2017/03/02
في نشداننا للحكمة، وللتعقل يحكم تصرفاتنا وحياتنا...
اليوم مع حديث صحيح، لرسول الله صلى الله عليه وسلم...
يأتيه رجل وهو بالمسجد والصحابة حوله، فيَبْتدره قائلا: "يا رسول الله إنّي أصبت حدا فأقمه عليّ" ...
ربما نتوقع أن يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماهية الذنب الذي أتاه، وحُقّ له أن يفعل، ليجيبه بما يكون فتوى لمسألته...
وحُقّ له وهو النبي المعلّم الذي يلجأ إليه جميعهم مستفتين، مستفسرين، متعلمين...
وحُقّ له أن يفعل وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحى، وهو المُحدَّث من السماء وهو الذي جاء بالشرع وبالحدود وبالأحكام يبيّنها للناس...
ولكننا نُفاجَأ برسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت عن الرجل، فلا يجيبه...!
ثم ها هو الرجل مرة ثانية يعيد عليه ما قال : " يا رسول الله إنّي أصبت حدا فأقمه عليّ "...
وربما نسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا وهو يرى الرجل يسأل من جديد، ويصرّ على إقامة الحد عليه، مستعدّ لأن يُقام عليه كائنا ما كان...
وهو يطلب أن يُقام عليه، ولو شاء أن يخفيه أخفاه، ولكنه يأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولا يبالي بمَن حوله من الرجال وهم يسمعون عنه ما كان بإمكانه إخفاؤه...
لا يبالي بمَن حطّ من شأنه أو بمن رفعه بينهم...
لا يبالي بمَن حدّث عنه الناس بما سمعه مِن فيهِ...
لا يبالي إلا بأن يطهّره الحدّ، تغشاه خشية الله، وخشية غضبه وسخطه ...
نعم...ربما نتوقع أن يجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل وهو يعرف منه كل هذا، فهو ذاك الجزِع، الوَلِع، الخائف من ربه، الذي يُثقله حِمله... الذي ناء بحمله ويريد أن يتخفّف منه لا يبالي ما يكلّفه التخفّف ...
ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت عنه للمرة الثانية ...!
لا شكّ أنه صلى الله عليه وسلم ليس بالذي لايقيم وزنا لواحد من المؤمنين، ليس بالذي يسكت عنه غضبا، أو بالذي يسكت عنه تجاهلا، أو بالذي يريد أن يتخلّص منه ... حاشاه صلى الله عليه وسلم...
فلنتأمّل إنه يسكت .... !!
كثيرا ما نؤوّل الصمت تأويلاتٍ ونبني عليها بنايات وهي من محض آرائنا وأوهامنا، وليست من الحقيقة في شيء..
فقد نرى الساكت عنا ضعيفا لا يملك بما يردّ، وقد نراه متجاهلا، أو قد نراه موافقا، أو قد نراه معارضا، بينما صمت الحكيم ينطوي على "حكمة" ... ينطوي على بعد نظر...
فلنتأمل
إنه صلى الله عليه وسلم يسكت عنه...
ويحدث أن تُقام الصلاة والرجل يسأل المرة الثانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت عنه للمرة الثانية...
ويقوم الناس للصلاة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إمامُهُم، وينصرف المصلون، وينصرف رسول الله...
والرجل ... أين الرجل ؟؟!
لنتأمّل...
إنه صلى الله عليه وسلم زيادة على سكوته عنه، لم يطلب منه أن يصلي الجماعة معهم قبل أن يفارِقَه، لم يحضّه على ذلك، لم يطلب منه أن يشهد الصلاة معهم ثم يعود إليه ...
بل قاموا إلى الصلاة، وصلوا، وانصرفوا عنها ...
أمِنَ السهل أن يُترك الرجل، لا يُدرى أيعود أم لا يعود ؟!
أمن السهل أن نتصور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قام للصلاة وهو على حاله من الصمت والسكوت عن الرجل...
ألا نتوقع أن يذهب الرجل، ولا يعود ... يذهب وقد باء بسكوت رسول الله عنه، فيحمل مع حمله الثقيل حِملا أثقل ؟! أو ربما ذهب وقد فهم أنّه لا أمل له في حلّ، وأنه قد هلك ...!!
الرجل .... ها هو ذا يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انفضاض جماعة الصلاة...
لقد عاد ... رغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يواعِده بعد الصلاة ! عاد من نفسه ...
عاد دون أن يحضّه، عاد دون أن يدعوه لحضور صلاة الجماعة، ودون أن يواعده بعدها ؟
لقد عرف فيه الإصرار فلم يحتج إلى أن يأمره بالذهاب إلى الصلاة، ولا حتى لأن يواعده... عرف أن مثله لا ينفك مصرا على التوبة... فكان صمته صلى الله عليه وسلم وهو هذه حاله أبلغ من الكلام...
أين نحن من تقليل كلام مع من نفهم أنه قد "فَهِم"...
أين نحن من التربية بالصمت في حال استدعاء الصمت...حتى لا يستثقل صاحب الحِمل فوق حِملِه...مِنَ التربية بترك المجال للمربَّى أن يفعل مع نفسه بدل أن نفعل له كل شيء... حتى العيش مع نفسه ! ... فلنتعلم
عاد يسأله السؤال ذاته : "يا رسول الله إني أصبت حدا، فأقمه عليّ"...
وهذه المرة ينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم... يجيب ...
ولكنه يجيبه سائلا إياه ...
آه ... إنه يسأله الآن إذن ... !
لا بدّ أنه سائله عن ذنبه، ليعرف أحدٌّ حقا هذا الذي أصابه، أم أنّ نفسَه أرته لنفسه حدا من فرط خوفه من غضب الله، لربما كان أقلّ مما حسِب ...
آه ... إنه يسأله ....!
إذن فهو سيستفهم عن ذنبه ليفتيه بما يناسب، بما يكون وِفاقا لما أتى ...
لا ...لا ... لا هذا ولا ذاك .... إنه لا يسأله عن ذنبه البتّة ...!
بل يسأله عن أمر آخر : "أرأيت حين خرجتَ من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء ؟" فيجيب الرجل: بلى يا رسول الله...
ثم يسأله الثانية : "ثم شهدت الصلاة معنا ؟" ...قال: نعم يا رسول الله ...
فيرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فإن الله قد غفر لك ذنبك "...
انتهى الأمر....!
تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوان المناسب، بالطريقة المناسبة...
انتهى الأمر...وأفتى له رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يعلم ذنبه... دون أن يسأله عنه..!
انتهى الأمر ... !
ولكن حذارِ !!
تأملوا .... تأملوا ...
لا نريد أن نخرج منه بذلك الفهم الذي يطفو على السطح، بالذي سيصدع به الكثيرون...
الصلاة تغفر الذنوب، الجماعة تغفر الذنوب، إسباغ الوضوء يغفر الذنوب ...
لا لا .... ليس هذا هو السليم ... ولو كان الأمر كذلك ... لاستسهل كل مستسهل أن يأتي الذنب، وراءه الذنب وراءه الذنب، وهو يحدّث نفسه أن الصلاة ستغفر له، سيأتي ليقوم، ويركع ويرفع ويسجد، فإذا صلاته قد محتْ كل ما كان منه ....
ما أسهلها من وصفة.... كم هي سحريّة هذه الوصفة ... هكذا هو الإسلام فعلُه فعل السحر في النفوس ... تصلي فيُغفَر لك، تتوضأ فيُغفَر لك ... !! فما أسهل أن يعود للذنب والدواء صلاة هي عنده " حركات"...!!
من أجل ألا يكون هذا الفهم السطحي، تأملنا سؤال الرجل المرة، ثم المرة... ومع سؤاله سكوتُ رسول الله صىل الله عليه وسلم عنه المرة ثم المرة ...
بل وانصرافه مع مَن معه للصلاة، دون أن يحضّه على حضور الجماعة ... دون أن يواعِده ...
وما تأملتُ هذا اعتباطا ... وإنما نظرا في ثنايا الحديث، وسبرا لأغواره، وغوصا في أعماقه
أليس الرجل مصرا على التوبة ؟؟
أليس هو ذاك الذي لا يبالي بحديث الناس فيه بقدر ما يبالي بتطهير نفسه من ذنبه، بقدر خوفه من غضب الله ...؟
أليس هو ذاك الذي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلّه استعداد لأن يُقام عليه الحد... وإن كان ثمنه نفسه ؟ أليس الذي جاء ليكون طَوع أمر وحكم رسول الله فيه ؟
أليس هو الذي عاد من غير مواعدة ؟؟ أليس الذي كان له ألا يعود... ولكنه عاد ؟
بل أليس هو الذي كان له أن يخفي أمره ولكنه أعلنه، يريد أن يطهّره رسول الله بالحد ؟
ويأتنس بالحد يُقام عليه ليرتاح، ولا يأتنس بتوبة سريّة ...لا يرتاح... لا يأمن.. لا يطمئن أن الله عنه قد رضي ...
كل هذا قد نظر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيم، المُعمِل عقله، الناظر به في أمر الرجل... وكان له أن يسأله عن الذنب، ويُفتي له وكفى ...
ولكنه صلى الله عليه وسلم ينظر إلى أبعد من "العقاب" ... إلى أبعد من "الوسيلة" ...إلى غاية أبعد ...
ثم وقد عاد الرجل وقد فهم منه أنه قد صلى معهم، أنه قد وقف بين يدي الله وهو على تلك الحال، وقف يناجي ربه وهو على تلك الحال، وقف وقد سكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّ باب الله وهو يطرقه بقيامه بين يديه مصليا لا يُغلَق...
يقف في صلاته وقفة التائب، وقفة النادم، وقفة الخائف من غضب ربه، وقفة الذي يريد أن يلقاه طاهرا مُطهَّرا مما أصابه من الدنس... يقف ويزيده حضور لقاء ربه ما يزيد خيرا ونماء في نفسه
عاد الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفسه الصادقة، المقبلة على الله، التوّاقة لرضاه قد استوفَتْ ما بها من صدق ومن إقبال، ومن توبة ... عاد وإصراره على التوبة في ازدياد ...
فبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قد غفر ذنبه ...
هذا هو الذي غفرت له الصلاة ذنبَه... هذا الذي سكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، ثم سكت عنه أخرى... وفي صمته قمة التعقّل، قمّة القراءة لما عليه حال الرجل...
لنتأمل....
إن سكوته صلى الله عليه وسلم حكمة قرأ بها ما قرأ من إصرار الرجل، وإن عدم سؤاله عن ذنبه لحكمة أخرى...
إنه يعلمنا صلى الله عليه وسلم كم أن الإسلام يرحّب بالتائب الصادق، وأن إقبال التائب صادقا أولى من اجترار ماضيه كان ما كان، وإنما العبرة بالتوبة والصدق في التوبة، ليُفتَح لصاحب الذنب باب الدخول في رحمة الله لا أن يُزاد عليه بالتقريع والتهويل والتأنيب والتعنيف فيُنفّر بدل أن يُقرَّب ...لا بل لا يحتاج الأمر حتى أن يُعرف ماضيه ما دام هذا هو حاضره...
لنتأمل...
إنه لتعقّل بالغ يرشّد الانفعالات العاطفية من غضب وتحسّر وقلق، ويعترف للمذنب بالبداية الجديدة، ويفتح له أبواب القبول، وإنه لاعتراف بالنقص البشري الذي لا يحلّه الزجر والتعنيف بقدر ما يحلّه مراعاته والاعتراف بوجوده، ومحاولة التجاوز عنه ما كان إلى ذلك من سبيل...
فأنت أيها التائب تستحقّ أن تُعرّف مدى سعة تلك الرِّحاب التي جئت مقبلا عليها... لا تُسأل عن ماضيك، بل يُراد حاضرك... لا تُذلّ بماضيك، لا تُقهَر به ....
وهكذا فلنتأمل حكمة "صمت" الحكيم ... ولنتأمل دور الصمت حينما يكون أبلغ من الكلام ... ولنتعلم فإنّ من سكت ليس بالضرورة ضعيفا، ولا بالضرورة متجاهلا ... بل صمت الحكيم "تعقّل" وإعمال للعقل ...
ولنتأمّل كيف لا يقضي مأربا أن نُذلّ الناس بماضيهم السيئ، بقدر ما يقضي مآرب أن نستغلّ حسن حاضرهم ....
ولنتأمل...
ولنتعلم ... ثم لنتعلم ...