافر وعلى كل مُعرِض عن الحق في كل زمان :
"حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) "

حتّى إذا رأى الكفّار ما يوعَدون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبليغا عن ربّه سبحانه لرسالاته التي تحمل النبأ اليقين بالوعد والوعيد، تبشيرا وإنذارا كما هو دور رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبشير المؤمنين بالفوز وبالجنّة، وإنذار الكافرين مغبّة معصيتهم لله ولرسوله(كما جاء في الآية السابقة) عذاب جهنّم خالدين فيه أبدا ...
يظلّون على تكذيبهم وكُفرِهم ومعصيتهم لله ولرسوله، حتى يُفاجؤوا بأنفسهم في قلب يوم عظيم،  قياما بين يَدَي ربّ العالمين، يرون بأعينهم ما به كانوا يكذّبون من وعيد على معصيتهم أمرَ الله ورسوله !

في ذلك اليوم سيعلمون مَن أضعفُ ناصرا وأقلّ عددا ! لأنّ الظالمين في كل زمان أصحاب أموال وحاشية وخَدَم وحَشَم، لا يرتضون عن تأليه أهوائهم وغايات إفسادهم في الأرض بديلا ...
عرفناهم في ذلك العُتُلّ الزّنيم المعتدي الأثيم، وهو يتقوّل على الله وعلى آياته بأنها أساطير الأوّلين مُعتدّا بماله وببنيه، متعوّدا على كثرة المطيعين له مِن حوله  ...
وقد كانوا يقولون متفاخرين: "وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ" -سبأ:35-.  مُعتَدّون بمَن ينصُرُهم مِن خَدمة لهم، يأتمرون بأمرهم لأنّهم يدفعون لهم لقاء ما يقضون لهم من مآرب، لا يهمّ في أيّ خانة تُصنَّف مآربُهم، كل ما يهمّ أن يُدفَع لهم مقابل قضائها ...! كما كانوا يستنصرون آلهتهم ويتوسّلون بها. فسيعلمون اليوم مَن أضعف ناصرا، هُم أم المستمسكون بالإله الواحد الأحد ملك يوم الدنيا وملك يوم الدّين !

سيرى هؤلاء العُصاة المُطاعون من عُبّاد المادة، مَن أضعف ناصرا في ذلك اليوم العظيم .... حينما يُلقَون في قعر جهنّم وهي تدعوهم، فما لهم من حميم ولا شفيع يُطاع، كما عرفنا ذلك قريبا في السورة السابقة : "يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا(10)يُبَصَّرُونَهُمْ  يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا  إِنَّهَا لَظَىٰ (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى(18) " -المعارج-

في ذلك اليوم ما من ناصر من دون الله تعالى ...
ولنتأمّل في هذه السورة توالي ذِكر النّصر والإجارة والإعاذة ...

1-) فالجنّ أعلنوا بدايةً، أن رجالا من الإنس كانوا "يَعُوذُونَ" برجال من الجنّ، فما زادوهم إلا ذُلا وضلالا، ولكنّهم لما آمنوا أعلنوا يقينهم أنّ مَن يؤمن بربّه لا يخاف بخسا ولا رَهَقا، أي أنّه سُبحانه العِياذ والملاذ.
2-) ثمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُعلن أنه لن يُجيرَه من الله أحدٌ ولن يجد من دونه ملتحدا، فهو سبحانه المُجير وهو الملجأ.
3-) ثمّ ها هنا يبيّن سبحانه أنّ الكافرين المعتدّين بالناصرين سيَرَوْن مَن أضعف ناصرا يوم ما من ناصر إلا الله... !
فهذا من جوّ السورة وروحِها ... وهو ما يناسب تصحيح ما تَكَرَّسَ من مغلوط المفاهيم أنّ الجِنّ ينصرون، وأنّ لهم القوّة والعُدّة اللازمة للنصر، حتّى بلَغَ بالناس أنْ عبدوهم ... ونعرف اليوم مَن يذكر من مناقب فُلان العرّاف حتى لكأنّه صاحبُ الخوارق الذي يستحقّ أن يُعبَد ... !

في ذلك اليوم العظيم ... سيَرى كلّ مستجير بغير الله، وكلّ مستعيذ بغير الله، وكلّ مستنصر غير الله مَن أضعف ناصرا... !
وكذلك -وكحال القرآن حمّال أوجُه- تحتمل الآية أيضا النصر الذي وُعِدَهُ المؤمنون في الدنيا، والهزيمة التي تنتظر الكافرين على أيديهم  ...وقد تحقّق ذلك في لقاءات عديدة بالمشركين، في غزوات وحروب كان النصر فيها من الله لعباده المؤمنين ...ولقد توعّد الله الكافرين الوعيدَيْن : "أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ(44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرّ(46) " -القمر-

وسيعلمون مَن أقلّ عددا ... وهم يعتدّون في الدنيا بالعدد ... في ذلك اليوم حينما يرون ما يوعَدون بأعينهم، سيعلمون أنّ العدَد الذي لا يعرف الوصول إلى ربّ العزّة هو كلا شيء... ! وكذلك عرفنا الكافرين حولَ نوح عليه السلام وهُم عُتاة مستكبرون، يكاد يكون بينهم الوحيد الموحِّد، وهُم عبَدَة الآلهة المتعدّدة، نزل بهم عذاب الله فهلكوا كأن لم يكونوا... !

كما عرفنا الكافرين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن البعثة وكما نعرفهم في كل زمَان: "وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا" . "لِبَدا" من كثرة عددهم ... ! كانوا يرون في عددهم القوّة، وأشباهُهم وأمثالهم اليوم يرون في عددهم القوّة، وفي قلّة عدد أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعف .... حتى هُم أولاء وهم يرون ما يوعَدون ... يعلمون مَن أقلّ عددا ... الأقلّ عددا هو مَن كان -على كثرة أتباعه- من الغاوين...يُعرض عن ربّه، ويعصي أمرَه، ويعصي أمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم. 
وإنّ الجِنّ الذين نقل الله عنهم مقالاتِهم كانوا نَفَرا ... ولكنّهم كانوا قوّة ورَشَدا وفِكرا ونظرا وحكمة ... كانوا ذاك النّفَر الرشيد، الذي رأينا أنفسنا بين يَدَيه متعلّمين... !

ويستمرّ تلقينُ الله لعبده صلى الله عليه وسلم، الذي بيّن عبوديّته لله تعالى، وحدودَه، ودورَه :
"قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) "

وعن موعد الساعة هنا تفصيل... وقد جاءت في الآية السابقة تقدمة بذكر ما يوعدون من ناحية معاينتهم لها عند حلولها، ليحين في هذه الآية موعدها، والجواب عن سؤال عنه كان دَيْدَن الكافرين:
" قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا"

و إنّ من أدوار "إنْ " النّفي، فجاءت هنا تحمل معنى "ما" النافية، أي "ما أدري أقريب ما توعَدون..." .  لا يدري صلى الله عليه وسلم أقريب هو موعد الساعة أم بعيد، أم يجعل له الله أمَدا (أي مُدة )

وفي نَفْيه صلى الله عليه وسلم لعلمه بموعد الساعة، مزيدُ بيان لحدوده صلى الله عليه وسلم، يقابله مزيد بيان لاختصاص الله تعالى بهذه الشؤون، كما سبق وأن أعلن أنّ الضرّ والنفع بيده سبحانه وحده، وأن الإجارة والنصر لا يكونان إلا منه سبحانه، كذلك فعلم الساعة له وحده ...
ثم نُساق سَوقا من موعد الساعة وهو غيبٌ كما هي غيبٌ، إلى الغيب عموما في تلقينه سبحانه لعبده ونبيّه صلى الله عليه وسلم :
" عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26)"
سبحانه عالِم الغيب، وليس علمه لأحدٍ غيره، ولا يُظهر على غيبه أحدا من عباده ...لم يُطلع على غيبه الجنّ، لم يكن لهم من علم بالغيب فيُعلموه الناس -كما ادّعى ويدّعي الإنس إلى يومنا- نعرف ذلك فيما يفتريه الكَهَنة والمنجّمون من الأكاذيب، وهُم يزعمون علما بالمستقبل وبالقادم من الأحداث، اتّكاء على الجنّ الذين يأتونهم بالأخبار ... في سورة الجنّ نفيٌ وقطع بشأن الغيب، وأنه خاصٌّ بالله تعالى، ولا يُطلع عليه أحدا من عباده لا من الإنس ولا من الجنّ ...  وقد تبرّأ الجنّ من كل حول لهم ومن كل قوة...

عرفنا ذلك منهم وهم :
1-) يصرّحون بجهلهم في قولهم : "وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا"
2-) وعرفناه منهم مرة أخرى في  : "وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا"
3-)وأيضا وهم يُقرّون بأنهم لا يُعجِزون الله : " وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا"

كما قد جاء نفيٌ صريح لعلم الجنّ بالغيب في قوله تعالى : "فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ  فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ" -سبأ:14-

ففي سورة الجنّ –كما أسلفنا- تصحيح وتقويم لمفاهيم مغلوطة تكرّست في أذهان الناس، واستَشْرَتْ في حياتهم، وهي ذات تأثير كبير على العقيدة، إذ ينسبون ما هو خاصّ بالله وحده من قدرة مطلقة وعلم تامّ محيط، وتدبير وفِعل وإرادة لغيره. ...

ولكن لا يكتمل المعنى حتى نجمع إلى ما مضى ما في هذه الآية من الاستثناء :
"إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)"

شيء من الغيب يُعلِم به الله تعالى عبادا له، هم رُسُله سبحانه الذين ارتضاهم، بينما هناك غيبٌ لا يُحيط به أحدٌ من عباده...
فقد كان عيسى عليه السلام ينبئ قومَه بما يأكلون وبما يدّخرون في بيوتهم، وقد أَوَّلَ يوسف رؤيا الملِك، ورؤى صاحِبَيه في السجن .... كما أُعرِج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السبع، فرأى من الغيب ما أراه ربُّه سبحانه ...

وهؤلاء الرُّسُل أنفسُهم يَعْزُون العلم لله لا لأنفسهم، فكان عيسى عليه السلام يدعو قومَه بمعجزاتٍ أوتِيَها وهو يُردِفَها بـ : "بإذن الله"   . " وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ  أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ  وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ  وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" -آل عمران:49-

ويوسف عليه السلام وهو يشكر ربّه على ما آتاه من فضله فيقول : "رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ  فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ  تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" -يوسف:101-

ويخبرنا سبحانه بعَطيّته لنبيّه صلى الله عليه وسلم في قوله: " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" -الإسراء:01-

هو سبحانه عالم الغيب والشهادة، هو المحيط علما بالغيب، بل بالغيوب كلّها . علّام الغيوب. ولقد كان الوَحيُ غيبا حتى أطلع عليه اللهُ مَن آتاهم الكتُب من رُسُلِه. فكان "القرآن" غيبا من الغيب حتى نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

"إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)" يسلُك (أي يُدخل) سبحانه من بين يَدَي الرسول ومن خلفه رصدا، قائما على حِراسة الوحي حتى يبلغ الرسول، يحرسه من كل مترصّد، ملائكته سبحانه هي الرَّصد، هي حارسة الوحي ... جبريل الذي وصفه الله سبحانه بقوله : "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21)" -التكوير-

من أمين السماء إلى أمين الأرض محمد صلى الله عليه وسلم، الذي وصفه ربّه سبحانه ووصف معه القرآن بقوله: "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ  وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ  قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43)" -الحاقة-

وهكذا ... عرفنا الرّصَد مرتين في هذه السورة... الرَّصد الحارس لخبر السماء، فما شاء الله أن يُبلِغَه منه أهلَ الأرض أبلغه، وما لم يشأ لم يَبْلُغْهُم.
الوحي ... القرآن ... كلام الله تعالى الذي بُدئ حفظُه من السماء، إذ حَفَظَ الله خبرَها من استراق المسترقين : "وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ  فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا"
" شِهَابًا رَّصَدًا " مترصّد لكل محاول من الجنّ.... حتى عرفناهم يرسلون رسُلَهم في الآفاق بحثا عن سبب منعهم من الاستماع ...  وإنما كان ذلك حفظا للقرآن العظيم ...

ثم حفظه الله تعالى في رحلة نزوله إلى الأرض : "إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)" وصولا إلى الأمين صلى الله عليه وسلم الذي تولّى حفظَه بتبليغه كما أُنزِل عليه، لا يُنقص منه حرفا ولا يزيد :
"لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(28)"
ليعلم الله تعالى، وهو العليم سبحانه بما كان وبما هو كائن، وبما سيكون، ولكن جاءت : "ليعلم" تعني حصول علم المشاهدة من بعد أن كان غيبا... ليتحقق تبليغ الرُّسُل  للرسالة كما هي، ليتحقق تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن كما هو .... لا من حيث أنّه الذي قد يبدّل فيه هو صلى الله عليه وسلم فسُلك الرصَد منعا لفعل له هو فيه-حاشاه- بل لأنّ الله سبحانه وقد حفظه بدءا من السماء بالرّصَد الحارسين، تبليغا إلى الأرض بالرّصَد الحارسين من بين يدي الرسول ومِن خلفه،  فإنّه حتما سيبلّغُه محفوظا لم يطرأ عليه شيء من تغيير أو تبديل، وهو في رحلته من السماء إلى الأرض... "ليعلم "   اللام لام التعليل...  سلك سبحانه الرّصَدَ ليعلم أنْ قد أبلغ الرُّسُل الرسالة ...أي ليتحقّق تبليغهم للوَحي وقد حُفِظ ...

"وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا"
أحاط بما لدى الرُّسُل وأحصى كل شيء عددا، لا يغيب عليه سبحانه شيءٌ دَقَّ أو جَلَّ، بل إنه سبحانه الذي يعدّ الدقيق منه والجليل عدّا... !

وهكذا تنتهي سورة الجنّ...
وهي على مدارها وعلى مدى آياتها، جاءت تصحّح المفاهيم المغلوطة الخطيرة المكرَّسَة في الأذهان، والمعشّشة في المجتمعات في كلّ زمان، فإذا أنتَ سألتَ أحدَهم -وهو الذي يصدّق بها وتنطلي عليه أكاذيبها- إن كان المُوحّد لله، انتفض وزمجَر، وتعجّب وغضب وهو يجيبك : "وكيف لا ؟ ! أيّ سؤال هذا الذي تسألُنيه ؟ !"، أو مَن يَستعصِ عليه أمرٌ فيشير عليه مشير أن يؤمّ العرّاف والمسهّل ليقضيه له ...فيفعل ولا يتأخّر... فإن أنكرتَ عليه، وأخبرتَه أنه لا يجوز، وأن الله هو المدبّر وهو الذي يُسأَل وهو علام الغيوب، وهو القاضي بأمره في عباده بما يشاء، وأنّ الذّهابَ إلى أمثاله طَرْقُ بابٍ للشِّرك، أجابك بأنّما هي منه نيّة وتسبّب، والأحرى ألا نُعقّد الأمور وألا نذهب مذهب العقيدة والحديث عن العقيدة، فإنما ذلك منكَ مبالغة وإفسادٌ للنوايا، وأنّ فعلَه ليس مما يمسّ بالعقيدة... !!

هكذا هُم يسوّغون اللّجوء لغير الله، والاستجارة بغيره، وسؤالَ غيرِه في قضاء ما يُستعصى ! هكذا يبسّطون القضيّة ويُبعدونها عن حقيقتها وجَوْهَرِها، ويجعلون من العقيدة شيئا لا متعلَّقَ له في الحياة وفي حركة الحياة، وإنما هي أمرُ القلب ولا يُشترط لصَونِها والحفاظ عليها، أن نُقحِم الحياة وحركتها في مدلولها وفعلها.. ! كأنما هي الاعتقاد وكفى، ولا فِعل لها، ولا أثر ولا عمل ... !

هكذا هو فصل العقيدة عن الحياة وعن حركتها، هكذا هو فصل الدين عن الحياة، عَلمَانيّة هي بوجه من الوجوه ... !
سورة الجنّ من بدايتها إلى نهايتها هي إعلان من الفريقَين -من الإنس والجنّ على السواء- للتوحيد الخالص الذي لا يستقيم بمجرّد الشهادة اللفظيّة أنّ لا إله إلا الله . بل بمقتضيات اليقين بأنّ في كَنَفِهِ سبحانه وحدَه الأمان من البخس ومن الرَّهَق، وأنّ اللجوء إلى غيره ذلّ وضلال، وبأنّ طلاقة القدرة له وحده، وأنّ تمام العلم له وحده، وأنّه لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرض ولا في غير الأرض ... !
وأنّ الأرضَ كلّها قبضتُه سبحانه، فعّال فيها وفي خَلقِه ما يريد، وأنّه لا يكون إلا ما يريد ...فالضرّ منه متى أراد وكيفما أراد، والرَّشَد منه متى أراد وكيفما أراد...

سورة الجنّ بيانٌ وتقرير ناصع، ساطع صادع، عن وحدة مصدر القرآن العظيم، وأنّه من عند الله الكتاب المحفوظ من كلّ تشويه أو تبديل أو تعرُّض له بعارض أو بخَلْط...
أنه الكتاب الذي حُفِظت لأجله السماء من كلّ استراق، فتُرُصِّد لكل مُسترق لخبرها، وحُفِظ وهو النازل منها إلى الأرض، مرفوقا برَصَد من بين يدَي الرّسول ومن خلفِه، حتى يبلُغَه كما هو من عند ربّه، فيبلّغه كما هو من عند ربّه...
فبشهادة وإعلان وتقرير بألسنة الجنّ، يذهب ما انغرس من اعتقاد بقوة فيهم  خاصّة، تجعل منهم الكائنات التي تعلم غيبا، وتتسلّط، وتسطو، وتفعل في الأرض وفي أهل الأرض ، وكأنما هي الإله مع الإله ... !

سورة الجنّ إعلان الفريقَيْن إنسا وجِنّا، أنّ التوحيد الخالص يعني براءة كل مخلوق من كل حول وقوّة، وأنه سبحانه وحده الملاذ والعِياذ والملجأ والمنجى، والمجير والنصير، والضارّ والنافع، وأنّه سبحانه حافظ كتابه، ومبلّغُه عباده، حفظا من السماء إلى ما بين السماء والأرض، بلوغا به إلى الأرض ... !  ثم حفظا في الأرض من كلّ تبديل أو تحريف أو خلط أو افتراء ... فهو المحيط علما المُحصي لكل شيء عددا   !

سورة الجنّ جاءت تبيّن اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعثته للعالَمين رحمة وهداية، فهو للجنّ رسول، كما هو للإنس رسول.

سورة الجنّ جاءت تبيّن مسيرة الحفظ الربانية للكتاب الخاتِم البالغ الجِنّ والإنس ...فهُمْ كلُّهم لله عبدٌ ...
جاءت تُذهب الاعتقاد الفاسد السائد بأنّ الجِنّ أهل الإضرار والإفساد والشرّ والإهلاك ... حتى نحن أولاء بين يدَي النّفر الرشيد منهم تلاميذ، ننشد علما وحكمة ورشدا... !

فياللرَّشَد الذي فيها... !
وياللعباد حينما يتبيّنون طريق الرّشاد... !!
ويا للعباد حينما لا يشركون بالله أحدا، فلا يستجيرون بغيره، ولا يسألون غيرَه، ولا يستنصرون غيرَه، ولا يعوذون بغيره ... !
وياللعباد حينما يستقيمون على الطريقة ... !
فيا صاح ... ! أمازلتَ بعدُ تفزع من ذكر الجنّ، وأنت في كنف ربّهم القدير العليم، وقد سمعتَ منهم:  "فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا"... !
أو تُراك ما تزال تصدّق حكايات الجنّ اللّيليّة التي يتخذونها للإثارة ولإشاعة الغريب العجيب بين النّاس، يريدون صناعة الاستثنائيّ من الخبر... ! في صناعة للتهويل في عصر التهويل... وبين يديك إعجاز القرآن وبديع نظمه، وصدق قوله ...  وعظمة ربّه وربّك الذي لا يُعجزه شيء ... ! والكلّ له عبدٌ ...
« آخر تحرير: 2020-12-01, 12:08:25 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب