الطاهر بن عاشور
وللآخرة خير لك من الأولى[4]( عطف على جملة )والضحى( فهذا كلام مبتدأ به، والجملة معطوفة على الجمل الابتدائية وليست معطوفة على جملة جواب القسم بل هي ابتدائية فلما نفي القلى بشر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد أعطاه في الدنيا وفي الآخرة.
وما في تعريف (الآخرة) و(الأولى) من التعميم يجعل معنى هذه الجملة في معنى التذييل الشامل لاستمرار الوحي وغير ذلك من الخير.
والآخرة: مؤنث الآخر، والأولى: مؤنث الأول، وغلب لفظ الآخرة في اصطلاح القرآن على الحياة الآخرة وعلى الدار الآخرة كما غلب لفظ الأولى على حياة الناس التي قبل انخرام هذا العالم، فيجوز أن يكون المراد هنا من كلا اللفظين كلا معنييه فيفيد أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة تبشيرا له بالخيرات الأبدية، ويفيد أن حالاته تجري على الانتقال من حالة إلى أحسن منها، فيكون تأنيث الوصفين جاريا على حالتي التغليب وحالتي التوصيف، ويكون التأنيث في هذا المعنى الثاني لمراعاة معنى الحالة.
ويومئ ذلك إلى أن عودة نزول الوحي عليه هذه المرة خير من العودة التي سبقت، أي تكفل الله بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد.
فاللام في (الآخرة) و(الأولى) لام الجنس، أي كل آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى.
واللام في قوله )لك( لام الاختصاص، أي خير مختص بك وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي دينه وفي أمته، فهذا وعد من الله بأن ينشر دين الإسلام وأن يمكن أمته من الخيرات التي يأملها النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقد روى الطبراني والبيهقي في دلائل النبوءة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني فأنزل الله تعالى )وللآخرة خير لك من الأولى(.
السعدي:
وأما حاله المستقبلة، فقال: { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } أي: كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة.
فلم يزل صلى الله عليه وسلم يصعد في درج المعالي ويمكن له الله دينه، وينصره على أعدائه، ويسدد له أحواله، حتى مات، وقد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون والآخرون، من الفضائل والنعم، وقرة العين، وسرور القلب.
الوسيط لطنطاوي:
ثم بشره- سبحانه- ببشارتين عظيمتين، قد بلغتا الدرجة العليا في السمو والرفعة، فقال: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
أى: وللدار الآخرة وما أعده الله لك فيها من نعيم لا يحيط به وصف، خير لك من دار الدنيا التي أعطيناك فيها ما أعطيناك فيها من نبوة، وكرامة ومنازل عالية، وخلق كريم.
وفضلا عن كل ذلك فأنت- أيها الرسول الكريم- سوف يعطيك ربك من خيرى الدنيا والآخرة، كل ما يسعدك ويرضيك، من نصر عظيم، وفتح مبين، وتمكين في الأرض، وإعلاء لكلمة الحق على يدك، وعلى أيدى أصحابك الصادقين، ومنازل عظمى في الآخرة لا يعلم مقدارها إلا الله- تعالى-، كالمقام المحمود، والشفاعة، والوسيلة ... وبذلك ترضى رضاء تاما بما أعطاك- سبحانه- من نعم ومنن.
فالمراد بالآخرة: الدار الآخرة التي تقابل الدار الأولى، وهي الحياة الدنيا، وبعضهم جعل المراد بالآخرة، نهاية أمره صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا، والمراد بالأولى بداية أمره صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا، فيكون المعنى: ولنهاية أمرك- أيها الرسول الكريم- خير من بدايته، فإن كل يوم يمضى من عمرك، سيزيدك الله- تعالى- فيه، عزا على عز، ونصرا على نصر، وتأييدا على تأييد.. حتى ترى الناس وقد دخلوا في دين الله أفواجا.. وقد صدق الله- تعالى- لنبيه وعده حيث فتح له مكة، ونشر دعوته في مشارق الأرض ومغاربها.
قال الآلوسى: وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا، والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا، هو الظاهر.. وقال بعضهم: يحتمل: أن يراد بهما نهاية أمره صلى الله عليه وسلم وبدايته، فاللام فيهما للعهد، أو عوض عن المضاف إليه. أى: لنهاية أمرك خير من بدايته، فأنت لا تزال تتزايد قوة، وتتصاعد رفعة.. .