تأملت سورة إبراهيم ... لمَ سميت بسورة إبراهيم ... ألأجل تلك الدعوات الخاتمات ؟ أم لأجل المعاني فيها مجتمعة ؟
تأملتها، وكانت لي معها جلسات ... فإذا السورة مبتدؤُها : "
الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" .
وهذا مدار السورة كلها، أنّ دور الرسول صلى الله عليه وسلم إخراج الناس من الظلمات إلى النور بهذا القرآن بإذن الله تعالى، بإذن الهادي الذي لا يهدي غيرُه سبحانه ... الرسول وسيلة للبيان وللتبليغ والهداية، والهادي هو الله تعالى ... يهدي من يشاء ويضل من يشاء، مشيئة عدل تام، وحكمة تامة، وعلم محيط بدقائق الأمور كلها، سرها وعلانيتها وبدقائق ما يعتمل في النفوس :"
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " -إبراهيم:04-
--ثم يأتي الله تعالى في معرض الآيات بموسى عليه السلام مثالا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وفي أمره له أن يذكّر قومه بأيام الله، بنعمه ونقمه، بنعمة نصره لعباده المؤمنين، وإهلاكه للكافرين، وفي ذلك التذكير آيات وعِبر يعتبر بها "
الصبّار الشكور" ...
والصبر في سبيل الله، وعلى الإيذاء في سبيله، والشكر على النعمة مناط الحفاظ عليها واستسقاء المزيد منها ...
وهذا هو رأس النور الذي يُخرَج إليه الناس من الظلمات ... نور شكر المنعم على نعمه، بعكس حال الجاحدين الذين يكفرون نعمه سبحانه، ويؤثرون تلك الظلمات على نوره ..."
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" -إبراهيم :07-
الشكر قَيد الموجود وصيد المفقود ... وليست دعوة الله عباده للشكر، وأنّ زيادة النعمة بعد وللزيادة من نعمه بعدعه سبحانه الغني، الغنيّ عمن كفر والغنيّ عمن شكرسبحانه سواء بسواء .. "
وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ" -إبراهيم:08-
--ثم يُردف الله سبحانه بذكر أحوال الرسل مع أقوامهم، في حوار نموذجي هو من جنس ما كان بين كل نبي وقومه من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حوار عرفنا فيه أنّ الأنبياء قد عزموا على الصبر على إيذاء أقوامهم فوق ما آذوهم، وعلى التوكل على الله : "
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" -إبراهيم :12- وهم ما جاؤوهم إلا ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، ولكنهم أبوا وأعرضوا ...
فلما أن عرف الله تعالى من أنبيائه وأتباعهم الصبر والمجالدة والتوكل عليه، تأذن سبحانه بأمره الذي أمضاه، وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين الأرض بعدهم ... وما هذا إلا نصر من الله لعباده الصابرين، وإهلاك منه للظالمين ...
--ثم ينتقل بنا المولى عز وجل إلى مشهد من أعظم مشاهد يوم القيامة ... يومَ يُقضى أمره، فالمؤمنون مخلدون في الجنة والكافرون مخلدون في النار ...
يوم يتبرأ كل المُتَّبَعين من غير سلطان من الله من أتباعهم ... يتبرؤون ويتنصلون منهم، ولا يغنون عنهم من عذاب الله من شيء ... بل ويتبرأ الشيطان من أتباعه، ويدعوهم إلى لوم أنفسهم وألا يلوموه وما كان له عليهم من سلطان إلا أن دعاهم فاستجابوا ... وهو وأمثاله من شياطين الإنس دعاة من زيّن للناس الظلمات، فاختاروا المكوث بها بإرادتهم، فما أغنى عنهم يوم انقضاء الأمر، وقضاء الأمر أحدهم من الله من شيء ...
--ثم نشهد ضرب الله مثلا للكلمة الطيبة وهي كلمة التوحيد، وللكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك والكفر بالشجرة الطيبة وبالشجرة الخبيثة ... فأما الأولى فتنفع أهلها في الدنيا والآخرة، إذ يثبت الله بها عباده، بينما تُردي الثانية أهلها فهم من أهل الضلال والخسار ..."
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ(27)"
ومعها يدعو الله عباده للتقديم من أنفسهم بالاستجابة له ليفوزوا بذلك التثبيت : "
قل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ" -إبراهيم:31-
وإنما هذه الاستجابة رأس شكر المنعم على نعمة إخراجهم من الظلمات إلى النور وعلى كل نعمه ...والآن ....--هو ذا سيدنا إبراهيم مع ختام السورة ... يتمثل داعيا ربه سبحانه ... وإذا تأملنا دعاءه عرفنا فيه مما كان في سياق آيات السورة من دور الرسل في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن فرق بين كلمة الكفر وكلمة الإيمان، ومصير أهل كل كلمة ... وكيف أن الصبر والشكر والتوكل على الله أدوات حفظ نعمة المنعم سبحانه ...
"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)"
** فهي منه دعوة لعدم نسيان المنعم سبحانه في غمرة النعمة ... فقد دعا بالأمن، ثم دعا بعدها
بالثبات على مجانبة الشرك، على الحنيفية ....
"رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(36)"
**وهذا صلى الله عليه وسلم من ثقته بربه وبأنه المثبّت على الحق، يلجأ إليه ليَثبت، ولا يعوّل على نفسه،
ولا يرى نفسه خيرا من الناس وإن كان أمة ... !!
ويبيّن أن من تبعه فهو منه... في بيان ضرورة أن يُتَّبَع الرسل الدعاة إلى نور الله ...
"ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37)"
**وهي سنام الغايات ورأسها .... "
إقامة الصلاة" في الأرض ... تحقيق عبادة الله في الأرض... إعمار الأرض بتعبيدها لله تعالى ... هي رأس الغايات كلها ... "
ليقيموا الصلاة" بهذا الوادي الأجرد القاحل الذي لا يُنبت شيئا .. وليس فيه قطرة ماء ...ولكأنها الوسيلة ليُعمَر والغاية في آن ...!
من هذه الأرض ستكون الانطلاقة ... انطلاقة النور المخلّص للأرض من ظلمتها ... الذي سيخرجها من قحلها وجدبها إلى نمائها وعمارها ...
وها هو ذا صلى الله عليه وسلم يدعو
لأجل هذه الغاية ...أن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إليهم لإيناسهم، وليجتمعوا حول دعوة التوحيد، حول إقامة الصلاة في الأرض، إقامة الصلة بالله في الأرض ...
دعوة لسبب من أسباب الحياة لتُسخّر لغاية إقامة الدين في الأرض ... دعوة لتكثير الناس وبالتالي تكثير أسباب الحياة بهم ودواعي تيسيرها...
وها هو ذا صلى الله عليه وسلم يدعو بأن يرزقهم الله من الثمرات ... دعوة أخرى من أسباب الحياة وتيسيرها ... وكلها في خدمة وتيسير تحقيق عبادة الله وإقامة دينه في الأرض ...
وقد دعا من قبل أن يجعل
البلد آمنا، ثم ثنّى بأن يجعل
أفئدة من الناس تهوي إليهم، ثم دعا بأن
يرزقهم من الثمرات ... وما هي إلا الدعوة بالأمن من خوف، والإطعام من جوع لتحقيق إقامة الصلاة، إقامة عبادة الله في الأرض ... وهي التي استجاب لها الله تعالى ...
حتى جاء يوم جحدت قريش تلك النعمة ... وكفر فيهم مَن كفر، فجاءت دعوتهم أن يعبدوا الذي أمنهم من خوف، وأطعمهم من جوع، دعوة لتذكّر نعمِه سبحانه عليهم برأس الشكر... العبادة ... "
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ "
إذن فإننا نجد سيدنا إبراهيم عليه السلام يعلمنا بدعواته أن :
إعمار الأرض يكون بإقامة العبادة فيها لله غاية أولى دون أن يكون ذلك نافيا للأخذ بأسباب الحياة الميسّرة لتحقيق هذه الغاية لا غيرها ولذلك ... كانت سورة "إبراهيم" ... حقيقة بأن تكون السورة التي فيها بيان إخراج الناس من الظلمات إلى النور... تخليص الأرض من ظلمات الكفر والجهالة بإعمارها بنور الإيمان وبتعبيدها لله تعالى غاية كبرى وأولى تُسخّر لأجل تيسير تحقيقها الوسائل المادية خادما للإعمار الأعلى الغاية الأولى من الوجود ...