المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (سورة الحـــــاقة)  (زيارة 776 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

عشنا في رحاب سورَتَي المُلْك والقلم حياةً ... هي الحياة...

لامسْنا أحوالنا وتقلّباتنا بين ثنايا القرآن... عرفناه يبصّرنا بالحق، ويهدينا الطريق المستقيم، ويعرّفُنا العقبات والمُعيقات، ويعلّمنا سُبُل تجاوزها، ويحذّرنا المُهْلِكات الصامتة المغلّفَة في ورق الزّينة، وفي زيّ الخير والنّعمة... !

يبلّغنا أعماق الحقيقة لئلا نغترّ بمظهر... يَسْبُرُ بنا ما وراء المظاهر...يعرّفنا ألطاف الأقدار مع طبْعَ العَجَلة فينا...
يبيّن لنا أنّ الحكمة حسناء قابعةٌ خلف قضبان العادة والمظهر والسطح، كلّها تأسِرُها وتُبعِدُها عن الإنسان، يعلّم المؤمن كيف تمتدّ يدُه إليها لينحّيها عنها فتنكشف له، ليفوز بحَسْنَائِه ... !

كانت آيات سورة "الملك" عن المَلِكِ الذي نحن عبيده، والذي لا يملِكُ على الحقيقة غيرُه، وكلّ الملوك وما يملكون قبضةُ يمينه... المَلِكُ الرّحمان الذي تسبق رحمتُه عذابَه...وارقُبْ في السورة إن شئتَ ترامي "الرّحمان" في أطرافها المَلَكيّة... !
عرّفتْنا كيف يغترّ الإنسان المُكرَّم من ربّه، المسخّر له الكون فيتمرّد حَدَّ التألّه، وأمْنِ مَكرِ الملِكِ سبحانه الذي هو على كل شيء قدير... !
وكيف أُمِر أن يمشي في مناكب الأرض مَشْيَ العبد الذي يوقِن أنه من ربّه وأنّ النّشور إليه...فتستشعر في حناياها الحُريّة وأنت لا ترى نفسك عبدا لسواه، وكلّ ملك وما يملك عبدٌ له ومُلْكُ يمينه ... !
فمشينا في مناكب السورة، ومن رزقه ومَنّه تدبّرنا فقُلْنا... قُلْنا من وحي عظمة الآيات، وتسلسلها، وتساوُقها ...
ودعوتُك ونفسي أن نقرأ القرآن هذه القراءة الصحيحة، وأن نولّي عن قراءات لنا هي من صنع السطح، ومن صنع الأصوات والمدود والقلقلات وحدَها، لا من صنع الأعماق والحقائق، والعِبر والتربية والنور الذي يهدينا في عتمة الدّرب ...
قراءة لا تجعل القرآن قطعا مفرّقة، بل تبيّن تلاحُمَه وتعاضُدَه، واجتماع جمالاته في لوحات ربانيّة بديعة، خطوطها النور والحكمة والحقّ الساطع والحركة والحياة في الحروف روحا هي لحياتك الحياة... !

مشينا مستهدين بنور الآيات لاستخراج كنوزها... فكنّا كلما وقعنا على كنز جمُلت حياتنا، وعمرت أيامنا، وتفتّحت أزاهير قلوبنا... وسألنا الله ألا نكون ممن يقولون ما لا يفعلون ... أن يكون منا العمل بما عرفنا لا القول وحده ... !
عرفنا من سورة القلم العظيمة كيف أنّ الأمرَ في الأرض أمرُ المَلِك سبحانه، وأنّ الحُكم حكمه، وكيف أنه من دستور كتابِه الذي أنزل لعباده تقوم للأرض قائمة، وتكون سالمة... دستور الأخلاق الذي يعلو ليحقّق إنسانية الإنسان، وأنّ الحقّ الذي جاء فيه لا يقبل المُداهنة ولا التنازل، تماما كما لا يستقيم للداعي إليه عملٌ إذا يئس مِن مَدْعوّيه، بل الصبر هو دعامتُه وهو المثبّت، وما التنازل واليأس إلا طرفان متطرّفان، هما أنصاف حلول تُزلِق صاحبَها ليَجد نفسَه على طريق الباطل... !

وكلّها الإضاءات على طريق الابتلاء قانونِ هذه الحياة الدنيا الآيلة إلى ذهاب وزوال، ليأتي موعدُ الحساب والجزاء ... !

وهكذا في رحاب القرآن، وفي رحلة التدبّر وتطلّب الفَهم للعَيش  من سورة إلى سورة، نُساق سَوْقا من مكان إلى مكان... من زمان إلى زمان، وكلّ النقلات والتنقلات ملائمة لكل أزمنة الإنسان، لكلّ أحواله، لكلّ أطواره ... تُضاءُ له شُموع في العتمة، فإذا ما اتّبع النورَ اهتدى ووجَدَ مزيد هُدى لإكمال المسير ...

والتذكرة أبدا بأنّها دار الابتلاء، وأنّ عُمرَها إلى انتهاء، وأنّ السعادة الحقّة، والكمال المنشود، والراحة التامّة لا تكون إلا في دار البقاء، حيث يرنو المؤمن إلى نعيمها المُقيم وراحتها السرمديّة...  حيث لا تسوية بين مسلم ومجرم ...!  وأنّ للمؤمن جنّات النعيم:" إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ"

ومن نهايات "القلم" حيث الإشارة : "فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ  سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(44) وَأُمْلِي لَهُمْ  إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45)" نحن مع موعد مع سورة جديدة ... مع "الحاقة"... مع سورة تحمل اسما من أسماء يوم القيامة . يوم الإيذان بانتهاء الدنيا، وبحلول أوان الجزاء ... فلنتأمّل السَّوقَ و الإشارة والانتقال والترابط ... !

"الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ(3)"

إنها الآيات الثلاث الأولى من السورة ... وإنّ الكلمة ذاتَها في كلّ منها : " الْحَاقَّةُ " ...
فأما الآية الأولى فهي الكلمة وحدها، وحدها آية ...
"الحاقّة"  من "الحقّ"، من حَقَّ الشيء وثبتَ وقوعُه، فهي التي فيها يتحقّق الوعد والوعيد، والتي فيها لن يجعل سبحانه المسلمين كالمجرمين، فيها أعدّ للمتقين جنات النعيم...   

سبحانه يستدرج المكذّبين من حيث لا يعلمون حتى يجدوا أنفسهم في قلب يومها الذي لا رجعة بعده... لا عودة... لا فرصة للعمل ... ! الفرصة التي عرفنا في "القلم" حُظوة أصحاب الجنّة بها رغم الصَّرِيم، وحُظوة كلّ إنسان ما يزال في الدنيا أن يعود ويغتنم...فرُبّ مصيبة مُرجِعة ... !

إنه اليوم الحقّ ... إنه الآتي حقّا حقّا ...! صدقا صدقا ...

وفي تأمّل منّا دائم لتناغم السُّوَر وتسلسلها، في أواخر سورة القلم، من بعد ذكر حال من أحوال المكذبين يوم القيامة : "يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ(42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ  وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)"

يبيّن الله لنبيّه أنّ أمرَهم إليه وحده في قوله: " فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ  سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)"
أمر من يكذّب بحديث الآخرة، بحديث الساعة، بحديث الحساب والعقاب والجزاء، ليُعقَب مباشرة ببدايات هذه السورة... أنّما ذلك تكذيب بالحاقّة، تكذيب بالحق الكائن... المتحقق لا محالة.

" الْحَاقَّةُ " ...هكذا بشكلها، بطريقة قراءتها، وهي التي تحمل مدّا طويلا، مُثقّلا، هو في أحكام التجويد : "المدّ اللازم الكلميّ المثقّل" ...
إي وربّي... ! اللازم لزوم الحاقة ولزوم وقوعها...
"الكلميّ المثقّل"... ثقيلة هي الكلمة، ثقيلٌ معناها، وأيّ ثقل ...؟!  ثقيلة حقيقتها، وأيّ ثقل ؟! حتى أنّك لتجِد الآية الموالية تسأل كما أنت الآن تسأل : "مَا الْحَاقَّةُ ؟"... كلٌّ  مِنّا من قبل أن يعرف عنها لا بدّ هو سائل: وما الحاقّة ؟!
بل حتى من عرف عنها، سيسأل مستفهما استفهام مَن لا يقوى على وصفٍ لهولها، ولثقلها : "ما الحاقّة "... ؟!

اقرأها ... اقرأها وأنت تمدّ وتثقّل حرف القاف، وكأنّك بذلك تؤكّد على الحقّ فيها... !
اقرأ الآية الأولى، ثم ثنِّ فاقرأ التالية، وأنتَ بطريقة القراءة وحدَها تقدّم لعظمتها ... !
إنه لم ينتهِ أمر حروفها بعدُ ...! فأنت مع المرة الثالثة، في إعظام، وتهويل:
"وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ " ... ما أدراك يا محمد ما الحاقّة ...؟ !

لعلّك تمضي بعدها لترفع شيئا من ستار الدنيا المُسدَل عليها، فتطّلع على شيء من معناها، شيء من أهوالها، وإن كانت الكلمات قاصرة عن تصويرها... إلا أنها كلمات القرآن ... فلنطلّ ... فلنربط على قلوبنا، ولنحزِم، ولننظر... ولنتتبّع :

"كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)"

كما جاءت الإشارة إلى هذا التكذيب في أواخر "القلم" : " فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ "... يأتي هنا تفصيل في شأن هذا التكذيب ... فـ : "الحَاقّة"  و "كذّبت" ...
تكذيب بالحق... كذّبت كلتا القبليتَين بالحقّ الكائن لَمّا دُعيتا إليه من رُسُل الله... قبيلتان عربيّتان من أصل تلك الأرض، الأرض التي نزل فيها القرآن، وبُعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم، فكذّبه أهلُها وعذّبوه، ووَصَموه  بالجُنون، وبأنه الساحر، وبأنه الشاعر...
هي ذاتُها الأرض التي سبق وأن حملت مكذّبين برسل الله تعالى... "ثمود" الذين سكنوا شمالي الحجاز بين مكة والشام، و"عاد" الذين سكنوا الأحقاف بين اليمن وحضرَمَوت...

قريبٌ جدّا منكم أيها العرب، يا قوم محمد، قريبٌ منكم جدا ثمود وعاد...!
ها هُنا كانوا هُم أيضا...حيث أنتم اليوم ...في ثمود بُعِث صالح، وفي عاد بُعِث هود عليهما صلوات الله وسلامه.
"كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) "
كلّ منهما كذّبت بالقارعة... و"القارعة" اسم آخر ليوم القيامة الذي أنذرَهم رسلهم أهوالَه وما ينتظر المكذّبين فيه ... وسبحانه هذه المرة جاء باسم آخر مع الحاقة، اسم آخر للحاقة  : "القارعة"

فدعونا  نجمع هذه الكلمات القارعة، الشديدة المَهولة في هذه السّورة، وهي ملأى بها امتلاءَها بأهوال هذا اليوم العظيم المُزَلزِل.... ولنا مع "القارعة" فيما يلحق وقفة ...
كذّبوا بما جاءهم به رسلهم من أنباء الساعة ولقاء الله، والجزاء والعقاب ... فماذا كان ؟
"فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)"

" طَّاغِيَةِ "و  " عَاتِيَةٍ " ... كلمتان قارِعتان جديدتان في جوّ هذه السورة الرّهيبة ... في خضمّ هذه الحقيقة المروّعة الثقيلة الآتية لا محالة، المتحققة لا ريب..."الحاقّة"  ...
أهلِكوا لما كذّبوا... أتاهم عذاب الله سبقا في الدنيا قبل الآخرة، كذّبوا بعذابه الحقّ في الآخرة، فأذاقهم عذابا في الدنيا، قبل أن يَلْحقهم عذابٌ أكبر وأخزى في الآخرة... !

ثمود كذّبوا برسولهم وبالناقة المبصرة، وعقروها وقد توعّدهم الله أن يأخذهم بعذاب إن هم مسّوها بسوء: " وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ" –هود:64-
و" لَا تَمَسُّوهَا " لمنع أن يُلحقوا بها أقلّ ضرر أو سوء...
فجاوزوا الحدّ وطغوا، وألحقوا بها أكبر الضرر إذ عقروها، استهزاء بأمر الله وتجرُّؤاً عليه : " فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) "
فكان وعيد الله لهم حقّا متحقّقا ذاقوا وبالَ استسهالَه وتكذيبه:   "فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)"-الأعراف-

الرّجفة التي أخذتهم من هَوْل  الصّيحة العظيمة التي أتت عليهم...
كانوا ينحتون من الجبال بيوتا حتى سُمُّوا أصحاب الحِجر، وقد اتّخذوا الجبال حِجرا لهم وحصنا حصينا دون القوارع والنوازل، ظنّوا  أنه ما من متحصّن تحصّنهم... اغترّوا ...أمِنوا مَكْر الله، وقد طغوا، فاستغنوا، فكفروا... فإذا بصيحة تهلكهم... صيحة كانت أقوى من الجبال ... !!

فذاك إهلاكهم بـ "الطَّاغِيَة" من جنس طغيانهم ...
"وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)"

وفي شأن قوم عاد تفصيل أكبر، تتخلّله المخاطبة بالرؤية : " فَتَرَى "  "فَهَلْ تَرَى"   ... لتجدَك في قلب الحَدَث، وكأنك الحاضر بين يَدَي عذابهم العظيم، تراهم بعينك ...تُعايِن الأهوال ... !
وقد عُرِفوا بالقوّة والشدّة، حتى زهوا بشدّتهم، واعتدّوا بقوّتهم، واغترّوا، فما رأوا لهم من نِدّ ولا قبيل : "فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً  أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ"-فصّلت:15-
كما كانوا جبابرة معتدين : "أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)وتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(129)وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ(130)" -الشعراء-
وهكذا كان العذاب النازل بهم من جنس ما كان منهم من استكبار وعتوّ :
" فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ "
سبحان الله ! سبحان العظيم القويّ القدير ... !

تحضرني آيات من سورة القلم حيث بيان استدراج الله لعباده  وهم في غفلة : "سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ" ... وأذكر كيف مضى قوم عاد في عتوّهم، وسدروا في غفلتهم حتى قالوا في عارِض العذاب الذي قارب أوديتهم : " فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا "
من حيث حسبوا أنّهم المنعَّمون أبدا، وهم الذين لم يعرفوا لنعمة الله قدرَها، وأصرّوا على تكذيبهم لرسول الله، جاءهم العذاب وهم بعدُ يحسبونه النّعمة .. من حيث لا يعلمون... !

يَهْلَكُ هؤلاء العُتاة المستكبرون بريح عاتية... شديدة ... !
لكأنّي بهم وهم يصارعون تلك الريح...!  بُناة المصانع، ومُشيّدو المعالم الشاهقة، الذين كانوا يحملون بأيديهم، وعلى كواهلِهِم ثقيل الموادّ والحجارة، وما كانت تُعجِزُهم... !
هي ذي اليوم ريح ...! هواء يتحرّك بقوة، فما يملكون به بطشا، كعادتهم بالبطش والسّطو ...ريح صرصر، شديدة البرودة... !
الأقوياء الأشدّاء، العُتاة تغلبهم الريح... ! الريح المسخّرة عليهم من ربّها  ...

وهم أولاء... وكأني بهم يصارعونها بكل قوّتهم، وهم في ذُهول وحيرة ...في تقلّب، وفي شدّة وهول...! لا يفقهون من الأمر شيئا، تصطكّ أسنانهم، وترتجف أوصالهم من بَرْدها، وتتقاذفهم من شدّتها ذات اليمين وذات الشمال ...أنحنُ نحنُ ؟!
أين ذهب اعتدادهم بقوّتهم : "وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً  "... !
إنّ ريحا سخّرها الله عليكم لأشدّ منكم قوة ... !
إنهم ليُصارعونها سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوما...هكذا يذوقون العذاب أياما متعاقبة، لا ينقطع عنهم، الليل كالنهار، ليل النائمين المطمئنّين ينقلب عليهم عذابا وفواجع وأخذا من الله شديدا ... ! فمن يُفجَع منهم في قريب لا يلبث إلا قليلا ليُفجَع في غيره وغيره، ولا يلبث إلا قليلا ليلحق بهم... !

ليال وأيام حسوم، تتوالى عليهم لتحسم أمرَهم الواحد تلو الآخر، والجماعة تلو الجماعة، وهم ينظرون إلى أنفسهم تذهب قطعة فقطعة، وهم يُحاط بهم، فلا يملكون من أمر الله فِرارا... !

أيّ عذاب ... أيّ عذاب هو عذاب الله لعباده المستكبرين في الأرض ؟!!
أيّ قوّة هي قوّتك أيها الإنسان الذي تُسلَط عليك ريح بأمر الله فلا تملك لها دفعا ؟! ولا منها فِكاكا ؟ !
 بل إنها التي يزيد الله سبحانه فيصف فعلَها فيهم: " فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ(8)"
"صرعى" ...  إنها الكلمة المحدّدة بذاتها التي جاءت لتشي بأنها كانت المصارعة، مصارعة أولئك الجبابرة العُتاة للريح أياما وليالي... !

تعوّدوا البطش بالناس وإهلاكهم والتجبّر عليهم، ولم يَدْرُوا أنّ ريحا لا تقوم لها أرجل على الأرض، ولا تملك يدا باطشة، ولا سلاحا بتّارا، ستفتِكُ بهم، وتذرهم في عذاب تتعاقب عليهم أيامه ولياليه... !

إنّهم صرعى ... كأنهم أعجاز نخل خاوية ... كأنهم جذوع نخل ...
لا رؤوس... بقيت أسافل أبدانهم دليلا عليهم ... !! قُطِعت رؤوسهم، فكانت "الحُسوم" بما تحمل من معنى القطع في الحُسام البتّار...
أولئك الذين رفعوا رؤوسهم علوّا في الأرض واستكبارا على خلق الله، وتباهيا بقوّتهم ...إنهم اليوم بلا رؤوس ... أعجاز نخل...!! جذوع نخل، بل  أكثر ... إنها خاوية...  مفرغة، صفِرَتْ فيها الريح حتى أفرغتها مما فيها ... ! حتى بلغت قعرَها: "تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20)" -القمر-

أليس سبحانه قد أشار إلى أنها الرؤية بقوله : "فتَرَى الْقَوْمَ..."
بلى يا رب... إنها لرؤية ...! وأي رؤية أوضح وأبيَن مما هو ماثل لأخيِلتنا مثول الشيء للعين المبصِرة بهذا التصوير الدقيق البديع ... حتى إنّ الأوصال لترتعد فَرَقاً من هذا الهول الذي أحاط بهم... ! والألسنة تتلوّى، لا تجد أدقّ من وصف القرآن لمآلهم ... !

"فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ" ...

لا يا رب... لا نرى من باقية ... وأي باقية في هذه الأشلاء ؟!
الرؤوس وقد تطايرت حتى كأن لا وجود لها في مصرع الصرعى، لم تُذكَر ... وكأنك لا تشهد إلا أجسادا بلا رؤوس، أجسادا مفرغة من أحشائها، منقعرة  ... أعجاز بالغٌ تجويفُها القعرَ منها... !

وعلى هذا تعود بي هذه المصارع، وهذه القوارع إلى وصفه سبحانه تكذيبهم بالآخرة بـ : "القَارِعَة" ... لكأنّ هذا الاسم تحديدا بما فيه من قرع للأسماع وللقلوب، جاء بمكانه المحدّد لما قرعتْ به هذه الأهوال والعذابات أنفُسَ القوم ... كذّبوا بالحاقّة، بالقارعة التي تقرع القلوب والأسماع، فحلّ بهم ما قَرَعَ قلوبهم وأسماعهم قبل حلول يوم القارعة ... !

ويْكأنّنا عايشْنا أطرافا من يوم القيامة، ونحن نشهد هذا العذاب العظيم الذي ألمّ بمن استكبر في الأرض، وعتا عن أمر ربّه   !
إنّه سبحانه يُرينا طرفا من عذاب أصغر، شهِده مَن شهِده  في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر، لعذاب الحاقّة أكبر... !
هكذا لنعيش طرفا من أهوالٍ هي أكبر وأعظم، في جوّ سورة رهيبة مهيبة عظيمة ... كلّ جوانبها تنضح بالقوّة والشدّة، وعتوّ أمر الله فوق كل عاتٍ، وطغيان أمره فوق كلّ طاغٍ ...تقرع القلوب، وتزلزل المشاعر ... !
 
ويستمرّ القرع، وتستمرّ النوازلُ ... ويذكّر المولى عزّ وجلّ بمَن كان على شاكلة قوم عاد وثمود في التكذيب والصُّدود، وكيف كان مآلُهم في آيتَين جامِعتَين شامِلتَيْن :
"وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ(09)فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً(10) "

فرعون الذي تكبّر هو الآخر وتجبّر في الأرض حتى قال لمَن حوله : "أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى" ، ومَن قبلَه من الأمم التي كذّبت برسل ربّها، والمؤتفِكات (من "ائتَفَكَ" بمعنى انقلب، ائتفك البلد بأهله: انقلب وصار أعلاه أسفله ) هم قوم لوط عليه السلام الذين انقلبت عليهم بأمر الله  لمّا طغوا: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ"-هود:82-
كلّهم جاؤوا بالخاطئة... الخاطئة التي يفصّل الله فيها بقوله: " فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً " ..
كلٌّ منهم عصى رسولَ ربّه، فأخذهم الله أخذة بالغة في الشدّة والقوة... أخذة أتت عليهم وأهلكتهم، فلم تُبقِ لهم من باقية ...
« آخر تحرير: 2020-11-27, 16:24:43 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وهكذا سبحانه سخّر طبيعتَه عذابا على عباده المكذّبين الطاغين... !

وليس بعيدا ولا مستحيلا في حقّ الله تعالى أن يرسل عذابه على عباده في كل زمان كما شاء وكيفما شاء، وليس لأحد أن يجزم بقَصْر هذه العذابات منه على أقوام سابقة، وأنّها التي لم يعد زمانُها ...

ولا يَبعُدُ أن تكون بعض الكوارث الطبيعية عذابا وغضبا من الله تعالى  ... وليس في إغراق الماديّين والطبيعيّين ومَن يُسمَّون العقلانيين في إضفاء تفسيرات علميّة بحتة صمّاء على تلك الكوارث ما يَنفي أن تكون مع طبيعتها وأسبابها العلميّة غضبا من الله ...
بل إنّ المؤمن وهو يفهمها علميّا لا يُنقِص من فهمه أن يجعل فيها احتمال الغضب والسّخط من الله، بل إنه بذلك يفتح لنفسه بابا من أبواب التذكّر، والخوف الواجب من جلال الله وعظمته وطلاقة قدرته، يفتح باب الفرصة التي قلنا أنها الحُظوة التي تُولَد من رحم المصيبة ... الفرصة التي تجعله يتذكّر، ويُعظِم قدرة الله، وهو يتذكّر عذاباته التي نزلت بعباد له في أزمنة سابقة ...وأنه القادر على إنفاذ أمره بعذابه كيفما شاء ومتى شاء ...

ليس من نكير على مَن يضع احتمال غضب الله تعالى في كوارث طبيعية عرفنا منها في عالمنا الكثير، أتت على بشر كثيرين، وأهلكت زرعا وحرثا ... بل هو التفكير الذي يميّز المؤمن، وهو الاعتقاد الراسخ عنده أن كل حركة للطبيعة وكلّ عمل فيها هو بأمر خالقها الذي يسخّرها للعبد متى شاء، كما يسخّرها عليه متى شاء... !
 
وقد يتعلّل بعضُهم بأنّ عذاباته سبحانه التي ذكرها في القرآن نزلت تزامنا مع رُسُلٍ بلّغوا فكُذِّبوا، فتوعّد الله الأقوام، فتحقق وعيده... لأذكر ها هنا ما عرضنا له قريبا في سورة المُلك، قصة أصحاب الجنّة الذين لم يُزامنوا رسولا، ولم يكن العذاب الذي نزل بهم وعيدا مسبقا كذّبوا به فتحقّق، بل لقد كانوا مؤمنين... ولكنهم سدروا في الغفلة نائمين حتى أيقظتهم المصيبة، وانتبهوا أنّ سبب نزولها بهم غضب من الله دونما نبيّ مبعوث فيهم ينجو هو ويهلَكون، لم تجنح عقولهم إلى أنها من فعل فاعل ترصّد بجنّتهم العظيمة وأراد بها شرّا فأنفذه، ولا أنّ مارّا عابثا عبث بنار فألقاها حتى أتت عليها، ولا ذكروا أهل حسد ممّن يعرفون تمنّيهم زوالَها عنهم،  كما يفعل الكثير من المسلمين اليوم كلما حلّت بهم مصيبة عزوها إلى عين حاسد أو إلى قلب حاقد. بل إنهم فورَما رأوها أقرّوا بأنهم الذين حرمهم ربّهم من ظلمهم، ولقد كان ما عرفوا حقا أنزله الله في كتابه الأخير على نبيّه الخاتِم ذكرا إلى يوم الدين  .. لقد حظوا بالفُرصة... وأنابوا... !

وكذلك حالُنا ... وكذلك ما يجب أن يكون منّا من تفاعل مع كوارث الطبيعة، ألا ننكر عِلْمِيّة أسبابها وألا ننكر بالمُقابل احتمال أن تكون غضبا من ربّ السماوات والأرض، بل إنه  من الخطر ألا ننتبه ...! والأرض اليوم تعجّ وتكاد تضجّ بالبشر وهم عليها يتجرؤون على الله، ويعتَدُون، ويعتون... !

وليس الغضب منه سبحانه بحِكرٍ على كافر دون مؤمن، بل إنّ المؤمن أحرى أن يكون المحتمِل لغضب الله تعالى، فلا يستثني نفسَه، وهو يُقِرّ بتقصيره وغفلته، ويجعل من تذكّره ذاك بابا للاستدراك والعمل ...! حريٌّ بنا أن نتعلم من سورة القلم، من قصة أصحاب الجنّة التفطّن والاستفاقة، وأن يكون قولنا عند الكارثة الطبيعية : "سبحان ربّنا إنا كنّا ظالمين"

ونمضي مع الحـــــــــــــــــــاقة ...

"إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)"

من بعد ذكر عذابات عاد وثمود، وسائر المكذّبين من الأمم السابقة، بما فيهم فرعون والمؤتفكات وغيرهم ... يذكّر الله عباده بنعمة جليلة عظيمة من أكبر نِعَمِه عليهم، لتُقابل هذه النعمة ما سبقها من عذاب :
"إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) "

خطاب لعموم الناس، لعموم البشر، عن إنعام الله على نوح عليه السلام ومَن كان معه على السفينة بالإنجاء من طوفان الماء الذي عمّ الأرض، وهو الإنعام على البشرية كلّها من خلالهم، وكائنٌ خِلاف حول ما إذا كان الطوفان قد عمّ الأرض كلها، أو أنّ المعنيّ بالأرض أرض قوم نوح دون غيرها ... ولكنّ هذه الآية تحديدا تعطي إشارة قوية جدا إلى أنّ الطوفان -على الأرجح- قد عمّ الأرض كلّها، فكان بذلك سيدنا نوح عليه السلام الأبَ الثاني للبشرية من بعد آدم عليه السلام.

لما طغى الماء حملناكم في الجارية، في السفينة: " وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ" ...
كان هَوْلا عظيما، فطغى الماء، وغشّى الأرض... كان الموج كالجبال  ...جاوز كل الحدود، لولا أن تداركت أهلَ السفينة نعمةٌ من ربّهم لما بقي على الأرض من بشر ...
إنه الامتنان من الربّ سبحانه على عباده، أنه الذي أنجاهم بتنجية آبائهم على السفينة ... وهو خطاب لكلّ البشر لا على وجه التعيين ولا التخصيص (حَمَلْنَاكُمْ + لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً)  مما يرجّح فعلا أنّ الطوفان قد عمّ الأرض كلها ...

وما أشدّ مناسبة مجيئ هذه الآية في هذا المقام، من بعد ذكر العذابات العظيمة ... إن الله تعالى لم يخلق عباده ليعذّبهم، إنه سبحانه صاحب المنّة عليهم، وصاحب الفضل... إنّه خلقهم ليعبدوه وليوحّدوه وليقضوا على الأرض ما شاء الله لهم أن يقضوا وهم في ابتلاء وامتحان، ينتهي ليحلّ موعد  الجزاء ...

إنّ هذه الآية لَتومئ وتشير بقوة إلى أنّ الدنيا فرصة للعمل، فرصة للنجاة من عذاب عظيم في يوم يتحقّق فيه الوعد والوعيد، يوم الحاقة ...في يوم لا عمل فيه، ولا فرصة فيه للعودة وللعمل ...
وأيّ قوة لتلك الجارية تقارع بها جبال الأمواج لولا رحمة الله وقدرته، وهو المنجّي والقاضي بما يشاء... !

"لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ"
إنها التذكرة بمِنن الله ونِعَمِه، وبفضله على عباده، وبإنجائه لهم متى يشاء، وكيفما يشاء، وأنّ الإيمان كما كان سبب نجاتهم في الدنيا، فهو سبب نجاتهم في الآخرة... ثم إنّ المخاطَبين هم أبناء النّاجين في السفينة، هم السلالة الممتدة منهم والمنتشرة على الأرض...
أنتم أيها الناس بشِراركم وخِياركم، بالمؤمن منكم والكافر، أنتم سلالة المؤمنين النّاجين الذين كان الإيمان سببا لنجاتهم ... !
الإيمان كان الأصل في آبائكم الأولين ... الإيمان جذوركم الضاربة في الأرض ...المتّصلة بالسماء... ! الإيمان هو الذي خُلِق به الإنسان فِطرة، وهو الذي نجا به من أهوال الدنيا قبل أهوال الآخرة ... وها أنتم أولاء تستكبرون، وتستمرؤون، وتتمرّدون على فطرتكم وعلى أصلكم وجذوركم،  كالنّبتة الطفيليّة التي تنبت شاذة، وتتكاثر فتحسب أنها الأصل ... !

و "أُذُنٌ وَاعِيَةٌ " ... دقيقة هي هذه العبارة أيّما دقّة  ... أستصحب لها ما عرفنا في سورة المُلك، في شهادة الكافرين على أنفسهم يوم القيامة وهم يُلقَون في النار : "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ "
 " لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ " ...  سماع أذن واعية، أذن تعي، أي تجمع ما تسمعه وكأنها الوعاء له، فلا تضيّعه، لا تجعله ينساح منها انسياح الماء من وعاء مخروق ... بل تعيه، فتمتلئ به وبأنواره فتنجو ... !

فإن كانت عذابات عاد وثمود وفرعون والمؤتفكات وقوم شعيب وغيرهم عظيمة، وإن كان أحدنا يُكبِرُها، ويتعجّب من الحياة بعد إهلاك كُلّيّ لتلك الأمم ... فإنّ الطوفان كان أشمل... كان أكبر... ! طمّ وعمّ .... ! ولكنّها لم تكن النهاية ... !

طوفان عظيم أحاط بالأرض، وعمّها، وطغى ماؤه، حتى لكأنّها نهاية الدنيا بأكملها من هوله، ومن ضآلة الأرض وهو عليها يطغى... وتعود الحياة للأرض من جديد بقدرة القدير سبحانه وبمشيئته، وبقضائه فيها.... !
 لم تكن النهاية ... بقي على قيد الحياة ما يُعدّ عدّا من البشر، ولكن تعود الأرض بهم عامرة من جديد، من بشر كانوا يُعدّون قلّة القلّة ... !

إنها لتذكرة... وإنّ الأذن لتعي عظمة أمر الله فيها ... !

لم يحن أوانُ النهاية بعد ....  ولكنّه آت آت .... فمتى  هو ؟؟!

لا موعد يحيط به البشر خُبرا ... ولكنّ المولى سبحانه يلقي بعلامات له...
إننا ننتقل  من الأرض العامرة بعد الطوفان الطامّ العظيم، من الدنيا التي على رغم العذابات التي نزلت لن تنتهِي إلا بأمر الديّان وحده ....

فـــــــــــــــــــــإذا :
"فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا  وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)"

ها هنا .... عند هذه الأحداث ... عندها تحقّ الحـــــــــــــاقّة ... !

" نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ " ..."واحدة" هنا تعني أنها الكافية لما يُراد منها، وليس معناها أن لا تالية لها، فنحن نعلم أنّهما نفختان، الأولى نفخة الصعق  للإيذان بنهاية الدنيا وفناء مَن على الأرض وما عليها، أي بموت كل الخلائق، والثانية هي المؤذنة بالبعث ليُبعث كل الموتى للحشر والحساب  :
"وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ  ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ"  -الزمر:68-

ويُرجّح هنا أنّها النفخة الأولى، لمناسبتها للاحق الآيات ... نفخةٌ وُكِّل بها المَلَك منذ أن قضى الله تعالى أمر الدنيا : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أن أعرابيا سأَل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ما الصُّورُ ؟ قال : ( قَرْنٌ يُنفَخُ فيه )" -صحيح ابن حبّان-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن طرْفَ صاحبِ الصورِ منذُ وُكّلَ بهِ مُستعدّ ينظرُ نحو العرشِ ، مخافةَ أن يُؤمَرَ قبل أن يَرتدّ إليهِ طرفهُ ، كأنّ عينيهِ كوكبانِ دُرّيانِ" –الألباني: السلسلة الصحيحة-

قد حان الأوان ... !
إن الدنيا إلى ذهاب... ! إنها إلى زوال... ! إنّه أمر الله فيها، وإنه إذنُه، وإنه قد حان أن يعلمَه البشر وهي تحتضر... !
نفخة واحدة تُنهي الدنيا، وليس ذلك إلا من هوانها على خالقها سبحانه، تكفيها واحدة... !!

أين الأرض؟ أين الجبال ؟ أين السماء ؟ ... أين ما ألِفنا وعرفنا ؟! إلى أين ؟!
"وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً"

يا الله ... يا عظيم ... !!
حُمِلت الأرض بجبالها، وكأنها الكرة الصغيرة التي تُطاوِع يد الطفل الصغير...! حُملتا فدُكّتا دكّة واحدة... واحدة هي الأخرى، دكّة واحدة... ! دقّة واحدة صيّرتهما هباء ... !

تلك التي استكبرتَ عليها أيها الإنسان، وعتوتَ، وتجبّرتَ، وظلمتَ، وعددتَ مالَك عصاك التي تهشّ بها على الناس لينساقوا لأمرك... ! لا شيء غير أمرك ... !
تلك التي استعليتَ فوقها حتى قلتَ : "أنا ربّكم الأعلى" ...
عليها رفعتَ رأسك عاليا، وقلت لا إله والحياة مادّة، وعليها قلتَ أنّ الأخلاق ابتداع من ابتداع البشر، وأنّ الخُلُق واللاخُلُق سواء، وأن الإجرام والإسلام سواء، وأنّ العُري والتستّر سواء ...  بل إنّك تدّعي التسوية بينهما، بينما أنتَ المنادي بإعلاء الفساد في الأرض شعارا لك ومنهاجا ... !
عليها... ! على تلك المدكوكة والجبال دكّةً واحدة، خِلْتَ نفسك الأشمّ والأرسخ، وأنّها لن تميد بكَ، ولن تمور ما دمتَ عليها تصول وتجول ... !

عليها كذّبتَ الرُّسُل، وتأفّفتَ من الوحي وعبستَ وبسرتَ وتولّيتَ، ثم قلتَ: إن هي إلا أساطير الأولين ...!
عليها ... تلك التي تكفيها نفخة واحدة، ودكّة واحدة من أمر خالقها وخالقك عليها، تشرّفتَ بلقب العلمانيّ والتحرّري والليبرالي والشيوعيّ، وأزلقتَ ببصرك وقلبك الكَارِهِ الحقود كلّ مَن قال بالإسلام قولا أو عمل به عملا ...! وعددتَه الإرهابيّ الدمويّ، وأنتَ بالمقابل تركع وتسجد لمصّاصي الدماء وهم يتوشّحون بالعُرْي والتحرّر من الدين والتطوّر المزعوم فِكرا وعملا ... !

عليها قتلتَ، وأرهبتَ، وسجنتَ بسلطانٍ خوّله لك أسيادٌ أنت لمآربهم قاضٍ بامتياز، لتحفظ لهم خيرات أبناء جلدتك، ولتتقاضى من أياديهم النّجِسة دُريهمات ولتبقى صورة ودُمْية يحرّكونها بخيوطهم، ولكنّها دُمية يُدّعى لها كرسيّ من ذهب... !

عليها ... شطحتَ ومرحتَ وسرحتَ تدّعي تجديد الدين، وأنت تقطّعه إربا لتُلقي به فُتاتا على شباب تصيّدتَ لَهْوَهُ وانبهاره بالماديّات وغلَبة الشهوات عليه، فصدعتَ أن يا أيها العطشى قد جئتكم بماء معين !! تريد أن تزيد من غرق الغريق وأنت تدّعي امتلاكك لقشّة النجاة ...! تريد وأمثالك أن تصنع دينا مِطواعا للأهواء على اختلافها وتباينها ... !

هي ذي الدكّة الواحدة ... فأين أنتم يا دعاة الإلحاد، وأنّ الكون موجِد نفسه بنفسه ... ويا دعاة "الجينِ الأنانيّ"، ويا دعاة "نظرية التطوّر والارتقاء والانتقاء" ... ! وأنّ الكون من خليّة أوجدت بنفسها نفسَها... !!

إنها الدكّة الواحدة ..... إنها الحـــــــــــــــــاقّة ....

"فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)"
ليس لوقعتها كاذبة ... إنها الحاقة، وإنها القارعة، وإنها الواقعة ...
كلها اجتمعت في هذه السورة، كل هذه  أسماء لمسمّى واحد، وكلّها حقّ، وكلّها وعد غير مكذوب ...

"وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا  وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)"

هي ذي السماء التي تظلّك أيها الإنسان ... ! إنها هي ذاتُها التي قال فيها المولى في أوان الدنيا: "فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ(3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)" -الملك-

لم يكن فيها من فطور... كانت المرفوعة بلا عمد ... ! فإذا هي اليوم المنشقّة المنفطرة ...ويالعظمة أمر الله وهي المنشقّة يوم تنتهي الدنيا، فهي لا تقع كِسفا على الناس ! بل هي المنشقّة وانتهى ... !
إنها اليوم واهية، ضعيفة بعد أن كانت القويّة الشديدة المرفوع سمكها  ... !
وعلى أرجائها المَلَك، جند الله وخَدَمَته المطيعون، كل الملائكة أو عدد منهم ذلك في علمه وحدَه، ليقع لنا شيء من التخيّل، أنّها المحاطة بالملائكة ... !

سيأتي يوم الحاقة، يوم يتحقّق كل ما أنبأنا به القرآن، يوم نرى كلّ هذه الأهوال،  ...آتٍ هو آت...فنسأله سبحانه أن نراها ونحن من المطمئنّين  ...

وفوق الأهوال والأهوال ... انظر... فإنك ستراه .. إنك ستراه حقا :
"وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ"

فوق الملائكة المحيطة بأرجاء السماء، عرش الملِكِ سبحانه الرحمان، يحمله ثمانية من الملائكة، أو ثمانية صفوف منها... !
إنه ما لا يُقدّر ولا يُتصوّر، ولكنّ القرآن يحيطنا علما بالحق الذي هو كائن يومها ... يعرّفنا بعلامات لذلك اليوم الحقّ العظيم ...وكله من الحقّ المتحقّق يوم الحــــــــاقّة  ... !

يضعنا سبحانه في إطار من تبدّل حال الأرض والسماء، ومن انكشاف الملائكة للأعين يومها، فهم المُبصَرون من البشر وهم بأمر ربّهم يأتمرون ... لينقلنا إلى حال الناس في خضمّ تلك الأهوال، وأصحاب اليمين منهم هم الأول ذكرا  :

"يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ "

ما أدقّ هذا التعبير القرآنيّ الجليل:" لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ " والخافية هي اسمٌ لما يخفى أصلا فلا يظهر... ولكن كلّ خافية للبشر في ذلك اليوم ظاهرة فلا خفاء .. ما تخفيه الصدور، كتب الكاتبين الحافظين لأعمال الناس... كلّها لم تعد تخفى...إنه يوم الحقيقة، يوم الكشف عن كل مستور، يومَ يُذهَل الإنسان من انكشاف أدقّ دقائق شأنه ... فكتابه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها  ...
« آخر تحرير: 2020-11-27, 16:30:48 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)"

إنه حال الأتقياء، الأنقياء، الثابتين على درب الحقّ الذين لم يبدّلوا ولم يغيّروا، الذين نجحوا في ابتلاء الدنيا، وأيقنوا أنّ للكَوْن ربّا إليه الرُّجعى، فما استغنوا، وما تجبّروا ... ما أن يمسّهم طائف من الشيطان حتى يتذكّروا ويذكروا، فيعودوا... ! الشيطان الذي يعيد مع كلّ إنسان وسوسته لآدم بشأن الشجرة الواحدة التي نهاه ربّه عنها بين لفيف شجر الجنّة: " ...وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ "-الأعراف: من الآية20-
فهو عبر الأزمنة والعصور-دونما ملل منه أو كلل- يُلقي بأوهامه وأباطيله وكذبه إلى كل بني آدم، ليُصوّر لهم أنّه الناصح الأمين، وأنه الدالّ على النعيم، وأنّ كلّ ما نهاهم عنه ربّهم من ملذات الدنيا وشهواتها، وبحر زينتها المُغرِق إنما هو شجرة الخلد والملك الذي لا يبلى... !

أما هؤلاء المُؤْتَوْن اليوم كُتُبهم بأيمانهم، فهم الذين عاشوا مستنيرين بهُدى القرآن وقد حذّرهم اتّباع خطواتِه،  فما اتّخذوه يوما وليّا من دون الله، وما كان عليهم من القادرين... ! إنهم الذين اغتنموا الفرصة، ولم يضيّعوها بحُسبان الخلود الموهوم، سُرعان ما كانوا  يؤوبون ويعودون، كانوا يرون في المصيبة المُرجِعة رحمة ومَقْرُبَة  ... !

هو ذا المُؤتى بيمينه كتابه  .... هو ذا السعيد حقا ... الفائز حقا حقا  ... !

فكيف لا يسعد، وكيف لا ينادي فرِحا مسرورا : "هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ" ... !
اقرؤوه... فهو الكتاب السعيد المُسعِد،  اقرؤوه فهو نتيجة امتحاني... إنه شهادة نجاحي ... !
اقرؤوه......  "إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ"
وإنه الظنّ الذي يعني اليقين، وكلّ ظنّ المؤمن في القرآن يقين، وكل ظنّ الكافر فيه شكّ  ...
إنه الذي تيقّن من يوم الحساب، فما أنكره وما أنكر الخالق الباعث سبحانه، وما أنكر الحساب والجزاء، بل تيقّن أنّ كل ذلك حقٌّ كائن، حتى فاز يوم الحــــــاقّة، يوم وجد ما وعدَ ربُّنا حقا... فهو ذا يَلقى شهادة نجاحه جزاء وِفاقا ليقينه في الدنيا... !  فيا ربّنا نسألك اليقين ثم اليقين ثم اليقين ... !

لكأنّي بتلك النهايات المتوافقة المتكرّرة في كلماته وهو يركض سعيدا، وهو مقبل على أحبّته يبشرّهم... يكاد يطير فرحا وسرورا ... !
لكأني بحرف الهاء في نهايات الكلمات يزيد في بيان حاله التي لا يدانيها حال...! كيف لا وهو الفوز العظيم الذي ما بعده شقاء ولا عناء، ولا خوف ولا تحسّب، ولا عمل...لا عمل...بل نعيم ... وحده هو النعيم... !
ومن بعد ما أطلعَنا سبحانه على فرحة السعيد الفائزة يمينُه بالكتاب... من بعد ما تمثّلت لنا فرحتُه العارمة، وكأننا نبصرها كعادة القرآن في التصوير ... هذا الله سبحانه يزيدنا شوقا وتَوْقا لذلك المصير البهيّ، فيحدّثنا عن عيشة السعيد الأسعد :

"فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)"

عيشة مُرضية تمام الإرضاء حتى انقلبت هي الراضية ! انقلبت هي الفاعلة مع صاحبها، فهي راضية، فكيف بصاحبها وهو فيها، راضٍ وراضٍ حتى غدا فيها وهي الراضية ...! في جنّة عالية المكانة والمكان، دانية القطوف ذات الألوان والألوان  .... فلا يسعك وأنت تسمع هذا، إلا أن تقول قولة المهنّئ المتمنّي لتلك الهناءة : هنيــــــــــــــــئا هنـيييييييـئا...!!

وهذا المولى الكبير العليّ جلّ في عُلاه يقولها لأصحاب الجنّة، فهي تمام نعيمهم، وذُؤابةُ سعادتهم "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ" ...
إنما هو التفضّل من صاحب الفضل سبحانه على عبده، وهو يجعله الحقيق بالجنّة بما أسلف من عمل صالح في الدنيا، بينما الأصل أنّه لا يُبَلَّغُها إلا برحمته سبحانه. قال صلى الله عليه وسلم : " ما مِن أحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الجَنَّةَ فقِيلَ: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي برَحْمَةٍ."-صحيح مسلم-

فلا شيء ممّا يُكدّر عادةً سيُكدّر على هذا السعيد فرَحَه ... حتى حال الشقيّ التعيس المرتكس، لن يعكّر عليه صفوَه، لن يُنْقِص ما هو لاحقٌ به شيئا من سعادة السعيد التامة المُتَمّة ...
وانظر... ولا بدّ أن تنظر لتزداد تعلّقا في الدنيا بكل عمل يجعلك أهلا لمصير أهل اليمين...
هذا الآخر هائم على وجهه يصرخ ...يصيح ...!! قد أيقَنَ أنّ الأمر فيه قد قُضي، وأنه الفَوْت ثم الفَوْت -عياذا بالله من عاقبته-

"وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)"

تمنّى لو أنه لم يُؤتَه... وهذا ما لن يكون، بل هي الحاقّة ... !!
الحاقة التي كذّب بها، وقال في حقّ مَن جاءه بنبئها اليقين، إنْ هي إلا أساطير الأوّلين، قالها عتُلُّ ذلك الزمن القديم، كما قالها ويقولها كلّ عُتُلّ في كل زمان ... كلّ من رأى في القرآن ونبئِهِ العظيم شيئا من القديم، ومن العتيد، ومن الذي لم يعد يصلح ... بتلك الكلمات ذاتها أو بأخرى تحمل معناها... !
كلّ من يضجر إذا ذُكِر القرآن وذُكِر الدّين، بينما لا يضجر ولا يضجّ ولا يسأم وهو يردّد فلسفات المتفلسفين، وهم يدّعون الحكمة فيما يُنكِرون مُؤتِيَها مَن شاء من عباده سبحانه ...! لا يضجّ بوضع كل وضّاع من البشر لقانون بين القوانين يغدو أيديولوجيا وفِكرا متّبعا، له أنصار ومسبّحون بحمد صاحبه الفلتَة... !

هي ذي الحاقّة يا من كذّبتَ بحقّها ... هي ذي، وأنت ذا  ... فلا نراك إلا الصائح الصارخ الذي يفتّته النّدم إرباً إربا قبل أن تفتّته نار الخلود ... !!
لا ...لا بل هي التي يتمنّى فيها لو أنّه قُضي عليه وانتهى، بينما هي التي فيها العذاب المتجدّد، والحياة بأنفاس العذاب ...!! اللهم عفوك وسلامتك، عفوَك وسلامتك... !
تمنّيتَ ما لم يكن ليتحقق، وكذّبتَ بالمتحقّق ...!

تمنّى لو أنه لم يدرِ عن حسابه شيئا، تمنّى لو أنه لم يعرف مآله ...تمنّى لو أنه كان لا يفهم .... ذهب عنه اعتداده بعلم أو بفِكر.
آه...!!!  يا ليته كان لا يفهم ...!  "يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ"
يا ليت المَوْتة التي ماتها كانت القاضية، فلا بعث بعدها لينال جزاءه، وليحيا حياة عذاب لا ينقطع ...! يا ليت الموت الذي لم يكونوا يتمنّونه في الحياة الدنيا كان النهاية التي لا شيء بعدها ...!! إنه اليوم الذي يغدو فيه الموت غاية الأماني !!

وما يزال يصرخ .... ما يزال يُوَلْوِل  : "مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ  (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)"... !

لقد أقرّ .... إنه ما من شيء بين يديه، وما من شيء هو مُغنيه عن عذاب الله ... !

والسلطان ؟!!! ... أين الحشم والخَدَم ؟! أين الحاشية والجُند ؟ أين الجواري الحِسان، وأين الفُرُش المطرّزة بالذهب وبالزّبرجَد ؟!
وأين الكراسي وموائد الملوك، وأكلات الملوك ؟؟! أين المطيعون المحيطون من كل جانب ؟! .... لا شيء ........!! هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ... !!

الملك اليوم لله ...لله وحده ... فأين أمركم أيها الملوك ؟ !
هذا أمر الله سبحانه الملك الحَكَم فيه، هذا أمرُه سبحانه لملائكته المطيعين الذين لا يعصون ما أمرهم، هذا صاحب السلطان الدائم والمُلك الذي لا يُزاحَم، الآمر بالحقّ والعدل  :
"خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) "

يا ما أشدّ هذه الكلمات، يا ما أشدّ وقعها... !  ويا ما أشدّ هذا الهول ... ويا ما أغفلَنا عن اليوم الحقّ ... !!

غُلُّوه ...قيّدوه... ثم الجحيم صلّوه، قلّبوه فيها كما يجب التقليب، أذيقوه حرّها وجمرَها، من كل جانب... لا يبقيَنّ فيه جزء لا يُصلى ...!! ثم في سلسلة هذا ذَرْعها أدخلوه أتمّ الإدخال، حتى يُصلى وهو المكبّل المقيّد ... !!

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين... !

وإنه كما سبق وأن عرفنا حفاوة الله سبحانه بعباده الفائزين: " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ " هذا قوله في الخاسئين أهل التّبار والخسار من بعد ما أمر بهم ليُغَلّوا، ويُلقوا في أصل الجحيم  -عياذا بالله-
"إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)"

ما أشدّ وَقع هذه الكلمات:" إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ"
الله العظيم، الذي تتجلّى عظمتُه سبحانه في كل صغيرة وكبيرة في الإنسان وفي الكون مِن حوله، الخالق العظيم يُنكِره المخلوق الضعيف، الفاني، المُحْيَا بمشيئة المُحيي سبحانه، والمُماتُ بمشيئة المميت سبحانه ... هذا الذي يَدين له خالقه بالعبادة والعِرفان والتصديق...

لا يؤمن بالله العظيم سبحانه، ملك الدنيا وأيّامها، وملِك يوم الدين ... !
إنّه كان لا يؤمن بالله العظيم ... !
ما أبشعه من نَعت، وما أشدّ جرأة العبد على الربّ ! حسِبَ أنه لن يُبعَث، ولن يُحاسَب، حسب أنّ الدنيا وُجِدت بلا هدف، أو أنّه -كما قال في أيام حياته- إنّ الخالق قد خلق ثم ترك ... !
ثم إنّ من دواعي التعجّب ما قرنه سبحانه بهذه الجريمة النّكراء في حقّ النفس، نعتا فوق النّعت، وشناعة مُضمَّة إلى الشناعة، إنه مما قد يستبعد المرء أن يُقرَن بالكفر بالله، إنّه :   "وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ"... !!

ألهذا الحـــــــــــــــدّ ؟!!

أجل لهذا الحدّ ... الشُحّ... البُخل ... الاستئثار بالخير للنفس، ألا تتحرك مشاعر العطف والرحمة والرأفة بالمساكين والمحتاجين والفقراء ... ألا يتحقق التراحم المجتمعيّ، فيغدو مجتمعا غابِيّا حيوانيا، يأكل القويّ فيه الضعيف، ويستأسد فيه القويّ على الضعيف، ومَن كان له مال وجاه وسلطان كان من أصحاب العِلية والمبذول لهم آيات الطاعة والتبجيل، ومَن كان مسكينا، قصير ذات اليد، عُدَّ من الحثالة التي لا يُأبَهُ لها، فلا تُقضى له حاجة، ولا يُعان على نوائب الدّهر، ولا يُتقرَّب منه وهو الذي لن ينفع لا بمال ولا بذكر بين الناس ... !

إنه التراحم الذي لأجله كان المجتمع الإسلامي مجتمعا موحّدا، يهزّ بعضُه بعضا، لا يضيع فيه فقير، ولا يُترك فيه محتاج، بل تجتمع الأيادي للشدّ على يده، ولضمّه إليهم واحدا منهم لا ينفصل عن الجماعة، مجتمع لا فرق فيه بين أعرابي وأعجميّ ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى ...

مجتمع صار فيه بلال الحبشيّ سيّدنا كما هو أبو بكر الصديق سيّدنا، على قولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "سيّدنا أعتق سيّدَنا"...

مجتمع جُعل فيه إخراج صاحب المال من ماله فرضا محتّما، وركنا ركينا من الأركان، فلا يقوم الإسلام إلا والزكاة عَمد من عماده. ولهذا كان فقه الصدّيق رضي الله عنه عاليا سامقا وهو لا يتراجع عن حرب مَن قال بإلغاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مفرّقا بينها وبين الصلاة بحجّة أنّ الذي كانت تُدفَع له قد مات ... لم يتراجع قَيْدَ أنملة عن قراره بحربهم لأنه فهِم أكثر من أيّ كان ساعتَها، أنها بداية تقويض بناء الإسلام، وأنّ الحرب لأجلِها واجبة وجوب الحفاظ على الدين وعلى القرآن في الأرض ... فكانت قولتهم رِدّة، ووجبت محاربتهم عليها  ...

وهذا الكتاب الخاتِم جاء وفيه الحضّ الدائم على التّراحم، وعلى إعطاء الفقراء عطاء هو الحقّ بثقل معنى الحقّ، حتى إذا ما أخذه المسكين والفقير أخذه وهو مرفوع الرأس يأخذ حقا مكفولا له بموجب قانون ربانيّ علوّي حاكم في الكلّ بالعدل والسَويّة ...
بل إنّها العقبة التي عرف الحقّ سبحانه أنّها التي يضعها الشُحّ في النفس، فأمر باقتحامها : "فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) "-البلد-

وهكذا... وكما عرفنا من سورة القلم علويّة الأخلاق، وأنها المقياس الحقيقي للإنسانية في الأرض التي يعيث فيها أهل المال والجاه والسلطان فسادا واستكبارا، كذلك في الحاقّة يحقّ الوعد بأنّ أصحاب المرحمة هم النّاجون، وأنّ الذين لا يحضّون على طعام المسكين هم الهَلْكَى الخاسرون ... !

إنه التراحم الذي لا يجعل لإنسان على إنسان سطوة، ويمنع ظلم الإنسان للإنسان، ويمنع تكبّر الإنسان على الإنسان ... هذه هي الرسالة الخالدة التي جاءت بهذه القيمة التي تحفظ ماء وجه الأرض، ونحن نعايش عِلَلَها وأسقامَها، والقويّ فيها يقتّل الضعيف ويذبّحه وينكّل به ولا يبالي، بل يراه الحقّ الذي يكفله له قانون القوة .... قانون نظريّة التطور والجرائم التي ارتُكبَت باسمه، فأهين الزنجيّ والأسود وقُتّل أصحاب العاهات والتشوّهات بدعوى الانتقاء والإبقاء على الصفات الأرقى... !
فلا عجب بعد هذا في عدّ التراحم وإقرار العدل والسويّة بين الناس -فقيرهم وغنيّهم- بندا أساسيا من بنود هذه الرسالة الخاتِمة الكاملة ...

تُرى... ما الذي أُعِدّ لهذا الذي كان مستكبرا في الأرض، لا يعرف غير إشباع نزواته وتلبية شهواته... ولا يعنيه أمر أخيه الإنسان في شيء ؟

"فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)"

ليس له من حميم في الحــــاقّة ... هذا جزاؤه من جنس ما عمل، كفر بالله العظيم، فمَن ذا اليوم يُنجيه وينفعه، ولم يحضّ على طعام المسكين، فاليوم طعامُه غِسلين، وهو صديد الأجسام في النار عياذا بالله ...! ذاك الذي لا يأكله إلا الخاطؤون ... !!

فرُحماك يا رحمان الدنيا والآخرة... رُحماك ... ! اجعلنا من الراحمين ...
« آخر تحرير: 2020-11-27, 16:35:32 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

أما الآن فإننا بين يدَيْ أواخر هذه السورة العظيمة المهيبة ...

إنه القَسَم  ... القَسم العظيم على عظيم كعادة القَسم في القرآن  ...

"فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ  قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ  قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(43)"

وقد جاءت صيغة القسم هنا بـ : " لَا أُقْسِمُ " وهي صيغة معروفة عند العرب ويُراد بها أنّه من تمام بيانه لا يستدعي القَسَم، أو على أنّ "لا" تالية لكلام محذوف، جاء القسم مستهلّا بها لنفيه ...  كأن يقول الكافرون إنه ليس بالحق، فيأتي القسم مبتدئا بـ"لا" لنفي ذلك القول الباطل ...

"فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ  وَمَا لَا تُبْصِرُونَ"
القسم بما يبصر الإنسان وبما لا يبصر، جمعا بين المُشاهَد الذي هو تحت مجال الإبصار البشريّ، وبين الغيبيّ الذي لا يتناوله بصر البشر، فهو بذلك قسم عظيم عامّ لكل ما خلق الله سبحانه، ولكلّ ما أقرّ في الغيب عنده من ملائكته سبحانه وعرشه العظيم، ومن الجِنّ، ومن الجَنّة والنار، وغيرها مما عرفنا بالخبر ومما لم نعرف ...
و قد جاءت : "وَمَا لَا تُبْصِرُونَ" مناسبة كلّ المناسَبة لأمر الحاقّة وهي الغيب الذي لا نشهده في الدنيا ...

فعلامَ هو هذا القَسَم العظيم ؟
إنه على أمر عظيم ...بالغ العظمة ...بل ليس أعظم منه إلا مُنزِله سبحانه:
"إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ"

إنه القرآن العظيم... إنه هذا النبأ العظيم الذي هو حقٌّ كلّه، وكلّ ما جاء فيه حقّ، ونبأ الحاقّة فيه هو الحقّ المتحقق لا محالة ولا ريب  ...فجاء التأكيد بـ "إنّ " واللام في: " لَقَوْلُ " على أنه قول رسول كريم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلّغه بلسانه عن ربّه:  " فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا " -مريم:97-

وهذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يبرّئه ربّه من كل ما نعتَه به قومُه المكذّبون... ففي سورة القلم قريبا عرفناه سبحانه يقسم بالقلم وما يسطرون على : " مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ " ، ليجيئ القسم هنا بما يبصر البشر وما لا يبصرون على أنه ليس بالشاعر الذي ينظِم شعرا، وعلى أنّ الذي بُعِث به ليس شعرا:  "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ  قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ " وعلى أنه ليس بقول الكهّان الذين يتكهنون كذبا بمستقبل الناس : "وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ  قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ "

وإنه من بدائع المقامات في القرآن العظيم أن نجد قوله سبحانه : "تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ "  مؤكّدا ومتمّما، إذ لا تترك كلمات القرآن وعباراته ثغرة ينفذ منها نافذ مُغرِض ليتقوّل ويتأوّل على هواه ...
ذلك أن قَسَمَهُ سبحانه على أنه قول رسول كريم، قد يتأوّله أصحاب الأهواء والطّعن على أنّها كلماتُ محمد الخالصة، فتأتي هذه الآية لتؤكّد على أنّ مصدره ربانيّ علويّ :  " تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ " .

ويجدر بنا هنا ألا نفوّت إشارته سبحانه إلى أنّ القلّة هي التي تؤمن وأن القلة هي التي تذّكّر في قوله : " قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ" و " قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ "  ... تنويها بشأن هذه الرسالة، وبسنّة الحقّ عُموما الذي لا يتّبعه الأكثرون، بل أتباعه دوما هم القلّة...

ثم ننتهي إلى آيات فيها التحدّي الإلهيّ العظيم الذي يبيّن أيّما بيان ويؤكّد بقوّةِ الذي بيده الأمر والحُكم والتدبير، عُلويّة هذا الكتاب، وربانيّة مصدره، إذ أنّ القائل من نفسه لن يتّهم نفسه، ولن يتوعّد نفسَه لو أنّ هذا القرآن من بنات أفكار وأخيِلة محمد صلى الله عليه وسلم كما زعم المكذّبون اعتلالا بالقشّات الواهيات:
"وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)"

إنه صلى الله عليه وسلم لو تقوّل على الله " بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ"، و" بَعْضَ" هنا دقيقٌ وُرُودُهَا...  البعض منه، الأقلّ منه، لو تقوّله، لأخذه الله تعالى باليمين كناية على القدرة والقوة منه سبحانه في الأخذ... !

"ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ " والوتين هو الشِّريان الرئيسُ الذي يغذِّي جسمَ الإِنسان بالدّم النقيِّ الخارج من القلب، فإذا ما قُطع توقف القلب. إنه لن يحجز عنه عذابَ الله أحدٌ منكم، بل هو الذي يمضي فيه دون رادع من قوّة قويّ ... !

وإنها الشدّة والقوة والحزم... وأيّ شدّة، وأي قوة وأي حزم ... !

الشدّة من الله القويّ العظيم على نبيّه لو أنه تقوّل عليه سبحانه ما ليس من عنده.  لن يُترَك محمد من ربّه لو أنه كان متقوّلا عليه، بل لأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ...وإنّ تركَه له صلى الله عليه وسلم لهو من أكبر الأدلّة على صدقه... !

ولقد قالها هِرقل لأبي سفيان وهو يسأله عن أمر محمد فيهم: "وسَأَلْتُكَ، هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فقَدْ أعْرِفُ أنَّه لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ علَى النَّاسِ ويَكْذِبَ علَى اللَّهِ" –صحيح البخاري-

فإذن... قد جاء نفيُ الله تعالى الشعر والكهانة عن نبيّه، وعن كتابه أن يكون من الشعر أو الكهانة في شيء، ثم نفى عنه سبحانه الكذب في آيات بيان العقاب الذي كان لينزل به لو أنه كان متقوّلا عليه في شيء ...
وبهذا جاء النّفي القاطع لكل تقوّل متقوّلٍ في الرسول صلى الله عليه وسلم أو في الكتاب، أو في كليهما مجتَمعَيْن  ... !

فماذا بقي بحقّ هذا الكتاب بعد كل ما سلف ؟؟ إنه لم يبقَ إلا أن يكون الحقّ ... إنها الآن الآيات البيّنات بحقّ الكتاب الحق :

"وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)"

إنه التذكرة للمتّقين، لأنهم الأرض الصالحة التي تُنبِت خيرَه، فيحصد أصحابها خيرَه، وإن الله تعالى لسابقٌ علمُه بأنّه سيتصدّى لهذه التذكرة المكذّبون ... ولهذا تأتي الآية الموالية تؤكّد أن حصادَهم -وهُم الأرض البور- إنما هو البوار والحسرة : "وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِين"....

إنها حسرة ذلك الصائح الضائع الهائم على وجهه يوم الحاقّة، الذي يتمنّى لو أنه لم يُؤتَ كتابه، ولم يدرِ ما حسابه، ولو أنها كانت القاضية ...! إنها الحسرة يوم الحــــــــــاقّة يوم يرى ما كذّبوا به حقا ...فيااااا حسرتهم .... ثم يا حسرتهم ... !!!

إنه ليس إلا الحقّ ...... "وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ "

ثم إنّ اليقين علمٌ وعينٌ وحقٌّ، فأما علم اليقين فما علمتَه وبلغك خبرُه، وإنّ هذا القرآن بما فيه من أخبار وأنباء علم يقين، وأما عين اليقين فهو الرؤية بالعين، ذلك حينما نرى ما أخبرنا به ربنا بأعيننا من أمور الغيب يوم البعث، وأما حقّ اليقين فهو مُواقعة الأمر والدخول فيه، كدخول أهل الجنة الجنّة ودخول أهل النار النار عياذا بالله منها ...
إنه كل هذا ... وإنه لبالغٌ أعلى درجات الحقيقة، يوم نرى القرآن ونبأه اليقين يوم الحاقّة متحققا فهو "حَقُّ اليَقِين" ...إنّه المتحقّق والمعايَش حقا...
وهو ما يناسب السورة واسمها وجوّها وموضوعها ... وإنّ كل ما جاء فيه لحقّ اليقين .... وإنها للحــــــاقّة...
وهكذا تنتهي سورتنا العظيمة، بما فيها من نبأ عظيم ...فنُجمل....

فإذا بداياتها عن مكذّبين كذّبوا بما جاءهم به رُسُلهم من نبأ القيامة والساعة والحساب وجزاء المحسن بإحسان والمسيئ بسوء ... وأنّ الله الملك الديّان، وكيف كانت عذاباته جزاء وفاقا لما كان منهم من استقواء واستكبار واستعلاء ... فذاقوا العذاب في الدنيا، والذي سيُزاد عليه العذاب الأكبر، الذي لا ينقطع... عذاب الآخرة ... !

فجاءت هذه العذابات التي أنزلها الله بالمكذّبين من أقوام الرُّسُل مثالا على عذاب في الآخرة لاحقٍ بكل مكذّب ... فابتدأت سورة الحاقّة بمثال في الدنيا على ما سيكون يوم الحاقّة، بصورة مصغّرة ...

ثم أردِف بمخاطبة كل البشر الذين هُم سلالة المؤمنين النّاجين من عذاب على الأرض، ذلك أنّ الله لم يخلق ليُعذِّب، بل خلق ليَمتحن عباده أيقرّون ويؤمنون أم يكفرون ويجحدون ... فالإيمان أصلٌ وجذورٌ وأعماق، وسبب نجاة في الآخرة مؤكّد كما كان أصل النجاة على الأرض ...

ثم كانت أنباء الحاقّة المزلزلة العظيمة ... وما فيها من خير مخبّأ لأهل اليمين، ومن عاقبة سوء لأهل الشمال... فتمثّل لنا الفريقان في الفرِح المفاخر بكتابه، الذي يحتفي به ربّه،  وفي التّعيس المتحسّر على ما فوّته على نفسه الذي يأمر به ربّه ليُغلّ وليُصلّى الجحيم  ... !
ثم تُنهى بالقسم العظيم على أنّ القرآن حقٌّ وما جاء فيه من نبأ الساعة حاقّة متحققة ... فكما بدأت بالحاقة مكرّرة ثلاثا، تنتهي بأن الكتاب وبأنها حقّ اليقين....

فاللهم سلّمنا في هذه الدنيا وأخرجنا منها سالمين، واجعلنا من أصحاب اليقين حتى يأتينا اليقين ...

وما يزال في الوصال وِصال يا صاح ...فاربط حزامك لنصعد المعارج ... !

« آخر تحرير: 2020-11-27, 16:40:40 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب