المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (سورة القلم)  (زيارة 702 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
سورة القـــــلم


وها نحن اليوم مع سورة "القلم" ... نحاول أن نعيش أجواءها، ونسبر غَوْرها، كما انتعشنا من قبلها بأجواء سورة الملك...

إنها من السّور المكية التي يُرجّح أنها من أوائل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من المُفتَتَحات بالحروف المقطّعة : " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ " .

تلك الحروف التي لم يُقطَعْ فيها بمعنى، إذ هي من المتشابهات. والغالب أنّ الله سبحانه قد استأثر بمعناها في علم الغيب عنده، وهي مما أعجز به الله العربَ المنزّل فيهم القرآن بلغتهم التي كانوا فطاحلة فيها، متمرّسين على أدواتها، متمكّنين منها أبلغ التمكّن...
وهو سبحانه قد تحدّاهم بأن يأتوا بمعنى محدّد لهذه الحروف المقطّعة التي هي من جنس ما عرفوا من الحروف، ولكنهم لن يَقْووا على تحديد معنى لها... وأين ؟! في خضمّ بحر القرآن الزاخر، الولاّد للمعاني ... !

يُقسم سبحانه بـ: "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" ...  فهو المُقسَم به، وأما المُقسَم عليه (أي جواب القسم) فهو قوله سبحانه : "مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)"

وإنّه لَمِن دواعي التأمل أن نتساءل عن الرابط بين المقسَم به والمقسَم عليه، وسبحانَه لا يُقسِم إلا بعظيم...
لم يَبعُدْ نزول "القلم" كثيرا عن نزول أولى آي القرآن الكريم من سورة العلق... وفي كلتيهما جاء ذكر القلم ... فأما في "العلق" فقوله تعالى : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)"

تلك الآيات الأولى التي نزلت تحثّ على القراءة، مقرونةً باسم الربّ الخالق، تحثّ على قراءة إيمانيّة توحيديّة، لا قراءة تَنَكُّر للربّ الخالق، يحسب صاحبُها أنه مالك الدنيا، والربَّ فيها والإله، فيطغى أن رآه استغنى... !
الربّ سبحانه الذي من تمام كرمه أن علّم عبده بالقلم ...ليأتي ذكر القلم مرة أخرى في سورتنا هذه، مُقسَماً به، من علوّ شأنه ومكانته:  " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ "

ففي "العلق" جاء في سياق الأمر بالقراءة، وها هنا جاء تبياناً لدوره في الكتابة... لتجتمع بذلك في سورتَيْن من أوّل ما نزل من القرآن العظيم بيان حُظْوة القراءة والكتابة في هذه الرسالة السماوية الخالدة الخاتمة، التي جاءت لتنقل البشرية نقلةً عملاقة إلى رحاب الإنسانية السّامقة، بما تنطوي عليه من دور في قيادة الأرض بتحقيق العبوديّة لله فيها، التي هي حقيقة الإنسانيّة، وحقيقة كرامة الإنسان على سائر مخلوقات الله تعالى ... أن كان المخلوق المكرّم بعقل جعله مختارا مكلّفا... !

" وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ " .
"الْقَلَمِ" كأداة للفعل....و" يَسْطُرُونَ " للفعل ذاته (الكتابة) المتحقّق بالأداة .
فهو القلم الذي سطّرت به الملائكة الأقدار كُلَّها بأمر العليّ القدير، وهو القلم الذي سطّر به البشر ما أملاه عليهم الرُّسُل من كُتُبٍ أوتوها من ربّ السماء، أشرف وأعظم ما كُتِب، وكل ما سطره وخطّه العلماء من علوم الفقه وسائر علوم القرآن ... وقد أقسم سبحانه بالقرآن في صيغة الكتابة في قوله : "وَالطُّور(1)وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ(2) "-الطور- .
كل المعارف التي تراكمت من كتابات الإنسان في كل زمان، وهي في تراكم مستمر لا ينقطع... في علوم الطبيعة وعلوم الأحياء، وفي علوم المنطق والفلسفة والرياضيات، وفي العلوم الإنسانية المختلفة، وفي علوم التكنولوجيا والدقائق الإلكترونية... كلّ ما سطره الإنسان وتعلّمه من كرم الكريم سبحانه الذي علّمه... وعلّمه هو بدوره غيرَه... !
هو القلم لجنس القلم على الأرض، ولكل ما يُسطَر ويُكتب به... كلّ ما كتبه ويكتبه الإنسان مُذْ خُلق، مُذ عرف الكتابة. وعلى رأسها كتابة الوحي... ! 
كلّها يحتملها المعنى... كلّه يدخل في هذا القَسَم ... !  فأيّ قسم عظيم هو ! وسبحانه لا يُقسم إلا بعظيم ... !
... وإنها لتترامى أطراف هذا القسم، وهي الرحيبة الرحيبة الوسيعة التي لا يحدّها وصف ... !

إنه العلم ... !
العلم الذي يُوثَّق بالكتابة، ويُنقَل جيلا عن جيل في تراكمية معرفيّة لا غنى للإنسان عنها في كل زمان ...وبمعنى أعمق، فإنّ جُلّ ما سطّره الإنسان هو ثمرة عقله الذي كرّمه الله به، وفضّله به على كثير ممن خلق تفضيلا : "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا..."-البقرة: من الآية31-...  فجعله فيه أداة لقابليّة التعلّم، بما أودعه من مدارك أساسيّة ضروريّة، وبسَوْقِه للتجربة، والاستدلال والمعرفة ...

إنه العلم ... !
العلم بما أنزل الله على عباده، علم الوحي من جهة، والعلم الذي هو ثمرة ونِتاج العقل من جهة أخرى، وكلاهما كرامة من الله تعالى لعبده ..وكلاهما من أعظم نِعَمِه ....
ومنه ننتقل إلى المقسَم عليه .. فعلامَ تُراهُ القَسَم ؟
إنه على : " مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)"

أقسم سبحانه بما يَسْطرون من كلام الوحي الإلهيّ، وهو المنهج الربانيّ الذي أُنزِل للإنسان هدايات وكمالات، وبيانا للغاية من خَلْقِه، ولمآل خلقه...ولكلّ ما دار حوله من فقه الإنسان له. كما أنه أيضا ما يُسطَرُ من ثمرة العقل البشريّ في كل مجال. وبهذا فإنّ القسم بما سطر الإنسان وكتب، يشمل وحي خالق العقل سبحانه، ونِتاج العقل الذي هو تعليمٌ بالقلم من خالق العقل والقلم... !

قد أقسم سبحانه على شؤون ثلاثة تخصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، مبتدئا بنَفْي الجنون عنه...
أقسم سبحانه بما يسطرون من وحي خالق العقل، ومن ثمرة العقل على سلامة عقل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى انتفاء ما افترى عليه كفّار قريش، وما تجرؤوا به عليه من وَصْمه بالجنون، لمّا شَرِقوا بالرسالة التي بُعِث بها، وهم الذين -قبل غيرهم- عرفوا عنه كمال العقل، والرصانة والصدق والأمانة، بل إنهم هُم مَن لقّبه قبل بعثته بالصادق الأمين ... !
يروي أبو سفيان شيئا مما كان بينه وبين هرقل حينما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم :" فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا‏..."

هم الذين كانوا يستأمنونه على أخصّ حاجياتهم قبل البعثة وبعد بعثته وهم بعدُ مكذّبون برسالته، حتى أنه هاجر إلى المدينة وهو يوصي عليّا بحفظ أماناتهم وهم الكفار الذين تمالؤوا على قتلِه !!
هم الذين حكّموه في أمرهم حينما اختلفوا في شأن الحَجَر الأسود لما أعادوا بناء الكعبة إثر السيول التي أتت عليها، فكفاهم بحكمته شرّ حرب كانت وشيكة جرّاء تخاصمهم أيّهم أحقّ برفع الحجر !...

يقسم المولى سبحانه، خالق العقول وواهبُها، بما أنزل من هدايات للعقول،  على سلامة عقله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما سُطِر ويُسطَر إلى يوم الدين من نِتاج العقول البشرية مجتمعة ... !

وبهذا... ! أفلا نكون قد تبينّا العلاقة الوطيدة بين المُقسَم به والمقسَم عليه ...؟!

إنه لا يليق بنا أن نقرأ كلمات القرآن سِراعا، كمن يُطَمئِن نفسه، ويبرّئ ذمّته أنه الذاكر العابد بمجرّد مروره بالحروف مهرولا، راكضا... فإذا أنفاس تلج وتخرج، تلتحم بالصوت مُخرَجَةً في شكل حروف ... !!  فلا يعدو الأمر عنده أن يكون حروفا منغّمة، ولا يتعدّى حضورُه ساحة الحروف ... !

الجنون الذي هو نَقصٌ في العقل وسَفَه، وسوء إدراك، نفاه الله عن نبيّه صلى الله عليه وسلم... أقسم على انتفائه عنه بما تسطّره البشرية إلى يوم الدين من كمالات عقولها مجتمعة، وبعظمة الوحي الإلهي الذي جاء منهجا هاديا ومنيرا لدرب الاستخلاف في الأرض،  مع ما سطرته الملائكة من أقدار....

إنها لأمورٌ عظيمة، جليلة... !!  بل إنها لجوامع العظمة في خلق الله سبحانه وأمرِه ... ! وهي دليل عظمة المُقسَم عليه صلى الله عليه وسلم ... !

ثم لقد قرن سبحانه نفْيه الجنون عن حبيبه صلى الله عليه وسلم بنعمة الله، في قوله: " مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) "
كيف يَمَسُّك الجنون –بزعمهم- أنّ ما دعوتَهم إليه ضرب من ضروبه، لِمَا أتيتَهم به، وبَلَّغْتَهم إياه من أمر ربّك، بينما هو سبب أعظم من أسباب كمالاتك ... !
وجهٌ من أوجه كمالاتك وعلوّ شأنك أنك النبيّ المصطفى المبلِّغ الهدى عن ربّه ... ! إنه من نعمة ربك عليك أن جعلك من عباده المصطفين ...
ثمّ إنّ هذا الكتاب المسطور الذي أقسم الله تعالى به هو نعمة ربك اللّصيقة بك، الملازمة لك،  التي بتّ تُعرَف بها ما أن بعثك ربُّك  ...
ولكأنّي بحرف الباء في : "بِنِعْمَة ربِّكَ" تزيد في بيان هذا اللصوق، هذا اللزوم الذي يلازم به القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... !

ما أنت يا محمد بهذا القرآن بمجنون، هذا القرآن الذي لأجله اتّهموك، فكانوا وهم يرمونك بالجنون ينادونك به : " وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ" –الحجر:06-
إنه هو نعمة ربّك عليك، الملازمة لك ... التي تُعرَف بها، وتُعرَف بك، ويُعرَف الله بكَ وبها ....فأيّ مسطور هو ... وأيّ صاحب له هو محمد !!
وأيّ فخر هو لك لو كانوا يعلمون ! وأيّ شيء أعظم من أن يُنعَت إنسان بالذي يُنزَل عليه الهدى من ربّه ؟ !
ولقد قلتَها لأصحابك يا رسول الله حينما أوجعَ قلوبَهم أن يصفك الكفار في أشعارهم بـ "مذمّم"  : " ألا تَعْجَبُونَ كيفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ ولَعْنَهُمْ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، ويَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وأنا مُحَمَّدٌ"-صحيح البخاري-
وكذلك حالهم وهم يصِمونك بالجنون لأنك الذي نزّل عليك الهدى... !!
ثم يُثنّي سبحانه فيُقسم على شأن آخر من شؤونه صلى الله عليه وسلم بقوله :
" وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ"
إنك لسليم العقل كل السّلامة... بشهادة ربّك، خالقك، مصطفيك من بين عباده لحمل هذه الأمانة، ولأداء هذه الرسالة العظيمة الخاتمة، وأنت بها النبيّ الخاتِم ...

فلكأنّ سائلا سيسأل... أو كأنّ مَن يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، سيتعجّب من حال كفار قريش، وهم يصِمون بالجنون مَن عرفوا كمال عقله من قبل أن يُبعث، فكيف وقد بُعِث بغاية الكمال العقليّ، وبمنتهى السموّ الروحي ...كأنهم سيسألون : فكيف يُتَّهم بالجنون مَن هو أبعد الناس عن ثَلْمة في العقل بَلَه عن فقْده ؟!
ليجيب سبحانه بما أقسم عليه بالقلم وما يسطرون : " وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ " ... بتأكيد يتبعه التأكيد بـ "إنّ" وباللام في :"لأجرا" دائما غير مقطوع، ما دامت السماوات والأرض... ما دامت الدنيا...

وكما جيئ بفعل "يَسْطُرُون" مضارعا للدلالة على الاستمرار، وأنّه كلّ ما يُسطَر إلى يوم الدين ... جيئ بالتأكيد على أنه الأجر من ربّ العالمين الذي لا ينقطع ...

فهذا ذكره صلى الله عليه وسلم على مدى الأزمنة وعلى امتداد الأمكنة لا ينقطع : "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" -الشرح:04- ، مع الأجر الذي يُكتَب له عن كل مسلم على وجه الأرض في كل عصر حتى قيام الساعة... مع كل هداية نفس... مع كل فتح لأرض بالإسلام وللإسلام... !
مع كلّ عمل يعمله مسلم إلى قيام الساعة أجر عائد له، وهو القائل صلى الله عليه وسلم : "مَن دَعا إلى هُدَى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا..."-صحيح مسلم-

فكيف بك يا أيها الداعي إلى كمال الدين، وتمام النعمة، والهدى كلّه ؟ ! 
إنك المأجور على ما ألحقوه بك من أذى، وعلى ما اتّهموك ووَصَمُوك به، وعلى ما هم ملحقوه بك من أذى في كل زمان ... ! إنك الذي لا يضيع أجره ولا ينقطع... !  فيا وَيْح مَن سبّك، ويا وَيْل من انتقص منك، ويا ثبور مَن تجرّأ عليك... ! 
إنّ ربّك سبحانه جلّ في عُلاه لَيُنافح عنك إلى يوم الدين بقرآن أنزله عليك، فيه كرامتك، وعلوّ شأنك على كل مَن خلق... بقرآن يردّ في كل زمان على كل ذميم نفس، قبيح طويّة، يتجرّأ على مقامك العليّ ... !

ونحن نعيش عصرا  يعيد فيه الأنذال الكفرة الضُّلال سيرة مَن كان قبلهم من نابذي الحق، كارهي النور، محاربي الهدى... ! فترى من سنوات إلى سنوات من يقفز إلى الواجهة الإعلاميّة العالميّة ليشنّ حملات البُغض والحقد والكُره، عَبْرَ سلاح الإعلام الذي يقضي به مآربه، ليستهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم في مقال يُنشَر، أو في رسم يُشاع، حتى بلغ الأمرُ أن أُعلِن على المستوى الرسميّ على لسان ماكرون ماكر في فرنسا، أنّ رسومات الاستهزاء حريّة من الحريّة، وأنّه حاميها مع ما يحمي ويقنّن من تفسّخ أخلاقيّ ترفع به بلادُه رأسا... !
أما في زمان بعثته صلى الله عليه وسلم، فـــ : "وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ" من شأنها أن تسلّي عنه صلى الله عليه وسلم في مرحلة هي من أكثر مراحل الدعوة حرجا، وأشدّها صعوبة عليه وعلى أصحابه صلى الله عليه وسلم ...وهو ما من شأنه أن يسلّي في كل زمان عن كلّ مؤمن يتصدّر للدعوة، فتنال منه أشواك طريقها، ويذوق من علقم أعدائها ...

ثم هي ذي الصفة الثالثة من صفاته صلى الله عليه وسلم التي أقسم الله عليها بالقلم وما يسطرون، تُضاف إلى انتفاء الجنون عنه، وإلى دوام الأجر والثواب له ما دامت الدنيا ... في قوله تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)"

وَوَالذي نفسي بيده... إنّني لأقف أمام هذه الشهادة الإلهيّة العظيمة عاجزة، ويقف قلمي ذليلا، مبهوتا، مشدوها لا يعرف ما يَسْطر... !
أيّ قلم سيزيد فيَسْطُر فوق هذا الوصف الإلهيّ، والشهادة الإلهية التامة الساطعة، وهذا التعريف بمحمد صلى الله عليه وسلم من ربّه ؟!
إنها الشهادة الإلهية العظيمة لرسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم، للذي رماه قومُه بالجنون، وكانوا يحرّضون عليه سفهاءَهُم وصغارهم ليرموه بالحجارة كما فُعِل به حينما ذهب إلى الطائف...

سبحانك ربي...!
إنّ هذه الكلمات في وصف خُلُق نبيّك الكريم لأعظم من كل ما سُطِر وما يُسطَر، وما سيُسطَر...! إنها لا تزيد ولا تعلو عليها إلا كلمات كتابِك الذي هي منه... !
فما أجلّ المقسَم به وما أعظم المُقسَمَ عليه !!!
ولنجمع... فإذا هو القسم على أمور ثلاثة نصعد من الواحدة منها إلى تاليتها في سلّم المعاني، ومرتقى الكمالات ... عن سلامة عقله، ثم عن أجرٍ غير مقطوع هو لاحقُه مادامت الدنيا، ثم عمّا هو عليه من خُلُق عظيم... !

فأين هُراؤهم وسفاهاتهم وما رَمَوه به من هذه الشهادات الإلهيّة المتعاقبة وكأنها الدُّرر المنتظمة في عِقْد سماويّ يتدلّى من السماء إلى الأرض، يربط الأرض بالسماء، ويُعلّق أهل الأرض بالسماء بجوهرة متلألئة يضيئ نورها ما بين الأرض والسماء، ضوءا يعلو على ضوء الشمس ... ! واسمُها في هذه الكلمات يرنّ رنينا يبلغ صداه المنتهى من الدنيا ... !
إنها جوهرة "الأخلاق"... والتي تتجسّد كمالاتها في شخص محمد صلى الله عليه وسلم ... فكان خُلُقه "عظيما" بوصف العظيم سبحانه... !
هذا الذي ترمونه بالجنون، هو المبرّأ من ربّ العزّة، بل والممدوح بأعلى الصفات وأتمّها : " وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ"

ولست هنا سأزيد لأبيّن عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلّنا يعلم من الفيض غيضا وغيضا وغيضا ... ! بل سأترُكُني وإيّاكم في جوّ هذه الكلمة الإلهيّة العظيمة الشّاملة الجامعة، التي نُبحِر فيها ونُبحر في سيرته المطهّرة على مدى أيام حياته المباركة، وفي ملازمة نزول القرآن الكريم لأحداث يومياته ... فمحمد من القرآن والقرآن من محمد ... !

ولكن ما يشدّني، ويجعلني أنتبه أكبر الانتباه... هو ذلك الطَّيْف الذي يلقي بظلاله على رابط الآيات المتعاقبات... فألمح : "وَمَا يَسْطُرُونَ" وهي تومض لـ : " خُلُق عَظِيم" ... كما ألمح : " خُلُق عَظِيم " وهي تومِض لـ " وَمَا يَسْطُرُونَ " ... كأنهما القريبتان المتلازمتان، المتكاملتان ...
كأنهما تصرخان بنا : إنني وهي، لا أكون إلا بها، ولا تكون إلا بي...إننا لا نفترق ... !
فإذا ملامح العلم من : " وَمَا يَسْطُرُونَ "، وملامح الأخلاق من: " خُلُق عَظِيم " ... وإذا المعنيان متعانقان ... لاينفكّ أحدهما عن الآخر ...لا يتمّ المعنى ولا يكتمل إلا باقترانهما... !
أفرأيتَ ما سطّره البشر من علم، ومن تراكمات معرفيّة على مدى العصور ... فإنّ الإنسان بها وبتصاعدها وتناميها قد طغى، وقد تجبّر، وقد نسي ربّه، وقد رآه استغنى... !  حينما امتطى نصفَ صهوةٍ وهو يحسب أنه يمتطي الصهوة كاملة... !
حينما طار بجناح واحد، فهو المَهيض ويحسب نفسه الطائر المحلّق...!
حينما ظنّ أنّ العلم وحده يكفي... ! حينما ظنّ أنّ إشباع العقل بالاكتشاف والاختراع، وتسخير المادّة،  وحده في الإنسان يكفي ... ! حتى صار إلى الآلة أقرب...حتى غشيت روحَه الماديّةُ الصّرفة... حتى عبد المادة ... ولم يعرف للروح من معنى... !
عَلِم، وعَلِم، وعلِم، وسطّر وسطّر وسطّر في شتّى المجالات، وفي كل العلوم، وطوّر، وعدّد... ! وطوّع الأرض وما فيها، حتى بلغت به المبالغ أن جعل من الأخلاق قِيَماً نسبيّة لا قيما مطلقة في ذاتها... !

لم يعد يراها ملازمة لنفس الإنسان مع ما يلازمه من العقليّات، لم يعد يراها ذات معاني مطلقة تقضي بحُسنٍ في حسنها، وبسوء في ضدّها، بل يرى أنّ كلا وما يرى ... !
فمن حكم على الشّذوذ الجنسيّ بالجواز وبالحُسْن، وبأنه من حريّات الفرد التي لا تُناقش ولا يُقاضى صاحبها ولا يُحاسَب ولا يُردّ، فله أن يرى ما يرى، بل ويُنادى بالحق فيما يرى ...!  كما أنّ لغيره أن يرى خِلاف رؤيته فيه ... !
هكذا... بنسبية... لأنّ وجودَ الأخلاق عنده وعدمَها سواء... !
هي عند عَبَدة المادة مادّة، هي عندهم تفاعلات كيميائية –كما يقرّر الملاحدة- نتاج تشابكٍ للخلايا العصبية يُخرجها في شكل عاطفة أو ردّ فعل إزاء فعل أو سلوك أو موقف ما، يروق للناس أن يسموه "أخلاق"... !

أجل ... هكذا هي نظرة الكثيرين للأخلاق، من المكذبّين بالدين وبالله... !
إنّ القرآن لا يقصّ علينا من قصص أناس عاصروا الدعوة المحمدية من كفار ومن مؤمنين وحسب، بل إنه لَيَقُصّ قصّة الإنسان في كل زمان ... !
هذا الإنسان الذي لا تقتصر الجاهلية فيه على جاهلية عرب الصحراء في مكة ومحيطها، بل هي تعيد نفسها فيه كلّما طغى، وكلما نأى عن هُدى ربّه، وكلّما حسب نفسَه الإله في الأرض، ولم يُحسن فهم الغاية من وجوده ...

سورة القلم .... !!  ويالسورة القلم ... !
إنها لَتُلقي بهذه الظلال التي نعرفها ... نعرفها في زماننا، كما كانت في زمان كفّار قريش ...! بل هي اليوم أشدّ وأعتى ... !
ولقد قال شاعر فاهم واعٍ يوما : "وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"
أيّ حياة للإنسان كما يريدها الله وهي حياة عبادة المادة من دون الله، وهي حياة موت الروح... !!
وأي تركيبة هي قد أبصرتها من بعد ما استشعرتُها في :"حياة موت الروح" !! وهل تقوم حياة بلا روح ؟!
إنهم لا تقوم لهم قائمة من حركة وهم خواء من روحٍ هي سرّ الحياة والحركة، روح هي من أمر ربّي ... ولكنهم متعنّتون عاتون متجبّرون ما هي قائمة فيهم، يحسبون أن أجسامهم وحدها تأكل وتشرب، فأظمؤوا الروح فيهم من غذائها الذي لا يساوي ماء شروبا ولا أكلا يُمضغ ويُزدَرد، بل هو من صنع ربّ الروح ... ! إنها الأخلاق والقِيم والمُثُل، والتبصّر بالغاية من الوجود في هذه الحياة حَدَّ معرفة شكر واهِبِها، وأنّه الذي لا يُستغنى عنه، وأنه الذي إليه الرُّجعى ... !

إن الأخلاق وحي الله ... !
أجل... إنها مِن وحي الله ... ! إنها من عند الله ... ! إنها التي يأتي بها وحي السماء إلى الأرض ... !
ألم تقل عائشة رضي الله عنها وهي تصف هذا الخُلُق العظيم في رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كان خُلُقُه القرآن" ؟!

سورة القلم ... "القلم" .. "العلم" الذي ليس وحده دعامة الوجود الإنسانيّ ...بل بأخلاق... ! فما قيمة علم نُصنّع به القاذفات والطائرات والبوارج الحربية، لنقتل بها الجنديّ المعتدي والطفل الرضيع، لا نفرّق بين هذا وذاك ؟! علم نصنّع به السلاح الكيميائي الذي يمتدّ تشوّهاتٍ وإفسادا لخلق الله جيلا بعد جيل ؟!

عِلمٌ أُعْلي به وأبني وأشيّد، ثم لا أتوانى عن نهب ثرواتٍ ليست لي، وخيراتٍ هي لغيري، وكأنّي الربّ المالك الذي يملك الشيء ويملك مالكَه معه ... !
ما قيمة مالٍ يُزاد إلى المال يُزاد إلى المال، وهو يُطغِي صاحبَه، فلا يعود يرى النّاس إلا قطعا نقديّة أو أوراقا مالية، مَن ساوى قيمةً منها عنده عَدَّهُ أهلا لأن يخالَط، ومَن لم يساوِ منها عَفَسَهُ وسحقه كما يسحق بعوضة تُقْلِق منامَه... !

ما قيمة عقل يعلم ويعلم ويدقّق في علم، ويسطر منه ويسطر وهو المُنكِر لوجود الإله الخالق المصوّر الموجِد ...! وهو الذي يسعى سعيَه ما حَيِي ليُقنع الناس ألا إله وأن الحياة مادة ...؟!
يالظِلالِك يا سورة القلم ... ! "القلم" ..."يسطرون"... "خلق عظيم"...ويالإشاراتِك التي ألْمَحُها من مطلعك ... !

فما تُراه يحمل ما بقي من مسطورك ؟!
« آخر تحرير: 2020-11-26, 15:31:25 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ومن مِياهِكِ العَذْبَة يا سورة القلم مازلتُ أستقي ...

قد عرفنا المُقسَم به (القلم وما يسطرون) على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بريئ من وَصْم الكفار له بالجنون، وأنّ له أجرا غيرَ ممنون، وأنه على خلق عظيم ...
لقد كان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض...
وعلى هذا فإنّ القرآن في حقيقته حركةٌ راقية على الأرض، ترتقي بالإنسان لتجعله المثال المُكرّم الذي يليق به الكونُ المسخَّر، ويليق به الاستخلاف لإعلاء كلمة الموجِد الخالق سبحانه .

وهذا الله سبحانه بعد القَسَم يخاطب نبيَّه عن شأنه مع مَن كذّبه : " فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ(16)"

بعد تلك الشهادات الإلهيّة العظيمة بحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، يؤكّد له ربّه أنّه سيعلم، وسيُعايِن، وسيُعايِن معه المكذّبون به، مَن مِنهم يستحقّ أن يوصَم بالجنون...
فـ"المفتون" هنا تعني الذي فُتِن عن الحق إلى الباطل، ويزيد في بيان أنها كذلك قوله سبحانه بعدها: " إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)"
عمّا قريب... في الدنيا قبل الآخرة، سيُبصِر كفّار مكة مَن مِنهم سيبوء بالخسار والتّبار، ومَن سيذلّ ويخزى ... !

وقد تحقّق لرسول الله صلى الله عليه وسلم النصرُ عليهم، بينما كان الكفّار يعتدّون بالكثرة والعدد، وهُو ومَن معه القلّة المُخرَجة من ديارها، حظوا بالنّصر يتلوه النصر، وانتشرت دعوتُه، وفُتِحت مكّة، وعزّ المسلمون وذُلّ الكافرون ... وكان وعد الله حقا، والكفّار يُعاينون خُسرانهم وفلاح المؤمنين... !
وتلك مَعيّة الله تعالى لعباده المخلصين في كل زمان. درب الحقّ دوما شائكة، وأعداء الحق دوما بالمرصاد، يسومون المؤمنين العذابات وهم غاية غاياتهم أن يَهلَك دعاة الحق... ! وأن تموت دعوتُهم... !

ولكنّه اليقين من معيّة الله تعالى يقلِب المعادلة، ليكون الميزان السليم بكفتَّيْن (علم مع أخلاق) لا علم مجرّد عن الأخلاق، (وما يسطرون + خلق عظيم) لا ميزان العدد والكثرة والقوّة مع خواء أخلاقيّ، مع تجبّر وتسلّط وظلم وعدوان . وقد عرفنا في السورة السابقة (الملك) أمرَ الله تعالى لعباده بالمَشْي في مناكب الأرض مع يقين ملازِم أنها وما عليها لله "...فامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"-الملك: من الآية15-

إنه سبحانه يخاطب نبيَّه خطابا يعلّمه فيه من حقائقهم، وكيف يكون تعامله معهم: "فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ"

لنتأمّل ... !
لنتأمّل هذه الشعرة الفاصلة الدقيقة، والتي تُسفِر عن حكمة في الفهم ووسطيّة، وبُعدٍ عن المغالاة التي تقلب المفاهيم ولا تُنزِلها منازلها الصحيحة ... إنها الحكمة في هذا القرآن العظيم تُسكَب أنوارا على قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم ليكون القُدوةَ والمثال في التأسّي ...

"فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)"

إنّ الكثير من النّاس يفهمون الأمور على نحو متطرّف، فيُغالون، ولا يتوسّطون، ولا يقرؤون الاعتبارات والحيثيّات للقضية من القضايا، ويحسبون أن الحياة بالدين مِسْطرة مليميترية تُخرَج ليُقاس بها كل شأن، فلا فَوتَ ولا أخذ لحيثيّات وظروف بعين الاعتبار، ولا استثناء، ولا تبديل، بينما الأمر وسط بين الإفراط والتفريط، بين المغالاة واللامبالاة... !

فهذا نبيّنا صلى الله عليه وسلم وقد وُصِف من ربّ العزّة العظيم سبحانه بأنه على خلق عظيم... فهل من دواعي هذا الوصف أن نتخيّل صاحبَه برأس مطأطَأَة أبدا، وتقبّل لكلّ حال، وإرخاء لكل الحبال، وتبسّط مع أيٍ كان، وعينٍ لا تكاد تُفتَح إلا لتُبصِر الطريق...؟!

كلا ... ثم كلا ... !!
كلّ هذا التصوّر إنما هو المغالاة، والفهم المتطرّف لمعنى صاحب الخُلُق ! وكثيرٌ ما هم أصحاب هذا الفهم، حتى إنّ الواحد منهم إذا أحبّ أن يُثني على رجل تقدّم لخطبة إحداهنّ، قيل عنه : إنه الذي لا يبرح المسجد ...! ويْكأنّ العمل والكدّ لا يعني عند المخطوبة شيئا ...!! ويْكأنّها ستتزوّج ليَقعُدا دهرا، فلا تقوم لهما أو بهما قائمة ... !!

فإنّك يا "محمّد" وأنت على خلق عظيم، لا يجب أن تطيع المكذّبين الذين يأتونك ليعرضوا عليك سُبُلا وسطا، وحلولا وسطا...سُبلا للسلام والمسالمة بزعمهم... !
لا يجب أن يساوي الخُلُق في الأذهان الطأطأة والذلّ، والتسليم لكلّ حال، ولكلّ ذي مقال !!
وقد فعلها الكفّار حينما اقترحوا عليه أن يعبد هو آلهتَهُم عاما، وأن يعبدوا هُم إلهَهُ عاما، فإن كان فيما يعبدون خير كانت له منه حُظْوة، وإن كان فيما يعبد خير أخذوا بحظّهم منه ...كما عرضوا عليه ما يشتهي ويريد من جاهٍ أو سلطان أو مال، على أن يتركهم وآلهتهم، وشأنهم ...

حلول شيطانية تتسربل بسربال السلام والمسالمة... وهي المداهنة ... !
ولننظر إلى الكلمة القرآنية المستخدَمة : "وَدُّوا لو تُدهِن فيُدهِنون" والدّهن هو طلاء الجلد بما يليّنه ويرطّبه، وكذلك هم يَوَدّون أن يليّنوا ما بينه وبينهم، يَسْتَبْقُونَ باطِلهم والظاهر أنهم يفاوضونه... ! يفاوضونه على أن يترك شيئا من الحق الذي جاء به، ويُترك لهم بالمقابل شيء من باطلهم ... !
ولكنها دعوة الحق التي لا تقبل المُداهنة، ولا تقبل أنصاف الحلول، ولا ترضى بهَدْم شيء من الباطل والإبقاء على شيء ... ولقد ذمّ الله مَن فعل ذلك من اليهود في قوله تعالى : "... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ" –البقرة: من الآية 85-
إنه الحق يا محمد الذي لا يقبل المُداهنة... !
وإنه الخُلق العظيم نَعَم ... ولكنه لا يعني الاسترضاء على حساب الحق ... !
إنها الدعوة الكاملة، والمَحجّة البيضاء التي ليلُها كنهارها، ليس فيها من غبش... ولم يجئ فيها ما يُعرَض على سبيل الاختيار بين شيء وشيء، أو أن يُنظر فيها، ويُحكَّم عليها الهوى، فما لاءَمَ وواءَمَ منها قُبِل، وما لم يُوائم ولم يكن محطّ الهوى رُفِض وطُرِح ... !
إنها الدعوة الربانية الإلهية التي جاءت وفيها كلّ ما يليق بالنفس لأنها من خالق النفس ... ! إنه الحقّ الذي لا مُساومة فيه، وإنه الخُلُق العظيم الذي لا يعني الاسترضاء على حساب الحق ...والمُلاينة في الحق... !

ولنتأمل كرّة أخرى ... !
إنهم ودّوا لو تُدهن، فيدهنون ... فأما إدهانك فأن تقبل بالإبقاء على ما يودّون الإبقاء عليه من أصنامهم ومعتقداتهم، وأمّا إدهانُهم هُم فهو أن يُظهروا لك كذباً ما ليس حقيقة فيهم، يُظهرون لك استعدادهم لأن يُسيّدوك عليهم، وأن تملك فيهم ما أحببتَ أن تملك، فتمضي في سيرتهم، وتكون على شاكلتهم، بينما يبقى الباطل والضلال ويذهب الحق جُفاء وهباء... !
إنها المساومات الخبيثة التي تكون على حساب الحق والحقوق ... !

وإننا لنعرف منها في بلاد الإسلام مع أعداء الإسلام...نعرف مَن داهن الأعداء حتى قضوا هُم مآربهم وذهب للمسلمين كل مأرب ...! ذهبت أرض الإسلام من معاهدات استسلام ومُداهنة خبيثة لم تأتِ إلا بِشرّ ... ولم تكن إلا عواقب المُداهنة في الحق... !
فاحذر أيها المؤمن... !
إنّ تحلّيك بالخُلُق الجميل مع الناس لا يعني أن تكون لهم مَداسا، فتقبل بباطلهم المزيّن بمُداهنتهم، وإنك بذلك لست إلا المُسترضي للناس على حساب الحق الذي أنزله ربّ الناس ... !

ثم يستمرّ الخطاب الربانيّ لنبيّه الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو يحذّره أعداءَهُ وأعداء دعوة الحق :" وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ(16)"

وكعادة القرآن تنزل الآيات في سبب من الأسباب، وتنزل وهي تشخّص أحدهم، ولكنّ معناها عامّ ينسحب على كل حال مشابهة في كل زمان...
إذ يُروى أنّ هذه الآيات كانت قد نزلت في الوليد بن المغيرة أو الأخنس بن شريق، ولكنّها تعني صاحب هذه الأوصاف في كل زمان، وكلمة "كلّ" كفيلة بتأكيد ذلك ...
ولو تأملنا هذه الصفات المتتابعة لوجدناها قد جاءت بصيغة المبالغة أو بصيغة الكثرة على وَزْنَيْ :  "فعّال" أو "فعيل"، وإنّ لهما في هذه الأوصاف ما لهما من تأثير على سياق السورة وما هو آت من قابل الآيات ... فهي : " حَلَّافٍ " "هَمَّازٍ" "مَّشَّاءٍ" "مَّنَّاعٍ" "أَثِيمٍ"

لا تطع كلّ حلاّف، مبالغ في الحلف على كل شاردة وواردة، غايتُه أن يضفي على كلامه المصداقية، يتّقي بالأيْمان الكاذبة ليصدّقه الناس، مستسهلا ذكر اسم الله على الكذب... ! وهو لذلك عند الله مَهين حقير وضيع.

حلّاف همّاز يُكثر الطعن في الناس وعَيْبهم بالغيب،  مشّاء، كثير المشي بينهم بالنميمة، يفسد بين واحد منهم وآخر، منّاع للخير، كثير المنع للخير ولطُرُقِه، كثير المنع لماله عن المحتاجين، معتدٍ على الناس وعلى حقوقهم وعلى أعراضهم، أثيم، كثير الآثام... !
وهو فوق كل هذا المقزّز المُنتِن للأنوف من الصفات القبيحة عُتُلّ أي غليظ، أكول شروب، ظَلوم للناس، زنيم من "الزنمة" وهي القطعة التي تتدلّى في رقبة الشاة، كناية على أنه الذي يُعرَف بين الناس بهذه الصفات القبيحة... !!

وياه ...!!
أيّ لوثٍ وأي لوثة في هذا الإنسان ...! سبحان الله ! كيف يكون الخلق العظيم في إنسان ، ويكون في غيره الخلق الأحطّ ...!!
إنسان وإنسان، وشتّان بين إنسان وإنسان... ! فالأول محقّق للإنسانية بخُلُقه، والثاني محقق للبهيمية بانحطاطه: " ...إنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" " -الفرقان: من الآية44-

ولننظر ... !
فإننا انتقلنا من خلق عظيم وَصَفَ به الله نبيَّه، إلى مقابلة بما يضادّ هذه الصفة في هذا الذي يُؤمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يطيعه ... فاسد الطّباع، الذي يُؤْثِر الفساد والإفساد والشرّ على الخير وأبوابه ... !

ويُطَوِّفُ بعقلي سؤال : تُرى ما سرّ كلّ هذا الشرّ فيه ؟! ما الذي جعله إلى هذا الحدّ من الفساد والظلم والاعتداء والغِلظة وبُغض الخير ؟!
لأنتقل إلى ساحة أعمّ، إلى أصحاب هذه الأوصاف في زماننا وفي كل زمان من العُتاة المتجبّرين المعتدين، الظلمة المفسدين الذين لا يعرفون من الدنيا إلا ما يملؤون به بطونهم، ويلبّون به شهواتِهم، ويُشبعون به غرائزهم، ويزدادون قوة إلى قوتهم شرا وإيذاء ... !

وإننا لن نبتعد كثيرا لنجد الجواب ... لن نبتعد كثيرا لنتبيّن السرّ في تبجيل الناس لهؤلاء وإلى مسارعتهم في طاعة أوامرهم، وتنفيذ مآربهم، وإنفاذ شرورهم...
إنه سبحانه يُبَيِّن أنهم المُطاعون، ويُبِينُ عن سرّ طاعة الناس لهم، بأسلوب ضمنيّ جاء في أمره لنبيّه ألا يطيعهم... مما يدلّ على أنهم أهلُ طاعة من غيره، تعوّدوا طاعة الناس لهم ... !
ففيمَ هذه الطاعة، وعلامَ هي متحققة لهم ؟

تأملوا قوله سبحانه : " أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(15)"
نعم... ! أن كان ذا مال وبنين... من كثرة ماله، أعلى الناسُ شأنه .
وذلك ليس بِدْعا من نظرة الناس، ونحن نعرفه منهم ...نعرف كيف يقومون لأصحاب المال يوفّونهم تبجيلا، يتملّقونهم، ويتزلّفون إليهم، لا حُبّاً فيهم بل فيما عندهم، لعلّهم يجودون عليهم بفُتاتٍ من أموالهم لقاء خدمتهم وتحقيق ما يريدون من شرورهم وإفسادهم، وظلمهم وجَبروتهم ... !

أصحاب ملك جائرون، وأصحاب رئاسة، وأصحاب جاه، كلهم يعتدّون بالقوة والمال والخَدَمة المطيعين الذين لا يُبالون أخَيْرا نفّذوا أم شرّا ... كُلُّه عندهم سواء، لا يأبهون إلا بما يُعطَون من مال ...
وقد يعْقِد الخادم المطيع مع صاحب المال الاتفاق السريّ البهيم، يبيّتون الإفساد في الأرض بليل، الإفساد الواسع، والإهلاك للحرث والنّسل ... ! ينكّلون بصاحب حق، أو يهضمون حقوق مستضعفين، أو يكتمون صوت حقّ ينادي بالناس أن يعودوا لأمر ربّهم... ! أو يزجّون بهم في غيابات السجون يحسبون أنهم بذلك يغيّبون صوت الحق في الأرض... !
كل أوامرهم تُطاع ممّن لا يعترفون بمكانة للأخلاق ... بل الحياة مادة ... الأخلاق عندهم ذاوية ذُوِيَّ النبتة الظمأى لماء يُحييها ... !وما ماؤها إلا دستور الخالق الذي يُحيي مَوات القلوب ... !

ولقد عرفنا كيف هي أوصاف هذا الذي يُؤمَر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يطيعه ... ألا يتّبع أولئك القطيع الذين ينصاعون لأوامره رغم كلّ شروره، تغمّي أمواله وعِزوتُه بأولاده على كلّ سوء وقبح في نفسه، فلا يرون فيه إلا المادة، لا شيء غير المادة ... !
وفي هذا مزيد عَضْدٍ للمعنى الذي عرفناه من خلال "القَلَم وَمَا يَسْطُرُون" و"خُلُق عُظِيم"، وقد عرفنا كيف أنّ الأمر يستقيم في الحياة الدنيا باجتماعهما لا بتفرّقهما ... باجتماع العلم مع الأخلاق لتحقيق الاستخلاف في الأرض الذي خلق الله لأجله الإنسان.

نرى عَضْدَ هذا المعنى الوجوديّ العميق الراقي، في الأمر بعدم طاعة هؤلاء وإن كان السّواد من الناس تحت سطوتهم، وتحت إمْرَتِهم، فالنظرة المادية الصّرفة لن تحقق إلا مزيد إفساد للأرض وإهلاك لمعنى الإنسانية عليها.

نرى عَضْدَ هذا المعنى في إعلاء شأن الأخلاق، من بعد ما جيئ بالمقابلة بين خُلق عظيم هو للنبي صلى الله عليه وسلم، اكتمل له بالقرآن حتى كان قرآنا يمشي على الأرض، وبين صفات ذميمة قبيحة، بالغةٍ منتهى الشّناعة والفظاعة في الشرّ وحبّ الإفساد في هذا الذي نجد نتَنَ ريحِه في كلّ زمان... !
هذا الذي هو مثال لكثرة كاثرة على الأرض اليوم، تُفسد ولا تصلح... حالات سائدة على الأرض من جَوْر وعدوان، وتجبّر بالقوة والمال من قوى الشرّ في الأرض، هي علامات ظمأ الأرض لهذا المنهج القويم ... المنهج الربانيّ العظيم الذي في حنايا سورة القلم يُعطي عناوينه، يُبرزُ أطرافه المتكاملة التي لا يستقيم الأمر على الأرض إلا بها مجتمعة ...

"إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)"
إنه تمام أمر هذا المتردّي في هاوية اللاإنسانية... ذي المال والبنين، الذي لم ولن يُغني عنه ماله ولا بنوه شيئا... والله سبحانه يبيّن قباحة نفسه ومهانتَه عنده ... إنه الذي إذا تُليت عليه آيات الله، قال بما فيه من غِلظة ووقاحة وسفاقة أنها أساطير الأولين ...
لا يريد قانونا، لا يريد حكما، لا يريد مسيّرا... لا يريد منهجا ... !
لا يريد فرقانا بين حقّ وباطل، لا يريد ما يهدِم صَوْمَعة عبادته وتبَتُّلِه للمادة... !
لا يريد ما يفضح إجرامه وعُدوانه، وسوء ما تنطوي عليه نفسه الخبيثة، وما تُظهره على الأرض من فساد... !
فهو لا يملك إلا أن يكذّب ويكفر بهذه الآيات...لأنها الشمس التي تضيئ فتُسفِر عن الحق، وتُبرز لصاحب البصيرة مواطن الباطل... !
لا يريد لسلطانه الماديّ زوالا ...وهو يُدرك أن هذه الآيات التي هي دستور أخلاق ستقضي عليه باستضاءة الناس بضوء مِشْكاتها على درب الحياة ... لأنه يُدرك أنّ هذه الآيات هي لافتات ومعالم حقّ ستشير إلى موطن الداء في الأرض، فتقضي باستئصال ما فسد حتى لا يأتي على جسم الأرض كلّه ... !
لا تُطِعْ يا محمد مَن كانت هذه صفاته... من كان عبدا للمادّة، منّاعا للخير، معتديا أثيما... مَن كان في حقيقته، وعند خالقه مَهينا، ولكنه في أعين الذّاهبين في نومة الغفلة والإمَّعيَّة والعبادة للمال وللمظاهر البراقة الخدّاعة سيّدا مُطاعا... !
لا تطعه يا محمّد وإن أطاعه كلّ الناس...

وإننا هنا لنُبصر من جديد الحسم في أمر الحقّ... فلا مُداهنة ولا طاعة لمجرّد أنّ أكثر الناس يطيعون، بل بحساب وتبصّر ونظر في سيرة مَن يريد أن يُطاع ... نظر وتبصّر هو قبَس من نور الهداية الربّانية في هذا الكتاب العظيم، من نور دستور أخلاقه ... حتى لا يُطاع إلا مَن كان على خُلُق، موزونا بمعايير القرآن الخُلُقيّة....
وهو الأمر المنطبق على كل أفراد أمّة هذا الكتاب، هذا الدستور الأخلاقيّ الذي يُعلي من شأن القلم حتى يُقسِم به، ومن شأن الكتابة والمكتوب إجلالا للعقل البشريّ وما يُنتج، ويُعلي من شأن الأخلاق دستورا للحياة ونورا يُستضاء به، ورُقيّا بالإنسان من دركات البهيميّة، والهبائيّة، إلى درجات السموّ الإنسانيّ والوجود الغائيّ... هذا الدستور الذي جعل من صاحب الخُلُق العظيم قدوة وأسوة : " لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"  -الأحزاب: 21-

فلنُرجع البصر في سورة القلم، في بداياتها التي نعايش روعتها... هل نرى من فطور...؟ ! ثم لنرجع البصر كرّتين ... ألا ينقلب إلينا البصر خاسئا وهو حسير ؟! ألا نرى اتساقا وارتباطا، وكأنّ الآيات ينادي بعضها بعضا، ويسطُر سابقُها لاحقَها ؟! لكأنّي بحروفها ناطقة، متحركة، وهي المسطورة  بإحكام عجيب غريب ليس إلا للقرآن ... !

العلم والأخلاق .... وما أحوجنا لهذا الدستور الراقي، العقليّ الروحيّ الذي لا يبخس عقلا حقّه ولا روحا حقّها ... الذي يروم للإنسان إنسانيّته...
أين أنت أيها الحلّاف المهين ؟ أيها الهمّاز المشاء بنميم، أيها المناع للخير المعتدي الأثيم، أيها العتلّ الزنيم ...؟
أين أنت يا صاحب المال والبنين ؟
أين أنت يا أيها المُطاع أمرُ فساده وإفساده في الأرض، لا لشيء إلا لأنه ذو مال وبنين ... ! أين أنت يا مَن أنت في كل زمان، يا مكذّبا بالآيات المُحكمات خوفاً ورهبةً من قوّتها وسُطوع الحقّ فيها، ومن نورها الكاشف لحقائقك ؟ !

إن الله يجيبنا عن مكانك الحقيقي... عن مآلك :  "سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ"

سيجعل له الله يوم القيامة وَسْما، علامة على أنفه الذي سيُرغَم وسيُذلّ وهو أعلى ما في الإنسان، وهو الذي يوصَف به العزيز فيقال "أشمّ الأنف"، بل إن العزّة لغةً تُرادفها "الأنَفَة" ...
سيجعل الله على أنفِه يوم القيامة وسْما ليُعرف به وِفْق ما عدّد له سبحانه من أوصاف في هذه السورة... ! هذا الذي عُرف بشرّه في الدنيا، وبمهانته عند ربّه، رغم كثرة ماله وعزوته ببنيه وطاعة الناس له، كما عُرِف برفضه الاحتكام لدستور الأخلاق ... ولننظر كيف جاء سبحانه بكلمة "خُرْطُوم" مكان أنف، لتقفز إلى عقلك صورة إنسان بخرطوم... ولك أن تتصور البشاعة ... !

لقد كان في الدنيا -على ذمامة نفسه- المُطاع لماله وبنيه ... فهو اليوم صاحب الخرطوم الموسوم ... فماذا تُراه قد أغنى عنه ماله : "وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ(08) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ(09)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ (11)" -اللّيل-
« آخر تحرير: 2020-11-26, 15:36:45 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

لأجل ماله وبنيه ضرب الناسُ صفحا عن ذمامة نفسه وقباحة طبعه... !

لأجل ماله كان مُطاعا إذا أمر... وكذلك الحال في الناس في كل زمان وفي زمن الماديّة الذي نعيش، بات تقييم الإنسان بأخلاقه ضربا من العبثيّة عند الذين ينكرونها، وينكرون قيمة مطلقة لها تقضي بسوء السيء وحُسن الحَسَن، وليس ذلك منهم بغريب، وهم ينكرون الله الذي جعلها نزعة في الإنسان وفِطرة فطرهُ عليها .

ولقد جمع الله تعالى في الآيات التي عرفنا فيها ذميم النفس والخُلُق بين كلمتَين دلّت كلتاهما على مكانته الحقيقية، واحدة منهما وهو في الدنيا والأخرى وهو صائر إليه سبحانه، حينما نعته بالوضاعة والحقارة في قوله : "مَّهِينٍ"، وحينما بيّن مآلَه في قوله : "سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ"

ولقد عرفنا من آيات بدايات هذه السورة تلك الظلال والإشارات إلى قيمتَي العلم والأخلاق مُجتَمِعَتَيْن لتحقيق الاستخلاف في الأرض، إلى المادة والروح، إلى ما يحقق سويّة النفس البشرية واعتدالها، وما يحقق الخير والعدل، ولا يجعل من الإنسان ذي النزعة الأخلاقية آلة صمّاء، سواءٌ معها إساءة أو إحسان، خير أو شر... !
عرفنا قيمة الأخلاق، وكيف أنها المِعيار السليم الذي تُقاس به إنسانية الإنسان ... وكيف أنّ خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المَاء المَعين الذي يُنهَل منه لاستشراف الرقيّ الإنسانيّ على الأرض. وما خُلُقه صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، فإن أنتَ قلتَ إنما الأخلاق القرآن فقد أصبتَ، وإن أنت قلتَ إنما الأخلاق محمد فقد أصبتَ ... دليل هو على القرآن، ودليل هو القرآن عليه صلى الله عليه وسلم ... !

نجدنا الآن، والسورة تأخذنا إلى مقطع جديد.. إلى أسلوب مغاير، ولكن كعادة القرآن النقلة فيه سلسة، لا تكاد تَشعر من سلاستها أنك تنتقل ...وتأمّل معي،  وتذكّر سنوات من عمرك قضيتَها تقرأ القرآن قطعا منفصلة، فلا تكاد تُبِين من معانيه إلا شذرات متفرّقة، أذهبتْ عنك روعة تلمّس رُوحِه الباعثة للحياة والحركة في كلماته، كما أذهبَتْ عنك تمثّل نفسك وقصّتها بين ثناياه، والعثور على الدواء الذي لا تجده  لها في غير صيدليّته... !
انظر إنها الحيّة التي تهيب بك أن تنطلق بها إلى فضاء الدنيا، مشكاة على درب حياتك، ومفتاحا لكلّ أطرافها... !

"إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)"

من أمره نبيّه صلى الله عليه وسلم ألا يطيع كلّ مَن كانت صفاتُه صفات ذلك المُطاع لماله وبنيه، إلى قريش وحقيقة ما هي عليه : " إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)"

هكذا تكون النقلة، ليعرّفنا سبحانه أنّ ما هُم عليه، أولئك المكذبون، وكلّ حَمَلة صفات الزنيم المهين إنما هو الابتلاء :"إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ " ...

أجل... إنه البلاء، وإنه –كما عرّفتنا سورة الملك- سبب وجودنا في هذه الحياة الدنيا، وليُعرَف به أيّنا يسيئ، وأيّنا يُحسن، بل أيّنا أحسن عملا: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " –الملك:02-
لنرى السورة وهي تعانق السورة، وهي تفصّل ما جاء فيها، إذ ذكرت "الملك" الابتلاء، وجاءت "القلم" لتفصّل في كيفيّته، من خلال قصة أصحاب الجنة الذين ابتُلوا كما هو الشأن في قريش...

لقد درج الناس على عدّ الابتلاء امتحانا بالمصيبة والمِحنة والأمر العصيب، بينما هو الامتحان بالخير كما بالشر، بالعطاء والإنعام كما بالمنع... بالتوسيع كما بالتضييق، بالغنى كما بالفقر، بالصحّة والعافية كما بالمرض ... وهو سبحانه القائل: " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ " -الأنبياء:35-

فأهل مكة في ابتلاء، في امتحان كما هو حال كل إنسان، وهُم في سعة من العيش، يعرّفنا بها سبحانه في قوله : " وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ "-النحل:112-

مكة هي تلك القرية التي فتح الله لها أبواب الرزق من كل مكان، وآمنها من كلّ عدوان، وهو سبحانه القائل فيها أيضا : " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ(03) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (04)"-قريش-

فكان فيها أصحاب مال وأعمال... كبراؤها وسادتها الذين كانوا من أكبر تجّار الجزيرة العربية... ومنهم كان المهين الزنيم الذي أنعم الله عليه بمال وبنين كان أولى به وأجدر أن يكون للنعمة من الشاكرين، ولكنه بطر، واغترّ بنعمة المنعم وبكرمه وأخذه الزهوّ بما ملك حتى وصف آياته سبحانه بأساطير الأولين ...

ويضرب سبحانه مثلا على ابتلاء قريش بالنعماء قصة أصحاب الجنة، أولئك الذين أُثِر في الروايات أنهم كانوا من أهل اليمن، وكان أبوهم صالحا وشاكرا لأنعُم الله، فكان يَقسم نِتاج جنّته ثلاثة أقسام، قِسْمٌ لأهل بيته، وقسمٌ كان يبيعه ويردّه لجنّته، وقسمٌ للمساكين، حتى خَلَفَ من بعده خَلْفٌ جاء القرآن بقصّتهم ...

وإننا حتى لو اقتصرنا على الخبر القرآني وحده دليلا -وهو لم يأتِ على ذكر أبيهم- لكفانا عِبرة وبيانا لما أراده أصحابُ الجنّة من عزمهم ...

لقد أجمعوا أمرَهم، وأقسموا يمينا أن يجُذّوا كل محصول جنّتهم دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين كما كان أبوهم يفعل، ويؤكّد لنا عزمَهم هذا قوله سبحانه في آية لاحقة على ألسنتهم: " أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24)"
عقدوا العزم على ما أقسموا عليه في الصباح الباكر متّخذين أسباب التخفّي، فطاف عليها من الله طائف، فقُضِيَ فيها أمرُه ليلا من قبل صبحهم القريب: " فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ " ...

وها نحن وكأننا نتفرّج على الأحداث... وكأننا نشهد اجتماعهم، وعزمهم، وقَسَمَهم على أن يأتوا ما لم يأتِه والدُهم من قبل، الصالح الخَلوق الذي كان يَقسم للمساكين من جنّته...

لعلّهم رأوا في فعلته حماقة وضعف رأي، رأوا بعينٍ غُمِّيَ عليها الخُلُق الكريم، فما قدروا له قدرا، بل رأوه ضعفا وأخلاط تفكير وسوء تدبير... إنها العين ذاتُها التي عرفناها في أولئك المطيعين لأمر مفسدٍ عاتٍ معتدٍ أثيم، مهين زنيم يُعرف بين الناس بشرّه، لا لشيء إلا لأنه ذو مال وبنين... !

وهؤلاء بالمِثل يرون في جعل قِسْمٍ للمساكين حماقة وضعفا في الرأي، وعبثيّة لا وزن لها في عالم المادة ... ولكنّهم إذ عزموا وإذ أقسموا، وإذ تحرّوا الوقت المناسب لتنفيذ مُرادهم براحة واطمئنان غفلوا، ونسوا وأمِنوا مَكر الله تعالى، الفعّال لما يريد، الذي لا يكون إلا ما يريد، سبحانه الذي هو على كل شيء قدير ... !
عزموا على حِرمان المساكين، على بخسهم حقّهم الذي أوجبه الله لهم من مال صاحب المال: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ(24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25)" -المعارج- ...ولن يفصل بين عزمهم وتحقيقه فعلا إلا سويعات هي المسافة بين ليل عزمهم وصبح فعلهم القريب...!  لقد أمِنوا مَكْرَه سبحانه... !

ولنذكر سورة الملك، والملِك سبحانه يحذّر عباده مَكْرَه في قوله : " أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)"

أما هُم فهُم الآمنون المطمئنّون، من غفلتهم ونسيانهم أنّ سُدُول الليل تُرخَى على النائمين، ولكنها لا تُرخى على عين الرقيب الذي لا تأخذه سنة من نوم ... ! فطاف الطائف... فأصبحت كالصريم...!
ويا ما أقرب المسافات بين قسَمِهِم وعزمهم وبين الطائف... !
والصريم هو الليل بظلامه وسواده، كذلك أصبحت جنّتهم التي كانت قبل ساعات قليلة، عامرة خضِرة، لفّاء غنّاء من نعمته سبحانه... !
وما أروع الكلمات القرآنية التي تجتمع في رونق وتناغم بديعَيْن، فترى الجنّة وهي التي أهلِكتْ ليلا، قد أصبحت صباح اليوم التالي كالليل : " فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ "...

في صباحهم ذاك الموعود، الذي رأوه صباح فرحة وعيد، بفطنتهم ونباهتهم وذكائهم الذي سيكفل لهم اغتنام المحصول كلّه لأنفسهم، لا أن ينقص منه ما يُقسَم لغيرهم ...! صباحهم الذي أعدّوا له عدّتهم من أنفسهم ونواياهم ليكون صباح الغُنمِ الأكبر ... !!
ولكنّ يدَ الله سابقة لأياديهم، وفعل الله سابق لفعلهم، وإرادته نافذة على إرادتهم، وقدرته مطلقة، وأمرُه الذي هو بين الكاف والنون "كُنْ" فيكون ... !!

إننا نتفرّج ... إننا نتابع ... !
إنّنا قد عرفنا مآل الجنّة، والإخوة بعدُ لم يعرفوا... لقد طُوِي مشهد الجنّة والأمر المقضيّ فيها... وهذا مشهدهم وهُم على أُهْبَتِهم وعلى عزمهم قائمون : "فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)"

تنادوا مبكّرين ... بعضهم ينادي بعضا، ويذكّر بعضا أنّ الوقت المناسب الخَلِيَّ من الناس قد حان... يستشرفون لفعلهم، والفعلُ فيها والأمر فيها قد مضى وكان ... !  يعتدّون بفكرتهم، وبصَوْلَةٍ فيهم للشيطان، وطائف الله قد طاف وبارح المكان... !
ألا هلمّوا... اغدوا على حرثكم... ! هيا إليه في أول النهار قبل أن يفيق الناس من منامهم... هيّا ... !
هم أولاء مجتمعون، مستعدون، منطلقون ... وهم يتخافتون لئلا يسمعهم سامع، ولئلا ينتبه لأمرهم منتبِه ...
وعين الله ؟! وسمع الله ؟ ! وعزمهم على هضمهم حقّ أهل حقّ ...؟!
كلّه في لُجّ الغفلة والاغترار بالنعمة ذاهب عنهم، غائب لا حِسّ له ولا ركز... !!

هُسْسْسْسْ ... " أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ " ... !

لعلّ المساكين قد ألِفوا طيبة ذلك الأب، وألِفوا أن يدخلوا وهو يعطيهم فرِحا مسرورا... فقد جاء أهل الفطنة اليوم ليقطعوا على المساكين -مع قطعهم لثمار الجنّة- حقوقهم وما لَهم ... !!
وهم أولاء على حرد أي على قصد لما فعلوا، وعلى منع قادرون ...

فليُرُوا قُدرتَهم ... فليُروها وقد أخذوا بكل سبب... !
ولكن هيهات هيهات ... لقد غفلوا فنسوا، نسوا أنّ القدير سبحانه بالمرصاد ... وقد أمِنوا مكره : "أفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ"-الأعراف:99-

لقد وصلوا... ها نحن معهم أمام الجنة...
"فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)"

لقد بُهِتوا...! لقد انقلب صُبْحُهم الذي توسّموه مضيئا سعيدا صريما...مظلما...! ورُبَّ ظُلمة تُلقي في النفس شُعاع النور لتفيق من غفلتها ...!
" إِنَّا لَضَالُّونَ " ...ضللنا طريقنا فليست هذه جنّتنا التي نعرف ... ضللنا طريقنا إلى الله فهذا الصريم عُقبى ضلالنا ... "بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ" ... لقد عرفنا ما لحِقَنا ... لقد أفقنا من غيّنا وممّا كنّا فيه سادرين، من غَيبوبتنا ...لقد حرمَنا الله كما اعتزمنا حِرمان أهل الحقّ حقَّهم... !

"قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)"
هذا أحسنُهم طريقا، يذكّرهم بمقالة له حينما اجتمعوا ليصرموا الجنّة ... هلاّ نزّهتُم الله عن كلّ نقص، وذكرتموه فانتبهتم لظلمكم؟!

ولكن ............. !!

إنه لم يعتزِلْهم، لم يصرّ على موقفه، ولم يصرّ على الحق وعلى ألا يخوض معهم فيما خاضوا، لقد صحِبهم مُصبحين، ولقد همّ بما همّوا... ! عرف الحق، ودعا إليه، ولكنّه لم يثبت حتى النهاية ... !
إن ظِلال هذه السورة لتُلقَى علينا كرّة بعد كرّة ... وهي تؤكّد على خطورة أنصاف الحلول، تحذّر من المُداهنة على حساب الحق، وتحذّر مِن طاعة مَن كان ظالما معتديا لأجل مالٍ أو لأجل مظهر من المظاهر الدنيوية، تُكبِره في أعين عَبَدة المظاهر والمادة... !

إنها السبيل إلى الاستسلام للباطل وطريقه وأهله، إنها السبيل إلى إحقاق الباطل وإبطال الحق ... !
إنّ القوة في الحق لا تشترط نفوذا ولا مالا ولا سلطانا، بل تحتاج أوّل ما تحتاج أنفسا قوية في الحق، لا تُداهن، ولا تكون معاييرها معايير القطيع الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فهو إذا رأى مَنْ مَالَ، مَالَ معه حيث مال ... !
لا تحتاج إمّعيّة، بل تحتاج نفسا تصّر على الحق، نفسا موشّحة بالأخلاق، تصونها وتحفظها، وتجعلها حركتها على الأرض وإن داهنَ الجميع، وإن أطاع الجميع طاعة بلا بصيرة ... !

إنّ دعوة الحقّ في أول زمانها قامت بالعظيم ذي الخُلق العظيم، وبعظماء صنعهم على عينه قرآنا يمشي على الأرض، فحقق الاستخلاف بحرفيّته في عدل وحقّ وإعلاء لشأن أصحاب الخُلُق والدين، وترصّد بالوقاية قبل العلاج لكل داء يريد أن يستشري في جسم الأمة... بالترصّد لجموح النفس، ولتمرّدها على الحق، ولإيثارها الإفساد على الإصلاح، بالتربية قبل الحدّ... بالتنشئة على اتخاذ القرآن منهاجا ومسلكا ومشكاة على درب الحياة قبل البتر والقطع... !

إنّ أوسطهم هذا صاحب الحلول الوسط... لم يُكمل دربه...
لقد صرمها هي الأخرى، وحرم نفسَه الثبات والأجر الأوفى بالثبات، وَعَظَهم، ونهاهم، ولكنّه لم يعتزلهم في فعلتهم ... ! قال كلمة الحق، ولكنّه سار معهم على درب الباطل ... !
ويحضرني في مقامه قوله سبحانه في السورة السابقة "الملك" في عناق وترابط جديد بين السورة والسورة : "لِيَبْلُوَكُم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا"... فأرى بلاء أوسطهم الذي كان حسنا في أوله، وقياسا إلى إخوته، ولكنه لم يكتمل ليكون "الأحسن"...

وهذا ما نزيد فنستبينه في ظلال هذه السورة... وهي تشير، وتُلقي بالعلامة تلو العلامة والمعلم على الطريق تلو المعلم...
فلا تطع يا محمد المكذبين، لا تُدهن، ولا تطع كلّ حلاف مهين... !
لا تكن يا كلّ صاحب حقّ، عارفا بالحق منتبها له، ثم تمضي مع أهل الباطل مداهنا كحال "أوسطهم" ... بل أكمل طريقك، ولا تستوحشه، وأنت فيه وحدَك، فالله فيه معك ... !
"قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ"

لقد قالوها، والله ينقل لنا قولتهم ...لقد انتبهوا، لقد أفاقوا، لقد أحسنوا قراءة الرسالة... ولم يَجْنحوا إلى تفسير بعيد، بل فهموا أنّها العقوبة، وأنه الحِرمان من الذي أعطاهم تلك الجنة وغفلوا عن أنه على حِرمانهم منها قدير ... !

وإنّ هذا لخيرٌ ... ! لخير في أنفسهم، مادام قد أسفر فيهم وهُم بَعْدُ في الدنيا، وهم بعدُ أصحاب فرصة .... !

فهُم أولاء يُفرِغون من كِنانة النّدم أسهما صوْب فجور أنفسهم، لتنبعث فيها تقواها فهم مع النّدم والخوف يرجون :
"فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)"

انقلب بعضهم على بعض، من بعد ما كانوا المُجمِعين على أمر واحد، من بعد ما اجتمعوا واتفقوا، وعزموا، وانطلقوا جميعا لغرض واحد ...

ولننظر... !
إنهم لمّا عرفوا من أوسطهم الناصح اتّباعه لهم رغم قولته لكلمة الحق، لم نسمع منهم ذكرا لموقفه، وكأنه الذي لم يكن... !
لم يجدوا فيه تلك القوة الكاملة الثابتة...لم يجدوا منه ذلك الرادع وإن باعتزاله فعلهم، ليلتفت الآن بعضهم إلى بعض وهم يذكرون ثباته، ويستشهدون به حقا قائما قويّا وحده لم يختلط بباطلهم... لم يروا فيه ذلك الفرد وحدَه الذي لا تهزّه ريحٌ هَبوب مبطلة وإن كانت من جماعة... !

إنه لا تقوم لدعوة الحق قائمة بأنصاف الحلول .... !

وهُم أولاء يأكل أنفسَهم النّدم ... وهي هي طريق التوبة والرجوع :
"قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ" ... تجاوزنا الحدود، اخترقناها ... !

أما هذه فهي التوبة بدمها ولحمها... بالأمل في القبول وتفتّح الأبواب:
"عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ"
إنه الرجاء في الله، في أن يبدلّهم بعد أن حرمهم، وفي أن يقبلهم بعد أن عادوا وآبوا وأفاقوا ...
نَعَم ... إنه العقاب، وإنه العذاب، ولكنّه الذي فيه رحمة لمَن أفاق وأناب ... ! لمن أدرك أن الفرصة بعدُ قائمة ... لذلك نجد الآيات الخاتِمة للقصة تشير إلى ذلك : " كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)"

إنه عذاب، ولكنه ليس الأكبر... إنها الفرصة ... وإنه -لمَن عاد واستعاد عافية نفسه، وأشرقت في جنباتها أشعّة نور الإيمان- الضوء في صورة الصريم، الرحمة في صورة العذاب، الخير في صورة الشرّ... !

لقد بلاهم الله، ولقد أخفقوا، ولقد عوقِبوا على إخفاقهم، ولقد عادوا ... !
أما أولئك الذين ضُربت لهم قصة أصحاب الجنّة مثلا، فإنهم الذين كالوا التُّهم لنبي الرحمة، فرموه بالجنون، وبأنه الذي يُلقي بأساطير الأولين، وبأنه الساحر، وبأنه الشاعر... إنه المثل الذي ضُرِب لهم تنبيها وإشارة إلى أنّ نور الإيمان إذا أشرق في جوانبهم فإنها الفرصة، وإنها النجاة... !

ولقد كان منهم من كال النبيَّ صلى الله عليه وسلم التّهم، وتصدّى لدعوته بكل قوة، وأذاقه وأصحابَه العذاب وضيّق عليهم، وقاتلهم، ولكنّه أفاق، وأناب، وانقلب كفره إيمانا، وانقلب كُرهُه لمكتمل العقل ذي الخلق العظيم حبّا وفِداء له بنفسه ونفيسه... !

وأعود في هذا السياق إلى ما أشرتُ إليه سالفا، وذكرتُ أن اللاحق من الآيات سيوضّح الإشارة، من أنّ الصفات التي عدّدها الله سبحانه وتعالى لذلك الزنيم المعتدي الأثيم كانت على أحد وزنَيْن إما "فعّال" وإما "فعيل" للتدليل على المبالغة وعلى الكثرة في الشرّ من نفسه...
في هذا السياق نذكر أن الإنسان يخطئ ويأثَم، ويفعل سوءا، ويرتكب خطيئة ويزلّ ويتمالأ عليه الشيطان ونفسُه الأمّارة ليهوي... والله يعلم من عبده ضعفا هذا مقتضاه، ولذلك فتح أبواب التوبة ووعد التائبين بالعفو والمغفرة والقبول ...

ولهذا نجد أصحاب الجنة سرعان ما أفاقوا، وانتبهوا ... لم تكن حالهم كحال ذلك الزنيم، فعّال السوء ...
وإنّ العبيد المطيعين للمتربّب المتألّه، لَيَزيدون في تَربُّبه وتألّهه وفي تمكّن الشرّ من نفسه حتى يصبح له علامة ووَسْما ... !
فلنُفِق، ولنسارع للتوبة والعودة، ولا نكرِّسَنّ في أنفسنا الشرّ، ولا نُصِرّنّ عليه ونحن نرى ذلك منا فطنة ونباهة ... ولا يغرنّنا مَن كان مادحا لظلم منّا على أنه القوة، ولغرورٍ وكِبر فينا على أنه الثقة اللازمة للنفس... ولنتخذ من صاحب الخُلُق العظيم أسوة حتى لا نكون في عِداد الذين يصبح الشرّ والسوء فيهم وَسما وعلامة -عياذا بالله- ... والسلامةَ نسألك يا عالما بضعف النفوس... !

ويالِوارف ظلالك يا أيتها السورة العظيمة ... !
وأنصاف الحلول لا تقيم للحق قائمة ... وفرصة العودة والقبول خير عظيم وإن كان المظهر صريما... !
« آخر تحرير: 2020-11-26, 15:42:43 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وتنتهي قصة أصحاب الجنة...

وهي الأخرى تلوّح في ثناياها إلى خطورة المُداهنة والمُسايرة، خطورة أنصاف الحلول مع الحق، وأنّها الطريق إلى الضّلال من حيث يُظَنُّ أن أمرها هيّن كحال أوسطهم الذي عرف الحق ونطق به، ولكنه عند الفعل كان ضعيفا، فساير، ومضى معهم حيث مضوا، وأقرّهم على فعلهم بالفعل معهم من بعد ما أنكره بالكلام ...وليس أيسر من الكلام، بينما الفصل في الفعل ... !
سورة القلم تشير بقوة إلى وجوب الحسم والقوة في الحق، وأنّ المُداهنة والمُسايرة لا تأتي بشيء، بل تُدخِل صاحبَها مَدخَلَ المُبطِلين، من حيث يحسب أنه يتنازل عن يسير، بينما هو اللَّمَم الذي يجتمع على النفس اجتماع الشِّية إلى الشِّية حتى تذهب نصاعة الحقّ فيها...ويتساوى عند صاحبها سيء وحسن، وحقّ وباطل... !

ولنتأمّل... !
لنجد أن السورة تبيّن للإنسان أينما كان، وكيفما كان وضعُه ومقامُه الذي فيه أنه معنيّ بهذه الحقيقة، حتى لا يتصور قارئ للسورة أنّ الأمر وقد جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يُداهن، وألا يطيع المُبطِل المَهين الزنيم المُطاع لماله وبنيه، إنما هو قصر عليه وحده، وعلى دعوته لتقوم وتتمّ...

فجاء أصحاب الجنّة مثالا على أنّنا جميعا معنيّون بتشرّب هذه الحقيقة، وباتباع هذه القاعدة، وأننا حيث كنّا وبأيّ مقام كنّا إنما نحن المُمتحَنُون، المُبتلون أنُداهن في الحق ونُساير أهل الباطل ونسترضيهم، أم نصرّ على الحق فعلا وتطبيقا لا كلاما وخطابة حماسيّة مجرّدة عن أيّ فعل... !

وحتى نبحث في أنفسنا، لربّما كان أوْسَطُهم فينا ونحن نحسب أننا نُحسن صنعا... نحسبه هيّنا يسيرا... نحسب أنّ ذلك ما علينا لنعايش ونتعايش، وليقبلنا الناس... !
وهكذا هو دأب القرآن، التربية بالقصّة وبالمثال، ليس من باب اتخاذها قصّة تُسمَع، وتاريخا يُعرف، وأحداثا تُسرَد، بل هي قصة الإنسان في كل زمان... ! هي قصّتك وقصّتي، هي العدسة المكبّرة الكاشفة لدواخلك ...لعِللك... لما تحاول أن تُخفي، وتستر، ولما تحاول أن تُداهن مع نفسك قبل غيرك ... !

إنها قصصنا... !
ليس شرطا أن تكون لك جنّة كجنّته، ولا إخوة كإخوته، بل لكلّ منا شيؤُه، ولكل منا مُحيطه، ومضمار امتحانه وابتلائه في تعاملاته مع المحيطين به، ثم قِسْ أنت عليها مواقفك من الحق، قِسْ قولك ومسلكك للطريق، أتُراك تقطعه كاملا إلى مُنتهاه، أم أنك الذي يقف في منتصفه ويحسب أنه ماضٍ..!
أتُراك الذي يقنع بنصف الحل، ثم يُعلّل لنفسه أنه لا ضرر من ذلك ولا ضِرار، وأنّ "الذكاء الاجتماعيّ" يقتضي ذلك، لأنه ما من مكان في دنيانا للأغبياء ... !!

وكم صرنا نُعايش من المُداهَنات والمُسايَرات والتنازلات، وكلُّها عندنا في تصنيف "العادي" ... حتى اختلط حابل بنابل، ولم نعد نَمِيزُ خبيثا من طيّب، ولا حلالا من حرام، ولا حقا من باطل ... !

ولنمضِ مع السورة ... ولنرَ ... إنها لحُبلى بالإضاءات على الطريق ... !

"إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ"

وجنّة، وجنّات ... وسياق جِنان ...
جنّة أخذت بألباب أصحابها وبقلوبهم حتى غيّبتهم، فحَرَمُوا أصحاب الحقّ حقَّهم ... ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموهم... وتلك هي دنيانا ممثّلة في جنتهم، وكلّنا أصحابها ... كلنا أصحاب الدنيا... أصحاب الجنة ... !!

هي الأخرى سيطوف عليها طائف من ربّنا فتصبح كالصريم ... فتنتهي ... ! فتذهب ... ! لنجدنا بين يدي ربّ العالمين... ! فإما كنا الذاهبين في نومة الغفلة ونسيان يوم اللقاء العظيم، وإما كنا التائبين، الآيبين الراغبين إلى ربّهم، الذين أحسنوا اغتنام الفرصة ... ! إما إلى جنات النعيم أو إلى غيرها عياذا بالله ... !

إننا نُساق من الجنّة وأصحابها، وهي كذلك دنيانا ونحن كذلك أصحابها... إلى جنات النعيم ... !
إنها جنّة النعيم المقيم التي هي جزاءُ المُتّقين، الذين لا يَخْلِطون بين حقّ وباطل، الذين يطيعون ما أمر ربّهم، وينتهون عما نهى عنه، الذين يأتون ما يُرضيه، وينْأَوْن عما يُسخِطه... الذين لا يجعلون من الأخلاق قيَما نسبيّة، ولا يُنْكرون أنها المطلقة التي أودِعت في البشر، فاصطلحوا عليها، فالسيّئ سيئ والحَسَن حسَن...

هي الجنّة جزاء المتّقين، الذين ليسوا ممّن يَرُومون العبثيّة، ويُحكّمون في حياتهم الفوضى لا النظام، فلراءٍ منهم أن يرى في الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين فعلا سليما، ولآخر أن يراه سيئا، هي النسبيّة، فلا طلاقة في التقدير ...! وإننا  نعايش في فلسفة التصوّرات الحديثة موضة "نسبيّة الحقيقة "... !!
ويا ما أشدّ خطورة هذا التصوّر المُشَوّه وهو يُتّخذ لإقرار العبثيّة واللانظام، ونحن نعايش الهرطقة بـ "الحرية الفردية"... فمِن إجازته الشذوذ الجنسيّ لنفسه، إلى الجهر به حريّة فردية، إلى الخروج للاحتجاج والثورة على كلّ مَن يجرّمه، إلى جعل تجريمه قانونا يُسلَط على رقاب كلّ مَن ينبس ببنت شفة في حقّ الشذوذ والشواذّ... !!!
وفي بلاد الإسلام يا صاح !  في بلاد الإسلام يحدث هذا ... !!إنه اتّباع سُنن المُخلِطين المخبِطين شبرا بشبر وذراعا بذراع... !
فقبل أن تُسلّم بنظريّتهم المزعومة، على أنّها علامة من علامات التحرّر والتفكير الحرّ، فتأمّل معناها، وتأمّل عملها، وأثرها الخطير... ! لتُدرك أنها من قانون الغاب والحيوان، لا من قانون خالق الإنسان للإنسان ... !

إنها المُداهنة والمُسايرة، والطاعة والاتّباع والانصياع لأمر ذلك المُطاع لماله ولقوّته... ذاك الذي عرفنا أنه المَهين عند الله، وكيف كان الأمر منه سبحانه بألا يُطاع . إنها طاعة أصحاب القوّة على الأرض وإن كانت قوّة بلا أخلاق ... !
وأوّاهٍ ثمّ أوّاهٍ يا سورة القلم ...! يا معلّمتنا أنّ المُداهنة طريق إلى إحقاق الباطل والعبثيّة، وإبطال الحقّ والأخلاق... !

أما جنّات النعيم فهي لأولئك المتّقين الذين أقاموا وثبتوا على درب الحق، ولم يكتفوا بأنصاف الحلول، ولم يستسهلوا أنصاف الحلول حتى وقعوا في جُبّ التبديل والتغيير، والتحليل بالهوى، والتحريم بالهوى، وكلّه نسبيّ... فلا ضَيْر ... !!

وسبحان الله... أيّ صدى للآية في رحاب سورة القلم تجده في قابل الآيات منها مدوّيا، صادعا قويّا، يزيد بيانا، ويزيد تفصيلا، ويزيد تأكيدا على المعنى ...

فلننظر .... فلننظر ... !

"أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41)"

من الآيات السابقات، من تلك التي في بداية السورة من أمر للنبيّ بعدم المداهنة، وبألا يطيع صاحب الخُلُق الذميم الزنيم المَهين، ومِنَ التي في قصة أصحاب الجنّة، وحال أوسطهم الذي لم يكن من أثرٍ لكلام منه، وهو الذي لم يُجسّده فعلا على الأرض إذ ساير واتّبع...
من سماقة الخُلق الكريم عند الله تعالى حتى جعل شهادته بعظمته في محمد صلى الله عليه وسلم مَعِيناً يُستقى منه للبشرية ....
من هذا كلّه نتبيّن كيف أنّه لا يستقيم أن يتساوى بياض وسواد، خُلُق ولاخُلُق، نظام وفوضى، لا يستقيم أن يتساوى الضدّان ...بل هما على طرفَي نقيض ... لنجدنا أمام خطاب من الله تعالى لأولئك الذين يريدون تسوية، خطابا عقليا استنكاريا:

"أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ(41)"

مالكم كيف تحكمون ؟! أفنجعل المسلمين كالمجرمين ؟!
أفنجعل جزاء المسلمين المتقين، كجزاء المجرمين ؟

ولنتأمل في لفظ "المجرمين" مقابلا لـ "المسلمين"، بدل "الكافرين" حتى نفهم جيدا، أنّ ممّن يُعدّون في عِداد المسلمين مَن يُجرِم، من لا يعترف بالقانون الإلهيّ، من يَخلِط ويَخْبِط، وسواءٌ عنده إساءةٌ أو إحسان، ما أرضى الله أو ما أسخطه، ولا عجب... ! فهُم محيطون بنا من كل صوب... !

ويُلصقون بأنفسهم أوصافا في عَدّهم هي الفكرية التنويرية التحرُّريّة، فتارة هُم العَلمانيون، وتارة هم الليبراليون، وتارة هم الديمقراطيون، وأخرى هم الشيوعيون... !
في عُقْر دار الإسلام، لا يرتضون الإسلام سِمةً ووصفاً، بل هم ألدّ أعداء مَن حقّق الإسلام حياةً وفِكرا وتصوُّراً وفلسفة ... أولئك هم المُمَيِّعون، المسايِرون لأصحاب القوة على الأرض، المتّبعون لهم ذراعا بذراع وشبرا بشبر... الداعون للتحرّر من قيود الدين !!

فانظر كيف جاء الله بـ "المسلمين" وبـ : "المجرمين"، حتى لا ينصرف ذهنُنا إلى أنّ الكافرين وحْدَهم مَن يُجرمون، فيجعلون الدستور الأخلاقي والعبثَ سواء، الإحسان في الأرض والإساءة سواء ...فمِن بني جلدتنا مَن بات أشدّ شراسة في ذلك من الكافرين... !

ما لكم كيف تحكمون ؟!
إن كنتُم قد استسغتُم ذلك في الدنيا لتجعلوها مرتعا لأهوائكم ... فإن الله تعالى لن يجعل في الآخرة جزاء المجرم وجزاء المسلم سواء ؟

حسبُكم الدنيا ... دار الابتلاء لترتعوا فيها قليلا ريثما يأتي يوم الفصل، يومَ لن تجدوا فرصة لا لرتع بأهوائكم ولا لارتداع عنها ...دار الجزاء وحسب ... حيث ينتهي دور الابتلاء... ينتهي الامتحان فلا عمل ... الجزاء والجزاء وحدَه ... !

"أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)"

أفَحسبتم أن الأمر هكذا متروك للّعب واللّهو والعبث والأهواء ؟! : "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ"- الدخان: 38-

إنه "كتاب"... إنه مسطور...
فيه العلم، فيه الحق من ربّ الخلق ... فيه الدستور الإلهيّ الربانيّ التربويّ للعبد المخلوق ... فيه الهُدى على درب الحياة الدنيا، فيه فرقان بين حق وباطل وهدى وضلال، فيه ما يجب أن يكون، وما لا يجب أن يكون ... ليلُه كنهاره ... لا شيةَ فيه، لا رماديّة في لونه ... !

بل إن الرّماديّة التي جاء فيه ذكرُ استسهال الناس لها، هي السبيل إلى السواد، إلى الظُّلمة ... المداهنة والمسايرة هي السبيل إلى التسوية بين حق وباطل كلّه نسبيّ ... فلا ضير من المُداهنة ... !

وإنها سورة "القلم" ... وإنه ذكر للكتاب ولـ :"يدرسون" بعد "القلم" و "يسطرون"
كلها معالم على الطريق في هذه الدعوة، وأنها القائمة على العلم، على الكتاب، على الدراسة، على العقل ... لا على الهوى، ولا على العبثيّة والإمّعيّة والاتباع الأعمى ...

إنها قوانينٌ إلهيّة كاملة عُليا سُطِرت في كتاب ...
فمِن أيّ كتاب أيها المجرمون تستمدّون قوانين إجرامِكم ؟! من أيّ كتاب ؟ من كتاب الهوى ؟ إنه ليس كتابا، إنّه صناعة أهوائكم... ! إنه باطِلُكم ودعاواه، إنّه ليس أمر الإله: " أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا"-الفرقان :43-

أيّ كتاب تدّعون أنه من لدُن الله الحكيم جاءكم بالسويّة بين إحسان المُحسن وإثم الأثيم ؟ بين صاحب الخُلُق الكريم والمعتدي العُتُلّ الزنيم ؟ بين قاتل الرضيع البريئ وقاتل المغتصب المعتدي ؟

أيّ دراسة لكم في هذا الكتاب تجعلكم تتخيّرون منه ما راقَ لكم وطاب ؟!

لا بدّ أنه الكتاب الذي فيه التسوية، وألا فرق بين محسن ومسيئ، بين مُجرم ومسلم، بين خَلوق خيّر وجِلف جوّاظ شرّير... !
لا بدّ أنه كتاب "الحق مع الأقوى" وقانون الغاب الذي يريدونه لهذه الأرض، فينهَب به صاحب القوّة والسلاح خيرات البلدان المستضعفَة، ويعدّ أهلها خَدَمته المطيعين الذين لا يجب أن يعصوا له أمرا ...يعدّهم دوّابَّهُ الرَّكُوب... !
وهو في الأخير سيدندن بأغنية "محاربة الإرهاب" يضع لها لحنا مع المطاويع(جمع مِطواع) من بني الجلدة المُداهنين... !!

لا بدّ أنه كتاب "الحريّات الفردية" الذي تتساوى فيه المرأة الرَّزان المَصون وبائعة الهوى التي تبيع نفسها وشرفَها باسم الحريّة والتحرّر... !
ذلك الكتاب الذي يدّعون أنه مع الحرية في الاعتقاد، وفي الملبس والمأكل والمشرب والفِكر المعتنَق، وفي السلوك...
فمن أحبّت أن تستتر فلتفعل ومن أحبّت أن تُسفِر فلتفعل، ومن أحبّ أن يتعبّد ويتبتّل فله ما أحبّ، ومن أحبّ أن يُلحِد ويكفر فله ما أحبّ ... !
إلا أنهم ينسون في غمرة حبّهم للحريّات أنهم إنما اصطنعوا كتابَهم ليعيثوا فسادا وإفسادا، وفوضى وحيوانيّة، وعبثية، وهباء ولاغائيّة في عالم الإنسان المكرّم من ربّه !!
فتجدهم في غمرة حبّهم ينسون، فيشنّون الحروب على أهل التستّر والتعبّد والأخلاق بدعوى أنهم أهل التزمّت والانغلاق ... ! يَخون رؤوسَ الإفساد فيهم غايتُهم ومرامهم، ويخون المُداهنين المطيعين من متّبعيهم كثرة مداهنتهم حتى يتأصّل الباطل عندهم مكان الحق، ويتكرّس للهوى في أنفسهم مكان الهُدى ... !

فهل هو الكتاب الذي تدرسون لتتخيّروا منه ما طاب لكم، وما مالت له أهواؤكم، فتأخذوا بما تشتهون، وتذَرُوا ما لا تشتهون ؟!
فكلّ شيء فيه سواء، من أحبّ أن يأخذ بالأخلاق ويتخيّرها أخذ، ومن أحبّ أن يأخذ بحربها أخذ ... !
مالكم كيف تحكمون ؟! يا مَن تحبّون أن تُحْكَم الأرض بأهوائكم لتنعموا بحلم الربوبية على مطيعيكم... ولقد قالها قبلكم أحد أسلافكم وقدواتكم : "أنا ربكم الأعلى".... مالكم ؟ كيف تحكمون ؟!

"أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)"

أم لكم عهد قطعه الله لكم بأيمان ومواثيق أن يكون لكم به الوفاء يوم القيامة وهو الذي لا يُخلف وعده، وفيه أن يتساوى جزاؤكم وجزاء المسلمين، ويتساوى جزاء صاحب الأخلاق والمنحطّ المهين العتلّ الزنيم ؟ فإنّ لكم وِفقَه ما تحكمون من سويّة ؟!

يا الله........ !!
إنه سبحانه جلّ في عُلاه يُقيم لمخلوقه وَزْناً بعدُ وهو يمدّه بالفرصة...يذكّره بها... وهو يخاطب العقل فيه، ذلك العقل الذي كرّمه وحباه به، يستنهضه فيه ليعقِل ...ما يزال يهزّه بأسئلة عقليّة لعلّه يعقل..... !
فهل ترك هذا الكتاب العظيم من شيء ؟! إنه بعد أن عالج بالقصة وربّى بالقصة، هو ذا سبحانه وتعالى يربّي بالحجّة ...

"سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ "
وهذا دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطّ هذا الخطاب المباشر من الله إلى عباده المكذّبين، المجرمين، الداعين بالسويّة بين فضيلة ورذيلة، بين حق وباطل، بين ضلالة وهداية ...
سلهم يا محمّد أيّهم زعيم بما يدّعون من مساواة في الجزاء يوم القيامة، أيهم هو ضامن لهم أن يجدوا يوم القيامة ما قضوا به من فوضى عارمة؟ أيّهم سيكون الضامن لهم أنّ حُكمَهم كائن ؟!
ويحضرني هنا كيف أنه صلى الله عليه وسلم زعيم بالمؤمنين، ضامنٌ لهم بنصّ قوله:   "أَنا زعيمٌ لمن آمنَ بي ، وأسلمَ وَهاجرَ ببيتٍ في رَبضِ الجنَّةِ ، وببيتٍ في وسطِ الجنَّةِ ، وأَنا زعيمٌ لمن آمنَ بي ، وأسلَمَ ، وجاهدَ في سبيلِ اللَّهِ ، ببيتٍ في ربضِ الجنَّةِ ، وببيتٍ في وسطِ الجنَّةِ ، وببيتٍ في أعلى غُرَفِ الجنَّةِ ، من فعلَ ذلِكَ فلم يدَع للخيرِ مطلبًا ، ولا منَ الشرّ مَهْربًا ، يَموتُ حيثُ شاءَ أن يموتَ" –صحيح أبي داود-

وعلى هذا... أدخِل صلى الله عليه وسلم في هذا المقام تحديدا، لأنه زعيم المؤمنين والضامن لهم أنّ ما كان في الدنيا من وعد الله تعالى بجزاء للمؤمنين الفاعلين للخير، المُجانبين للشرّ متحقّق لا محالة .

 وما يزال سبحانه يقيم الحجّة عليهم، ما يزال يسألهم ويُنكِر عليهم ما هم فيه، فلا يترك حجّة عقلية إلا أتاهم بها ...
"أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ"

والشركاء كل ما يُشركه الإنسان في عبادته مع الله سبحانه، ليس في شكل الصنم وحده، بل إن أشكال الشريك عبر الأزمنة عديدة ومتعددة ومختلفة،  فقد يكون الهوى، وقد يكون الدنيا، وقد يكون إنسانا مُطاعا حدّ العبادة من دون الله... !

وهذا من أدنى ما انحطّ إليه عقل الإنسان، أن اتخذ من دون الله ربا معبودا، والعقل والمعقول وكلّ ما يُحيط دليل على الله الواحد  الأحد...

الله سبحانه يحاجّ، ويخاطب مخلوقه بما حباه من عقل، فيسأله ليجيب عقلُهُ، وليقيم عليه الحجّة، يأخذه ذات اليمين، وذات الشمال مِن حوله، ثمّ نجد آخِرَ ذِكْرِه الشركاء، لأنها الدّركات التي بلغها الإنسان حينما ألغى عقله، لأنها نِتاج غمر العقل وخَمْرِه... يبدأه بذُؤابة ما في عقله سؤالا ومُحاجّة، حتى ينتهي إلى أحطّ دركاته بذكر الشركاء الذين اصطنعهم وادّعاهم من دون الله، وهو الذي يحثّ خُطاه في كل زمان ليصطنع فوضاه وعبثيّته على أنها القانون والكتاب المتَّبَع مكان القانون الإلهيّ الذي أنزله للبشر خالقُ البشر... !
فليأتوا بشركائهم الذين عبدوهم وقدّموا لهم آيات الطاعة والانصياع والاتباع، فليأتوا بهم لينقذوهم يوم الهول العظيم ...! ليجعلوا لهم منجى ومهربا من عذاب الآخرة ... من العذاب الأكبر... !

ولله درُّكِ يا سورة القلم ... لله دَرُّكِ وأشعّتُك المتلاحقة تُلقَى ضوءا على ضوء يزيد في بيان المرام ... !

وقد بدأتْ بالقلم، وبما يسطرون، وكيف أنّ صاحب الخُلق العظيم هو السّنا والسنام، الذي يُقرّ للإنسان إنسانيّته التي لا تستقيم إلا بأخلاقه، وكيف أنه هو الحقيق بالطاعة، وبألا يطيع من يُطاع لأجل مادة وهو من الخُلق خواء، وألا يُداهِن، إذ إنّ دعوة الحق لا تقوم إلا كاملة، لا تقبل أن تُخفي شيئا من نورها وتُظهر شيئا، وأنّ أنصاف الحلول كحلول "أوسطهم" طريق مسدود لا ينتهي بصاحبه الظانّ أنه على خير إلا إلى طريق الباطل، حتى يتساوى عنده إساءة وإحسان... إسلام وإجرام ... !

حتى بلغنا منها المُحاجّة في ما جعله بشرٌ من البشر قانونا هو في حقيقته الفوضى واللاقانون، المحاجّة في هذه التسوية العقيمة العرجاء بين خير وشرّ ... بين قانون الإله العليم الحكيم وبين فوضى الإنسان المتمرّد الأثيم ... !!

إنها لَسُورَةُ الحَسم ... وأن الحق عملة بوجه واحد، وأنها ليست ذات أوجُه، ولا تحتمل النسبيّة، ولا تحتمل الآراء، بل هي المطلقة التي تُستمدّ من النور الإلهيّ، من الدستور الأخلاقيّ الربانيّ الذي يُقِرّ في الفطرة نزعة إلى الأخلاق، بينما يحاول البشر عَبَثا أن يجعلوا للإنسان قانونا من صنع أيديهم ... !
وكيف أنّ المُداهنة والتنازل طريق إلى الهلاك ... إلى اللامعقول، إلى الفوضى والعبثيّة والهباء ... !
« آخر تحرير: 2020-11-26, 15:47:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وهكذا...

على مدار سورة القلم العظيمة عرفنا أن الأخلاق مقياس قيام الحق في الأرض، وأنّ قيامها بالمادة وحدها خُلْواً من الأخلاق ضربٌ من ضروب الوهم والخداع، الذي يتبيّن لمَن يدقّق النظر في حال الإنسانية اليوم وهي الجَوْعَى للعدل، الظّمأى للعيش الكريم، وفي مدى جَوْر الحكم على سلامتها بِعَدِّ ما عليها من عمران شاهق، وبنيان مَشيد وكلّ ما من شأنه تيسير حياة الإنسان من ابتكارات واختراعات، وبما صارت إليه أطراف هذا الكوكب من تقارب وتسامع بعضها إلى بعض عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، وبما نعرف من تطوير للسلاح ومظاهر قوّة في دول باتت تُعرف بالعظمى اقتصاديا وعلميا وعسكريّا، حتى بات جانبُها مُهاباً، وباتت تعيث في الأرض، لا تأبَهُ إلا لمآربها وحظوظها من كلّ قطعة عليها... !

لا تأبَه لإنسانيّة الإنسان ما دامت هي وحدها صاحبة الحقّ لا لشيء، إلا لأنها صاحبة القوّة والمال... !
نعم ... كُلُّهُ عرفناه من هذه السورة العظيمة ... ولستُ أهذي !! ولست أُقحِم فيها ما ليس منها...وأنا أسوق الدّول باقتصادها وعمرانها وحروبها ...
إنه القرآن ... إنه دستور الإنسان على الأرض...

أوَ ليست الشهادة الإلهية العظيمة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالخُلق العظيم، مُقسَما عليها بالقلم وبكل ما سطره البشر وما يسطرون من ثمرة عقولهم التي علِمت، واخترعت، وابتكرت، واكتشفت، وأعلتْ وشيّدت، وطوّرَتْ... وأنّ هذا البَشَرَ منه صِنفٌ جِلفٌ محبّ لأن يُسمَع ويُطاع، لأن يُذلّل البشر لنفسه المغرورة كما تُذلَّلُ الدابّة لسائسها... صنف منّاع للخير، أثيم، همُّهُ نفسُهُ ومآربها... جعل من ماله قوّة ذَلَّ له بها عَبَدةُ المادة، فصيّروه إلها يُطاع ولا يُلتَفَت لشيء من فساده وإفساده... !

أوَلَيس قد أُمِرَ صاحبُ الخُلُق العظيم -وهو الحقيق بالطاعة والاتّباع- أن يخرق القاعدة الفاسدة التي وضعها الناس، وأن يُصلح بقوانين ربّ الناس سبحانه، فيبيّن أنّ الإنسان أخلاق، وأنّ الفاسد المفسِد داءٌ إما أن يُنتَبَه لخطورته، ولوجوب الحدّ من زحفِه على سائر الجسم، ولبيان أنّه صاحب بضاعة فاسدة لا تصلح للاستهلاك، أو أن يُترَك فيُهلِك و يسحق ويمحق ...يَمحَق الإنسانية في الإنسان حتى تذهب عنه الغاية من وجوده، ومن أنّ عبوديّته ليست إلا لله وحده، لا للبشر المتألّهين الذين يتوهّمون أنّ الأرض وما عليها مملكتهم الخاصّة ... !

أوَلَيْسَ قد أمِرَ ألا يُداهن في الحق، وأنّ مُداهنة أهل الباطل إذهاب لريح دعوة الحق على الأرض ...؟!

أولم نعرف أنّ الابتلاء بالخير على الأرض... بالمادة... بتفتّح زهرة الدنيا على الناس، من شاكلة ابتلاء أصحاب الجنّة الذين رأوا في حقّ يُعطى للمساكين حماقة، وأنّ الفطنة تقتضي أن يُحرَمُوا هذا الحق ؟!

أليس هو الاغترار بالمادة ؟! أليس الشَّرَهَ الذي لا يشبَعُ صاحبُه، ولا يحسّ بالشبع وإن ملك ما ملك ؟! أليست هي العين التي ترى المادة، لا شيء غير المادة، فلا اعتبار لمسكين ولا لمستضعف ولا لمحتاج ... نفسي ومِن ورائي الطوفان ... !

ألم يكن "أوسطهم" مثالا للمداهنة التي تقضي بأنصاف الحلول، وبالوقوف في منتصف الطريق، وبأنّ المداهنة إلى المُداهنة هي القطرة إلى القطرة في أسْنِ ماء الحقّ وذهاب صفائه في النفس، حتى ينتهي إلى غَوْر وجفاف... !

ألم تعلّمنا "القلم" أنّ المعتدي الزّنيم يصطنع قوانين باطِله ويُبطِل قوانين الحق...؟! و "أساطير الأولين" كلمتُه المَقولة، يردّدها أمثاله عبر الأزمان بأشكال وأشكال، تصبّ كلّها في إبطال قانون الله، الربّ الخالق، وإمضاء قانون الهوى والباطل، وأنّ الحقّ مع الأقوى... مع الأغنى ... !

وسواءٌ في ذلك "المهين الأثيم" المتربّب المتألّه و "أوسطُهم" المُداهِن المتنازل، المتّبِع... كلٌّ منهما طرف في معادلة صناعة قوانين الهوى، قوانين العبثيّة، واللاغائية التي يُلبسونها مُسوح الحريّات الفردية، والتنويرات الفِكرية، والحقيقة النسبيّة، وأنّ أخلاق أو لا أخلاق سواء .... ! لا فرق... !!
يقرّ المولى سبحانه تهافُتَ هذه العبثيّة البشريّة، وهذا العجز البشريّ عن الإتيان بقانون للأرض ولقيامها، ولقيام الاستخلاف فيها، وبالهُراء في احتكام الإنسان للهوى ولقانون القوّة الماديّة الظالمة الغاشمة، فيعرض لنا حوارا عقليّا فيه التلطّف بالمخلوق المكرّم بالعقل عساه يعقل ! فيه الكرم الإلهيّ على عبده بالفرصة عساه يغتنم ... !

"ما لكم كيف تحكمون ؟!" ...لن يكون ما ترومون من حكم عبثيّ لا ينساق إليه إلا من غشّى عقلَه الهوى، فما عاد يرتضي بحكم الإله المالك في مُلكِه وخَلقِه...

ولقد مضيْنا حتى بلغْنا المُحاجّة في الشركاء، ومطالبتهم بأن يأتوا بهم يوم القيامة لينقذوهم إن كانوا صادقين في ادعائهم سلامة اتّباعهم يوم لا مفرّ من أمر الله ...

وها نحن مع مبلَغِنا من الآيات، نجدنا مع نهاية هذه الدنيا التي كفر مَن كفَر بالبعث بعدها، وأنكر مَن أنكر الموجِد لها أصلا بَلَه الباعث !  وساوى مَن ساوى فيها بين مسلم ومُجرم، بين أخلاق وفساد وإفساد، بين إنسانيّة وبهيميّة... بل بين عقل ولا عقل ... !

فليأتوا بشركائهم الذين أشركوهم مع الله الواحد يوم يُبعثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لربّ العالمين ... فليأتوا بهم، ولتكن لهم كلمة، ولتكن لهم نأمَة ... ! فلتكُن ...
"يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)"

يوم يُكشف عن ساق، كناية عن الأهوال والشدّة والبَرَح في ذلك اليوم العظيم، اليوم الحقّ ...والأمر يومئذ للملِك، ملك يوم الدين ...فلا ملوك ولا أصحاب سلطان، ولا أصحاب مال، ولا أصحاب بنين ...
لن ينفعَهم مَن أطاعهم في الدنيا لجبروتهم ولشرّهم، ولمالهم... لن ينفَعَهم مَنْ ألّههم من دون الله ... لن تنفَعَهم دنيا رتعوا فيها وحسبوا أنهم مُلّاكُها وأصحاب الأمر والنّهي فيها .... ! لن تنفعهم دنيا تُرِكوا فيها ليرتعوا وقد وصفوا آيات الله وقانونَه، ودستور الأخلاق الذي أنزل بأساطير الأوّلين ... !

لن ينفعهم معبود اتخذوه من دون الله، وإن كانوا في الدنيا ممن أعلنوا أنهم لا يعبدون شيئا ... بينما كفاهم أنّ إلهَهُم هَواهُم ...! فنادوا بالتحرّر من ربقة الدين، إلى مرتع الهَوى ... حيث سرحوا ومرحوا فساووا بين حقّ وباطل، وبين أخلاق وانحطاط ...

هم أولاء.... !
هُم أولاء يُدعون إلى السجود ... أن اسجدوا...
وكأنه الأمر لهم ليروا من أنفسهم العجز ساعة ودّوا لو استطاعوا ... ليذوقوا أَلَمَ العجز عما غدتْ غاية أمانيهم القدرة عليه ... !!

لقد كانوا في الدنيا يعتدّون بالقوة وبالمال، وبالقدرة، كما اعتدّ بها أصحاب الجنّة، فأقبلوا على عزمهم وهم لا يُساورهم شكّ في قُدرتهم ... !
تيقّنوا من قدرتهم، ونسوا أنّهم عِباد الذي هو على كل شيء قدير ... حتى فاجأهم بقدرته وقد عمِلتْ قبل عملٍ منهم، بإرادته وقد أُنفِذت قبل إرادة منهم ... !

وكما أتى الطائف على الجنّة وهم نائمون ... كذلك يأتي الطائف على الدنيا وهم في غفلة سادرون ... !
لا يستطيعون ...... لا يستطيعون السجود ... ! وودّوا لو أنهم استطاعوا... حُرِموا السجود ساعة تمنّيهم له ... ! حُرِموا لأنهم حَرَموا أنفسهم منه ساعة وجوبه... !
أيّ مفارقة هي .... أيّ مفارقة ...! لم تعد من فرصة ... ! انتهـــــــــى... !
قُضِي الأمر، ولم يكن سبحانه ليبدّل القول ... انتهى الامتحان، واليوم لا عمل ... بل جزاء ... وحده الجزاء ... فما عاد ينفعكم تمنّيكم السجود... لم يعد ينفعكم تمنّيكم العمل ... !
حُرِم أصحاب الجنّة ساعة حسبوا أنّه الغُنم الأكبر، ساعة حَرَموا أصحاب الحقّ حقّهم .... وكذلك... هُم أولاء المكذّبون في هذا اليوم يُحرَمون وقد حَرَموا أنفسهم حقّ العبودية لله وحده ... ظلموا أنفسهم ... !

خاشعةً أبصارُهم، تغشاهم الذلّة ... !
فأين ما كانوا فيه من اعتداد بأنفسهم، وبمالهم، وبأتباعهم، وبأوامرهم في مُطِيعِيهِمْ ...إنّهم لم يُظلَمُوا، بل لقد دُعُوا إلى السجود في الدنيا إلا أنّهم هُم من ظلموا أنفسهم... !
إني لا أراه السجود الذي يلاصق فيه رأسُ الإنسان الأرضَ، بل أراه الخضوع لله، والاستسلام له ولأمره ...لقد دُعوا إلى التوحيد، وإلى الاستسلام لأمر الله الحاكم، وللطاعة والخضوع، ولكنّهم استكبروا، وأصرّوا على استكبارهم، وخلطوا حقا بباطل، وقانون الإله الخالق بقانون البشر، ولقد داهنوا، وتنازلوا، وارتضوا الدنيّة في الدين حتى يرضى عنهم أصحاب القوة والمال والسلطان ... !

ويستمرّ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن أمره سبحانه أن يسألهم عن الزعيم بالسويّة التي ادّعوا، مرورا بدعوى الشركاء، ثم بحالهم يوم القيامة ...

"فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)"

فها هو ذا سبحانه، يبيّن لنبيّه أنّ أمرَهم إليه وحده، وأنّه وحده الذي سيفعل بهم ما هو لاحق بهم، " فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ " ...
من يكذّب بحديث القرآن، وبالحقّ الذي جاء فيه، وبالبعث والحساب، والهول العظيم ... بحديث الآخرة...أمرُهُم إليه وحده سبحانه، هو الذي يقضي فيهم... أمرُهُ فيهم نافذ : " سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)"
هكذا رويدا رويدا، درجة إثر درجة، حبّة فحبّة ... خطوة فخطوة... سيأخذهم الله من حيث لا يعلمون...
سيجعلهم يَرْكنون إلى أنهم الأفضل، وأنهم الأعزّ، وأنهم أصحاب المال والبنين والنّعم ذات الألوان، إلى أنهم أرباب المال والأعمال والمادة... وإنّهم بجوّ النعيم ذاكَ سيُسحبون إلى حتفهم وهم على غفلتهم، سيزيدون سدرا في الغفلة ...!
سينامون مطمئنّين كحال أصحاب الجنّة، إذ طاف بما يملكون الطائف وهم نائمون مطمئنّون ... ومن حيث ظنوا أنهم على موعد مع الصبح القريب السعيد، أُخِذوا ... !  كذلك أصحاب كلّ غفلة عن الله، وعن لقائه، وعن أمره في الأرض، وعن دستور الحياة عليها ... سيذهبون في نومة الغفلة العميقة مطمئنّين، ومن حيث لا يعلمون سيُأخَذون ... !
بل سيُملي لهم، سيمُدُّهُم بالعمر المديد، حتى يستفحل في أوصالهم كلِّها الأملُ في الدنيا ثم الدنيا ثم الدنيا ... حتى يروها المبتدأ واللامُنتهى ... !
ذلك لأنّ كيد الله قويّ متين، شديد لا يفطن له النائمون الغافلون .... !!

وإنّ لي هنا لوقفة ... !
لننظر كيف كان أصحاب الجنّة أصحابَ حُظوة رغم ما بدا من إهلاكٍ لجنّتهم عن بِكرة أبيها، حتى انقلبت الجنّة الوارفة اللفّاء صريما أسودا ليس للحياة فيها من أثر... ولكنهم على ذلك هُم أصحاب حُظوة... وأيّ حُظوة ... !
ما أكبر خطأ من يرى أن الابتلاء بالمصيبة مَظنّةُ سوء وشرّ، بينما هي المصيبة والحياة الدنيا بعدُ قائمة... الإنسان فيها ما يزال في عِداد الأحياء، الفرصة ما تزال قائمة ... !

إنها بابٌ يُفتَح للرجوع... للأوبة ... إنها صفعة تُعيد العين الحَوْلاء إلى نِصابها لتستقيم الرؤية ... ولتستبين السبيلُ ... !
أما الإمداد والإمهال والإبقاء على النعمة أمدا طويلا، مع ما يُعرف في صاحبها من بُعد عن الجادّة، فتلك المصيبة، وتلك الطامّة، وذلك الشرّ المستخفي، ومن مثل هذا هو الخوف... كل الخوف ... إنه كيدُ الله المتين ... !

وما نحن نعايشه من زيادة في قوّة الظالم المعتدي، ومن مدّ لأصحاب التسيّب والتفسّخ الخُلُقيّ بالمال وبالمُداهنين، وبالوسائل المسهّلة لسُوسِهِم النّاخر، كلّه حقيقة أمر الله تعالى فيهم، أنْ يمدّ لهم في غيّهم حتى إذا كان أمرُه فيهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر ... !

وهؤلاء الملاحدة الجُدُد... ودَعَاوَاهُم التي يؤلّفون فيها الكتب ذوات العدد، أنّ هذا الكون لو كان من إله رحيم عليم قدير عدل، لما كان للشرّ وظلم الظالم واستضعاف المظلوم من أثر على الأرض...

وإنما هم يَخيطون تصوّراتهم الملفّقة على مقاس محدوديّة الفِكر البشريّ ومحدوديّة علمه، ولا يستمدّون تصوُّرَهُم للوجود من خالقه وموجِده، فجعلوا الدنيا دار القرار النهائي، التي ليس بعدها من دار، فلا ابتلاء ولا موعد للجزاء.. جعلوا من الدنيا البداية والمنتهى، وما بعد الموت اللاشيء والخواء ... !

وهكذا فلا هدف من الحياة، ولا غاية من الوجود، ولا معنى للأخلاق، ولا للتفريق بين ظالم ومظلوم، ومسلم وكافر، وصاحب مبدأ ومنطلق وصاحب فراغ وعَدميّة...! لا قيمة لأيّ قيمة...بل للهباء ... !

بينما الشرّ في حقيقته على الأرض ابتلاء، والمَدّ لأهل الظلم والجبروت، كيد الله المتين، وإرادته في خَلقِه الذي خَلَق ..." وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ "

وتستمرّ المحاجّة ... وتُطرَق كل الأبواب عليهم ... !

"أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)"

أم إنّك يا محمد تسألهم أجرا كبيرا، فهو مُثقلٌ كاهلهم حتى نفروا وكذّبوا وأعرضوا ... إنما أجرك هو عند ربك، وإنه المُقسَم عليه في بداية السورة : " وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)"
أم أنّ الغيب عندهم، مطّلعون عليه، فهم يكتبون منه -لا من غيره- ما هو من تسويتهم بين بَرّ وفاجر ومسلم ومجرم ؟!
ما ترك الله لهم من حجّة إلا وجاءهم بها... ما ترك من باب من أبواب حُسبانهم إلا وطرقه، ولو أنّ كل هذا كان بأيديهم، وكان بمَلْكِهم لكان ما قالوا به مستساغا، إلا أنّه لم يكن لهم شيء من هذا ... فبأيّ حجّة هم يتصدّرون ؟! لا حُجّة، لا معنى، لا عقل ....!! هي الأهواء، وهو الهُراء...

بعد كل هذا البيان لخطورة المُداهنة والمسايرة لأهل الباطل، ولخطورة أنصاف الحلول، وكيف أنها لا تُبلِغ دعوة الحق مبلغها، بل تُصيّر أصحاب الحقّ جماعة من المداهنين، المتّبعين الإمّعة الذين لا مبدأ لهم، ولا قِيَم يقومون على حراستها، وألا دستور ولا قانون ربانيّ يُحكَّم في الأرض، وتجعل الغَلَبة لأهل الباطل والظلم والجبروت لا لأنّهم أصحاب القيام بالعدل والخير والفضيلة، بل لأنهم أصحاب المال والأعمال والقوّة المُهابَة... لا يعود لميزان الأخلاق من قيمة، بل الميزان الأوحَد ميزان الأقوى وإن كان مصدر الشرّ كلّه ... لا يعود يُعدُّ شرُّهُ إلا الضرورة والحتميّة التي يقتضيها "البقاء للأقوى"... قانون غاب بامتياز ... !!

بعد كل هذا البيان ... وأنّ أصحاب الخلط والتسوية بين حق وباطل ليسوا أصحاب حجّة ولا عقل، ليسوا أصحاب دليل ولا بُرهان، ليسوا أصحاب عدل ولا ميزان ... يأتي أمر الله تعالى لنبيّه، وتوجيهُه له في لُجّ هذا النّفور والعتوّ منهم :
"فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)"

اصبرْ يا محمّد...
فإنّك تعلم أنّ الأمر الحقّ لله، وأنّ التدبير له...
ولقد عرفنا من السورة السابقة كيف أنه سبحانه الملِك الذي هو على كل شيء قدير، وجاءت بعدها سُورَتُنا هذه تبيّن كيف أنّ المَلِكَ متصرّف في ملكه بما يشاء، بحكمته وعلمه، وكيف أنّ قانونَه الأعلى هو القانون الذي أنزله للأرض لتَسْلَمَ، ولخَلقِه ليَسْلَمُوا ... وأنّ أهواءَهم مهما بدتْ مُحكّمة، وإن عضّدتْها المادة والسلطان الجائر، والمُهادِن المُطيع المنبطِح المُسايِر، فإنما هي الباطل الذي يجب أن يكون لأهل الحقّ قوة في دفعِه بإظهار الحق، وعدم الخجل بقلّة تابعيه، وأنّه لا مُداهنة فيه، مادام الإيمان بالربّ الملك الحَكَم القدير العدل الحكيم متمكّن من النفس ... !

إنّ هذا الحقّ لا يحتاج قوّة بالمقام الأول، بقدر ما يحتاج صبرا... "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ"

ولا يكتفي سبحانه بأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر، بل يزيد بيانا بالغ الأهميّة، حينما ندقّق، ونتملّاه ...إنه : "وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)"

إنّني أرى هذا المقطع من السورة وقد جاء ليُتمّم الصورة، وليضعها بإطارها الصحيح، وليجعلها الواضحة التي لا غبش فيها.. لأنّ النفس الإنسانيّة دوما بين نازعَيْن، نازع الإفراط ونازع التفريط ...

فأما التفريط فقد عرفناه في المُداهن الذي يطيع المَهين المعتدي الأثيم لماله وبنيه، وينصاع لأوامر شرّه لأنّه يرى في ذلك مسايرة تقضي بها الحياة المجتمعية التي تحتكم لمنطق القوّة كيفما كان فعلُها على الأرض، فسواءٌ -وِفْقَ ذلك- الإحسان والإساءة... عرفنا التفريط في "أوسطهم" الذي قال كلاما أجوفا من الفعل، وهو يساير أهل الباطل ويمضي معهم إلى عزمهم لا يتأخر عنهم...

عرفناه في أنصاف الحلول التي تقطع الطريق على الحقّ فلا يبلُغ ولا يعلو، بينما ينتفش الباطل وينتفش...
وحتى تكتمل الصورة، وتنبعث أنوار الحِكمة انبعاثا تامّا صحيحا ها هي هذه الآيات الأخيرة تبيّن الموقف المقابل، المضادّ... إنه الإفراط ... !
صاحب الحوت، سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام، هَجَر قومه المكذّبين المعاندين مُغاضبا، ولم يكن غضبه إلا لله، وإلا لأنّهم قومٌ عاندوا وكابروا وأصروا على التكذيب بدعوة الداعي لتوحيد الله...

يئس من قومه، فذهب مغاضبا ... هرب عبر البحر، إلا أنّ مشيئة الله تعالى قضت أن يلتقمه الحوت، ويلبث في بطنه ما شاء الله له أن يلبث إلى يوم نجّاه منه...
هذا هو الموقف المضادّ المقابل... أنّ الغضب لله تعالى، ولدعوة الحق، ولكتابه الذي أنزل، لا تأتي بشيء حينما يبلغ بالداعي أن يفرّ منها، وييأس من المدعوّين ويقضي بقضائه فيهم أنّهم الذين لم يعد من أمل فيهم ...
إنّ هذا يا "محمّد" ما لا يجب أن يكون منك، رغم كلّ ما هو محيط بك من تكذيب وظلم وتجنٍّ على الحق من أهل الكفر والشّرك، وإنه ما لا يجب أن يكون من كل داعية على درب الحق ...
فلا المُداهنة تبلّغ الدعوة مبلغا، ولا اليأس من المدعوّين يبلّغها مبلغا ...الصبر هو الحلّ...ليس صبر منطق العاجزين القاعدين الذين من ضعفهم يتوقفون عن دعوتهم، وعن عملهم... ليس ذلك صبرا بل اعتزال...
ولا هو صبر المُداهنين الذين ينبهرون بقوة مخالفيهم، فيرَون في المُداهنة طريقا يجب سلوكه ليحدث التوافق والتعايش...

بل هو الصبر بمعناه السليم، صبر مَن لا يُداهن، ومن لا ييأس، هكذا يعمل بالموازنة بين الكفَّتَيْن فلا يفرّط ولا يُفرِط ...
وإنه حُكم ربّك ... هذا ما قضاه سبحانه، هذا هو الكتاب الذي يُستمدّ منه قانون الأرض، وقانون البشر عليها ... هذا هو الكتاب الحقيق بالدراسة، هذا الذي يحمل الحقّ، ويقرّ الحق، ويُزهِق الباطل، هذا الذي يكون حكمه في الدنيا وفي الآخرة ... ولا تسوية فيه بين مسلم ومجرم ... بل فيه العدل التامّ ... فيه الدستور الأخلاقيّ ... فيه دواء الأرض من أدوائها ... !

وكما جاءت سورة المُلك بأنّ المُلك قبضتُه سبحانَه، جاءت سورة القلم تقرّ أنه صاحب الأمر والحُكم بالحق في مُلكِه... !
وهكذا نبلغ بهذه الآيات تمام الصورة في هذه السورة... أنّ دعوة الحقّ لا تقبل المُداهنة، كما لا تقبل اليأس...

وصاحب الحوت، تداركته نعمة من ربّه، من مناداته ربّه في الظلمات : "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" .
هكذا أقرّ أنّه الذي لم يصبر، وأنّه الذي فرّ من قومه، وإن كان دافِعه الغضب لله، إلا أنه خرج من دون إذن إلهيّ له أن يخرج ... فكانت عليه من الله تلك العقوبة الدنيوية، وكان عليه السلام من المؤمنين، بل من المصطفَين، ففطن أنها العقوبة على قلّة صبره، وعلى هَجْرِه قومه دون إذن أعلى من ربّه، فنادى مسبّحا مقرّا أنه كان من الظالمين لأنفسهم ...

كانت كلمات يونس عليه السلام... وهي ذاتها كلمات أصحاب الجنة، حينما فطِنوا للعقوبة الإلهية، فنادوا : "سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمين"...

وسبحان ربّنا ....! أن يجتمع في هذه السورة كلام أصحاب الجنّة وكلام يونس عليه السلام ... وهي الكلمات المُنجِية من الغمّ، المقرّبة من الربّ، الماسحة للذنب، الحاملة للإقرار بالنقص مقابل كمال الكامل سبحانه... !

فهُم قالوها حينما أفاقوا من غفلتهم عن ربّهم حتى فرّطوا، وهو عليه السلام قالها حينما أدرك أنّ مغاضبته كانت إفراطا أذهب صبرَه ...

فسبحانك ربّنا لا إله إلا أنت . إنا نقّر أنّا كنّا من الظالمين ...
فاصبِر يا محمّد ... وليصبر كل داعٍ للحق على خُطاك، ولكنّه الصبرُ الصبرُ، لا ما يدّعون أنه صبر وهم يسايرون ويداهنون، ولا ما يدّعون أنه الغضب لله الذي يقطعون به طريق الدعوة ...فهذا نصف حلّ وذاك نصف حلّ ... وأنصاف الحلول لا تبلّغ سائرا على دربٍ مُنْتَهَاهُ ... !
وهذه حقيقتهم ... هذه يكشفها الله تعالى عالم السرّ وأخفى، هذه نظرة أعينهم إليك :"وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52)"

هذا حنَقُهُم عليك... وغيظهم الشديد منك، لأنك يا محمّد المؤيَّد من ربك، المُربَّى من ربك، المُؤتى أنوار الحكمة من ربّك ... فأنت الصابر على الدّرب، العزيز بربّك، أنت الذي لا تُداهِن في الحقّ يا محمد... !
أنت الذي لا تطيع غير أمر ربّك ... أنت الثابت رغم كلّ ما يَحِيكُون... رغم كلّ ما نعتوك به من أبشع النعوت ... أنتَ يا صاحب الخُلُق العظيم ... يا مشهودا له به من ربه العظيم ... !!
وكلّ هذا يُغيظهم، ويغيظهم...! بل يقتلهم غيظا، حتى أنّ أعينهم لتكاد تُزلِقك ... تماما كما ودّتْ قلوبهم أن تنزلقَ وتحيدَ عن دربك، فإما أن تُداهن أو أن تضجر وتجزع، فتفرّ ولا تصبر... !

إنّك والقرآن متلازمان، يا من أنت القرآن الماشي على الأرض...فسماعهم للذكر الذي بُعثتَ به يقتلهم غيظا .... !
وما يملكون والغيظ يقتلهم إلا أن يقولوا : " إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ " ...
ولقد أبصرنا بين حنايا هذه السورة بأيّ الفريقَيْن هو المفتون ... !

أبصرنا يا ربّنا أنهم المفتونون، أنّهم أحقّ من يُنعَتُ بالجنون، وهُم قد ألغوا فيهم العقل المميّز حتى جعلوا حقا كباطل ... حتى جعلوا عبثيّتهم وهبائيّتهم ولاغائيّتهم وكُتب أهوائهم قانونا مكان الكتاب الكامل الشامل الحق... !

" وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ"

ذكرٌ للعالمين ...فيه الذكرُ بأنّ الله وحده صاحب المُلك والأمر والحُكم، وأنّه منزِل القانون الملائم للبشر ... للعالمين ... لكل الناس، لا للعرب دون غيرهم، بل للعالمين ...

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسورة القلم من أوائل ما نزل، وهو في لُجّ تكذيب قريش وتعنّتها وعتوّها، تنزل هذه الآية: "وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ" ... للعالمين... وحده الذي تقوم به قائمة للأرض، وحدَه الذي يحقّق إنسانيّة الإنسان ...
في عزّ قوّة قريش، وضعف القلة المؤمنة التي اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المرحلة، في قلب تكذيب قريش، وبطرها واستكبارها تنزل : " وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ "...
إنّكم تترصّدون للدعوة، وتتهمون صاحبها بالجنون، وترون أنفسكم الأقوى بعددكم، وملئكم، وبجاهكم، وسلطانكم في مكة ... وربّ العزّة يُسمعُكُمُوها إنها للعالمين ... يا من تحسبون أنكم عليها قادرون... !
وإنه للحقّ الذي تحقّق، وامتدّت الدعوة من مكة إلى الأرض قاطبة .......

ويا سورة القلم ... !
لله درّكِ يا سورة القلم ما أعظمكِ ... ما أسطع نوركِ... ويا أنوار الحكمة فيكِ ... ويا قواعد الوصول فيكِ ... يا بيان قوّة الحقّ...وبيان العقبات الكؤود على درب الحقّ، وقيام الأرض به لا بغيره، بالنّهل من مَعين الخُلُق العظيم ... !

يا فُرقانا بين حق وباطل وخُلُق وانحطاط وعقل وجُنون ...!
يا حُكمَ الحَكَم الحكيم وحدَه للأرض الحُكمُ والمنهج والدواء، لا شيء معه مما يسطرون ... !

سلاما ...سلاما يا سورة القلم ... يا عظيمة.... !!!
« آخر تحرير: 2020-11-26, 15:51:43 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب